إدوارد سعيد... الانتفاضة الثقافية

إدوارد سعيد... الانتفاضة الثقافية

‮«‬إدوارد‭ ‬سعيد‭... ‬الانتفاضة‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭  ‬قام‭ ‬بترجمته‭ ‬أخيراً‭ ‬الناقد‭ ‬المغربي‭ ‬د‭.‬محمد‭ ‬الجرطي‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬لمؤلفه‭ ‬الباحث‭ ‬الفرنسي‭ ‬إيف‭ ‬كالفارون،‭ ‬المختص‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭. ‬

وترجع‭ ‬أهمية‭ ‬صدور‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬بلغته‭ ‬الأصلية‭ ‬إلى‭ ‬مصادفته‭ ‬للذكرى‭ ‬العاشرة‭ ‬لوفاة‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬2003،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أهميته‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬ملئه‭ ‬لفراغ‭ ‬تشكو‭ ‬منه‭ ‬الدراسات‭ ‬الثقافية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬خزانتها‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬من‭ ‬التأليف‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الرصين‭.‬

وباعتراف‭ ‬مجلة‭ ‬انقدب‭ ‬المختصة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يقدم‭ ‬للمهتمين‭ ‬مادة‭ ‬علمية،‭ ‬هي‭ ‬بمنزلة‭ ‬خلاصة‭ ‬تركيبية‭ ‬للمسار‭ ‬الفكري‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬المثقف‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والسياسي،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إبرازها‭ ‬للقيمة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬استند‭ ‬إليها‭ ‬مؤلفه‭ ‬إيف‭ ‬كالفارون‭ ‬في‭ ‬مراجعتِه‭ ‬الشاملةِ‭ ‬للأعمال‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬سواء‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الأصلية،‭ ‬أو‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬المراجعة‭ ‬التقويمية‭ ‬لهذه‭ ‬البيبلوغرافية،‭ ‬تتميز‭ ‬كذلك‭ ‬باعتمادِها‭ ‬على‭ ‬مناهج‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬مصادرها‭ ‬الإنجليزية‭. ‬ولهذا‭ ‬ركزت‭ ‬التطبيقات‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬الموضوعات‭ ‬المحورية‭ ‬التالية‭:‬

‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول،‭ ‬عالج‭ ‬المؤلف‭ ‬موضوع‭ ‬اسعيد‭ ‬مفكر‭ ‬في‭ ‬العالمب‭ (‬ص‭ ‬31‭)‬،‭ ‬وتمحور‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬حول‭ ‬تيمة‭ ‬اإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الناقد‭ ‬المقارناتيب،‭ (‬ص‭ ‬77‭).‬

في‭ ‬حين‭ ‬تناول‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث،‭ ‬اعلاقة‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬والعالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليب،‭ (‬ص‭ ‬119‭). ‬

ولعل‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يستوقفنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬هو‭ ‬العتبة‭ ‬النصية‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬العنوان‭ ‬وكلمة‭ ‬الانتفاضة،‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬القارئ،‭ ‬وحالما‭ ‬يطلع‭ ‬على‭ ‬الأطروحات‭ ‬المركزية‭ ‬للكتاب،‭ ‬سيدرك‭ ‬دلالة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬المحيلة‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬المقاومة‭. ‬ولهذا،‭ ‬فإن‭ ‬اختيارها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اعتباطاً،‭ ‬لأن‭ ‬مصطلح‭ ‬االانتفاضةب‭ ‬وفور‭ ‬انطلاقه‭ ‬بفضل‭ ‬أطفال‭ ‬الحجارة‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يغزو‭ ‬قاموس‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬اقترن‭ ‬بالمسار‭ ‬الثقافي‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬المنتمي،‭ ‬موقفاً‭ ‬وتنظيراً،‭ ‬إلى‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ولهذا‭ ‬نعته‭ ‬خصومه‭ ‬بالمفكر‭ ‬الإرهابي‭ ‬عندما‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬مساندته‭ ‬الرمزية‭ ‬لانطلاق‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بإلقائه‭ ‬حجراً‭ ‬عند‭ ‬بوابة‭ ‬الحدود‭ ‬اللبنانية‭ - ‬الإسرائيلية‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬سعيد‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المثقفين‭ ‬العالميين،‭ ‬وربط‭ ‬بين‭ ‬معنى‭ ‬الثقافة‭ ‬وقول‭ ‬الحقيقة‭ ‬المقاومة،‭ ‬وتشهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كتبه‭ ‬الفكرية‭ ‬الأولى‭ ‬االبدايات‭ - ‬القصد‭ ‬والمنهجب‭ ‬وكتابه‭ ‬الشامخ‭ ‬في‭ ‬تعرية‭ ‬الفخاخ‭ ‬الأيديولوجية‭ (‬للاستشراق‭)‬،‭ ‬وكذا‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬االثقافة‭ ‬والإمبرياليةب‭ ‬واالثقافة‭ ‬والمقاومةب‭ ‬واالقلم‭ ‬والسيفب،‭ ‬وفي‭ ‬اتأملات‭ ‬حول‭ ‬المنفىب‭ ‬التي‭ ‬توَّجها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أبحاثه‭ ‬الملتزمة‭ ‬بالقضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ومناهضتِه‭ ‬لاتفاقية‭ ‬أوسلو‭.‬

