هندوسي... ينشر ثقافة الإسلام
تغصُّ المكتبة الإنجليزية بالكتب والمقالات والدوريات عن الهند وأقطار آسيا، بأديانها وأقوامها وثقافاتها، فيما لانزال مقصرين غاية التقصير في هذا المجال. ولو بحثت اليوم عن مدى اهتمام الجامعات العربية ومثقفي العالم العربي بالهند وعموم آسيا، بالرغم من اتساع العلاقة مع هذه القارة الشاسعة، لفوجئت بالنتيجة.
المؤسف في هذا المجال أكثر من أي شيء آخر، إهمالنا إحياء الروابط الثقافية مع دولة عريقة كالهند، بالرغم من قدم العلاقة واتصال هذه الدولة الكبرى بالعرب من قديم الزمان، وبالرغم من أن هذه البلاد كانت ذات يوم مقر إحدى أكبر ثلاث حواضر إسلامية، الهند وإيران وتركيا، ورُغم الدور البارز الذي لم ينل حتى الآن الحظ الوافي من الاهتمام والتقدير، في مجال طباعة الكتب العربية والإسلامية والأدبية، والذي قامت به المطابع الهندية على وجه الخصوص، في مرحلة كانت الطباعة في العالم العربي بالكاد بدأت، أو ربما لم تكن معروفة في بعض الأقطار.
عُرفت الهند بتنوّع الأديان والأعراف فيها، حيث يقدّر عدد لغاتها بنحو 850 لغة ولهجة، منها 22 رئيسة. وعُرفت هذه الدولة الواسعة الكثيرة السكان، كذلك بفترات من التوتر الديني والعرقي وأخرى من التقارب والتسامح، وما نسمّيه في أدبياتنا السياسية اليوم بـ«قبول الآخر».
ويهدف مقالنا هذا إلى التعريف بجانب بسيط وذي دلالة، من التسامح الديني الذي نراه يقف في الهند قويًا، مدعومًا بروح وطنية مستمدة من تأييد عقلاء الهندوس والمسلمين والمسيحيين وغيرهم، للحد من ألوان التعصب والكراهية، التي تحاول جر البلاد إلى الفتن والصراعات. وقد استفاد المقال واعتمد بشكل رئيس على كتاب الشيخ عبدالمنعم النمر «تاريخ الإسلام في الهند»، (القاهرة 1959)، وكتاب ثان صدر حديثًا بعنوان «دور الهند في نشر التراث الإسلامي»، وقد طُبع في الرياض بالمملكة العربية السعودية عام 2011م.
لا يكاد أيٌّ منا يصدق الدور البارز الخطير الذي قام به ناشر هندوسي في القرن التاسع عشر، والخدمة الرفيعة التي قدمها للثقافة الإسلامية في الهند، من خلال مطبعته الشهيرة في مجال طباعة كتب التراث العربي والإسلامي، «مطبعة المنشي نولكشور».
وُلد نولكشور سنة 1836 شمالي الهند في إقليم «أترابراديش» في أسرة هندوكية معروفة وذات مكانة، تقلّدت مناصب حكومية في أزمنة مختلفة، وكان «المنشي» - والكلمة تعني بالأُردية الكاتب - لقبًا تشريفيًا لهذه العائلة. وقد درس نولكشور اللغة الفارسية، وتعلّم شيئًا من «العربية»، في حين كانت اللغة الأُردية لغة أمه. وقد اشتهرت مقالاته وهو ابن سبع عشرة سنة، فترك الدراسة النظامية، وانكبّ على القراءة الشخصية والكتابة. وفي سنة 1853 عمل في صحيفة «كوه نور» الصادرة في لاهور، فترسّخت قدماه في هذا المجال إلى عام 1857، السنة العصيبة في حياة المسلمين الذين ثاروا في تلك السنة على الإنجليز ثورتهم الفاشلة، والتي دفعوا فيها ثمنًا فادحًا وانتكست مصالحهم.
