ذكريات شاميـة
«عادات وتقاليد رمضانية عمرها مئات السنين غابت في سورية.. بعضها انقرض وأخرى في طريقها للانقراض مع عصر العولمة والتلفزيون والقنوات الفضائية والطعام الجاهز»
يتميز شهر رمضان في دمشق والمدن السورية الأخرى بخصوصية وتفرد، فهو إضافة لقدسية هذا الشهر وعظمته لدى المسلمين، فإنه يعتبر شهر الكرم والتواد والتراحم بين الناس، وشهر المآكل الشهية الطيبة، والسهرات الجميلة مع الأقارب والأصحاب. ومازال السوريون يتذكرون بكثير من الحنين عادات وتقاليد هذا الشهر الفضيل المتوارثة منذ عشرات السنوات. ولو أنّ بعض هذه العادات اقتصر وجودها حالياً على الحارات والأحياء القديمة في المدن السورية. وبعضها الآخر غاب بسبب انتشار الأجهزة العصرية والتقنيات الحديثة، حيث لعب التلفزيون، كما لعبت المطاعم والشوارع الحديثة في المدن، دورًا في انحسار بعض تقاليد شهر رمضان أو غيابها, وقد قام العديد من الرسامين السوريين بتوثيق هذه التقاليد في لوحاتهم الفنية، كما ذكرها كتّاب وأدباء في نتاجاتهم الأدبية، وفعلت الشيء نفسه المسلسلات التلفزيونية السورية. ومع ذلك تبقى لهذا الشهر الفضيل تقاليده الخاصة، فالناس ينتظرونه من العام إلى العام ومتى حلٌ شهر شعبان، يستقبلونه بالفرح والسرور، حيث تأتي معه نسمات شهر رمضان، ولذلك يسمّي السوريون شهر شعبان بشهر «مليص»، أي أن أيامه تمر بسرعة وفي ليلة النصف من شعبان يتم تناول حلوى خاصة تسمى «المَحْيا»، ويدل اسمها على أن الناس تتمنى من خلال هذه الحلوى أن تحيا حياة سعيدة وطيبة، وأن تحيا في شهر رمضان حياة حلوة ولذلك سميت حلاوة المَحْيا كمقدمة لاستقبال شهر رمضان الفضيل.
إثبات شهر رمضان
في الليلة التي يطلب فيها التماس هلال شهر رمضان، كان الناس في السابق يذهبون للأماكن المرتفعة في المدن كالقلاع والتلال لرصد رؤية الهلال، فكان جبل قاسيون في دمشق وقلعة حلب وقلاع حمص وحماة هي المرصد الأساسي لرؤية الهلال، حيث لم يكن هناك تلفاز أو إذاعة تنقل إثبات الهلال وبدء الشهر الفضيل، وقد تميز في أغلب المدن السورية شخص أو شخصان يتصفان بحدّة الرؤية، وهؤلاء هم كانوا أول الناس المشاهدين للهلال، وتعتمد شهادتهم في إثبات رؤية الهلال، حتى أن أحد الأشخاص ويسمى «أحمد نعسان الأحدب» ظلَ لمدة 30 عاما المعتمد الأساسي في إثبات رؤية الهلال، فهو كما يقول عنه الباحث الراحل وليد قنباز يتميز بعينين كعيني الصقر تماما، وكان يقيم في مدينة حماة، حيث يصعد إلى قلعتها، ويحدد الساعة التي سيظهر فيها الهلال، وبالفعل لا يخيب حدسه بتاتاً، وظلت منذ خمسينيات القرن الماضي تعتمد شهادته في إثبات شهر رمضان وهلال العيد في سورية وحتى في البلدان العربية المجاورة. ومن الطرائف التي حصلت مع هذا الشخص - كما يقول الباحث الراحل قنباز - أن صاحب مجلة «الأسبوع العربي»، التي كانت تصدر في بيروت (جورج أبوعضل) كتب مرة في ستينيات القرن المنصرم أن أعور في حماة يفطر العالم الإسلامي، وأذكر يومها - يتابع قنباز - أني كتبت له رسالة أقول فيها أن يرسل مصوراً ومحرراً لأريه أن الأعور يتمتع بعينين سليمتين وكعيني الصقر، وبالفعل جاء المحرر والمصور، وكان هناك تحقيق صحفي حول الأحدب لا أجمل ولا أحلى!
ولكن حالياً ومع انتشار المراصد الفلكية والتقنية الحديثة لم يعد وجود لهؤلاء الأشخاص الراصدين والمتمتعين بنظر حاد، فالناس تنتظر إثبات الشهر من خلال إعلان القاضي الشرعي عبر التلفزيون والإذاعة، ولكن ما إن يعلن عن إثبات رؤية الهلال حتى يتبادل الناس التهاني ويضرب مدفع رمضان طلقاته المعهودة، ويتراكض الأطفال في الشوارع مرددين الأهازيج المتنوعة ومنها: «هل هلالك شهر رمضان سبتوها. مسبتوها، سبتوها ما حلوها...».
