الشاعرة نازك الملائكة بين خيارين ... التجديد أو الارتداد عن التجديد

الشاعرة نازك الملائكة بين خيارين ... التجديد أو الارتداد عن التجديد

للجاحظ‭ ‬عبارة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬والتبيين‮»‬‭ ‬يتمثّل‭ ‬فيها‭ ‬المظهر‭ ‬الأخلاقي‭ ‬من‭ ‬المعرفة،‭ ‬وقد‭ ‬سمّاه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تعمير‭ ‬الصدور‭ ‬وإصلاحها‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬القديم‮»‬‭.. ‬لنجد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬أساسًا‭ ‬لاستراتيجية‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬عند‭ ‬الشاعرة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬في‭ ‬مرحلتين‭ ‬أساسيتين،‭ ‬ومختلفتين،‭ ‬بما‭ ‬لهذا‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬شعرية،‭ ‬وبما‭ ‬رسم‭ ‬من‭ ‬توجهات‭ ‬نقدية‭.‬

تعود‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬ديوانها‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬شظايا‭ ‬ورماد‮»‬‭ (‬1949‭)‬،‭ ‬وبمقدمتها‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬القديم،‭ ‬رافضة‭ ‬كل‭ ‬موروث‭ ‬يشكل‭ ‬حالة‭ ‬اتباع‭.. ‬وداعية‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تعمير‭ ‬الصدور‭ ‬وإصلاحها‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬القديم‮»‬‭ ‬وذلك‭ ‬باعتماد‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬روح‭ ‬المغايرة،‭ ‬ويؤكد‭ ‬التغاير،‭ ‬ومنه‭ ‬إلى‭ ‬إحداث‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭.. ‬وكان‭ ‬نذير‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬توقعت‭ ‬للقصيدة‭ ‬‮«‬الحرّة‮»‬‭ ‬من‭ ‬‮«‬تطور‭ ‬جارف‭ ‬عاصف‭ ‬لن‭ ‬يُبقي‭ ‬من‭ ‬الأساليب‭ ‬القديمة‭ ‬شيئًا‮»‬،‭ ‬مطالبة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬بتجاوز‭ ‬الموروث،‭ ‬وتحقيق‭ ‬التغيير‭ ‬الجذري‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬بتخطي‭ ‬مسألة‭ ‬‮«‬الأوزان‭ ‬والقوافي‭ ‬والأساليب‭ ‬والمذاهب‮»‬،‭ ‬منذرة‭ ‬بتزعزع‭ ‬‮«‬قواعدها‭ ‬جميعًا‮»‬،‭ ‬وداعية،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التجديد‭ ‬هذه،‭ ‬إلى‭ ‬الأخذ‭ ‬بمقولة‭ ‬برناردشو‭: ‬‮«‬اللاقاعدة‭ ‬هي‭ ‬القاعدة‭ ‬الذهبية‮»‬‭.‬

