نحن والحداثة في الفنون بين الخصوصية المحلية والعولمة
لا تهبط الحداثة في الفنون على البشر من السماء كمعجزة غيبيّة، بل تأتي كينبوع ماء تتفجر عنه الأرض، ومن خلال جهود البشر أنفسهم ككائنات متميّزة بالعقل المفكّر المبدع، فالمدرسة الرومانسية مثلاً، كحركة مضادة للمدرسة الكلاسيكية السائدة منذ قرون، لم تفرض حضورها في الشارع الثقافي الأوربي تحديداً إلا من خلال عوامل حضارية خاصة بالقارة الأوربية، يدخل فيها اكتشاف الآلة البخارية بدلاً من اليدوية، والتقدّم الصناعي المذهل الذي صاحبها.
وما أعقب ذلك في ميدان الاقتصاد من تسارع وتضخم وتجديد في الإنتاج، والحاجة إلى أسواق قادرة على استيعاب هذا الإنتاج بيعاً وشراءً، ما أدى إلى نشوء المصارف المالية وتضخم ثروات الطبقة البرجوازية، التي صنعت هذا التقدّم وسيطرت عليه، ما تطلب ازدياد حاجتها إلى الحريّة أكثر فأكثر في العمليات التجارية المتنوعة، من إنتاج وتصدير واستيراد وتوظيف الأموال المتراكمة، وتسهيل تنقّلها، هي والبضائع التي تمثّلها في البلد الذي أبدعها وخطط لتصديرها إلى الخارج.
كل هذا كان يجري والطبقة البرجوازية الصاعدة محرومة من السلطة السياسية، ما وضعها في مواجهة حادّة، مع التحالف الثلاثي المسيطر بين «الملكية والإقطاع والكنيسة»، أدّت إلى انفجار الثورة الفرنسية المشهورة عام 1789م.
لم تكن الحركة الرومانسية بالتأكيد شريكةً في الثورة بمعنى الإلحاق والمباشرة في استخدام العنف، لأنها كانت محتاجة أصلاً إلى الحرية الفردية في ميادين الإبداع الفكري والفني المختلفة، منذ تأثرها بثورة «كرومويل» في بريطانيا ضد النظام الملكي، وما كتبه ونشره كبار المفكرين الفرنسيين، مثل: «مونتيسكيو» و«فولتير» و«جان جاك روسو» حول الحرية والنظام الديمقراطي الذي يوفرها. هكذا بزغت شمس الرومانسية في الأدب والرسم والموسيقى وغيرها من الفنون كمدرسةٍ تمثّل حركة التحرّر في الإبداع الفني من قواعد الكلاسيكية المبالغة في فرض قوانينها وتقاليدها المتناغمة أصلاً مع أفكار تقديس الماضي، التي تدعم النظام الملكي الوراثي وحلفاءه من طبقة النبلاء الأرستقراطية ورجال الكنيسة.
ظاهرة
بهذا المعنى لا تُدرَس ظاهرة الحداثة في أوربا كما تدرس في أقطار شرق المتوسط وإفريقيا وآسيا النائية، كالهند والصين واليابان، ففي كل منطقة من هذه البلاد لابدّ، في دراسة حركاتها الحداثية، من مراعاة خصائصها الحضارية التي تتميز بها من تخلّف أو تقدّم أو أصالة عريقة قد لا نجدها في جميع هذه البلاد.
