نحن والحداثة في الفنون بين الخصوصية المحلية والعولمة

نحن والحداثة في الفنون  بين الخصوصية المحلية والعولمة

لا‭ ‬تهبط‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬كمعجزة‭ ‬غيبيّة،‭ ‬بل‭ ‬تأتي‭ ‬كينبوع‭ ‬ماء‭ ‬تتفجر‭ ‬عنه‭ ‬الأرض،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬جهود‭ ‬البشر‭ ‬أنفسهم‭ ‬ككائنات‭ ‬متميّزة‭ ‬بالعقل‭ ‬المفكّر‭ ‬المبدع،‭ ‬فالمدرسة‭ ‬الرومانسية‭ ‬مثلاً،‭ ‬كحركة‭ ‬مضادة‭ ‬للمدرسة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬السائدة‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬لم‭ ‬تفرض‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الثقافي‭ ‬الأوربي‭ ‬تحديداً‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عوامل‭ ‬حضارية‭ ‬خاصة‭ ‬بالقارة‭ ‬الأوربية،‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬اكتشاف‭ ‬الآلة‭ ‬البخارية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬اليدوية،‭ ‬والتقدّم‭ ‬الصناعي‭ ‬المذهل‭ ‬الذي‭ ‬صاحبها‭.‬

وما‭ ‬أعقب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬من‭ ‬تسارع‭ ‬وتضخم‭ ‬وتجديد‭ ‬في‭ ‬الإنتاج،‭ ‬والحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أسواق‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬بيعاً‭ ‬وشراءً،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬المصارف‭ ‬المالية‭ ‬وتضخم‭ ‬ثروات‭ ‬الطبقة‭ ‬البرجوازية،‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬هذا‭ ‬التقدّم‭ ‬وسيطرت‭ ‬عليه،‭ ‬ما‭ ‬تطلب‭ ‬ازدياد‭ ‬حاجتها‭ ‬إلى‭ ‬الحريّة‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ ‬التجارية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬وتصدير‭ ‬واستيراد‭ ‬وتوظيف‭ ‬الأموال‭ ‬المتراكمة،‭ ‬وتسهيل‭ ‬تنقّلها،‭ ‬هي‭ ‬والبضائع‭ ‬التي‭ ‬تمثّلها‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬أبدعها‭ ‬وخطط‭ ‬لتصديرها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬والطبقة‭ ‬البرجوازية‭ ‬الصاعدة‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬ما‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬حادّة،‭ ‬مع‭ ‬التحالف‭ ‬الثلاثي‭ ‬المسيطر‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الملكية‭ ‬والإقطاع‭ ‬والكنيسة‮»‬،‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬انفجار‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬المشهورة‭ ‬عام‭ ‬1789م‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬الحركة‭ ‬الرومانسية‭ ‬بالتأكيد‭ ‬شريكةً‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬بمعنى‭ ‬الإلحاق‭ ‬والمباشرة‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬العنف،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬محتاجة‭ ‬أصلاً‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الإبداع‭ ‬الفكري‭ ‬والفني‭ ‬المختلفة،‭ ‬منذ‭ ‬تأثرها‭ ‬بثورة‭ ‬‮«‬كرومويل‮»‬‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬الملكي،‭ ‬وما‭ ‬كتبه‭ ‬ونشره‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬مونتيسكيو‮»‬‭ ‬و«فولتير‮»‬‭ ‬و‮«‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‮»‬‭ ‬حول‭ ‬الحرية‭ ‬والنظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الذي‭ ‬يوفرها‭. ‬هكذا‭ ‬بزغت‭ ‬شمس‭ ‬الرومانسية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والرسم‭ ‬والموسيقى‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬كمدرسةٍ‭ ‬تمثّل‭ ‬حركة‭ ‬التحرّر‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الفني‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬قوانينها‭ ‬وتقاليدها‭ ‬المتناغمة‭ ‬أصلاً‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬تقديس‭ ‬الماضي،‭ ‬التي‭ ‬تدعم‭ ‬النظام‭ ‬الملكي‭ ‬الوراثي‭ ‬وحلفاءه‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬النبلاء‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬ورجال‭ ‬الكنيسة‭.‬

 

