عاصمة بولندا الملكية كراكوف... مدينة كهف الديناصور ومناجم الملح
بداية، إذا وطئت قدماك أي مدينة من مدن بولندا، فعليك أن تحذر من الإشارة إلى أنها إحدى دول شرق أوربا، فهذا الخطأ الشائع كفيل بإثارة ضيق أي مواطن بولندي أو مجري أو تشيكي أو سلوفاكي، وسينظرون إليك جميعاً باندهاش، وغالباً ما سيطلبون منك أن تعيد النظر إلى الخريطة، وأن تتأملها جيداً. ولا أخفيكم أنني وقعت في المحظور وارتكبت هذا الخطأ الشائع، وبالتالي كان عليَّ أن أستسلم، وأتأمل خريطة أوربا التي بادر صديقي باستدعائها على هاتفه المحمول ليريني أنها بلاد «وسط أوربا»، وليست شرقها.
هذا ما وددت أن أشير إليه في البداية، أما الأهم، وهو موضوع هذه الرحلة، أنني عرفت أنه بالرغم من أن وارسو هي العاصمة ومقر الحكومة، فإن العاصمة الملكية لبولندا كانت على مدى قرون طويلة هي مدينة «كراكوف» Kraków، وهي مع بودابست وبراغ تكوّن مثلثاً ذهبياً لثلاث من أجمل عواصم أوربا التاريخية.
ولأسباب وظروف مختلفة، كان من حظي أنني زرت هذه المدينة ثلاث مرات، مرة بميزانية معقولة، ثم سافرت إليها مغامراً بلا ميزانية تقريباً، ثم أتيحت لي أخيراً زيارتها بميزانية هائلة مفتوحة، وبالرغم من أن المطاعم ومكان الإقامة اختلفت في كل مرة بسبب هذه الظروف المادية المختلفة، فإن ما بدا لي ثابتاً هو نكهة المدينة وطابعها الممتع، وبالتالي لم يتغير انطباعي عنها في أي من هذه الزيارات الثلاث.
قصر وكهف وجبنة مدخنة
ذهبت سيراً على الأقدام إلى أهم معالم العاصمة الملكية: قلعة فافل (Wawel) وكاتدرائيتها الشهيرة، اللتان تقعان فوق تل فافل. ونظراً لأنني كنت مفلساً، فقد مررت بالباعة المنتشرين في شوارع مدينة الملوك بعرباتهم المتنقلة، وأفطرت «سميطاً» وجبنة مدخنة لذيذة يشتهر بها الإقليم، وعندما توافرت النقود، في رحلة أخرى، استبدلت بالجبنة إفطاراً فاخراً أعقبته بعلبة شوكولاتة فافل الفخيمة لأتسلى بها في الطريق، لكن الحقيقة أن السميط والجبنة المدخنة ظلا بالنسبة إلي الوجبة الألذ مذاقاً.
وكان تل فافل مقراً لصنَّاع مهرة وعائلاتهم منذ آلاف السنين، وكان موقعاً لأسواقهم وحرفهم، وشيدت القلعة أعلاه، وأعيد تزيينها مرات عدة مثل كل قلاع أوربا والعالم. ولكن أهم ما يميزها - من وجهة نظري - أنها شُيِّدت فوق كهف التنين.
وقد التقيت بذلك التنين مرتين، الأولى على باب الكاتدرائية، حيث رأيت عظام حوت أزرق هائلة الحجم ومعها عظام ديناصور أضخم منها، ويبدو أن القدماء الذين لم يروا حيتاناً ولا ديناصورات - ولا تنانين - قد وضعوها خارج البوابة ظناً منهم أنها عظام التنين الشهير، وينجلي السر في هذا الاعتقاد بلوحة تاريخية أثرية معلقة على جدار القلعة منقوش عليها: «الأمير البولندي «كراكوس» الذي بنى العاصمة كراكوف حكم فافل في القرن الثامن، وذلك بعد أن انتصر على التنين في كهفه الموجود أسفل التل». واللوحة موقعة باسم أمير بروسي كان قائداً لمدفعية الجيش البولندي في القرن الثامن عشر، وبصراحة لم أوفق في كتابة اسمه بالعربية «STANISLAS JABLONOWSKI». لكني أظن أنه من الممكن كتابته ستانسيلاس يابلونفسكي.
