إلى أستاذنا الكبير إلياس سحاب..

إلى أستاذنا الكبير إلياس سحاب..
        

          قرأت بشغف تام ولهفة حرّاقة وتعطّش شديد مقالتكم القيّمة المنشورة في مجلة العربي عدد (628) لشهر مارس 2011 بعنوان «رياض السنباطي.. صيغة سحرية بين القصبجي وزكريا أحمد». والتي احتوت على ومضات سريعة عن إحدى المراحل في حياة عبقري النغم الصوفي وعاصمة العود العربي الفنية.

          فالحق والحق أقول، إنه - يا أستاذنا الفاضل - مقال ثري جدًّا على قصره النسبي. وقد أفدت منه شخصيًّا في مقارنة الروافد الأساسية لثقافة وتوجه ونمط رياض السنباطي في مرحلة ما بعد «بلبل المنصورة» وسيد درويش.

          المقالة أتت رصينة متناغمة مترابطة الأفكار وهي - وأنا هنا لا أمتدح ولا أثني بقدر ما أنقل رأيي بتجرّد - لا تبتعد كثيرًا عن رصانة وأصالة مقالاتك ونقاشاتك ومحاوراتك في سبيل التصدي لمحاولات تشويه موسيقانا العربية. لقد وقفت - منذ منتصف القرن الماضي - أنت ومن بعدك أشقاؤك المايسترو سليم والصديق الوالد الدكتور فكتور والأخ العزيز سمير بكل أمانة وجديّة وتفان ضد كل مَن حاول الإساءة من قريب أو من بعيد لتراثنا الموسيقي وأعلامنا العباقرة السبعة وغيرهم من مجايليهم، ومَن جاء بعدهم أو قبلهم، فلكم منا كل شكر وتقدير.اسمح لي يا سيدي - بتجاوز الابن العاق - أن أبدي ملاحظاتي على ما خطّه قلمك المثقف المحب والغيور، وعذرًا على جرأتي عليك.

          1 - معلوم لدى الجميع تأرجح وتذبذب تاريخ ميلاد موسيقار الأجيال وسيد مطربي أمتنا العربية محمد عبدالوهاب بين 1898 و1902 و1903 بل وقيل 1910.

          فقد ذكرت جميع هذه التواريخ، والأغرب أن صاحب الشأن قد ذكر تاريخين لميلاده. ولكني أجدني أركن وأرتاح إلى ما أقرّه الدكتور فكتور سحاب في كنزه «السبعة الكبار في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة» بعد بحث وتمحيص من أن صاحب «الجندول» قد وُلد في ضحى شهر مارس من العام 1902م، وذلك لاعتبارات عدة سردها الدكتور بأسلوب فريد في فصل عبدالوهاب في الكتاب المشار إليه. فأرجو - يا أستاذنا - أن تصحح لي إن كنت مخطئًا أو قصّرت عني معلومة، فالناس أعداء ما جهلوا، وقد ذكرت في بداية مقالتك أنه وُلد في 1898.

          2 - عن علاقة رياض السنباطي بالشيخ زكريا أحمد وتأثر الأول بالثاني، فأقول وعلى الله التكلان إن كلا الكبيرين أتيا من خلفية متشابهة، فكلاهما من خلفية دينية. وإن كان فارق السنوات العشر قد جعل من الشيخ زكريا أحمد أكثر التصاقًا بالقرن التاسع عشر، بل أصبح - كما تفضلت بتعبيرك الرائع - «ممثل القرن التاسع عشر في قلب القرن العشرين». وعن زكريا أحمد يقول أبو الروض «لون جميل، أحس فيه بالحارة والجامع وسي عبده والسبحة والكتاتيب، وهذا ليس غريبًا، فقد كان في بطانة الشيخ علي محمود، لونه جميل ولكنه غارق في التقليدية». مما سبق، يتضح أن رياض السنباطي كان يروقه لون الشيخ زكريا ويطرب له. ولكنه كان ينتقد إغراق الشيخ المفرط في شرقيته. وأنا أرى كمستمع أن السنباطي حتى رحيله في خريف 1981 كان مزاجه ومساره وذوقه، بل وخياله ميّالًا إلى خط التطوير القصبجي ولكن بلا تفريط. وهو ما أوافقك عليه تمامًا أنه أتى في منطقة وسطى بين التجديد والتقليد، فقد جاء تقليديًّا مجددًا أو مجددًا بتقليدية.