ظاهرة

بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لا‭ ‬تُدرَس‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬كما‭  ‬تدرس‭ ‬في‭ ‬أقطار‭ ‬شرق‭ ‬المتوسط‭ ‬وإفريقيا‭ ‬وآسيا‭ ‬النائية،‭ ‬كالهند‭ ‬والصين‭ ‬واليابان،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬منطقة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬لابدّ،‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬حركاتها‭ ‬الحداثية،‭ ‬من‭ ‬مراعاة‭ ‬خصائصها‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تخلّف‭ ‬أو‭ ‬تقدّم‭ ‬أو‭ ‬أصالة‭ ‬عريقة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬البشرية‭ ‬بين‭ ‬أقطار‭ ‬الكوكب‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فوقه‭ ‬صارت‭ ‬قادرةً،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬وعميق‭ ‬على‭ ‬تبادل‭ ‬الإنجازات‭ ‬الفكرية‭ ‬والفنيّة‭ ‬المختلفة،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬بالتالي‭ ‬أن‭ ‬عمليات‭ ‬المثاقفة‭ ‬باتت‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تقارب‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬ذائقتهم‭ ‬الفنية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تخفيف‭ ‬التعصّب‭ ‬للقناعات‭ ‬التراثية‭ ‬الخاصّة‭ ‬بهذا‭ ‬القطر‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إلغاء‭ ‬الأصالة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يعتزّ‭ ‬بها،‭ ‬وهذا‭ ‬معناه‭ ‬أن‭ ‬الفرصة‭ ‬لجميع‭ ‬البشر‭ ‬باتت‭ ‬مُتاحة،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬لإبداع‭ ‬مناخات‭ ‬جديدة‭ ‬وكثيرة‭ ‬التنوّع‭ ‬وبالغة‭ ‬الجاذبية،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬الخطأ‭ ‬أيضاً،‭ ‬تجنُّب‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬حركة‭ ‬فنية‭ ‬حداثية،‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬قطر‭ ‬من‭ ‬أقطار‭ ‬الأرض،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إهمال‭ ‬المؤثرات‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬لأيّ‭ ‬بلدٍ‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬حداثته،‭ ‬ولكن‭ ‬المتحمسين‭ ‬أو‭ ‬المأخوذين‭ ‬كليّاً‭ ‬بالمؤثرات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬متاحة‭ ‬جداً‭ ‬لجميع‭ ‬سكان‭ ‬الأرض،‭ ‬يبالغون‭ ‬في‭ ‬اهتمامهم‭ ‬بهذه‭ ‬المؤثرات‭ ‬الوافدة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬إلغاء‭ ‬المؤثرات‭ ‬المحليّة،‭ ‬وكأنهم‭ ‬يحسبون‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬أو‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الفني‭ ‬شبيهة‭ ‬بعملية‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والصناعي‭ ‬تماماً،‭ ‬يتجسد‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬يتعامل‭ ‬الأوربي‭ ‬أو‭ ‬الأمريكي‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬التنقل‭ ‬السريع‭ ‬لديه،‭ ‬من‭ ‬حافلات‭ ‬بالغة‭ ‬التنظيم‭ ‬ومترو‭ ‬في‭ ‬الأنفاق،‭ ‬ومع‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬أرديتها‭ ‬الكاشفة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬عن‭ ‬كتفيها‭ ‬وساقيها‭ ‬في‭ ‬الصيف،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬والشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬والمصارف‭ ‬والحدائق‭ ‬والمطاعم،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يركب‭ ‬الناقة‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬وصار‭ ‬يتنقل‭ ‬في‭ ‬الحافلات‭ ‬الصغيرة‭ ‬أو‭ ‬الكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لأي‭ ‬نظام‭ ‬زمني‭ ‬دقيق،‭ ‬وهو‭ ‬المسكون‭ ‬بالخوف‭ ‬المزمن‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬أنظمة‭ ‬الاستبداد‭ ‬التي‭ ‬تعوّد‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬لها‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬مديدة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عالمه‭ ‬الداخلي‭ ‬شبيهاً‭ ‬بالعالم‭ ‬الداخلي‭ ‬للأوربي‭ ‬أو‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬انتقل‭ ‬هذا‭ ‬المواطن‭ ‬في‭ ‬بلاده‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬حافلة‭ ‬بناطحات‭ ‬السحاب‭ ‬والسيارات‭ ‬الحديثة‭ ‬السريعة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬مستوردة‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬تلك‭ ‬المدينة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الشخص،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬فناناً‭ ‬موهوباً،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مشاعره‭ ‬وردود‭ ‬فعله‭ ‬وذائقته‭ ‬الجمالية‭ ‬شبيهة‭ ‬بمشاعر‭ ‬الإنسان‭ ‬الأوربي‭ ‬أو‭ ‬الأمريكي‭ ‬وذائقته،‭ ‬سواء‭ ‬وصف‭ ‬الطبيعة‭ ‬أو‭ ‬تغزّل‭  ‬بامرأة‭ ‬أو‭ ‬عَبّرَ‭  ‬عن‭ ‬استيائه‭ ‬من‭ ‬السلطة،‭ ‬أو‭ ‬أخذته‭ ‬نزعة‭ ‬دينيّة‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬علاقته‭ ‬بالخالق‭ ‬أو‭ ‬الكون‭ ‬العجيب‭ ‬الذي‭ ‬يسبح‭ ‬فيه‭ ‬فكره‭ ‬الطموح‭.‬