ثورة العواطف المشتعلة
قمع الإنجليز ثورة 1857 بقسوة بالغة. ولكن الثورة فشلت لأسباب أخرى. وأول أسباب الفشل، يقول الشيخ عبدالمنعم النمر، اعتماد الثورة «على العواطف المشتعلة، وعدم العمل على تنظيمها وقيامها كلها في وقت واحد، وعدم شمولها للبلاد كلها». ومن أسباب الفشل، يقول النمر، «انضمام السيخ للإنجليز، وهم قوم أولو بأس وشدة، وكانوا يسيطرون على البنجاب بقوة رجالها. ومن الأسباب أيضًا موقف الجنوب حكامًا وشعوبًا، ولاسيما ملك «حيدر آباد»، فقد وقف مع الإنجليز ضد مواطنيه الهنود. وملوك حيدر آباد كانوا دائمًا مع الإنجليز. ومن الأسباب الخارجية تدفق الجنود الإنجليز على الهند في ذلك الوقت بمحض المصادفة، فقد كان كثير منهم ذاهبًا إلى الصين في مناوشات، فلما قامت الثورة، نزلوا في الهند لإخمادها». كما أن انتشار الشكوك فرّق صفوف الثوار، حتى أن «مولانا أبي الكلام آزاد» يقول: «إن قادة الثورة لم يتفقوا، بل كان بعضهم يحسد البعض الآخر ويتآمر ضد أصحابه وزملائه، ونجد أن كثيرًا ممن قاموا للثورة قاموا لأسباب شخصية». وهكذا قُدّر للإنجليز أن ينتصروا، فتعرض المسلمون لضروب الانتقام. (تاريخ الإسلام في الهند، القاهرة 1959، ص 444-447).
وهكذا سقطت المدينتان «دهلي» و«لكهنو»، وهما يومذاك أكبر المراكز الإسلامية الحضارية والثقافية في الهند. «وقد تلا سقوطهما القتل والنهب والدمار، فقُتل آلاف من المسلمين ومئات من العلماء والرؤساء والأمراء، ونُهبت المكتبات الحكومية والشخصية، وسادت الفوضى، وانعدم الأمن، وذهب الرخاء، واختفى كثير من أصحاب العلم والشعراء والأدباء والفضلاء البارعين في الفنون المختلفة، وغادروا المدن، وابتلي كثير منهم بالجوع والفاقة، لذهاب الدولة ومؤسساتها التي كانت تقدّرهم وتنفق عليهم، وقُبض على الملك «بهادرشاه ظَفَر»، آخر الملوك المسلمين في الهند، ونفي إلى «رانجون» في بورما. (دور الهند في نشر التراث الإسلامي، حفظ الرحمن الإصلاحي، كتاب العربية - الرياض 2011، ص 92-93).
الطريق إلى النشر
وبعد عام، أصدر نولكشور، الصحافي الهندوسي نفسه، صحيفة سماها «أود أخبار»، وتطورت المطبعة واشتهرت مع الجريدة، حتى أصبحت أكبر مطبعة في الهند البريطانية.
درس نولكشور سوق الطباعة والنشر في محيطه وبخاصة بعد تزايد المدارس الدينية الإسلامية، إذ كان الأساتذة والطلبة مضطرين إلى نسخ الكتب المقررة وغيرها بأيديهم.
فعني نولكشور بطباعة هذه الكتب وتوزيعها بأقل الأسعار. ولم يعْنِ له الاختلاف الكثير، فقد كان هندوسيًا بعيدًا عن كل عصبية دينية أو طائفية، يحترم الديانات والمذاهب كلها، فأقبل على طباعة الكتب الدينية للديانات المختلفة، ولكنه عني بطباعة المصاحف والكتب الإسلامية عناية خاصة.
ويقول كتاب «دور الهند» الذي أشرنا إليه للتو، إن نولكشور لم يكن ناشرًا فحسب، بل كان كاتبًا صحفيًا محبًا للعلم، مقدرًا للعلماء، فجمع في مكتبته عددًا كبيرًا من أصحاب العلم والفن، وأغناهم عن الكد في طلب المعيشة، وصار ينفق عليهم ليمكنهم الانقطاع إلى العلم والبحث، وهكذا «اجتمع في مطبعة نولكشور من حُفّاظ القرآن والعلماء والمؤرخين والأدباء والشعراء عدد لم يجتمع في أي مطبعة هندية أخرى».
وتشعّبت أقسام المطبعة إلى قسم للتأليف والترجمة، وقسم لتصحيح الكتب، وقسم كان يسمى «دار الكتابة»، لنسخ الكتب، وأسس كذلك بجانب المطبعة مصنعًا لصناعة الورق.
وكان قسم التأليف والترجمة يختار المخطوطات بمختلف اللغات المتوافرة كالعربية والفارسية والأردية، ويصحح أخطاءها ويدقّق الحواشي والهوامش، ثم يُعدُّ مقدمة عن المؤلف والكتاب.
كتابٌ كل يوم
وكان القسم يقوم كذلك بتأليف الكتب بهذه اللغات، وفق المناهج الدراسية في المدارس والكليات، ويترجم الكتب المهمة من العربية والفارسية والسنسكريتية، إلى الأردية وأحيانًا الهندية والإنجليزية. وكان في المطبعة 56 خطاطًا، منهم أربعة عشر فقط من الهندوس والباقون من المسلمين.