صحيح أن وسائل التواصل البشرية بين أقطار الكوكب الذي نعيش فوقه صارت قادرةً، إلى حد بعيد وعميق على تبادل الإنجازات الفكرية والفنيّة المختلفة، ما يعني بالتالي أن عمليات المثاقفة باتت أكثر قدرة على تقارب البشر في ذائقتهم الفنية، من خلال تخفيف التعصّب للقناعات التراثية الخاصّة بهذا القطر أو ذاك، من دون إلغاء الأصالة التاريخية التي يعتزّ بها، وهذا معناه أن الفرصة لجميع البشر باتت مُتاحة، أكثر من أي وقت مضى، لإبداع مناخات جديدة وكثيرة التنوّع وبالغة الجاذبية، ما يجعل من الصعب، بل ومن الخطأ أيضاً، تجنُّب التعامل معها في أيّ حركة فنية حداثية، في أيّ قطر من أقطار الأرض، غير أن هذا لا يعني في الوقت نفسه إهمال المؤثرات التاريخية والثقافية لأيّ بلدٍ كان في صنع حداثته، ولكن المتحمسين أو المأخوذين كليّاً بالمؤثرات الأجنبية، التي باتت متاحة جداً لجميع سكان الأرض، يبالغون في اهتمامهم بهذه المؤثرات الوافدة إلى درجة إلغاء المؤثرات المحليّة، وكأنهم يحسبون أن عملية التغيير أو التحديث في الإبداع الفني شبيهة بعملية التقدم العلمي والصناعي تماماً، يتجسد ذلك عندما يتعامل الأوربي أو الأمريكي مع وسائل التنقل السريع لديه، من حافلات بالغة التنظيم ومترو في الأنفاق، ومع المرأة في أرديتها الكاشفة في الشارع عن كتفيها وساقيها في الصيف، وغير ذلك من مظاهر التقدم في مؤسسات الدولة والشركات الكبرى والمصارف والحدائق والمطاعم، على خلاف العربي الذي كان يركب الناقة في الصحراء وصار يتنقل في الحافلات الصغيرة أو الكبيرة، التي لا تخضع لأي نظام زمني دقيق، وهو المسكون بالخوف المزمن من بطش أنظمة الاستبداد التي تعوّد على الخضوع لها منذ قرون مديدة، ولهذا لا يمكن أن يكون عالمه الداخلي شبيهاً بالعالم الداخلي للأوربي أو الأمريكي، وحتى لو انتقل هذا المواطن في بلاده إلى مدينة حافلة بناطحات السحاب والسيارات الحديثة السريعة وغيرها من وسائل مستوردة في مؤسسات تلك المدينة، فإن هذا الشخص، حتى لو كان فناناً موهوباً، لا يمكن أن تكون مشاعره وردود فعله وذائقته الجمالية شبيهة بمشاعر الإنسان الأوربي أو الأمريكي وذائقته، سواء وصف الطبيعة أو تغزّل بامرأة أو عَبّرَ عن استيائه من السلطة، أو أخذته نزعة دينيّة وأراد أن يعبّر عن علاقته بالخالق أو الكون العجيب الذي يسبح فيه فكره الطموح.
ظاهرة الحداثة الفنية عربياً
في هذا السياق نرى أنفسنا - نحن الباحثين - ملزمين بدراسة ظاهرة الحداثة الفنية في منطقتنا، من خلال كل هذه العوامل الخارجية والداخلية معاً، واضعين نصب أعيننا أن الذائقة الفنية التي يصنعها التراكم التاريخي للتجارب البشرية في سورية مثلاً مختلفة عنها في فرنسا أو بريطانيا، وعندئذ لابدّ من ذكر تفاصيل هذا الاختلاف وتأثير هذه التفاصيل في عملية الإبداع، من خلال الشواهد الخاضعة للتحليل الدقيق، ما يساعد فعلاً على خلق مناخ ثقافي عالمي متقارب في بعض قسماته ونزعاته، بقدر ما هو مختلف فيها، وهي مهمّة بالغة الصعوبة، بقدر ما هي جديدة في دراسات النقد الفني المقارن، بمعنى أن التفكير البشري عموماً تعرّض في العصور الحديثة لعملية جراحيّة كبرى وجديدة من نوعها تماماً، خضع فيها الإنسان هنا وهناك لعمليات غسل شاملة، أعادت تركيبه البيولوجي والنفسي بأكمله، وحوّلته إلى إنسان ينتمي إلى العالم أجمع بدلاً من أن ينحصر انتماؤه في قطر محدّد.
وما تجربة الاتحاد الأوربي إلا خطوة جديّة في هذا الاتجاه، وهي لاتزال في مرحلتها الأوليّة التمهيدية، والمنتظر لها أن تغدو أوسع وأشمل وأعمق إذا ما استمر هذا الاتحاد في العيش المشترك المتطوّر باستمرار نحو التوسّع والتعمّق.