 

ظاهرة‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬عربياً

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نرى‭ ‬أنفسنا‭ - ‬نحن‭ ‬الباحثين‭ - ‬ملزمين‭ ‬بدراسة‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬منطقتنا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬والداخلية‭ ‬معاً،‭ ‬واضعين‭ ‬نصب‭ ‬أعيننا‭ ‬أن‭ ‬الذائقة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬يصنعها‭ ‬التراكم‭ ‬التاريخي‭ ‬للتجارب‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬مثلاً‭ ‬مختلفة‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬أو‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وعندئذ‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف‭ ‬وتأثير‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الشواهد‭ ‬الخاضعة‭ ‬للتحليل‭ ‬الدقيق،‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬فعلاً‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬مناخ‭ ‬ثقافي‭ ‬عالمي‭ ‬متقارب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬قسماته‭ ‬ونزعاته،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مختلف‭ ‬فيها،‭ ‬وهي‭ ‬مهمّة‭ ‬بالغة‭ ‬الصعوبة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬النقد‭ ‬الفني‭ ‬المقارن،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬التفكير‭ ‬البشري‭ ‬عموماً‭ ‬تعرّض‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة‭ ‬لعملية‭ ‬جراحيّة‭ ‬كبرى‭ ‬وجديدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬تماماً،‭ ‬خضع‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬لعمليات‭ ‬غسل‭ ‬شاملة،‭ ‬أعادت‭ ‬تركيبه‭ ‬البيولوجي‭ ‬والنفسي‭ ‬بأكمله،‭ ‬وحوّلته‭ ‬إلى‭ ‬إنسان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينحصر‭ ‬انتماؤه‭ ‬في‭ ‬قطر‭ ‬محدّد‭.‬

وما‭ ‬تجربة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬إلا‭ ‬خطوة‭ ‬جديّة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وهي‭ ‬لاتزال‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الأوليّة‭ ‬التمهيدية،‭ ‬والمنتظر‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تغدو‭ ‬أوسع‭ ‬وأشمل‭ ‬وأعمق‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استمر‭ ‬هذا‭ ‬الاتحاد‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬المشترك‭ ‬المتطوّر‭ ‬باستمرار‭ ‬نحو‭ ‬التوسّع‭ ‬والتعمّق‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحداثة‭ ‬سوف‭ ‬تلغيها‭ ‬وحدة‭ ‬البشر‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬فما‭ ‬دامت‭ ‬هذه‭ ‬الوحدة‭ ‬قد‭ ‬عاشت‭ ‬وضمنت‭ ‬بالتالي‭ ‬فسحةً‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية،‭ ‬فإن‭ ‬البشر‭ ‬سوف‭ ‬يظلون،‭ ‬كأفراد،‭ ‬أصحاب‭ ‬خصوصيات‭ ‬متميزة،‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بها،‭ ‬وعلى‭ ‬تطويرها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭  ‬الذي‭ ‬يوفر‭ ‬حرية‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والإبداع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ومادام‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬الجديد‭ ‬لم‭ ‬يتوافر‭ ‬بعد،‭ ‬فالسؤال‭ ‬الملحّ‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الحاصل‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭: ‬ماذا‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭ ‬أمس‭ ‬واليوم؟‭ ‬وإلى‭ ‬أين‭ ‬تتوجه‭ ‬غداً؟