ونؤرّخ‭ ‬للمرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬بصدور‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬قضايا‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‮»‬‭ (‬1962‭) ‬الذي‭ ‬حملت‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعايير‭ ‬الجديدة،‭ ‬داعية‭ ‬إلى‭ ‬اعتماد‭ ‬ما‭ ‬دعت‭ ‬إلى‭ ‬اعتماده‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬شعرية‭ ‬قديمة‭ ‬وإحلالها‭ ‬محل‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬بعدها‭ ‬الفعلي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭.. ‬مكرّسة‭ ‬بحثها‭/ ‬نقدها‭ ‬للكشف‭ ‬عما‭ ‬رأت‭ ‬فيه‭ ‬أخطاء‭ ‬لا‭ ‬تُغتفر‭ ‬لهذه‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬رفضتها‭ ‬جملة‭ ‬وتفصيلًا،‭ ‬مؤشرة‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مزالق‭ ‬ينبغي‭ ‬عدم‭ ‬غضّ‭ ‬النظر‭ ‬عنها‭. ‬ففي‭ ‬كتابها‭ ‬هذا،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬على‭ ‬نقادها،‭ ‬بدت‭ ‬كمن‭ ‬يستعيد‭ ‬ذاكرته‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استدعاء‭ ‬التراث‭ ‬وإرهاف‭ ‬السمع‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أتى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬وذهب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬محددات‭ ‬كانت،‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الأولى،‭ ‬قد‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬قيودًا‭ ‬ينبغي‭ ‬كسرها‭.. ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تستنطق‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يدعم‭ ‬أطروحاتها‭ ‬هذه،‭ ‬وأصبح‭ ‬الموروث،‭ ‬بقوانينه‭ ‬وإلزاماته،‭ ‬هو‭ ‬المتحكم‭ ‬في‭ ‬ذائقتها‭ ‬النقدية‭ ‬والشعرية‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا‭.. ‬لنجدها‭ ‬في‭ ‬نقدها‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجديد‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭/ ‬وتبني‭ ‬موقفها‭ ‬على‭ ‬‮«‬منطق‭ ‬تراثي‮»‬،‭ ‬فارضة‭ ‬وجوده،‭ ‬منطقًا،‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬المقروء،‭ ‬غير‭ ‬عابئة‭ ‬بما‭ ‬قيل‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تقرأ‭ ‬النص‭ ‬بأداة‭ ‬نقدية‭ ‬مغايرة‭ ‬لجوهره‭ ‬الفني‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك،‭ ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬قراءتها‭ ‬هذه،‭ ‬تحددت‭ ‬عندها،‭ ‬أو‭ ‬حددت‭ ‬معايير‭ ‬القبول‭ ‬والرفض‭.. ‬لنجدها،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تقرأ،‭ ‬تعتمد‭ ‬استراتيجية‭ ‬نقدية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬تغييب‭ ‬المستقبل‮»‬‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬كلًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬و«الكتاب‮»‬‭ ‬جاءا‭ ‬معبّرين‭ ‬عن‭ ‬فردية‭ ‬واضحة‭.. ‬فهي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬تتقدم‭ ‬بـ«رأي‭ ‬مغاير‮»‬‭ ‬لما‭ ‬سلف،‭ ‬أو‭ ‬استجد‭ ‬من‭ ‬رأي،‭ ‬وتريد‭ ‬لهذا‭ ‬الرأي‭ ‬موقعًا‭ ‬فعليًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الشعرية‭. ‬النقدية‭. ‬وهذا‭ ‬بذاته‭ ‬ما‭ ‬سيكون‭ ‬موضع‭ ‬مفارقة‭.‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أطروحتها‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬مقدمة‭ ‬شظايا‭ ‬ورماد‮»‬‭ ‬قد‭ ‬وجدت‭ ‬جوًّا‭ ‬مهيأ‭ ‬لقبول‭ ‬أطروحتها‭ ‬التجديدية‭ ‬والتفاعل‭ ‬إيجابيًا‭ ‬معها،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬في‭ ‬أطروحتها‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬قضايا‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ما‭ ‬تقدمت‭ ‬به‭ ‬كافيًا،‭ ‬أو‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬الجديدة‭ ‬تتراجع‭ ‬بمنجزها‭ ‬الحداثي‭ ‬لمصلحة‭ ‬‮«‬معرفة‮»‬‭ ‬شعرية‭ ‬ونقدية‭ ‬كانت،‭ ‬هي‭ ‬بنفسها،‭ ‬قد‭ ‬دعت‭ ‬إلى‭ ‬تجاوزها،‭ ‬وقد‭ ‬تحقق‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬المنجزين‭ ‬الشعري‭ ‬والنقدي‭ ‬لحركة‭ ‬التجديد‭. ‬وهنا‭ ‬كان‭ ‬جوهر‭ ‬الاختلاف‭.‬

ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬بمنزلة‭ ‬بيان‭ ‬شعري‭ ‬للتجديد‭ ‬والجديد،‭ ‬بما‭ ‬وضعت‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬لحداثة‭ ‬شعرية‭ ‬عربية،‭ ‬فاتحة‭ ‬أفقًا‭ ‬جديدًا‭ ‬أمام‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬والشاعر‭ ‬العربي،‭ ‬جاء‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬قضايا‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‮»‬‭ ‬ليُحكم‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬الجديدة‭ ‬بقواعد‭ ‬ليست‭ ‬منها‭. ‬فقد‭ ‬اتخذت‭ ‬في‭ ‬مباحثه‭ ‬رؤية‭ ‬نقدية‭ ‬محكومة‭ ‬بـ«ضرورات‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬الحركة‭ ‬الجديدة،‭ ‬بمنجزها،‭ ‬قد‭ ‬تجاوزتها‭.. ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الوضعية‮»‬‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تقول‭ ‬وإليه‭ ‬تدعو،‭ ‬وإذا‭ ‬النظر‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬يأخذها‭ ‬بكونها‭ ‬‮«‬نظامًا‭ ‬من‭ ‬الحقائق‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬‮«‬عملًا‭ ‬فنيًا‮»‬،‭ ‬فإذا‭ ‬بنقدها‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬المصادرة‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬‮«‬القراءة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬نقد‭ ‬حاصر‭ ‬نفسه‭ ‬بـ«العروض‭ ‬الشعري‮»‬‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬‮«‬عروضي‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