وللوصول إلى الكهف التنين عليك أن تهبط نزولاً على مائة وثلاثين درجة سلم ضيقة حتى تصل لمخبئه، وهو كهف هائل رطب بعض الشيء بسبب أنفاس التنين العملاق من ناحية، وبسبب مئات الزوار الذين يتوافدون عليه بلا انقطاع لزيارة واحدة من أحب الأساطير البولندية. وفور خروجي من الكهف، قابلت ذلك التنين للمرة الثانية على شكل نموذج حديدي مرعب ينفث النيران، ويتقاطر الأطفال حوله ليأكلوا الآيس كريم وغزل البنات، ويبتسمون له في براءة.
الرؤوس الثلاثون
أما القصر الفخيم، فيحتوي على عدد من المعارض المختلفة، بينها معرض للخيام العثمانية من القرن الثامن عشر، وآخر للوحات عصر النهضة، ومتحف للمجوهرات الملكية، ومتاحف أخرى متخصصة، وإن كان أكثر ما لفت انتباهي وأثار إعجابي هو قاعة استقبال السفراء، وكذلك اللوحات الحريرية المطرزة والمعلقة على جدران القصر المختلفة والمعروفة باسم Jagiellonian Tapestries.
فهذه اللوحات الحريرية الهائلة الحجم تمتد لأمتار، وكلها مطرزة بخيوط من الذهب والفضة، وتحكي الموضوعات المرسومة عليها بعض القصص الدينية، مثل فلك نوح مثلاً، أو بعض الأساطير الغريبة، بالإضافة إلى رموز المقاطعات البولندية والليتوانية، وقد تمت حياكتها في بلجيكا في القرن السادس عشر بتكليف من ملك بولندا سيجيسموند أوغسطس، وذلك بمناسبة احتفاله بزواجه الثالث، الذي كان في ما يبدو أتعس خطوة اتخذها في حياته. ويمكنك أن تتخيل أهمية هذه المطرزات عندما تعلم أن قيمة بيع بعض منها كانت كافية لسداد ديون بولندا في وقت من الأوقات، وقد بقي منها 137 لوحة تعد أكبر مجموعة في العالم من هذا الفن. واللوحات منتشرة في جميع القاعات، وقد تم فتح قاعة الاحتفالات العظمى خصيصاً لكي يتاح لي التقاط صورة بسرعة تظهر فخامتها وطرازها المعماري.
غرفة استقبال السفراء والمفوضين والمندوبين فوق العادة، وكانت أيضاً مقراً لاستقبال الملك للجمهور حين يصدر أحكاماً في بعض القضايا التي تتطلب تدخله. هذه الغرفة تتزين بسقف بديع نحت فيه الفنان سباستيان تاورباخ رؤوساً خشبية تمثل شعب المدينة ورجال البلاط وملوكاً تنظر إلى الملك من أعلى وتراقب تصرفاته في صمت. ومع الأسف الشديد، فإن عدداً كبيراً منها قد تحطم ولم يبق منها سوى ثلاثين رأساً منحوتاً فقط. وأبرع تلك الوجوه من حيث النحت والدلالات التي يمكن أن تصل إلى المتلقي عند رؤيتها، يتمثل في رأس سيدة مكممة لا تستطيع أن تفتح فمها لتتحدث، والحقيقة أن هذا الرأس الصامت قد نال تعليقات وتحدث بصوت أعلى من الثلاثين رأساً مجتمعة.