          3 - قصيدة الأمير شوقي الخالدة «سلوا كئوس الطلا» والتي كتبها خصيصًا في السيدة - الآنسة آنذاك - أم كلثوم وقولك إن السنباطي في تلحينه لهذه القصيدة سلك خطا قريبًا من خط الشيخ زكريا أحمد، فاسمح لي بمخالفتك والقول: إن كان هناك تقارب في مسار التلحين فلأن المنبع واحد وهو قالب قصيدة الشيخ أبو العلا محمد الذي ورثه من الشيخ عبدالرحيم المسلوب وعاصره فيه عبده الحامولي ومحمد عثمان وأورثه ملحّني القرن العشرين. ولكن السنباطي - الذي تأثر قطعًا هو وعبدالوهاب والشيخ زكريا، حتى محمد القصبجي بهذا القالب - قد زاد في هذه القصيدة عنصرًا غدا من أهم ملامح القصيدة السنباطية وهو اللازمة الموسيقية التي تتكرر في نهاية كل مقطع للإيحاء بالجو الصوفي الذي كان يرى نفسه فيه، هذا ما وددت قوله. أن السنباطي وزكريا وكل ذلك الجيل قد نهل من معين واحد وهو قصيدة الشيخ أبي العلا محمد وإن ساهموا جميعًا في تطوير قالب القصيدة حتى وصلت إلى منتهاها مع السنباطي والعبقري الآخر عبدالوهاب.

          4 - السنباطي - بلا مراء - كان معجبًا، بل ومفتونًا بفكر محمد القصبجي التجديدي النادر، مثله في ذلك مثل عبدالوهاب تمامًا. ولكنه كان نافرًا (أو لنقل متخوّفًا) من خطوات القصبجي الوثابة والجريئة نحو التجديد والتطوير. وهذا ما يفسر - في رأيي - قبوله لتجربة عبدالوهاب المشابهة للقصبجي - لأنه قدمها بشكل أكثر إقناعًا وتهذيبًا، وأيضًا لأن السنباطي قد عمل فترة مع عبدالوهاب في فرقته، فكان مطّلعًا على طريقته في الغناء والتلحين، وهذا لا يعيب السنباطي في شيء، بل على العكس أفاده كثيرًا هذا الافتتان والتأثر بجميع مَن حوله ليسكب هذا كله في بوتقة رياض السنباطي ليقدم لنا أعمالًا تتميز بكل العناصر الموجودة عند الأربعة الذين سبقوه بالإضافة إلى التأثير الأكبر على كل الخمسة القادم من نسمات موسيقار الشعب والمجدد العبقري الكبير الشيخ سيد درويش، ولعل ضرب مثال يزيد في جلاء الأفهام. لحّن السنباطي في نهايات سبعينيات القرن الماضي عملًا جبّارًا مليئًا بالشحنات التعبيرية والتصويرية، بل والموسيقية الفخمة كتبه له حسين السيد بعنوان «حكاية المناديل أو المنديل» ولحّنه لتغنّيه السيدة شهرزاد. لن أسترسل كثيرًا في تحليل العمل المتقن، ولكن وضّح فيه جنوحه اللاإرادي نحو تجديد القصبجي وفكره الموسيقي الخصب - خصوصًا أن العمل لن تغنيه أم كلثوم - ولكن بنضج وتهذيب عبدالوهاب وأصالة زكريا أحمد وتعبيرية سيد درويش. إذن فالسنباطي كان نتاج تقاطعات وتجارب موسيقية عدة استوعبها وهضمها وخرج منها بخط تلحيني متفرّد يغلفه الوقار والرهبة من ولوج عالم القصبجي التجديدي العميق.

          5 - أخيرًا وليس آخرًا بعض الملاحظات الجانبية على المقال:

  • يميل المقال إلى القصر وإن لم يأخذ كثيرًا من رصانة المقال وتراتب أفكاره المهمة.
  • لم يعرج المقال على الجانب الأهم - في رأيي على الأقل - في مسيرة السنباطي الكلثومية وهو ملامح ونتاج التجربة الكلثوسنباطية. وددت فعلًا أن نستفيد نحن المحبين والمستمعين لرأي ناقد كبير ومهم مثل الأستاذ إلياس في التجربة السنباطية عبر حنجرة سيدة مطرباتنا أم كلثوم.

          ختامًا، أشكر مجلة العربي والأستاذ إلياس على إثرائنا - من حين لآخر - بمثل هذه المقالات التي تعتبر عملة نادرة هذه الأيام.

عبدالعزيز إبراهيم السماعيل
الخبر - السعودية