يندرج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬الذي‭ ‬ركز‭ ‬على‭ ‬‮«‬الشكل‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بلغة‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬التي‭ ‬ستخضعها،‭ ‬هي‭ ‬الأخرى،‭ ‬لمعايير‭ ‬معجمية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬بين‭ ‬القصيدة‭ ‬وأي‭ ‬تطور‭ ‬فعلي‭ ‬للغتها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬اعتماده‭ ‬متمثلًا‭ ‬بمعايير‭ ‬التداول‭ ‬التواصلي‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬القصيدة‭ ‬الجديدة‭. ‬ونجدها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬قد‭ ‬أسرفت‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬مبادئ‭ ‬القدامى‭ ‬حين‭ ‬تابعت،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬‮«‬المعنى‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬احتكمت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬دلالته‭ ‬المباشرة‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سواها‭ (‬كالرمز‭ ‬والأسطورة‭ ‬وما‭ ‬لهما‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬تأويلية‭)‬،‭ ‬رافضة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬بما‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬والطبع‮»‬‭ - ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬قدامة‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ - ‬فإذا‭ ‬هي،‭ ‬بنزعتها‭ ‬المعيارية‭ ‬هذه،‭ ‬تضع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬عدّه‭ ‬‮«‬شكلًا‭ ‬جامعًا‮»‬‭ ‬لما‭ ‬تقبله‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬منجز،‭ ‬أو‭ ‬لما‭ ‬تريده‭ ‬أن‭ ‬يُنجَز،‭ ‬وبذلك‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬جعلت‭ ‬‮«‬أفق‭ ‬الانتظار‮»‬‭ ‬أفقًا‭ ‬مقيَّدًا‭ ‬يحول‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرتاد‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ (‬كانت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬قد‭ ‬دعته‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬لعملها‭ ‬الشعري‭ ‬الثاني‭).. ‬جاعلة‭ ‬منه‭ ‬‮«‬أفق‭ ‬مواضعة‮»‬‭ ‬يعتمد‭ ‬النمطية،‭ ‬ويتخذ‭ ‬من‭ ‬السائد‭ ‬نهجًا‭. ‬ولعل‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬موقفها‭ ‬هذا‭ ‬تحديدها‭ ‬البنية‭ ‬الشاملة،‭ ‬والكلية،‭ ‬للقصيدة‭ ‬الجديدة‭ ‬بما‭ ‬راحت‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬‮«‬عناصر‭ ‬التقليد‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬فتوحات‭ ‬الجديد‭.‬