وكانت المطبعة مزوّدة بأكثر من 60 طابعة عام 1868، مع 12 ألف عامل وفني، حيث ارتفع عدد هذه الطابعات عام 1895 إلى 300 طابعة. ويضيف الكتاب:
«اتخذ نولكشور طريقة عجيبة أفاد بها الناس، واستفاد هو في طباعة الكتب بسرعة فائقة خارج أعمال المطبعة. إذ أعار عددًا من فضلاء الفقراء الذين توسم فيهم الخير والأمانة طابعات يدوية، فإذا انتهى الخطاطون في المطبعة من نسخ الكتاب أحيلت الملازم للتصحيح، ثم وُزّعت على أولئك الفضلاء، فيتمّ طبع الكتاب كاملاً خلال يوم أو يومين. ويدفع نصف أجرة الطباعة إلى الطابع، ويحتفظ بنصفها، وهكذا حتى يُستوفى ثمن الطابعة ليملكها ذلك الطابع المستعير، ويصير صاحب مطبعة مستقلة. وبهذه الطريقة نشأت عدة مطابع جديدة في مدينة لكهنو، واشتهر بعضها مثل مطبعة نامي». (ص97).
وافتتحت المطبعة مع مرور الوقت أفرع في مدن هندية أخرى، بل جاوزت إصدارات المطبعة حدود الهند، فوصلت إلى إيران وأفغانستان وتركستان الصينية وأذربيجان وسمرقند وبخارى وطشقند. وكان طلاّب المدارس الدينية في هذه المدن ينسخون الكتب بأيديهم، أو يكلفون من ينسخها لهم بأجرة باهظة، ويتحملون ما في الكتاب والنسخ من أخطاء وخط غير مقروء أحيانًا. فبدأ تجار الكتب في تلك البلاد يستوردون مطبوعات مكتبة نولكشور، حتى طلب حاكم أفغانستان يومها من نولكشور أن يفتح فرعًا لمكتبته في بلاده. وقد تعرضت مكتبات الهند - كما ذكرنا - للنهب خلال الثورة، فبذل «المنشي نولكشور» جهدًا كبيرًا للاتصال بأصحاب المكتبات من الأمراء والفضلاء، ليشتري ما عندهم من مخطوطات محفوظة ليقوم بتصحيحها وطباعتها، فأنقذ بذلك مئات المخطوطات من مؤلفات علماء الهند وغيرهم من التلف والضياع.
عاملون على وضوء
ومما يثير التقدير والإعجاب على نحو خاص في سلوك هذا الناشر الرائد «نولكشور»، أنه ألزم عمّال المطبعة والفنيين، فضلاً عن الخطاطين والمصححين أن يكونوا جميعًا على وضوء، عند الاشتغال بكتابة المصحف وتصحيحه وطباعته وتقول مجلة علوم القرآن الهندية:
«كانت الثياب البيضاء تُفرش تحت الطابعات وحولها، لئلا تقع ورقة على الأرض، وإذا غُسلت الألواح التي تطبع عليها المصاحف جُمع الغسيل فيلقى في حفرة تحفر من أجله خاصة، وأوراق المصحف الناقصة أو التي لم تعد صالحة للاستعمال، كانت تحفظ وتجمع في غرفة مستقلة، ولا تباع مع الأوراق المستعملة الأخرى. (المجلد17، العدد2، ص104).
ولا تكاد مطابع العالم العربي والإسلامي منذ سنين طويلة حتى اليوم تلزم نفسها بمثل هذه الاحتياطات في التزام الطهارة.
بدأ نولكشور عمله في مطبعته الصغيرة يوم أسسها بطباعة أجزاء من المصحف والكتب المدرسية الصغيرة. وقد طبع إلى يوم وفاته مليون نسخة من المصاحف بأحجامها وأشكالها المختلفة، كانت تباع كلها بسعر منخفض. أما المطبوعات العربية الأخرى، فمنها ما يتعلق بالتفسير مثل «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي، و«التبيان في إعراب القرآن» للعكبري. وفي مجال الحديث، صدرت من مطبعته الصحاح الستة، و«إرشاد الساري في شرح البخاري» للقسطلاني في عشرة مجلدات، و«شرح صحيح مسلم» للنووي، و«مشكاة المصابيح» وغير ذلك.
واستأثرت كتب الفقه وخاصة فقه المذهب الحنفي بنصيب غالب، لأهميتها كمراجع في المدارس الهندية والمحاكم الإنجليزية ولاستخدام المحامين. وقد صدرت كتب الفقه الحنفي من المطبعة مذيّلة بالشروح، بالإضافة إلى تراجمها الأردية. وظلت الطبعة الصادرة من هذه المطبعة من كتاب «البناية في شرح الهداية» في أربعة مجلدات الطبعة الوحيدة، في أكثر من 3500 صفحة لمدة مائة عام.
