إدوارد سعيد... الانتفاضة الثقافية
«إدوارد سعيد... الانتفاضة الثقافية» هو عنوان الكتاب الذي قام بترجمته أخيراً الناقد المغربي د.محمد الجرطي عن اللغة الفرنسية، لمؤلفه الباحث الفرنسي إيف كالفارون، المختص في الدراسات ما بعد الكولونيالية.
وترجع أهمية صدور هذا الكتاب بلغته الأصلية إلى مصادفته للذكرى العاشرة لوفاة إدوارد سعيد 2003، فضلاً عن أهميته المتمثلة في ملئه لفراغ تشكو منه الدراسات الثقافية الفرنسية، التي تفتقر خزانتها العلمية إلى هذا النهج من التأليف الأكاديمي الرصين.
وباعتراف مجلة انقدب المختصة، فإن هذا الكتاب يقدم للمهتمين مادة علمية، هي بمنزلة خلاصة تركيبية للمسار الفكري لإدوارد سعيد، المثقف الأكاديمي والسياسي، إلى جانب إبرازها للقيمة العلمية التي استند إليها مؤلفه إيف كالفارون في مراجعتِه الشاملةِ للأعمال الفكرية التي نشرها إدوارد سعيد، سواء باللغة الإنجليزية الأصلية، أو المترجمة إلى اللغة الفرنسية.
كما أن المراجعة التقويمية لهذه البيبلوغرافية، تتميز كذلك باعتمادِها على مناهج الدراسات النقدية في مصادرها الإنجليزية. ولهذا ركزت التطبيقات الواردة في فصول الكتاب على الموضوعات المحورية التالية:
في الفصل الأول، عالج المؤلف موضوع اسعيد مفكر في العالمب (ص 31)، وتمحور الفصل الثاني حول تيمة اإدوارد سعيد الناقد المقارناتيب، (ص 77).
في حين تناول الفصل الثالث، اعلاقة إدوارد سعيد والعالم ما بعد الكولونياليب، (ص 119).
ولعل أهم ما يستوقفنا في هذا الكتاب، هو العتبة النصية المكونة من العنوان وكلمة الانتفاضة، التي تعد دخيلة على الثقافة الفرنسية.
إلا أن القارئ، وحالما يطلع على الأطروحات المركزية للكتاب، سيدرك دلالة هذه الكلمة المحيلة على معنى المقاومة. ولهذا، فإن اختيارها لم يكن اعتباطاً، لأن مصطلح االانتفاضةب وفور انطلاقه بفضل أطفال الحجارة في فلسطين، استطاع أن يغزو قاموس الثقافة العالمية، كما أنه اقترن بالمسار الثقافي لإدوارد سعيد، المنتمي، موقفاً وتنظيراً، إلى القضية الفلسطينية، ولهذا نعته خصومه بالمفكر الإرهابي عندما عبر عن مساندته الرمزية لانطلاق الانتفاضة الفلسطينية، بإلقائه حجراً عند بوابة الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.
كما أن سعيد يعتبر من بين المثقفين العالميين، وربط بين معنى الثقافة وقول الحقيقة المقاومة، وتشهد على ذلك كتبه الفكرية الأولى االبدايات - القصد والمنهجب وكتابه الشامخ في تعرية الفخاخ الأيديولوجية (للاستشراق)، وكذا في كتبه عن االثقافة والإمبرياليةب واالثقافة والمقاومةب واالقلم والسيفب، وفي اتأملات حول المنفىب التي توَّجها من خلال أبحاثه الملتزمة بالقضية الفلسطينية ومناهضتِه لاتفاقية أوسلو.
وللتعبير عن هذا التوجه الهادف عند سعيد، نجده يقول في كتابه اتأملات حول المنفىب، امن جهتي، لم يكن بمقدوري أن أعيش حياة متنصلة، وغير ملتزمةب (ص 21).