مدفع رمضان
مازالت لمدفع رمضان بهجته ومكانته في نفوس الكثير من الناس، حيث كان لا يفطر أغلبية الناس في المدن السورية إلاّ على صوت المدفع حتى ولو أذّنَّ المؤذن قبله بثوانٍ أو أعلن التلفاز موعد الإفطار. والمدفع في السابق كان ينصب في الأماكن المرتفعة وله شخص متخصص يعمل عليه، حيث كان الأطفال والمراهقون يتجمعون حوله لسماع ورؤية المدفع وهو يضرب، ويأخذ هؤلاء معهم إفطارهم وهو عبارة عن خبز وبعض الطعام الخفيف. وكان المسؤول عن المدفع لا يطلق طلقته إلا مع رؤية أنوار المآذن تضاء، والطلقة في السابق كانت مزيجاً من الخرق والأحجار والقطع الحديدية والبارود، وكان كلما وضع صاحب المدفع شيئاً يأتي بقطعة خشبية طويلة ولها رأس ويدخلها في بطانة المدفع ويدفعها ويقربها لبعضها البعض، كما كانت هذه الأجزاء من المزيج تتطاير وتتساقط على المنازل القريبة كأنها الأمطار، وعند الإطلاق يتحول الأولاد المنتظرين إلى كتلة من البهجة والهرج والمرج والتصفيق وكأنهم في عيد.
صوم الأطفال: درجات المئذنة
من التقاليد الجميلة التي مازالت قائمة في شهر رمضان حتى الآن تدريب الأطفال على صوم رمضان من خلال طريقة بسيطة تسمى «درجات المئذنة»، ويبدأ تدريب الطفل عليها منذ سن السابعة، إذ يقوم الآباء والأمهات بتدريب أطفالهم على الصوم تدريجياً منذ اليوم الأول وحتى العاشر، حيث يصوم الطفل حتى أذان الظهر، ثم يتطور إلى أذان العصر وبعدها إلى أذان المغرب يوماً في الأسبوع، ويلاحظون مدى تحمل الأطفال للصيام، وهكذا يتدرب الأطفال وكأنهم يصعدون درجات المئذنة درجة درجة.
أفران أيام زمان وتقليد السكبة
من الأشياء التي كان يظهر فيها التواد والتراحم والتعاطف والألفة في شهر رمضان ذلك المنظر قبل الإفطار وقبيل المغرب، فلم يكن في بيوت الناس أفران كما هو موجود حالياً، حيث الأفران التي تعمل على الغاز والكهرباء وأفران الميكروويف، وبالتالي ففي السابق كانت الصدور والصواني تذهب إلى الأفران العامة في الأسواق والحارات، حيث تحتوي هذه الصواني على الكبب واللحم بعجين وعش البلبل والحلويات وما إلى ذلك، وعندما تخرج قبيل المغرب من الأفران تكون لها رائحة جميلة، فكان الصدر لا يصل إلى المنزل مع صاحبه، إلا وذهب ربعه على الأقل، حيث يعطي منه كل من يصادفه في الطريق من الجيران والأقارب، حتى عندما يصل إلى المنزل تقوم صاحبة البيت بتوزيع جزء منه على الجيران بعادة جميلة تسمى «الصبة أو السكبة»، فكان كل شخص يصب لجاره في صحن مما طبخ وحضَّر للإفطار.
مآكل وحلويات طيبة
شهر رمضان هو شهر المآكل، فمائدة رمضان تحوي المآكل والمشارب أشكالاً وأنواعاً، حيث تتبارى ربات البيوت بطبخ وتحضير أفخر أنواع الطعام والحلويات السورية المعروفة في شهر رمضان، فهناك المقبلات ومنها: الفتوش الأخضر، وسلطات الخضار والشوربات: العدس والكشك والخضار والدقة المحمرة والمتبل والحمص والمسبحة والفول الذي يؤتى به من محال خاصة تحضره بشكل رائع في شهر رمضان، وتنتشر في أسواق متخصصة كالميدان والجزماتية وباب سريجة بدمشق وأسواق أخرى في بقية المدن السورية. وقبل البدء بتناول المقبلات، هناك التمر فهو أساس في المائدة وكذلك المشارب المخففة للعطش، وأهمها العرقسوس، والتمر الهندي الذي ينتشر باعته في أسواق وحارات دمشق بلباسهم التقليدي ويقومون بتعبئته بأكياس خاصة للصائمين الذين يأخذونه إلى منازلهم، وبعد الشراب والمقبلات هناك الطعام الطيب، وهو أنواع وأشكال، حيث الكبة والمقلوبة والفريكة ومختلف أنواع اللحوم. وبعدها تأتي الحلويات وهي أساسية على مائدة الإفطار، فالمثل الشعبي السوري الذي يردده الناس الصائمون يقول: «إنَّ في المعدة خلوة لا يملؤها إلا الحلوى»، وتختلف أنواع الحلويات حسب المواسم، فللشتاء حلوياته الخاصة به، ومنها القطايف المعمولة بالشمندور والسمبوسك والسيالات والزلابية والمشبك والشعيبيات والشلق، وفي الصيف «الخشاف» أهم حلوياته، وهي خشافات متنوعة وعديدة فمنها خشاف المشمش والتوت الشامي وغيرها, وكانت أغلب أنواع الحلويات تصنعها النساء في المنازل.