وكما‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬التجديد‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬‮«‬ابتكرت‮»‬‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬نمط،‭ ‬سنجدها‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الثانية‭ ‬تربط‭ ‬التجديد‭ ‬الشعري،‭ ‬والقصيدة‭ ‬التي‭ ‬تنتسب‭ ‬إليه،‭ ‬بالمعايير‭ ‬التي‭ ‬عادت‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬هجرتها،‭ ‬فتعمد،‭ ‬نقديًا،‭ ‬إلى‭ ‬استنطاق‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ (‬الذي‭ ‬عُدّ‭ ‬نمطًا‭ ‬ارتداديًا‭ ‬على‭/ ‬وعن‭ ‬التجديد‭ ‬والجديد‭)‬،‭ ‬معتمدة‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ندعوه‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬إستراتيجية‭ ‬المتقبّل‮»‬‭ ‬لنصّ‭ ‬الآخر‭ (‬وهي‭ ‬إستراتيجية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬‮«‬حضورها‭ ‬الفردي‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬فتفرض‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬المقروء‭ ‬من‭ ‬قبلها،‭ ‬والذي‭ ‬تفرضه‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭: ‬معايير‭ ‬يجب‭ ‬اتباعها،‭ ‬ونهجًا‭ ‬يجب‭ ‬اتخاذه‭ ‬مسلكًا‭ ‬للشاعر‭ ‬والشعر‭). ‬فهي‭ ‬هنا‭ ‬تتخذ‭ ‬دور‭ ‬‮«‬المتقبّل‭ ‬الضمني‮»‬‭ ‬بما‭ ‬يفرض‭ ‬من‭ ‬مقاييس‭ ‬ويتخذ‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬ويُملي‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬الشاعر،‭ ‬والشعر،‭ ‬الامتثال‭ ‬لها،‭ ‬مصادرة‭ ‬دور‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه‭ ‬كونه‭ ‬مبدعًا‭ ‬لنصّه‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يثار‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭ ‬الشعري‭ ‬والنقدي‭ ‬عندها‭ ‬الذي‭ ‬يُحرك‭ ‬هذا‭ ‬التوجه،‭ ‬ويُحدد‭ ‬طريقه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬التعسفي،‭ ‬لتقبل‭ ‬ما‭ ‬تجده‭ ‬متوافقًا‭ ‬مع‭ ‬نظرتها‭ ‬هذه،‭ ‬وتُخرج‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الشعر‭ ‬ما‭ ‬يخرج‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬يختلف‭ ‬ومنطقها؟

ليست‭ ‬المعايير‭ ‬النقدية‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يُحرّك‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬عند‭ ‬نازك‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأساس،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬الذوق‮»‬‭ ‬و«التذوّق‮»‬‭. ‬إن‭ ‬‮«‬الذائقة‭ ‬الشخصية‮»‬،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المعايير‭ ‬الفنية،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يحدد‭ ‬مسألة‭ ‬التقبّل‭ ‬والقبول‭ ‬عندها‭. ‬فالذوق‭ ‬والتذوّق‭ ‬وحدهما‭ ‬اللذان‭ ‬حددا‭ ‬موقفها‭ ‬الشعري،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬النقدي،‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬انبنت‭ ‬على‭ ‬التمسك‭ ‬بالجديد‭ ‬ورفض‭ ‬القديم،‭ ‬لتتغاير‭ ‬عكسيًا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬فيها‭ ‬كمن‭ ‬يُعيد‭ ‬الحديث،‭ ‬أو‭ ‬يجدده،‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬الخلافية‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والجديد‭ ‬فتنتصر‭ ‬للقديم‭ ‬الذي‭ ‬كانت،‭ ‬هي‭ ‬نفسها،‭ ‬قد‭ ‬دعت‭ ‬إلى‭ ‬تخطيه،‭ ‬وتخطته،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬موقفها‭ ‬النقدي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬نصها‭ ‬الشعري،‭ ‬وستذهب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد،‭ ‬معيدة‭ ‬المسائل‭ ‬الخلافية‭ ‬الأولى،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬‮«‬الموازنة‮»‬‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نشأ‭ ‬من‭ ‬خلاف‭ ‬بين‭ ‬قائلي‭ ‬الشعر‭ ‬بكلام‭ ‬‮«‬أشبه‭ ‬بالزمان‮»‬‭. ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬الصولي‭. ‬ومرتدّين‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬كلام‭ ‬الأوائل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أخذت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬المستويين‭: ‬الشعري،‭ ‬والنقدي‭. ‬ولعل‭ ‬الانغمار‭ ‬في‭ ‬‮«‬مشكلات‭ ‬الشكل‮»‬‭ ‬من‭ ‬قبلها‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تهمل‭ ‬إهمالًا‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬موضوع‭ ‬‮«‬شعرية‭ ‬القصيدة‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬صلتها‭ ‬باللحظة‭ ‬الزمانية‭ ‬لكتابتها،‭ ‬وبالأخص‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بالرؤية‭ ‬واللغة‭.. ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬بـ«السُّنة‭ ‬الشعرية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اتبعتها،‭ ‬منطقاً‭ ‬وتقاليد،‭ ‬فكانت‭ ‬من‭ ‬قوّة‭ ‬التأثير‭ ‬فيها،‭ ‬والتأثر‭ ‬بها‭ ‬بحيث‭ ‬غلّبتْ‭ ‬‮«‬أعرافها‮»‬‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُعدّ‭ ‬خروجًا‭ ‬عليها‭. ‬ونجد‭ ‬هذا‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭ ‬للنصوص‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أنكرت‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬هنا،‭ ‬وخالفته‭ ‬بما‭ ‬ذهب‭ ‬فيه‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬قول،‭ ‬حتى‭ ‬بدت‭ ‬وكأنها‭ ‬تستعير‭ ‬مواقف‭ ‬التقليديين‭ ‬من‭ ‬القدامى‭ ‬في‭ ‬احتجاجاتهم‭ ‬على‭ ‬جديد‭ ‬عصورهم،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬الآمدي‮»‬‭ ‬محتجًا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬قرأ‭: ‬‮«‬‭... ‬لأني‭ ‬ما‭ ‬علمتُ‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام‮»‬‭ ‬قال‭ ‬كهذا،‭ ‬أو‭ ‬وصف‭ ‬كذا‭ ‬بكذا‭. ‬بل‭ ‬سنجد‭ ‬موقفها‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تماثل‭ ‬أكبر‭ ‬وهي‭ ‬تنعى‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يبتدع‮»‬‭ ‬فوقع‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تراه،‭ ‬هي،‭ ‬خطأً‭.. ‬حتى‭ ‬لأكاد‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬ذهبت‭ ‬فيه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حرصًا‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬منه،‭ ‬أو‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجرى‭ ‬مجرى‭ ‬‮«‬تخريب‭ ‬قواعده‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬قالت‭ ‬به،‭ ‬قالته‭ ‬محكومة‭ ‬بوضعها‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬شاعرة،‭ ‬فاحتكمت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬بمنطق‭ ‬يعززه‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فهي‭ ‬إذ‭ ‬تقرأ‭ ‬نصًا‭ ‬جديدًا‭ ‬قراءة‭ ‬نقدية‭ ‬نجدها‭ ‬تُغلّب‭ ‬معيار‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬الموضوعية‭ (‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تعتمد‭ ‬منطقها‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬القصيدة‭ ‬تمثل‭ ‬بناءً‭ ‬موضوعيًا‭ ‬ذا‭ ‬معنى‭). ‬فهي‭ ‬تأخذ‭ ‬بما‭ ‬يروقها،‭ ‬وتعاين‭ ‬النص،‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭ ‬له،‭ ‬معاينة‭ ‬ذاتية‭ - ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬شأن‭ ‬الرومانسيين‭ - ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الوريث‭ ‬الحقيقي‭ ‬لسننهم‭.‬