وللتعبير‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الهادف‭ ‬عند‭ ‬سعيد،‭ ‬نجده‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬اتأملات‭ ‬حول‭ ‬المنفىب،‭ ‬امن‭ ‬جهتي،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدوري‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬حياة‭ ‬متنصلة،‭ ‬وغير‭ ‬ملتزمةب‭ (‬ص‭ ‬21‭). ‬

 

تأسيس‭ ‬مشروع‭ ‬نظري‭ ‬عالمي

تصعب‭ ‬متابعة‭ ‬المسار‭ ‬الفكري‭ ‬النقدي،‭ ‬الذي‭ ‬انفرد‭ ‬به‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬النظرية،‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬مشروع‭ ‬نظري‭ ‬عالمي،‭ ‬ساهم‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المستعمرات‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬المتروبول‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬متابعة‭ ‬دراستهم‭ ‬الجامعية،‭ ‬وكوّنوا‭ ‬مدرسة‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والغربية،‭ ‬عرفت‭ ‬بالدراسات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬أسمائها‭ ‬نجد‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ‭ ‬االثلاثي‭ ‬المقدسب،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬روبرت‭ ‬يونغ،‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬وهومي‭ ‬بابا‭ ‬وغياتري‭ ‬سيباك،‭ ‬الذين‭ ‬قال‭ ‬عنهم‭ ‬أحد‭ ‬النقاد‭ ‬الغربيين‭ ‬الكبار‭ ‬إنهم‭ ‬اتركيبة‭ ‬علمية‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرضب‭. ‬

وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬غزارة‭ ‬مادة‭ ‬الكتاب‭ ‬وتشعب‭ ‬موضوعاته،‭ ‬ارتأينا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أن‭ ‬نقتصر‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأيقونية‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬عند‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬التي‭ ‬غزت‭ ‬لاحقاً‭ ‬مختلف‭ ‬شُعَبِ‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تحديداً،‭ ‬وفي‭ ‬جُل‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬وأول‭ ‬مفهوم‭ ‬إجرائي‭ ‬صاغه‭ ‬سعيد‭ ‬هو‭ ‬مصطلح‭ ‬الدنيوية‭ ‬Mondanité،‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬سعيد‭ ‬اتعني‭ ‬الدنيوية‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬وضعية‭ ‬شخص‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬وضعية‭ ‬عمله‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬نفسه،‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬أو‭ ‬النص،‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬مقابل‭ ‬سياق‭ ‬يكون‭ ‬خارج‭ ‬العالم،‭ ‬خاص‭ ‬وغير‭ ‬ماديب‭ (‬ص‭ ‬51‭).‬

وهذه‭ ‬المقاربة‭ ‬المنهجية‭ ‬السعيدية،‭ ‬قطعت‭ ‬مع‭ ‬القراءات‭ ‬البنيوية‭ ‬التجريدية‭ ‬التي‭ ‬تتجاوز‭ ‬الواقع‭ ‬المادي‭. ‬

 