الحداثة‭ ‬إذن‭ ‬حركة‭ ‬ضرورية‭ ‬لتنشيط‭ ‬الخلايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والفردية،‭ ‬فالتجمع‭ ‬البشري‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭ ‬والتغيّر‭ ‬وتنشيط‭ ‬ينابيع‭ ‬الإبداع‭ ‬والابتكار‭ ‬والتجديد،‭ ‬مع‭ ‬تحولات‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬البشر‭ ‬وعنوان‭ ‬امتيازهم‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬المخلوقات،‭ ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬تغدو‭ ‬الحداثة‭ ‬حاضرة‭ ‬باستمرار،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬متشابكة‭ ‬ومعقَّدة‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬التغيير‭ ‬يتم‭ ‬ببطءٍ‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وبانضباط‭ ‬محسوب‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬تطوّر‭ ‬الوعي‭ ‬الفكري‭ ‬والعلمي‭ ‬للبشر،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬نلاحظ‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬قروناً‭ ‬كثيرة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الرومانسية‭ ‬كمدرسة‭ ‬جديدة‭ ‬مضادّة‭ ‬لم‭ ‬تعش‭ ‬طويلاً‭ ‬مثل‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬إذْ‭ ‬زاحمتها‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬معدودة‭ ‬مدارس‭ ‬أدبية‭ ‬جديدة،‭ ‬كالرمزية‭ ‬والواقعية‭ ‬النقدية‭ ‬والسريالية‭ ‬والواقعية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تتسارع‭ ‬فسحات‭ ‬الوعي‭ ‬الفكري‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬ترسيخ‭ ‬النظام‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬ضمان‭ ‬الحريات‭ ‬العامة‭ ‬وسيادة‭ ‬القانون‭ ‬المتفق‭ ‬عليه‭ ‬بشكل‭ ‬إجماعي‭ ‬أو‭ ‬بالأكثرية،‭ ‬وبقدر‭ ‬الضخّ‭ ‬المتزايد‭ ‬لينابيع‭ ‬الحيويّة‭ ‬الفرديّة‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬العلم‭ ‬والفنون،‭ ‬كان‭ ‬التسارع‭ ‬المتزايد‭ ‬بحكم‭ ‬سرعة‭ ‬تدفق‭ ‬تيّار‭ ‬التحديث‭ ‬كطوفان‭ ‬جارف‭ ‬أحياناً،‭ ‬يكاد‭ ‬يدمّر‭ ‬ويلغي‭ ‬كلّ‭ ‬المواصفات‭ ‬المتداولة‭ ‬حول‭ ‬الحق‭ ‬والإيمان‭ ‬والجمال‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬مثلاً‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ميادين‭  ‬الفنّ‭ ‬التشكيلي‭ ‬الذي‭ ‬حكمته‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬التقيُّد‭ ‬بالأشكال‭ ‬عند‭ ‬رسمها،‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬الشكل‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬حركات‭ ‬التجريد‭ ‬المتطرّفة‭ ‬والاكتفاء‭ ‬بالألوان‭ ‬وحدها‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المدّ‭ ‬الجارف‭ ‬نحو‭ ‬حداثة‭ ‬متطرّفة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يجذب‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬كأفواج‭ ‬متزاحمة‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬المعارض‭ ‬الحديثة‭ ‬للرسم،‭ ‬فجاءت‭  ‬الأخبار‭ ‬الأخيرة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التزاحم‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬هذه‭ ‬المعارض‭ ‬قد‭ ‬خَفّ‭ ‬كثيراً،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬بات‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬يشكون‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬عدد‭ ‬الزوار،‭ ‬وكأن‭ ‬هذه‭ ‬المقاطعة‭ ‬كانت‭ ‬أشبه‭ ‬برسالة‭ ‬موجَّهة‭ ‬إلى‭ ‬الفنانين‭ ‬كي‭ ‬تقول‭ ‬لهم‭: ‬إذا‭ ‬أردتم‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬لزيارتكم،‭ ‬فارسموا‭ ‬لنا‭ ‬لوحات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬منها‭ ‬شيئاً‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بحياتنا‭ ‬كبشر‭.‬

 