 

اختلاف‭ ‬الخطاب‭ ‬ووحدة‭ ‬المرسِل

اتخذت‭ ‬نازك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬شعرًا‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الشعر،‭ ‬‮«‬موقف‭ ‬المُرسِل‮»‬‭. ‬فهناك،‭ ‬دائمًا،‭ ‬خطاب،‭ ‬هي‭ ‬صانعته،‭ ‬أو‭ ‬واضعة‭ ‬حدوده،‭ ‬وهناك‭ ‬مخاطَب‭ ‬تفترض‭ ‬فيه،‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬موقف‭ ‬المتقبِّل‭ ‬لما‭ ‬تقول‭ ‬أو‭ ‬تأتي‭ ‬به،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬افتراضية‭ ‬له‭ ‬بـ«تصدير‮»‬‭ ‬ذاتها،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمل،‭ ‬إليه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭ ‬التمييز‭ ‬المفترض‭ ‬حصوله‭ ‬بين‭ ‬‮«‬النص‭ ‬الشعري‮»‬‭ ‬مكتوبًا‭ ‬من‭ ‬قبلها،‭ ‬والذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬شخصية‭ ‬تنحو‭ ‬فيها‭ ‬منحىً‭ ‬ذاتيًا‭ ‬صرفًا،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬تعتمد‭ ‬من‭ ‬رؤية،‭ ‬وتخييل،‭ ‬ولغة،‭ ‬وأسلوب‭ ‬تعبير،‭ ‬وطريقة‭ ‬بناء‭.. ‬و«العمل‭ ‬النقدي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬نص‮»‬‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬الآخر‮»‬‭ ‬بعرضه‭ ‬على‭ ‬العقل‭ (‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬العقل‭ ‬النقدي‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬موقف‭ ‬ثقافي‭ ‬تتداخل‭ ‬فيه‭ ‬النظرية،‭ ‬والثقافة،‭ ‬والخبرة‭.. ‬التي‭ ‬يبحث‭ ‬الناقد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬في‭ ‬‮«‬مكونات‭ ‬النص‮»‬،‭ ‬محددًا‭ ‬توجهاته‭ ‬الموضوعية،‭ ‬وبنيته‭ ‬الفنية،‭ ‬وكاشفًا‭ ‬عن‭ ‬قيمته‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ومعيّنًا‭ ‬موقعه‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬فيه‭.. ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬الراهن‭ ‬وراهنيته‭ ‬الإبداعية‭.‬