القراءة‭ ‬الطّباقية

أما‭ ‬المفهوم‭ ‬الآخر،‭ ‬الذي‭ ‬ذاع‭ ‬صيته‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬فهو‭ ‬مصطلح‭ ‬االقراءة‭ ‬الطّباقيةب،‭ ‬استعاره‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الموسيقى‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجيد‭ ‬معرفتها،‭ ‬عزفاً‭ ‬وتنظيراً‭. ‬وهذه‭ ‬القراءة‭ ‬الطباقية،‭ ‬تجد‭ ‬مبررها،‭ ‬في‭ ‬هُجنة‭ ‬الثقافات،‭ ‬لهذا‭ ‬سيطبقها‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الأدبتبالإمبريالية،‭ ‬إنها‭ ‬قراءة‭ ‬حوارية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الباختيني،‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الهويات‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬مغلقة‭ ‬أو‭ ‬ثابتة،‭ ‬وعلى‭ ‬أنها‭ ‬مجال‭ ‬للتفاعل‭ ‬والتواصل،‭ ‬ففي‭ ‬القراءة‭ ‬الطباقية‭ ‬يعمل‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬مع‭ ‬أنواع‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬المغايرة‭ (‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬الوثائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬البحوث‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬ربط‭ ‬الآداب‭ ‬الأوربية‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬غير‭ ‬الأوربي،‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬استحضاره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآداب‭ ‬بشكل‭ ‬تلميحي،‭ ‬وهكذا‭ ‬يدعو‭ ‬سعيد‭ ‬اإلى‭ ‬قراءة‭ ‬نصوص‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬والأوربي‭ ‬بطريقة‭ ‬طباقية،‭ ‬ليبين‭ ‬كم‭ ‬هي‭ ‬متورطة‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الإمبريالي،‭ ‬ومتحدثة‭ ‬بطريقتها‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬المستعمرب‭ (‬ص‭ ‬103‭). ‬

أما‭ ‬الأطروحة‭ ‬الفكرية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬دافع‭ ‬عنها‭ ‬سعيد،‭ ‬فقد‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الصادر‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬اعن‭ ‬الأسلوب‭ ‬المتأخر،‭ ‬موسيقى‭ ‬وأدب‭ ‬ضد‭ ‬التيارب،‭ ‬الذي‭ ‬استلهمه‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬تيودور‭ ‬أدورنو،‭ ‬وأعده‭ ‬للنشر‭ ‬ميكاييل‭ ‬وود،‭ ‬بتعاون‭ ‬مع‭ ‬مريم‭ ‬سعيد،‭ ‬وهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬مؤلفات‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬الذي‭ ‬ترجمه‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬د‭. ‬فواز‭ ‬طرابلسي‭ ‬عام‭ ‬2015‭. ‬

وقد‭ ‬شاءت‭ ‬الظروف‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬سعيد‭ ‬عن‭ ‬عالمنا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬اللمسات‭ ‬الأخيرة‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬يتناول‭ ‬مسار‭ ‬مبدعين‭ ‬ومثقفين‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياتهم،‭ ‬تحدوا‭ ‬مداهمة‭ ‬الموت‭ ‬بالسير‭ ‬اعكس‭ ‬التيارب‭ ‬في‭ ‬إنتاجاتهم‭ ‬وإبداعاتهم‭ ‬شكلاً‭ ‬ومضموناً‭. ‬ففي‭ ‬الحقل‭ ‬الأدبي،‭ ‬نجد‭ ‬الكتاب‭ ‬جان‭ ‬جونيه‭ ‬وكفافي‭ ‬ولامبيدوزا‭ ‬وتوماس‭ ‬مان‭.  ‬وفي‭ ‬الموسيقى‭ ‬نذكر‭ ‬باخ‭ ‬وموزار‭ ‬وبتهوفن‭ ‬وستراوس،‭ ‬والعازف‭ ‬الموسيقي‭ ‬الكبير‭ ‬غلين‭ ‬غولد،‭ ‬وينطبق‭ ‬هذا‭ ‬التأليف‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬آخر‭ ‬كتبه‭ ‬المتأخرة،‭ ‬التي‭ ‬سار‭ ‬فيها‭ ‬عكس‭ ‬التيار،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬حرجة‭ ‬مع‭ ‬مواجهة‭ ‬الموت‭ ‬ومرض‭ ‬السرطان،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظرياته‭ ‬المستنيرة‭ ‬ومواقفه‭ ‬الجذرية‭ ‬وصرامة‭ ‬مفاهيمه‭ ‬المنهجية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتراجع‭ ‬عنها،‭ ‬القد‭ ‬اتسمت‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لسعيد‭ ‬بطاقة‭ ‬وحيوية‭ ‬لا‭ ‬تكل،‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬مقاومة‭ ‬عنيدة،‭ ‬حيال‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ناضل‭ ‬سعيد‭ ‬ضده‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬حياته،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المقابلات‭ ‬الصحفية‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬سعيد‭ ‬ونشرت،‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬أي‭ ‬مهادنة‭ ‬ولا‭ ‬تشكل‭ ‬أي‭ ‬تنازل،‭ ‬وتبرز‭ ‬مساراً‭ ‬مهنياً،‭ ‬منذوراً‭ ‬للمطالبة‭ ‬بحرية‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬الحقيقة‭ ‬إلى‭ ‬أرباب‭ ‬السلطةب‭ (‬ص،‭ ‬68‭).‬

