حضارات سادت ثم بادت حضارة الدولة الأموية

حضارات سادت ثم بادت حضارة الدولة الأموية

كانت البدايات الأولى لنشأة الدولة الأموية في دمشق عام 14هـ/166م. في ذاك العام كانت دولة الإسلام يتنازعها ثلاثة تيارات إسلامية سياسية، تختلف فيما بينها على «مفهوم الخلافة»، أي رئاسة النظام السياسي للأمة الإسلامية. 

لقد ظن المسلمون أنّ مثل هذا النزاع استقر أمره عام 11هـ/632م في سقيفة بني ساعدة، عندما تم الاتفاق بين المهاجرين والأنصار على أن تكون الخلافة، خلافة الرسول  حقاً للمهاجرين من قريش، وأن تكون الوزارة لأنصار الرسول  غير أنه عاد مرة أخرى بعد استشهاد رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب . إنّ أسلوب البيعة للخليفة التي أقرّها جمهور المسلمين اجتهاداً، قائم على أساس أن يختار أهل الحلّ والعقد من يرون أنه الأكفأ لمنصب الخلافة، فيبايعونه عليها، ثم يبايعه جماعة المسلمين، ذلك هو أسلوب الاختيار، وتلك هي الطريقة التي انتهجها الخلفاء الراشدون. ولا نُهمل أنّ هناك طائفة من المسلمين قد أقرت بأن يكون الخليفة «قرشياً مهاجراً»، ورأت إضافة شرط أن يكون هذا الخليفة من آل بيت الرسول محمد . وهذا تيار سياسي ناصرته فئة من الصحابة الكبار الأوائل في الإسلام، من أمثال سلمان الفارسي وعمار بن ياسر وأبوموسى الأشعري، ورهط من بني هاشم ومن غيرهم، أُطلِق عليهم «شيعة علي»، وعُرف في ما بعد باسم «الشيعة». وطائفة أخرى انشقت عن كيان الدولة، في فترة خلافة علي بن أبي طالب  وخرجت على الخليفة وادَّعت عدم كفاءته سياسياً وعسكرياً، ثم رفضت مبدأ «السنة والجماعة» لتقرّ مبدأ «الحُكْم لله»، هؤلاء هم من سَمّوا أنفسهم «أهل الحقّ»، ثم أطلق عليهم «الخوارج». في تلك الفترة المتقدمة من التاريخ الإسلامي، وصل الصراع السياسي على منصب الخلافة إلى درجة الفُرقة بين المسلمين، ومن ثم المواجهة العسكرية. وشاءت الأقدار أن يكون حظ بني أمية هو الأوفر في هذه المسألة، فتمكن معاوية بن أبي سفيان من اعتلاء مسند الخلافة.
كان معظم بني أمية يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع آنذاك، فبالإضافة إلى مكانتهم الاجتماعية العالية في قريش، كانت لهم أموال طائلة تمثلت في ممتلكات زراعية امتدت من الشام إلى وادي تهامة غربي الجزيرة العربية. تلك هي الثروة التي استثمروها في التجارة من ناحية.
وفي مجتمع سادت فيه الأمية، كان أكثر رجال بني أمية من القارئين الكاتبين، وهي ضرورة كان يحتاج إليها أهاليهم في بيوعهم ومعاملاتهم التجارية خاصة. تتابع بنو أمية على حُكم الدولة الإسلامية، بدءاً 
بمعاوية بن أبي سفيان (41هـ/661م) وخلفه ابنه يزيد (60هـ/680م) وبعده جاء معاوية بن يزيد (64هـ/683م) الذي لم يقوَ على مجابهة ومواجهة المعارضة السياسية القوية ومواجهتها لحكم الأمويين، مما أدى إلى عزله، واعتلاء مروان بن الحكم سدّة الخلافة (64هـ/684م). ومنذ ذلك التاريخ لم يتمكن السفيانيون من الحكم ثانية، فتوالى المروانيون على الحكم: عبدالملك بن مروان (65هـ/685م)، الوليد بن عبدالملك (86هـ/705م)، سليمان بن عبدالملك (96هـ/715م)، عمر بن عبدالعزيز بن مروان (99هـ/717م)، يزيد بن عبدالملك (101هـ/720م)، هشام بن عبدالملك (105هـ/724م)، الوليد بن يزيد (125هـ/743م)، يزيد بن الوليد (126هـ/744م)، إبراهيم بن الوليد (126هـ/744م)، وكان آخرهم مروان بن محمد (127-132هـ/744-750م).