اكتشفت أن هذا الرأس بالفعل أثار جدلاً وقصصاً وحكايات كثيرة عن سبب وجوده أو القيام بنحته، فقد أخبرني أحد أصحاب المتاجر المتخصصة في بيع هذه النماذج من المنحوتات، التي تأخذ أشكال الرؤوس المختلفة في المتحف، أن تلك المرأة في الأصل قد تم اعتقالها وهي متلبسة بالتنصت على محادثة سرية كانت تدور بين الملك ومجموعة من مستشاريه، لكن الملك بدلاً من أن يقوم بسجنها، قرر أن يمثل حالتها في شكل هذه المنحوتة، حتى تصبح أمثولة للأجيال اللاحقة، تؤكد أن هناك من المعلومات مما يخص الدولة ما لا يصلح للاستهلاك العام، وهو تفسير يتفق مع سياسات الملك التجريبية مع الحقوق والحريات المدنية.
أما أشهر القصص المرتبطة بتلك المرأة المكممة في سقف القاعة، فهي أن الملك، وبسبب كثرة القضايا التي تُعرض عليه يومياً، أصابه الملل والضجر، وأصدر وهو في هذه الحالة حكماً متعجلاً من دون بحث كافٍ، وتبين لاحقاً أنه لم يحكم بالعدل في تلك القضية، ولما كان الحكم قد صدر في القاعة، فقد فوجئ الملك بواحد من تلك الرؤوس ينطق باللاتينية جملة اشتهرت منذ ذلك الوقت، إذ قال «iudica iuste» وتعني «احكم بعدل»، وبالرغم من أن الملك قام بإعادة النظر في حكمه المتعجل، فإنه قام بتكميم ذلك الرأس لكي لا يعارضه في ما بعد.
وأياً كانت درجة صدق هذه الحكايات، أو أياً كانت حتى القصة الحقيقية التي تقف خلف هذه المنحوتات، فإن الاهتمام بها وتنوع القصص حولها يريانا كيف أن الفولكلور الشعبي في أنحاء العالم يستخدم الفنون والقصص والعبارات القصيرة في إعطاء الدروس للملوك ليحكموا بالعدل. وتكشف أيضاً اهتمام الشعوب بمأثوراتها الشعبية، باعتبارها جزءاً أساسياً من تراثها وهويتها وبحثها عن العدل والحكمة.
أما بالنسبة للعودة من القصر إلى المدينة، فهي تعتمد على حالتك عقب ساعتين، على الأقل، من السير في أروقة القصر وداخله، وأمامك اختيارات عدة، فإما أن تعود مشياً على قدميك أيضاً في الشوارع القديمة المليئة بالمحال التجارية، وإما أن تستقل عربة كهربائية تشبه «التوك توك، الهندي وإن كانت أكثر بهجة وألواناً، أو بواسطة عربة ملكية تجرها الخيول، وهي الوحيدة المسموح لها بالسير في شوارع المدينة التاريخية. وفي كل الحالات، وأياً كانت الوسيلة التي ستعود بها، فإنك ستصل غالباً إلى ميدان السوق المركزي.
يتميز السوق المركزي في كراكوف بمزايا عدة، أولاها أنه واحد من أوسع ميادين الأسواق في أوربا، إن لم يكن أوسعها على الإطلاق، وقد أقيم عام 1257 بعد أن دمر التتار كراكوف، وأعيد بناؤها مرة أخرى، متخذة ذلك الميدان مركزاً لها، ويمكنك أن تسير منه في شوارع مستقيمة وصولاً لقلعة فافل أو للأحياء الحديثة أو للحي اليهودي الذي لم يبق من هويته سوى بعض المباني والمطاعم؛ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هاجر معظم من تبقى حياً من اليهود.
ويتوسط ميدان السوق مبنى أنيق معروف باسم «سيكيينس» أو سوق القماش، وهو مبنى يشبه مركبة هائلة تمخر عباب الشوارع، وكما هو واضح؛ فقد كانت القوافل التجارية تصل إليه من الشرق محمَّلة بالحرير والجلود والتوابل، وترحل عنه محملة بالأقمشة والملح، وهو أمر غريب، حيث إن المدينة لا تقع على شاطئ بحر أو محيط.