وأصدرت المطبعة العديد من الكتب في النحو والصرف، والأدب والبلاغة والعروض ودواوين الشعر. كما أنجزت المطبعة بعض القواميس، مثل «أساس البلاغة» للزمخشري، و«القاموس المحيط» للفيروز أبادي. وقد عنيت الدار بكتب الطب، فنشرت الكثير منها بالعربية والفارسية والأردية.
ولهذا كله، وتقديرًا لهذه الشخصية الثقافية الهندوسية المتسامحة الواسعة الأفق، قال السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي عنه: «إن للمنشي نولكشور منّة كبيرة على المسلمين وأهل العلم، إذ وقف مطبعته على نشر الكتب الدينية والأدبية في اللغات العربية والفارسية والأردية، ووفّر لهم كتبًا قيّمة نادرة بأسعار زهيدة».
الهندوس يترجمون القرآن الكريم
ومما يشار إليه في مجال فضل الهندوس الثقافي أنهم كذلك كانوا أول من ترجم القرآن الكريم إلى «لغة التلفو» التي هي من أهم لغات جنوب الهند، حيث شرع بالعمل أحدهم ثم قام بإكماله مترجم ثان.
توفي نولكشور سنة 1895، وفي خلال 36 سنة من بداية تأسيس المطبعة إلى وفاته، نشر أربعة آلاف كتاب، أكثرها بطبيعة الحال باللغة الأردية، وقد استمرت المطبعة بعد وفاته إلى سنة 1950، فزاد عدد مطبوعاتها أضعافًا بطبيعة الحال.
كانت المطبعة قد دخلت الهند في القرن السادس عشر على أيدي البرتغاليين الذين وردوا على الهند تجارًا، ثم استولوا على بعض المناطق في الساحل الجنوبي، واتخذوا مدينة «غوا» Goa عاصمة لحكمهم. وقد أسسوا فيها كلية القدّيس بولس، ثم استوردوا من البرتغال آلات الطباعة، وأنشئت المطبعة في الكلية المذكورة، فباشرت أعمالها سنة 1556، وطبعت مجموعة من الكتب العلمية والدينية في اللغة البرتغالية وبعض اللغات الهندية.
وفي مدينة بومباي، أُنشئت أول مطبعة سنة 1674، وقد استوردها تاجر زرادشتي لنشر المخطوطات الهندية القديمة، كما طبع كتبًا باللغة الإنجليزية. ودخل الإنجليز مجال الطباعة في الهند، وأنشأوا الكثير من المطابع في كلكتا التي أصبحت مركزًا تجاريًا سياسيًا، ومنها مطبعة شركة الهند الشرقية، التي طبعت «مقامات الحريري» عام 1821، كما طبعت مطبعة أخرى «ألف ليلة وليلة» سنة 1839.
وجاء في كتاب «دور الهند في نشر التراث العربي» أن «أقدم كتاب عربي مطبوع في الهند وقفنا عليه كتاب «السراجي» في الفرائض، لسراج الدين السجاوندي، مع ترجمته الإنجليزية، وقد طبع في كلكتا سنة 1793، ولا شك في أن كتبًا عربية أخرى صدرت قبل هذا التاريخ، ولكن لم نتمكن من الاطلاع عليها». وكانت الطباعة في هذه المطابع كلها بالحروف المسبوكة من النحاس وغيره، ومن الخشب أيضًا. وفي سنة 1796 ظهرت طريقة الطباعة الحجرية Lithography. ولما كانت هذه الطريقة الجديدة أقل تكلفة وأسهل وأسرع في الطباعة، بالإضافة لصلاحيتها لطباعة الصور، أقبل عليها الناس، وبعد اختراعها بأربعين سنة، دخلت هذه الطريقة الهند، ولقيت رواجًا واسعًا لطباعة الكتب، وأنشئت أول مطبعة ليثوغرافية في «دهلي» - أي دلهي - عام 1837. وقد كثر عدد المطابع الحجرية في بضع سنين حتى وصل في سنة 1853 إلى 34 مطبعة في مدينة لكهنو، وزاد عددها في نهاية القرن التاسع عشر على 200 مطبعة في مدينة كلكتا وحدها.
ومن أشهر «المطابع الليثوغرافية» التي خدمت الثقافة الإسلامية في الهند، والكتاب العربي جزء منها، نحو مائة سنة 1858-1950، كانت مطبعة «المنشي نولكشور»، التي تحدثنا عن دورها في هذا المقال، والتي كانت «أشهر تلك المطابع وأعظمها».
(دور الهند، ص91) .