غير أن هذا التطور لا يعني بالتأكيد أن ظاهرة الحداثة سوف تلغيها وحدة البشر السياسية والاقتصادية، فما دامت هذه الوحدة قد عاشت وضمنت بالتالي فسحةً أوسع من الحريات الفردية، فإن البشر سوف يظلون، كأفراد، أصحاب خصوصيات متميزة، قادرين على الاحتفاظ بها، وعلى تطويرها في هذا المناخ الذي يوفر حرية في التعبير والإبداع أكثر من قبل، ومادام هذا المناخ الجديد لم يتوافر بعد، فالسؤال الملحّ في الواقع الحاصل اليوم هو: ماذا طرأ على حركة الحداثة أمس واليوم؟ وإلى أين تتوجه غداً؟
الحداثة إذن حركة ضرورية لتنشيط الخلايا الاجتماعية والفردية، فالتجمع البشري لا يهدأ عن الحركة والتغيّر وتنشيط ينابيع الإبداع والابتكار والتجديد، مع تحولات في الزمان والمكان، وهذا هو قدر البشر وعنوان امتيازهم على بقية المخلوقات، وبهذا المعنى تغدو الحداثة حاضرة باستمرار، بقدر ما هي متشابكة ومعقَّدة.
لقد كان التغيير يتم ببطءٍ في الماضي، وبانضباط محسوب على قدر تطوّر الوعي الفكري والعلمي للبشر، ومن هنا نلاحظ مثلاً أن المدرسة الكلاسيكية استمرت في أوربا قروناً كثيرة، في حين أن الرومانسية كمدرسة جديدة مضادّة لم تعش طويلاً مثل الكلاسيكية، إذْ زاحمتها بعد سنوات معدودة مدارس أدبية جديدة، كالرمزية والواقعية النقدية والسريالية والواقعية الاشتراكية، وبقدر ما كانت تتسارع فسحات الوعي الفكري البشري في اتجاه ترسيخ النظام القائم على ضمان الحريات العامة وسيادة القانون المتفق عليه بشكل إجماعي أو بالأكثرية، وبقدر الضخّ المتزايد لينابيع الحيويّة الفرديّة في رحاب العلم والفنون، كان التسارع المتزايد بحكم سرعة تدفق تيّار التحديث كطوفان جارف أحياناً، يكاد يدمّر ويلغي كلّ المواصفات المتداولة حول الحق والإيمان والجمال. وهذا ما يفسر مثلاً ما حدث في ميادين الفنّ التشكيلي الذي حكمته المبالغة في التقيُّد بالأشكال عند رسمها، إلى إلغاء الشكل تماماً مع حركات التجريد المتطرّفة والاكتفاء بالألوان وحدها.
غير أن هذا المدّ الجارف نحو حداثة متطرّفة لم يستطع أن يجذب الناس إلى ما لا نهاية كأفواج متزاحمة على زيارة المعارض الحديثة للرسم، فجاءت الأخبار الأخيرة تؤكد أن هذا التزاحم على زيارة هذه المعارض قد خَفّ كثيراً، بل لقد بات بعض الفنانين يشكون من قلة عدد الزوار، وكأن هذه المقاطعة كانت أشبه برسالة موجَّهة إلى الفنانين كي تقول لهم: إذا أردتم أن نعود لزيارتكم، فارسموا لنا لوحات يمكن أن نفهم منها شيئاً له علاقة بحياتنا كبشر.
الرواية وتيار التشيؤ
وهذا ما حدث أيضاً لفن الرواية، حين طغى عليها، أي إهمال الأحداث والحبكة والتركيز على وصف عالم البشر كأشياء ذات تفاصيل دقيقة جداً، يجهد الكاتب في احتوائها جميعاً، ولكنها موجة إبداعية سرعان ما تراجع الاهتمام بها، وعادت الرواية الناجحة إلى عهدها كحبكة متقنة للأحداث والشخصيات - واقعية كانت أو متخيَّلة - كما في أدب الفانتازيا والواقعية السحرية، ذات المغزى الإنساني العميق والسرد الجذاب.
وهذا ما حدث للفن السابع ذ أي السينما- في أوربا خاصّة، حين بات الفيلم الدرامي على أيدي تيار من المخرجين لا يحمل حكاية معينة بقدر ما يرمز إلى أفكار غير واضحة عبر مناظر وهمية للأشياء والأشخاص والحدث نفسه، ما أوقعهم في غموض مصطنع، لم يصمد طويلاً أمام الأفلام الدرامية الممكن فهمها دون مساعدة أحد، كما نراها في أعمال بعض المخرجين الفرنسيين، مثل كلود ليلوش وفرانسوا تروفو وكلود أوتان- لارا، حيث اقتصر التحديث والتجديد على فن الإخراج والسرد والتصوير بشكل خاص، دونما غموض مصطنع مُغلق.