تأسيس مشروع نظري عالمي
تصعب متابعة المسار الفكري النقدي، الذي انفرد به إدوارد سعيد في كتبه النظرية، التي سعى من خلالها إلى تأسيس مشروع نظري عالمي، ساهم فيه مع مجموعة من المثقفين من أبناء المستعمرات الإنجليزية، الذين هاجروا إلى دول المتروبول من أجل متابعة دراستهم الجامعية، وكوّنوا مدرسة نقدية في الجامعات الأمريكية والغربية، عرفت بالدراسات ما بعد الكولونيالية، ومن أشهر أسمائها نجد ما يُعرف بـ االثلاثي المقدسب، كما يقول روبرت يونغ، الذي يتكون من إدوارد سعيد وهومي بابا وغياتري سيباك، الذين قال عنهم أحد النقاد الغربيين الكبار إنهم اتركيبة علمية قد تكون أفضل ما هو متاح على وجه الأرضب.
وبالنظر إلى غزارة مادة الكتاب وتشعب موضوعاته، ارتأينا في هذا السياق، أن نقتصر على تقديم المفاهيم الأيقونية في النظرية النقدية عند إدوارد سعيد، التي غزت لاحقاً مختلف شُعَبِ الدراسات الأدبية في الولايات المتحدة تحديداً، وفي جُل الدول الغربية، وأول مفهوم إجرائي صاغه سعيد هو مصطلح الدنيوية Mondanité، الذي يعني الانتماء إلى العالم، أو كما يقول سعيد اتعني الدنيوية في الأصل بالنسبة إلي، في جميع الأحوال وضعية شخص ما، أو وضعية عمله أو العمل نفسه، العمل الأدبي، أو النص، وهكذا دواليك، في العالم مقابل سياق يكون خارج العالم، خاص وغير ماديب (ص 51).
وهذه المقاربة المنهجية السعيدية، قطعت مع القراءات البنيوية التجريدية التي تتجاوز الواقع المادي.
القراءة الطّباقية
أما المفهوم الآخر، الذي ذاع صيته في الدراسات النقدية المعاصرة، فهو مصطلح االقراءة الطّباقيةب، استعاره إدوارد سعيد من علم الموسيقى التي كان يجيد معرفتها، عزفاً وتنظيراً. وهذه القراءة الطباقية، تجد مبررها، في هُجنة الثقافات، لهذا سيطبقها سعيد في علاقة الأدبتبالإمبريالية، إنها قراءة حوارية بالمعنى الباختيني، تنظر إلى الهويات الثقافية على أنها ليست مغلقة أو ثابتة، وعلى أنها مجال للتفاعل والتواصل، ففي القراءة الطباقية يعمل سعيد على ربط النصوص الأدبية مع أنواع أخرى من الكتابات المغايرة (السيرة الذاتية، الوثائق التاريخية، البحوث)، كما يسعى إلى ربط الآداب الأوربية مع العالم غير الأوربي، الذي يتم استحضاره في هذه الآداب بشكل تلميحي، وهكذا يدعو سعيد اإلى قراءة نصوص الأدب الإنجليزي والأوربي بطريقة طباقية، ليبين كم هي متورطة في المشروع الإمبريالي، ومتحدثة بطريقتها عن الآخر المستعمرب (ص 103).
أما الأطروحة الفكرية الجديدة التي دافع عنها سعيد، فقد وردت في كتابه الصادر بعد وفاته اعن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب ضد التيارب، الذي استلهمه من كتابات الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، وأعده للنشر ميكاييل وود، بتعاون مع مريم سعيد، وهذا الكتاب هو آخر مؤلفات إدوارد سعيد، الذي ترجمه إلى اللغة العربية د. فواز طرابلسي عام 2015.