يمكنك الصعود لسطح السيكيينس (كما فعل الإمبراطور هيروهيتو إمبراطور اليابان أو الأمير تشارلز أثناء زيارتهما للميدان) لالتقاط الصور والحصول على قسط من الراحة أو فرصة لالتقاط الأنفاس بعد يوم طويل، وهناك ستواجهك كنيسة السيدة مريم العذراء، وستلاحظ أولاً أن اتجاهات بنائها جاءت منحرفة قليلاً عن الاتجاهات العامة للميدان، وعندما سألت عن السبب، عرفت أنها بنيت فوق أساسات كنيسة قديمة دمرها التتار في غزوتهم الفاشلة. وستلاحظ أن برجي الكنيسة ليسا متساويين في الطول، مما ذكرني ببرجي مجلس مدينة ميونيخ في ألمانيا، وإن كانت تلك قصة أخرى.
قابيل وهابيل في كراكوف
وطبعاً وكالعادة، فبناء كهذا لا يمكن أن يمنع وجود مجموعة من الأساطير التي عادة ما ترتبط بالمباني التاريخية والأثرية في كل بلاد العالم تقريباً. وقد أثار الاختلاف في ارتفاع البرجين عديداً من الأساطير والقصص التي ربما كانت أشهرها قصة الأخوين، التي تبدو لي وكأنها تكرار حرفي لأول جريمة قتل في التاريخ، ألا وهي قصة الأخوين ابني آدم قابيل وهابيل، اللذين قام كل منهما بتقديم قربان لله تعالى، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر فثار وقتل أخاه.
الأخوان هنا في كراكوف أرادا أيضاً أن يقدما ما رأيا أنه قربان، فتطوعا لبناء برجي الكنيسة بعد أن ظل مبناها بلا أبراج مدة قرنين تقريباً، وحين لاحظ الأخ الأكبر أن البرج الذي يشيده أقصر وأقل ارتفاعاً من برج أخيه، انتابته الغيرة فثار وقام بقتل أخيه. ويقال إن قوى غامضة هي التي تولت إتمام بناء برج الأخ المقتول المغدور به، وفي يوم افتتاح الكنيسة بعد التجديدات، عصف الندم بالأخ الأكبر، فطعن قلبه بالسيف نفسه الذي قتل به أخاه، وسقط ميتاً من أعلى برجه على الأرض.
وفي كل ساعة ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً وعلى مدار العام، يمكنك أن تسمع صوت البروجي الذي يعزف من فوق البرج العالي نغماً متقطعاً يعرفه جميع البولنديين تخليداً لذكرى بروجي غير معروف الهوية عزف إنذاراً للمدينة من هجوم التتار، وينقطع العزف فجأة في نصف إحدى النغمات، وذلك تذكيراً بالسهم التتري الذي أصاب ذلك الحارس الأمين في رقبته وقضى عليه، وإن كان واضحاً أنه مازال حياً لليوم. جدير بالذكر أن الإذاعة الوطنية تذيع ذلك النغم العسكري المتقطع ظهر كل يوم اعتباراً من عام 1920 (منذ نحو 96 عاماً).
متحف الفوهرر
نعرف جميعاً أن الفوهرر (القائد) هتلر كان ببساطة رجلاً غير طبيعي، وقد أراد أن يجعل من مسقط رأسه، مدينة لينز في النمسا، أجمل المدن الواقعة على نهر الدانوب، متفوقة على منافستها الأخرى بودابست.
وفي واحدة من الأفكار التي تواردت إلى ذهنه، أن يصنع من مدينة لينز تلك عاصمة أوربا الثقافية، ووضع بالفعل رسومات لمتحف كان سيُعرف باسم «متحف الفوهرر»، يضم القطع الفنية العظيمة التي اشتراها النازي أو صادرها أو سرقها، ومنها هيكل كنيسة العذراء مريم في كراكوف، الذي انتهى العمل به عام 1498، وكان معروفاً أنه أكبر هيكل قوطي في العالم.