الرواية‭ ‬وتيار‭ ‬التشيؤ

وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬أيضاً‭ ‬لفن‭ ‬الرواية،‭ ‬حين‭ ‬طغى‭ ‬عليها،‭ ‬أي‭ ‬إهمال‭ ‬الأحداث‭ ‬والحبكة‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬وصف‭ ‬عالم‭ ‬البشر‭ ‬كأشياء‭ ‬ذات‭ ‬تفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬جداً،‭ ‬يجهد‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬احتوائها‭ ‬جميعاً،‭ ‬ولكنها‭ ‬موجة‭ ‬إبداعية‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تراجع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بها،‭ ‬وعادت‭ ‬الرواية‭ ‬الناجحة‭ ‬إلى‭ ‬عهدها‭ ‬كحبكة‭ ‬متقنة‭ ‬للأحداث‭ ‬والشخصيات‭ - ‬واقعية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬متخيَّلة‭ - ‬كما‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الفانتازيا‭ ‬والواقعية‭ ‬السحرية،‭ ‬ذات‭ ‬المغزى‭ ‬الإنساني‭ ‬العميق‭ ‬والسرد‭ ‬الجذاب‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للفن‭ ‬السابع‭ ‬ذ‭ ‬أي‭ ‬السينما‭- ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خاصّة،‭ ‬حين‭ ‬بات‭ ‬الفيلم‭ ‬الدرامي‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬تيار‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬حكاية‭ ‬معينة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬أفكار‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬عبر‭ ‬مناظر‭ ‬وهمية‭ ‬للأشياء‭ ‬والأشخاص‭ ‬والحدث‭ ‬نفسه،‭ ‬ما‭ ‬أوقعهم‭ ‬في‭ ‬غموض‭ ‬مصطنع،‭ ‬لم‭ ‬يصمد‭ ‬طويلاً‭ ‬أمام‭ ‬الأفلام‭ ‬الدرامية‭ ‬الممكن‭ ‬فهمها‭ ‬دون‭ ‬مساعدة‭ ‬أحد،‭ ‬كما‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬بعض‭ ‬المخرجين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬مثل‭ ‬كلود‭ ‬ليلوش‭ ‬وفرانسوا‭ ‬تروفو‭ ‬وكلود‭ ‬أوتان‭- ‬لارا،‭ ‬حيث‭ ‬اقتصر‭ ‬التحديث‭ ‬والتجديد‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬الإخراج‭ ‬والسرد‭ ‬والتصوير‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬دونما‭ ‬غموض‭ ‬مصطنع‭ ‬مُغلق‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬للشِّعر‭ ‬أيضاً،‭ ‬حين‭ ‬برزت‭ ‬الحداثة،‭ ‬إذ‭ ‬حصل‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬هجومي‭ ‬متسارع،‭ ‬بدأ‭ ‬الشعر‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خاصّة‭ ‬بتركيز‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬الإشارات‭ ‬والرموز‭ ‬الخاطفة،‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬الذات،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬سوى‭ ‬الشاعر‭ ‬وحده،‭ ‬وكأنه‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مونولوج‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مغلقة،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬طابع‭ ‬الإبهام‭ ‬أو‭ ‬الغموض‭ ‬المبالَغ‭ ‬فيه‭ ‬سمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬العمل‭ ‬الشعري،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬الإيقاع‭ ‬الموسيقي‭ ‬لنظام‭ ‬الجملة‭ ‬الشعرية‭ ‬المتوارث‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬كي‭ ‬تغدو‭ ‬الكتابة‭ ‬النثرية‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬خِضَمّ‭ ‬التعابير‭ ‬المجازية‭ ‬المجانية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الإدهاش‭ ‬والتغريب‭ ‬المتعمَّد‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬صنعته‭ ‬الحداثة‭ ‬مع‭ ‬هجوم‭ ‬أمواجها‭ ‬الأولى،‭ ‬الذي‭ ‬استمرّ‭ ‬سنوات،‭ ‬فانقطع‭ ‬التواصل‭ ‬الحميم‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والجماهير‭ ‬الواسعة‭ ‬للقرّاء،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فَقَدَ‭ ‬معظم‭ ‬الشعراء‭ ‬الشبان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬الشعر‭ ‬كفنّ‭ ‬جماهيري‭ ‬عريق،‭ ‬حين‭ ‬اقتصر‭ ‬على‭ ‬النخبة،‭ ‬وتراجعت‭ ‬مكانته‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬خاصّةً‭ ‬في‭ ‬الأقطار‭ ‬الصناعية‭ ‬المتقدّمة‭ ‬مثل‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وبريطانيا،‭ ‬حتى‭ ‬لقد‭ ‬باتت‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬هناك‭ ‬تتردد‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬المجموعات‭ ‬الشعرية،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الواحد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬أو‭ ‬ست‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية‭ ‬حديثة‭ ‬لشعراء‭ ‬جدد،‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬دور‭ ‬النشر،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تعاد‭ ‬طباعة‭ ‬دواوين‭ ‬الشعراء‭ ‬القدامى،‭ ‬كلاسيكيين‭ ‬كانوا‭ ‬أو‭ ‬رومانسيين‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬بعشرات‭ ‬آلاف‭ ‬النسخ‭ ‬تباع‭ ‬كلّها‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬شخصياً‭ ‬أحد‭ ‬الناشرين‭ ‬والمشرف‭ ‬على‭ ‬مجلّة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬حين‭ ‬التقيت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أسفاري‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الجانب‭ ‬السلبي‭ ‬للمشهد‭ ‬الحداثي‭ ‬عموماً،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬بالتأكيد‭ ‬جوانب‭ ‬إيجابية‭ ‬للمشهد‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بها،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬للشعر،‭ ‬إذْ‭ ‬تحرر‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬بعيد‭ ‬من‭ ‬طابع‭ ‬التفاصح‭ ‬والتفاخر‭ ‬والاجترار‭ ‬والمباشرة‭ ‬التقريرية‭ ‬الخطابية‭ ‬أو‭ ‬الوعظية،‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬طازجة‭ ‬مختلفة‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬القطع‭ ‬الحاسم‭ ‬والكامل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬تراثنا،‭ ‬وسادت‭ ‬أخيراً‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬المتحرّرة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القيود‭ ‬وكان‭ ‬بعضها‭ ‬إبداعاً‭ ‬جميلاً‭ ‬لدى‭ ‬المبدعين‭ ‬الموهوبين‭ ‬بحق،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬طغت‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬النثرية‭ ‬الركيكة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمتّ‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬بأيّ‭ ‬صلة،‭ ‬سوى‭ ‬الثرثرة‭ ‬العادية‭ ‬المبتذلة‭ ‬المقطعة‭ ‬بشكل‭ ‬جمل‭ ‬قصيرة،‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض‭.‬