فإذا‭ ‬ما‭ ‬قلنا‭ ‬هنا،‭ ‬تأكيدًا‭: ‬إن‭ ‬الخطاب‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬افتراض‭ ‬وجود‭ ‬مخاطَب‭ ‬يتوجَّه‭ ‬إليه،‭ ‬فيتلقاه‭.. ‬فسنجد‭ ‬نازك‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المخاطَب‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬تفرض‭ ‬من‭ ‬‮«‬صياغة‮»‬‭ ‬له،‭ ‬رؤية‭ ‬وموقفًا،‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬وتفكر‭ ‬فيه‭.. ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬خطاب‭ ‬موجَّه‮»‬،‭ ‬و«قاصر‮»‬،‭ ‬يُصدر‭ ‬عن‭/ ‬ويلحق‭ ‬بنصّها‭ ‬الشعري،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأساس‭ ‬التكويني‭ ‬له،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الموجهات‭ ‬البنائية‭ ‬المقوِّمة‭ ‬له‭.. (‬وهي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬خطابها‭ ‬الشعري‭ ‬يستجيب‭ ‬لـ«الشكل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬حددته‭ ‬نقديًا،‭ ‬وبالصيغة‭ ‬التي‭ ‬تشدد‭ ‬عليها‭.. ‬ليشمل‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬موقفها‭ ‬النقدي‮»‬‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬التلقي‮»‬‭ ‬لنص‭ ‬الآخر‭...)‬،‭ ‬حتى‭ ‬ليمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬تفكيرها،‭ ‬ويستبد‭ ‬برؤيتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬ويوجّه‭ ‬معاييرها‭ ‬النقدية‭ (‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬المتلقي‭ ‬لها‭ ‬يسلك‭ ‬ما‭ ‬تسلك،‭ ‬ويلتزم‭ ‬بما‭ ‬تلتزم‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬ومعايير‭ ‬قائمة‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬المعايير‭ ‬والقيم‭ ‬السابقة،‭ ‬وإن‭ ‬تضمنت‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬اختراق‭ ‬مجاهل‭ ‬التجربة،‭ ‬والتمكن‭ ‬من‭ ‬ممكنات‭ ‬الحياة‭ ‬غير‭ ‬المتحققة،‭ ‬متجاوزًا‭ ‬الرؤية‭ ‬السائدة‭..). ‬فهي،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الثانية،‭ ‬عمدت‭ ‬إلى‭ ‬تكريس‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬المحافظة،‭ ‬معربة‭ ‬عن‭ ‬التزام‭ ‬واضح‭ ‬وصريح‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬‮«‬فكر‭ ‬أخلاقي‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬الشعر‭ ‬والنظرية‭ ‬الشعرية،‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭/ ‬وآخذة‭ ‬بتصوّر‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬‮«‬التمثّل‮»‬‭ ‬و«التمثيل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يكرس‭ ‬التساؤلات‭ ‬القديمة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قيامه‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬تساؤلات‭ ‬جديدة،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬إقناع‭ ‬المتلقي‭ ‬لخطابها‭ ‬بالمشترك‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الجديد‭ ‬والقديم‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬إبداعي‭ ‬واحد،‭ ‬وأن‭ ‬الجديد‭ ‬إنما‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬القديم،‭ ‬بما‭ ‬يحاصر‭ ‬التجديد،‭ ‬والجديد،‭ ‬بقيم‭ ‬قَبَليَّة،‭ ‬مخضعة‭ ‬هذ‭ ‬الجديد‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬متّبع‮»‬‭ ‬تُحيل‭ ‬إليه،‭ ‬وترفض‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتطابق‭ ‬ومعاييره‭.. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬الرفض‭ ‬لكل‭ ‬جديد‭ ‬مُحدَث‭.. ‬حتى‭ ‬ليمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬‮«‬نظريتها‭ ‬النقدية‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الحر‮»‬‭ ‬جاءت‭ ‬مفصّلة‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬اتسعت‭ ‬له‭ ‬عيناها‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬الرؤية‭ ‬لجسد‭ ‬القصيدة،‭ ‬وطاقة‭ ‬سمعها‭ ‬على‭ ‬الاستيعاب‭ ‬الصوتي،‭ ‬وذوقها‭ ‬للقبول‭. ‬وقد‭ ‬بدت‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الثانية‭ ‬وكأنها‭ ‬ترتاب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اكتشاف،‭ ‬وتتوجس‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬نحو‭ ‬مجهول‭ ‬بقصد‭ ‬اكتشافه،‭ ‬وتأنس‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يُشعرها‭ ‬بالألفة‭ ‬بحكم‭ ‬المعرفة‭ ‬المسبقة‭ ‬أو‭ ‬الإدراك‭ ‬المتيقّن‭. ‬ولو‭ ‬أخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬بما‭ ‬ترى‭ ‬وإليه‭ ‬تدعو‭ ‬لتعطلت‭ ‬حركة‭ ‬التجديد،‭ ‬بل‭ ‬وتراجعت‭ ‬عما‭ ‬قالت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قيمها‭ ‬الأولى‭.‬