وبالرغم من أن البولنديين أدركوا الخطر المحدق بكنزهم وقاموا بتفكيكه إلى قطع صغيرة نقلوها لأماكن متعددة، فإن النازي بدوره استطاع أن يتعقبها ويجمعها وينقلها لألمانيا عام 1941 أثناء الاحتلال الألماني، تمهيداً لوضعها في متحف الفوهرر عند اكتمال بنائه. واختفى الهيكل تماماً إلى أن تم إنقاذه عام 1946 من بافاريا في سرداب قلعة نورمبرج التي قُصفت بعنف في نهاية الحرب، وأعيد إلى بولندا حيث خضع لعمليات ترميم مكثفة لمدة عشر سنوات، أعيد بعدها لمكانه في الكنيسة.
العملية سمكة... أكبر عملية نقل ثروات في التاريخ
ومن بين التحف الأخرى التي أراد هتلر أن يضمها لمتحفه مطرزات قلعة فافل التي تحدثنا عنها، وقد فطن البولنديون لنواياه، فقرروا أن يبادروا بنقلها، ونجحوا في تهريبها بصحبة اثنين من أمناء المتحف إلى سفارتهم في بوخارست برومانيا، ضمن قوافل من اللاجئين والهاربين من جيوش النازي التي غزت كراكوف بالفعل، ومن هناك نقلت تلك المطرزات إلى جزيرة مالطة بالبحر المتوسط، وفي تلك الأثناء سمعوا أن فرنسا انتهزت فرصة انشغال النازي بالشرق وبدأت بدورها في تخبئة كنوزها الفنية، فقرروا الانتقال بكنزهم الذي كان محملاً في ناقلات هائلة وسيارات شحن وغيرها إلى قرية «أوبيسون» في فرنسا، حيث مكثوا ستة شهور في مصنع قديم، ومنه إلى بريطانيا فراراً من جيوش هتلر التي بدأت في الاتجاه غرباً، وفي بريطانيا حمل الأمينان كنزهما على ناقلة حربية وانضما لأسطول هائل في أكبر عملية نقل ثروات في التاريخ عرفت باسم «Operation Fish» أي «العملية سمكة»، التي تصلح موضوعاً لفيلم سينمائي هائل، كان هدفها نقل ثروات أوربا عبر المحيط الأطلنطي هرباً من ذلك المجنون.
وصلت السفينة إلى ميناء هالفاكس في كندا عام 1940، حيث جرت مفاوضات سريعة مع إدارة الجمارك الكندية التي وافقت على إعفائها من الجمارك بصفتها ملكية خاصة لحكومة بولندا. هل تصدق ذلك... عمليات هروب ومغامرات لمدة سنوات بكنز هائل، وسفر ضمن أكبر عملية نقل ثروات في التاريخ، وفي النهاية مفاوضات جمركية؟ المهم، قام الأمينان المثابران بنقل هذا الكنز الثمين إلى مزرعة تجريبية، حيث وجدا أن عناصر التحكم في الحرارة والرطوبة والأمن كلها متوافرة، وساهمت الشرطة الكندية في عمليات النقل النهائية للمزرعة.
وبعد انتهاء الحرب وتولي ستالين السلطة في الاتحاد السوفييتي واتجاهاته المتطرفة في فرض السيطرة مما تشابه مع اتجاهات النازي، خشي البولنديون والكنديون أن تعود تلك التحف وأن يستولي عليها ستالين ورفاقه، فقام الكنديون بتخبئتها في مكان غير معلوم، وبعد سلسلة من المغامرات البوليسية المخابراتية، تم اكتشاف أن المجموعة مخبأة في مستشفى بكوبيك، التي رفض رئيس وزرائها تسليمها بحجة أن أصحابها الحقيقيين غير مقيمين في بولندا. وفي النهاية، وبعد وفاة ستالين، سلمت القطع إلى بولندا لتعرض في مقرها الأصلي بقلعة فافل بكراكوف.