سهرات رمضان
لم تعد لسهرات رمضان تلك الحميمية التي كانت تميزه قبل عشرات السنوات، فبعد انتشار أجهزة التلفزيون والقنوات الفضائية, أصبح الناس يتسمرّون في منازلهم أمام التلفزيونات لمتابعة مسلسلات وبرامج رمضان الكثيرة، فغابت السهرات التقليدية في رمضان والتي كان الرجال فيها يجتمعون في المضافات (المنزول)، وكان هناك ما يسمى بالقناقات (بيت الضيافة)، حيث كان 90 في المائة من الرجال يسهرون فيها، وكانت تنتشر في أغلب المدن السورية، ويسهرون فيها حتى السحور، حيث يتسامرون بالأحاديث المفيدة، وكان الرجال يلعبون بعض الألعاب الخاصة ومنها ألعاب مثل «خور خور» والمقرعة وألعاب الشدة العادية ولعبة الختيار (الملك) والمنقلة (قطعة خشبية مدورة) يلعبون فيها الضامة وطاولة الزهر، وكان يوجد أيضاً في القناقات أصحاب الأصوات الجميلة، حيث يستمع الحاضرون للتواشيح الدينية والموشحات بشكل عام والقصائد والطرب الأصيل، ولكن لم يعد لهذه القناقات والمنزولات وجود حالياً، كما أن المقاهي كانت تستقطب عدداً من الساهرين، حيث كانت في السابق تقدم ذلك الفن التراثي الجميل «خيال الظل» وكراكوز وعيواظ وهي سينما أيام زمان، وكانت تقدم من خلال تمثيليات طريفة باللهجة العامية، والنمط الآخر الذي كان ينتشر في المقاهي كان «الحكواتي» الذي لا يخلو مقهى منه، حيث يقدم فقرته المعروفة بحماسها ويقص على الحاضرين حكايات الظاهر بيبرس وعنترة وأبوزيد الهلالي، فيشعل الحماس لدى الحاضرين من خلال تقمصه لأبطال قصصه بحركات يديه ورجليه.
أما الأولاد، فبعد الإفطار كانوا يخرجون إلى الحارات، حيث كانت بأزقة ضيقة يلعبون فيها ويمرحون حتى الليل، ومن ألعابهم هناك الصومانية وعسكر وحرامية والدوش والنبل وغيرها من الألعاب البسيطة.
أما النساء في رمضان، فإنهن يسهرن في بيوتهن أو عند الجيران أو عند قريبات لهن، وكانت سهراتهن في السابق تشهد المرح والفكاهة والأحاديث الخاصة بهن وحتى أحياناً العزف الموسيقي والغناء إذا كانت إحدى الموجودات الساهرات تجيد العزف والغناء. وحالياً فإن التلفاز قضى على كل هذه السهرات النسائية الجميلة، حيث أصبحت غالبية النساء تفضل متابعة المسلسلات في منازلهن أو لدى الجيران والأقارب، حيث يبقين متسمرات أمام جهاز التلفاز.
المسحراتي وطبلته الباقية
من مظاهر شهر رمضان في سورية والتي مازالت موجودة ولكن بشكل محدود هي طبلة المسحِّر المتميزة كتميز لباسه وطريقته في إيقاظ الصائمين للتسحر. فقد كان عدد من الناس في أغلب المدن السورية يتخصص في مهمة المسحراتي، حيث يلبس المسحراتي السروال الأسود والطاقية المصنوعة من اللباد، ومعه طبلته الشهيرة المعروفة التي يضرب عليها من خلال قطعة جلدية، وكان لكل حارة مسحراتي خاص بها، ويعرف كل أصحاب البيوت، حيث كان ينادي عليهم واحداً واحداً ليستيقظوا بعبارته المعروفة: يا نايم وحّد الدايم أبوجاسم أبو عبدالله وحّد الله.. وهكذا، ولا يترك الحارة إلاّ ويكون الكل قد استيقظ ويعرف ذلك من خلال إشعالهم للنور في منازلهم. وكان المسحراتي يستخدم في السابق فانوساً، كما أن لكل مجموعة من المسحراتية شـيخ لـ«الكار» يتقيدون بتعليماته. وكان هؤلاء يأخذون من منازل الحارة الطعام المتبقي، كما أن لهم عيدية في أول أيام عيد الفطر السعيد .
لوحة المسحراتية