وهذا ما حصل للشِّعر أيضاً، حين برزت الحداثة، إذ حصل ذلك بشكل هجومي متسارع، بدأ الشعر معه في أوربا خاصّة بتركيز الشعراء على الإشارات والرموز الخاطفة، النابعة من أعماق الذات، التي لا تعني سوى الشاعر وحده، وكأنه يدخل في مونولوج مع نفسه في غرفة مغلقة، ما جعل طابع الإبهام أو الغموض المبالَغ فيه سمة أساسية في صنع العمل الشعري، إضافة إلى إلغاء الإيقاع الموسيقي لنظام الجملة الشعرية المتوارث منذ آلاف السنين، كي تغدو الكتابة النثرية غارقة في خِضَمّ التعابير المجازية المجانية، التي لا تهدف إلى أكثر من الإدهاش والتغريب المتعمَّد.
هذا ما صنعته الحداثة مع هجوم أمواجها الأولى، الذي استمرّ سنوات، فانقطع التواصل الحميم بين الشاعر والجماهير الواسعة للقرّاء، وبالتالي فَقَدَ معظم الشعراء الشبان الكثير من جاذبية الشعر كفنّ جماهيري عريق، حين اقتصر على النخبة، وتراجعت مكانته في العالم، خاصّةً في الأقطار الصناعية المتقدّمة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، حتى لقد باتت دور النشر هناك تتردد كثيراً في قبول المجموعات الشعرية، فلم يعد ينشر في فرنسا مثلاً في العام الواحد أكثر من خمس أو ست مجموعات شعرية حديثة لشعراء جدد، تصدر عن جميع دور النشر، في حين تعاد طباعة دواوين الشعراء القدامى، كلاسيكيين كانوا أو رومانسيين بشكل خاص، بعشرات آلاف النسخ تباع كلّها كما قال لي شخصياً أحد الناشرين والمشرف على مجلّة «شعر» في فرنسا، حين التقيت به في أحد أسفاري. هذا هو الجانب السلبي للمشهد الحداثي عموماً، ولكن هناك بالتأكيد جوانب إيجابية للمشهد لابدّ من الاعتراف بها، خاصة في المشهد العربي للشعر، إذْ تحرر الشعر الحديث إلى حدّ بعيد من طابع التفاصح والتفاخر والاجترار والمباشرة التقريرية الخطابية أو الوعظية، إلى لغة جديدة طازجة مختلفة ولكن من دون القطع الحاسم والكامل مع ما هو جميل في تراثنا، وسادت أخيراً قصيدة النثر المتحرّرة من كل القيود وكان بعضها إبداعاً جميلاً لدى المبدعين الموهوبين بحق، في حين طغت كل المحاولات النثرية الركيكة التي لا تمتّ إلى الشعر ولا إلى الحداثة بأيّ صلة، سوى الثرثرة العادية المبتذلة المقطعة بشكل جمل قصيرة، بعضها فوق بعض.
إن الحداثة ضرورة حياتية لابدّ منها، ولكن يجب أن نتذكّر أن الكائنات البشرية لا تتغيّر إلى الدرجة التي تتغيّر حسبها الضرورات الفنيّة، فالبشر يقاومون التجديد أحياناً، لا لشيء إلا لأنهم اكتسبوا مع الزمن عادات وتقاليد من الصعب عليهم التخلّي عنها بسهولة، ثمّة تسوية حاذقة لهذه الصعوبة بين الفنان المجرّد والإنسان الراضي بتقاليده، أو بين الماضي الراسخ والحاضر القلق، ولا يتقن هذه التسوية الحاذقة سوى المبدعين الناجين من أمراض الغرور والتسرّع التي تعيق الحركة الطبيعية للحداثة في سياق إنتاجهم المتميّز بالمهارة كموهوبين كبار.
الحداثة ضرورة بالتأكيد، ولكنها ضرورة لا تلغي الفطرة البشرية والذائقة الجمالية السليمة، فالفطرة تحلم بالجديد وتريد الحصول عليه وتخاف منه في آن واحد، والذائقة الجمالية مثله تريد التجديد وتحذر منه في شعور واحد، تلك هي الحياة البشرية ذاتها، صراع أبدي بين طمأنينة الاستقرار وقلق التغيير ولا حلّ لهذه المعضلة إلا بالتسوية في حل يرضي الطرفين ■