الملح في فيليشكا
لم أستطع أن أخفي دهشتي عندما عرفت أن صفقات بيع الملح كانت تتم في القاعة الرئيسة لسوق كراكوف، فالمدينة بعيدة عن أي بحار، ولا يوجد سبيل لإنتاج الملح عن طريق تبخير ماء البحر. لكني سرعان ما أدركت جهلي الشديد، فالملح في أماكن كثيرة من العالم يتم إنتاجه في مناجم تحت سطح الأرض.
وكلمة السر في هذا الموضوع هي «فيليشكا»، وهي إحدى ضواحي كراكوف، ويوجد فيها واحد من أكبر تلك المناجم التي لم أكن أتوقع وجودها تحت سطح الأرض، وبالطبع لم أكن أتوقع زيارتها. وعندما أبديت دهشتي تلك أخبرتني السيدة دوروتا بوبسكا مديرة عموم كل المناطق أنهم في بولندا ينتجون الملح وكذلك السكر من المناجم. وبالطبع صمتُّ ولم أجرؤ على معارضتها، فما أدراني بما يوجد تحت الأرض في تلك البلاد؟!
وملح الطعام، تلك المادة الرخيصة الثمن والمتوافرة دائماً في كل محال البقالة والسوبر ماركت، كان في ما مضى موضوعاً للمغامرات والقوافل والحروب أحياناً، ففي الغرب خلق الملح مدناً عظيمة مثل سالزبرج (مدينة الملح) وميونيخ، التي كانت مجرد قرية على طريق تجارة الملح، إلى أن انتخب أحد مواطنيها ملكاً على ألمانيا، وأصبح بعدها على رأس الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1328، وعزز مكانة مدينته بأن منحها احتكار تجارة الملح، ما أدى في النهاية لأن تصبح عاصمة بافاريا، وغيرها كثير.
أما في الشرق، فقد كان مصدر قوة قبائل الطوارق المسيطرة على الصحراء الكبرى هو اكتشافها مناجم ملح ونقله وبيعه، وكان الملح من الندرة لدرجة أنه كان أحياناً يباع بوزنه ذهباً.
فالملح عنصر لا غنى عنه للحياة، ليس فقط لتتبيل الطعام، ولكن لكونه وسيلة أساسية في الأزمان القديمة لحفظ الطعام ولصنع أنواع الأجبان المختلفة، وأهم من ذلك كله لأنه عنصر أساسي في تربية المواشي والطيور وغيرها.
يزور منجم فيليشكا كل عام حوالي مليون ومائتي ألف شخص. ويبلغ عمقه 327 متراً، وطول ممراته 287 كيلومتراً. بعد شراء التذاكر تهبط في مصعد مزدحم ببقية الزوار ومعهم عمال المناجم العمالقة، وبعدها تسير في مسار محدد، ولا سبيل للضياع حتى لو أردت ذلك. في بعض الأماكن يسمح للزوار بالحفر واستخراج الملح وتذوقه. ولما كان العمل في المنجم والحفر يحتويان على مخاطر جمة، فقد أنشئت أربعة أماكن للعبادة كلها من الملح بما فيها الثريات. ويبلغ طول الزيارة ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر.
وفي أثناء الجولة، ستشاهد نماذج فنية عن «كينجا» مكتشفة المناجم. وكينجا هذه كانت أميرة مجرية تمت خطبتها إلى أمير كراكوف في منتصف القرن الثالث عشر، ولما كان الملح نادر الوجود في بولندا، فقد طلبت من والدها ملك المجر أن يهبها كتلة ملح من مناجم المجر، وفي المنجم ألقت بخاتم خطبتها في أحد شقوقه، ولما وصلت بعد ذلك إلى كراكوف، طلبت من عمال المناجم أن يحفروا حتى يصلوا لكتلة حجرية. دُهش العمال لما وصلوا إلى كتلة من الملح، وعندما شقوها فوجئوا بوجود خاتم الأميرة بداخلها، وبمنجم ملح هائل لم يكن أحد يعلم بوجوده. وتطول الجولة لثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر خلال ممرات متنوعة الأشكال والألوان، وبها منشآت ضخمة يصعب تخيل وجود مثلها تحت الأرض، خاصة أنها كلها لا يدخل في تكوينها سوى الملح!