بناء الدولة 
في مجال خطط الدولة تمكن معاوية بن أبي سفيان من إقناع الخليفة عثمان بن عفان  بإنشاء أسطول بحري لحماية حدود الدولة الإسلامية البحرية في البحر المتوسط، فكان بذلك أول من أنشأ قوة عسكرية بحرية في الإسلام، وأصبحت قوة ضاربة في عهده وعهد الخلفاء الأمويين من بعده. وامتدت فتوحات الدولة الإسلامية إلى أقصى توسعها، من خراسان شرقاً إلى الأندلس غرباً، ومن الأناضول شمالاً إلى دول الطراز جنوب البحر الأحمر، ما جعل الدولة تهيمن على أهم طرق التجارة العالمية آنذاك. ولعل العناية الفائقة بنظام «البريد»، وهو جهاز استخبارات الدولة، كان السبب في تأمين الدولة من الداخل ضد المعارضين للحكم الأموي من ناحية، وضد جواسيس وعملاء الدول المجاورة لديار الإسلام من ناحية أخرى. وصل نظام البريد أوجه في الدولة الأموية على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي وضع مخططاً إدارياً وعملياً غاية في الفاعلية، إلى درجة أن ما كان يحدث في خراسان أو في المغرب كان يصل إلى الخليفة في دمشق في اليوم نفسه، أو اليوم الذي يليه. ولم يقف الأمر عند ذلك الحدّ، فقد ضربت أول عملة في الإسلام في عهد عبدالملك بن مروان، وبهذه العملة (الدينار) التي صبت بالذهب، صار للدولة الإسلامية كيان اقتصادي خاص ومستقل. وبالتنمية الزراعية والصناعية التي شجعها الأمويون، أصبح الرخاء عاماً في أرجاء الدولة الإسلامية، الأمر الذي زاد من موارد بيت المال وأدى إلى العمل على العناية ببناء وتوسعة وترميم المرافق العامة، ومن أهمها دور العبادة التي كان أولها المساجد، خاصة بيت الله الحرام في مكة، ومسجد الرسول الكريم  في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى في القدس. وضع الأمويون ميزانيات كبيرة وأموالاً طائلة لإنجاز هذا الأمر، ولم يكتفوا بذلك، بل أكملوا مشروعهم ببناء أفخم المساجد وأجملها، المسجد الأموي في دمشق. 

الانفتاح الثقافي
انفتح العالم العربي والإسلامي على حضارات الصين والهند وفارس واليونان والرومان، لدرجة أن كتباً كثيرة تُرجمت في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، خاصة تلك التي اعتنى بها حكيم آل مروان؛ خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. كانت كتب الفلسفة ترتبط دائماً بالطب والكيمياء والفلك، خاصة عند اليونانيين الذين نهل من فلسفتهم الفكر الإسلامي منذ ذاك الحين. لقد وجد العرب صعوبة في الترجمة عن اليونانية، فاستعانوا بالسريان كحلقة وصل لغوية بينهم وبين تلك اللغة والحضارة. استطاع علماء السريان، خاصة الأطباء منهم، ترجمة كثير من الكتب اليونانية، ووضعوها بين يدي طلاب المعرفة والعلم. ومن تلك الفلسفة خرجت المدارس والتيارات الفكرية الأولى في الإسلام؛ المرجئة والمشبهة والمُعطّلة والقدرية، وتفرعت منها مدارس أخرى. وفي تلك الفترة، وعلى أثر انتشار «الكلام» بين الناس تأصلت علوم جديدة مثل «علم الكلام» الذي كان من رواده الإمام الحسن البصري ومن بعده «المعتزلة»، وعلوم الدين، خاصة «أصول الفقه» الذي كان رائده الإمام محمد الباقر  فقد كان أستاذ جيل بأكمله من علماء الفقه، منهم الإمام جعفر الصادق وأبو حنيفة النعمان رضي الله عنهما،  كما شجَّع الأمويون الأدب بألوانه، ودعموا الشعر والشعراء، وكان من شعراء عصرهم: الأعشى وعمر بن أبي ربيعة والأخطل والفرزدق وجرير وقيس بن الملَوح وكُثيّر عزّة ومسكين الدارمي وجميل بثينة وذو الرمة، ومن معارضيهم الطرماح والكميت وعبدالله بن قيس الرقيات. وعلى الرغم من ذلك كان بنو أمية يكسبون ودّ الشعراء ويشترون رضاهم، حيث كان الشاعر آنذاك جريدة عصره.

سقوط الدولة
أرسل نصر بن سيّار والي الأمويين في خراسان رسالة إلى الخليفة قال فيها:
أرى بين الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإنّ النار بالعودين تُذْكى
وإنّ الحرب أولها كلام
فإن لم تطفئوها تَجْنِ حرباً
مشمرة يشيب لها الغلام
أقول من التعجب: ليت شعري
أأيقاظٌ أمية أم نيام؟
فإنْ يكُ قومنا أضحوا نياماً
فقل قوموا فقد حان القيام
ففري عن رحالك، ثم قولي:    
على الإسلام والعرب السلام

لم يصغِ مروان بن محمد لتحذير واليه الذي عرف بحركة تجييش انقلابية في خراسان ضد الحكم الأموي، بل أرسل إليه أن يقوم بإطفاء نار الثورة، ولم يكن لنصر بن سيار تلك القوة، إلا أنّه دخل في معركة ضد الثوار الذين كان يقودهم أبومسلم الخراساني، واستطاع هذا الأخير أن يهزم نصر بن سيار ويقتله، ثم يزحف بجيشه ليلتقي بجيوش الثورة ويواجهوا جيش مروان بن محمد في معركة الزاب 132هـ/750م، التي أعلنت انتصار العباسيين وسقوط الدولة الأموية. بادت حضارة الأمويين ولم يبق لنا منها إلا بعض آثارها ومبانيها. 
وربما بُعثت من جديــــد، عندما فرّ عبدالرحمن بن معاوية بن هـــشام بن عبدالملك من يد العباسيين ليــــدخل الأندلــس ويوحِّد قبائل العرب والبربر تحت رايته... وفــــي ذلك حديــــث آخــر لحضارة أخرى... حضارة الأمويين في الأنـــدلس ■