وقد‭ ‬نستقصي‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬التأثيرات‭ ‬التي‭ ‬ستنعكس‭ ‬على‭ ‬موقفها‭ ‬هذا،‭ ‬وتتدخل،‭ ‬وإن‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬اللاوعي،‭ ‬في‭ ‬صياغته،‭ ‬ونعني‭: ‬ارتباط‭ ‬الشعر‭ ‬عندها‭ ‬بالمشافهة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قراءته‭ ‬مكتوبًا‭. ‬فهي‭ ‬تذكر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬‮«‬سيرتها‮»‬‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬قراءات‭ ‬سمعية‭ ‬متبادلة،‭ ‬وما‭ ‬يستدعي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬وردود،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬فاعلية‭ ‬‮«‬السمع‮»‬‭ ‬وحضور‭ ‬‮«‬المسموع‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فاعلية‭ ‬‮«‬العين‮»‬‭ ‬وحضور‭ ‬‮«‬المقروء‮»‬‭ ‬متأمَلًا‭.. ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ممارستها‭ ‬المهنية‭: ‬التدريس،‭ ‬الذي‭ ‬يستدعي‭ ‬الالقاء،‭ ‬والتلقي‭ (‬الصوت،‭ ‬والسماع‭). ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬التعاطي‭ ‬الشفاهي‭ ‬للشعر،‭ ‬والمشافهة‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬والاستقبال‭ ‬عندها‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬جعلاها‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وعلى‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬العروضي‭ ‬الذي‭ ‬سيكون‭ ‬تأكيدها‭ ‬عليه‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الثانية‭.‬

 

نازك‭ ‬والنقد‭ ‬المعياري

إن‭ ‬أحكام‭ ‬نازك‭ ‬النقدية‭ ‬أحكام‭ ‬معيارية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬حدّين‭: ‬التذوّق‭ ‬الذي‭ ‬تغيب‭ ‬معه‭ ‬علّة‭ ‬التقويم‭... ‬والقياس‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬الحاضر‭ ‬بالغائب،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬إستراتيجية‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬تعتمدها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬النص،‭ ‬والاستجابة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المتلقي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُحدد‭ ‬‮«‬أفق‭ ‬الانتظار‮»‬‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ (‬ويمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كبير‭ ‬الوضوح‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭ ‬شاعرها‭ ‬الأثير‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭...) ‬فهي‭ ‬تُخضع‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬تقرأ‭ ‬لمعايير‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬عندها‭. ‬لذلك‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬أفق‭ ‬الانتظار‭ ‬عندها‭ ‬‮«‬أفق‭ ‬موجَّه‮»‬‭ ‬سلفًا،‭ ‬ومحدّد‭ ‬بُعدًا‭ ‬فنيًا‭ ‬ومقصدًا‭ ‬موضوعيًا،‭ ‬وهو‭ ‬يتحدد‭ ‬بمحددين‭: ‬العروض،‭ ‬واللغة‭.‬