 

تيار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المفارقة‭ ‬العلمية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرين‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬الذين‭ ‬يكتبون‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬على‭ ‬نظريات‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬مراجعهم‭ ‬الفكرية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالنظرية‭ ‬الفرنسية‭ ‬French Theory‭. ‬

فإذا‭ ‬اقتصرنا‭ ‬على‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬علامات‭ ‬مائزة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية،‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬الاستشراق‭ ‬يحاور‭ ‬نظرية‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬أبنية‭ ‬الخطاب‭ ‬بالسلطة،‭ ‬أما‭ ‬هومي‭ ‬بابا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬فرانز‭ ‬فانون‭ ‬وجاك‭ ‬دريدا،‭ ‬بينما‭ ‬توجهت‭ ‬غياتري‭ ‬سبيباك‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬كتاب‭ ‬الكرامتولوجيا‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬الكتابة‭ ‬لجاك‭ ‬دريدا‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وتطبيق‭ ‬نظرية‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬التحليلي‭ ‬للعالم‭ ‬جاك‭ ‬لاكان‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬االإنسان‭ ‬التابعب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭. ‬

يجب‭ ‬التذكير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬بأن‭ ‬القفزة‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬أطروحاته‭ ‬الفكرية‭ ‬انصبت‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬ذكية‭ ‬للمفكر‭ ‬الفرنسي‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو،‭ ‬الذي‭ ‬يعترف‭ ‬سعيد‭ ‬بأثره‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬مساره‭ ‬العلمي،‭ ‬لكن‭ ‬العلاقة‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تجمعه‭ ‬بفوكو،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬علاقة‭ ‬تبعية‭ ‬عمياء،‭ ‬ايكشف‭ ‬سعيد‭ ‬أنه‭ ‬مدين‭ ‬لميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬ولنظريته‭ ‬حول‭ ‬مادية‭ ‬الخطاب‭ ‬وإنتاجيته‭ ‬الاجتماعية،‭ (‬ص‭ ‬143‭)‬،‭ ‬واضعاً‭ ‬ثنائية‭ ‬المعرفة‭ ‬والسلطة‭ ‬في‭ ‬مقاصد‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬الاستشراق،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اعتراف‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬بالدين‭ ‬الفوكوي،‭ ‬فإنه‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬فوكو‭ ‬الذي‭ ‬يتبنى‭ ‬في‭ ‬تحليلاته‭ ‬تصوراً‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬السلبية‭ ‬لا‭ ‬حيال‭ ‬استخدامات‭ ‬السلطة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كذلك‭ ‬حيال‭ ‬كيفية‭ ‬ودوافع‭ ‬حيازتها‭ ‬واستخدامها‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬التشبث‭ ‬بها‭ ‬وترسيخها،‭ (‬ص‭ ‬145‭).‬

أما‭ ‬عن‭ ‬تلقي‭ ‬النظرية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فإنها‭ ‬تعرضت‭ ‬للإنكار،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تأثيرات‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬النظرية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬العالمية،‭ ‬لكن‭ ‬فرنسا‭ ‬الأكاديمية‭ ‬بقيت‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬شرود‭ ‬عن‭ ‬التطورات‭ ‬المنهجية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وفي‭ ‬منأى‭ ‬عن‭ ‬مسايرة‭ ‬هذا‭ ‬الوافد‭ ‬المعرفي‭ ‬الصاعد،‭ ‬تعاند‭ ‬كل‭ ‬مقاربة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كولونيالية،‭ ‬مقتصرة‭ ‬على‭ ‬الاعتزاز‭ ‬والاستلذاذ‭ ‬الإتنومركزي‭ ‬بأمجاد‭ ‬التنظيرات‭ ‬الشكلانية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تواجه‭ ‬عنف‭ ‬ماضيها‭ ‬الاستعماري‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬الذي‭ ‬عمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن،‭ ‬وارتكب‭ ‬آلاف‭ ‬المجازر‭ ‬الوحشية،‭ ‬التي‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬ضد‭ ‬المواطنين‭ ‬الأبرياء‭ .