إن‭ ‬الحداثة‭ ‬ضرورة‭ ‬حياتية‭ ‬لابدّ‭ ‬منها،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭  ‬أن‭ ‬نتذكّر‭ ‬أن‭ ‬الكائنات‭ ‬البشرية‭ ‬لا‭ ‬تتغيّر‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬تتغيّر‭ ‬حسبها‭ ‬الضرورات‭ ‬الفنيّة،‭ ‬فالبشر‭ ‬يقاومون‭ ‬التجديد‭ ‬أحياناً،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأنهم‭ ‬اكتسبوا‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬عليهم‭ ‬التخلّي‭ ‬عنها‭ ‬بسهولة،‭ ‬ثمّة‭ ‬تسوية‭ ‬حاذقة‭ ‬لهذه‭ ‬الصعوبة‭ ‬بين‭ ‬الفنان‭ ‬المجرّد‭ ‬والإنسان‭ ‬الراضي‭ ‬بتقاليده،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬الراسخ‭ ‬والحاضر‭ ‬القلق،‭ ‬ولا‭ ‬يتقن‭ ‬هذه‭ ‬التسوية‭ ‬الحاذقة‭ ‬سوى‭ ‬المبدعين‭ ‬الناجين‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬الغرور‭ ‬والتسرّع‭ ‬التي‭ ‬تعيق‭ ‬الحركة‭ ‬الطبيعية‭ ‬للحداثة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬إنتاجهم‭ ‬المتميّز‭ ‬بالمهارة‭ ‬كموهوبين‭ ‬كبار‭.‬

الحداثة‭ ‬ضرورة‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬ولكنها‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬تلغي‭ ‬الفطرة‭ ‬البشرية‭ ‬والذائقة‭ ‬الجمالية‭ ‬السليمة،‭ ‬فالفطرة‭ ‬تحلم‭ ‬بالجديد‭ ‬وتريد‭ ‬الحصول‭ ‬عليه‭ ‬وتخاف‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬والذائقة‭ ‬الجمالية‭ ‬مثله‭ ‬تريد‭ ‬التجديد‭ ‬وتحذر‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬شعور‭ ‬واحد،‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬البشرية‭ ‬ذاتها،‭ ‬صراع‭ ‬أبدي‭ ‬بين‭ ‬طمأنينة‭ ‬الاستقرار‭ ‬وقلق‭ ‬التغيير‭ ‬ولا‭ ‬حلّ‭ ‬لهذه‭ ‬المعضلة‭ ‬إلا‭ ‬بالتسوية‭  ‬في‭ ‬حل‭ ‬يرضي‭ ‬الطرفين‭ ‬