وأما‭ ‬خطابها‭ ‬النقدي‭ ‬فقائم‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬اكتسبت‭ ‬موجهاتها‭ ‬من‭ ‬تكوينها‭ ‬الثقافي‭ ‬والشعري‭ ‬الأول،‭ ‬والأساس‭: ‬التكوين‭ ‬الرومانسي،‭ ‬ومعه‭ ‬التكوين‭ ‬التراثي‭. ‬وكلاهما‭ ‬ملتزم‭ ‬بـ«عمود‭ ‬الشعر‮»‬‭. ‬ولذلك‭ ‬جاءت‭ ‬قراءاتها‭ ‬قراءات‭ ‬معيارية‭.. ‬تعتمد‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تعيينه،‭ ‬تعريفًا،‭ ‬بالإحالة‭ ‬إلى‭ ‬نموذج،‭ ‬أو‭ ‬نمط‭ ‬معرَّف،‭ ‬يُقاس‭ ‬عليه،‭ ‬وتجري‭ ‬الاستجابة‭ ‬لشروطه‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا،‭ ‬وبالعودة‭ ‬الى‭ ‬أطروحتها‭ ‬التجديدية‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الأولى‭ (‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬‮«‬شظايا‭ ‬ورماد‮»‬‭..) ‬نجد‭ ‬ما‭ ‬تبنته‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬يمثل‭ ‬تعديلًا‭ ‬كليًا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأطروحة،‭ ‬فقد‭ ‬انقلبت‭ ‬على‭ ‬التجديد‭ ‬بتبني‭ ‬التقليد،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الإجابة‭ ‬بالموقف‭ ‬السلب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬الحداثة،‭ ‬متجاوزة‭ ‬نصح‭ ‬بعض‭ ‬نقادنا‭ ‬القدامى‭ ‬الذين‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬قارئ‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬المُحدث‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يُنحّي‭ ‬ذاكرته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القراءة،‭ ‬لأن‭ ‬الذاكرة‭ ‬لا‭ ‬تُسلم‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬الألفة‭ ‬والعادة،‭ ‬وذلك‭ ‬بفعل‭ ‬ما‭ ‬تحتشد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أحكام‭ ‬تقويمية‭ ‬تدخلت‭ ‬في‭ ‬تكوينها‭ ‬تجارب‭ ‬سابقة،‭ ‬مختلفة‭ ‬ومغايرة‭. ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬تدخلت‭ ‬الذاكرة‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬وجرى‭ ‬التقويم‭ ‬النقدي‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنها‭ ‬قد‭ ‬تُخيّب‭ ‬توقع‭ ‬المتلقي،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬شعر‭ ‬المحدَثين‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬رآه‭ ‬أسلافنا،‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬شعر‭ ‬الأوائل‮»‬،‭ ‬ولذلك‭ ‬رأوا‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬قارئه‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يستنَّ‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يتشبَّه‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬الأكثر‭ ‬سلبًا‭ ‬في‭ ‬اتخاذها‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الوجهة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬المستعارة‮»‬‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬تراثي‭ ‬مستقر‭ ‬في‭ ‬حافظتها‭ (‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬النمط‭ ‬الرومانسي،‭ ‬وبقرائن‭ ‬إبداعية‭ ‬ذاتية‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬لها‭ ‬تُعد‭ ‬من‭ ‬أسوأ‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬وقد‭ ‬وضعتها‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬أغنية‭ ‬إلى‭ ‬الأطلال‭ ‬العربية‮»‬‭:‬

من‭ ‬الجِذْعِ،‭ ‬من‭ ‬قلبِ‭ ‬سِقْطِ‭ ‬اللِّوى‭ 

ووادي‭ ‬الغِمارِ،‭ ‬وبرقةِ‭ ‬ثَهْمَدْ

‭ ‬ومن‭ ‬رَبْـعِ‭ ‬نُعـمٍ‭ ‬عَفَتْـه‭ ‬الرياح‭ ‬

فأقفرَ‭ ‬من‭ ‬أهله‭.. ‬وتبدَّد‭.... ‬إلخ‭ .