وقد شاءت الظروف أن يرحل سعيد عن عالمنا، قبل أن يضع اللمسات الأخيرة عليه، وهو كتاب يتناول مسار مبدعين ومثقفين في المرحلة الأخيرة من حياتهم، تحدوا مداهمة الموت بالسير اعكس التيارب في إنتاجاتهم وإبداعاتهم شكلاً ومضموناً. ففي الحقل الأدبي، نجد الكتاب جان جونيه وكفافي ولامبيدوزا وتوماس مان. وفي الموسيقى نذكر باخ وموزار وبتهوفن وستراوس، والعازف الموسيقي الكبير غلين غولد، وينطبق هذا التأليف على وضع إدوارد سعيد الذي يعتبر آخر كتبه المتأخرة، التي سار فيها عكس التيار، وفي لحظة حرجة مع مواجهة الموت ومرض السرطان، وذلك من خلال نظرياته المستنيرة ومواقفه الجذرية وصرامة مفاهيمه المنهجية، التي لم يتراجع عنها، القد اتسمت السنوات الأخيرة، بالنسبة لسعيد بطاقة وحيوية لا تكل، كشفت عن مقاومة عنيدة، حيال كل ما ناضل سعيد ضده على امتداد حياته، ذلك أن المقابلات الصحفية الأخيرة التي أجراها سعيد ونشرت، لا تقدم أي مهادنة ولا تشكل أي تنازل، وتبرز مساراً مهنياً، منذوراً للمطالبة بحرية فلسطين، وتتحدث بلغة الحقيقة إلى أرباب السلطةب (ص، 68).
تيار ما بعد الكولونيالية
في هذا السياق، نشير إلى تلك المفارقة العلمية المتمثلة في اعتماد هؤلاء المفكرين المنتمين إلى تيار ما بعد الكولونيالية الذين يكتبون باللغة الإنجليزية، على نظريات الفلاسفة الفرنسيين في مراجعهم الفكرية، أو ما يعرف بالنظرية الفرنسية French Theory.
فإذا اقتصرنا على الأسماء التي تمثل علامات مائزة في الدراسات بعد الكولونيالية، فإننا نجد أن إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق يحاور نظرية ميشيل فوكو في علاقة أبنية الخطاب بالسلطة، أما هومي بابا فقد كان يجمع بين فرانز فانون وجاك دريدا، بينما توجهت غياتري سبيباك إلى ترجمة كتاب الكرامتولوجيا أو علم الكتابة لجاك دريدا إلى اللغة الإنجليزية، وتطبيق نظرية علم النفس التحليلي للعالم جاك لاكان على وضع االإنسان التابعب في العالم الثالث.
يجب التذكير في هذا الصدد بأن القفزة المعرفية التي قام بها إدوارد سعيد في بناء أطروحاته الفكرية انصبت أساساً على قراءة ذكية للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يعترف سعيد بأثره المباشر على مساره العلمي، لكن العلاقة الفكرية التي تجمعه بفوكو، لم تكن علاقة تبعية عمياء، ايكشف سعيد أنه مدين لميشيل فوكو ولنظريته حول مادية الخطاب وإنتاجيته الاجتماعية، (ص 143)، واضعاً ثنائية المعرفة والسلطة في مقاصد كتابه عن الاستشراق، لكن على الرغم من اعتراف إدوارد سعيد بالدين الفوكوي، فإنه نظر إلى موقف فوكو الذي يتبنى في تحليلاته تصوراً غاية في السلبية لا حيال استخدامات السلطة فحسب، بل كذلك حيال كيفية ودوافع حيازتها واستخدامها والعمل على التشبث بها وترسيخها، (ص 145).
أما عن تلقي النظرية ما بعد الكولونيالية في فرنسا، فإنها تعرضت للإنكار، على الرغم من تأثيرات الثقافة الفرنسية على النظرية ما بعد الكولونيالية العالمية، لكن فرنسا الأكاديمية بقيت في لحظة شرود عن التطورات المنهجية الجديدة، وفي منأى عن مسايرة هذا الوافد المعرفي الصاعد، تعاند كل مقاربة ما بعد كولونيالية، مقتصرة على الاعتزاز والاستلذاذ الإتنومركزي بأمجاد التنظيرات الشكلانية المتطرفة، حتى لا تواجه عنف ماضيها الاستعماري في الجزائر الذي عمر أكثر من قرن، وارتكب آلاف المجازر الوحشية، التي ترقى إلى حروب الإبادة الجماعية ضد المواطنين الأبرياء .