موسوعة جينيس
ستجد في المناجم مكاناً للأطفال داخل مغارة ضخمة يضم شخصيات خيالية ومطاعم وكافيتريات تحت الأرض، وصولاً في النهاية إلى ما كان يوماً من من الأيام قاع بحيرة هائلة يضم محلاً هائلاً للتذكارات والتحف الملحية، ولكن أيضاً تم في هذه القاعة تحطيم أرقام قياسية عدة ضمت لموسوعة جينيس. فمثلاً قام أحد المغامرين بالطيران ببالون في هذه القاعة وسجل رقما قياسيا في الطيران بالبالون على أقل الارتفاعات في التاريخ، وقام غيره بأداء عرض باهر بالترامبولين مسجلاً رقماً قياسياً كزميله طيار البالون. وقد أثار منجم الملح غيرة بقية سكان ضاحية فيليشكا، فانتهز مطعم ماجيلو إقامة فريق كرة القدم الإيطالي بالمدينة (أثناء إقامة بطولة أوربا لكرة القدم في بولندا)، وقام بإعداد وطهو أضخم طبق لازانيا في العالم، وبلغ وزنه أربعة أطنان و865 كجم، ودخل هو الآخر موسوعة جينيس.
البالون
عند خروجك من تحت الأرض، تتعرض لإغراء شديد لفكرة الطيران في السماء، والسبب يعود إلى رؤيتي بالوناً عملاقاً يحلق في سماء العاصمة الملكية، وبلا تردد توجهت إلى المكان المخصص لارتياد هذا المنطاد أو البالون، لكني فوجئت بعد الصعود أنه مربوط بحبال تثبيت تمنعه من التحليق الحر، وهي فكرة سديدة لمنعه من الهبوط على الآثار الثمينة من ناحية، ولأنه مثبت في مكانه فنستطيع رؤية ما نريده من ناحية أخرى من دون مغامرات بالونية هوائية حدثت لي في عواصم أخرى.
مراسم للزفاف في الصباح
الجولات الصباحية في المدينة أو في بعض القرى المجاورة لها لا تخلو من الإثارة. فمن الشائع هنا أن تقوم السيدات اللائي عقد قرانهن في الليلة الفائتة بالتجول في الصباح بعد الزفاف بفساتين العرس مع عرسانهن في تقليد أظنه بدأ في الانتشار في بلادنا بالشرق تدريجياً، ويتمثل في التقاط صور الزفاف بعد الزفاف! فالعروس والعريس يكونان مسترخيين بعد الليلة المزدحمة، والنور يكون أفضل في الأماكن المفتوحة، والأقارب يكونون قد استراحوا بعد عقد القران، والصور تكون أفضل، وما إلى ذلك من أسباب يسوقها مصور الزفاف.
المهم أن الأسواق في القرى القريبة عادة ما تكون مزدحمة، فالسوق تعقد مرة أسبوعيا كأسواق القرى العربية، ويمكنك أن تجد الخضر والفواكه الطازجة من الحقول مباشرة، وهو ما يفضله كثير من السكان المحليين، والأهم هو الجبن المدخن الآتي من المروج الخضراء، الذي يصنعه رعاة الغنم بصفة يومية من حلب قطعان الغنم، وهو حديث آخر. لكن هذه على أي حال قصة أخرى من قصص هذه المدينة التي لا تنتهي ■
قلعة فافل التاريخية كما تبدو في النهار
هذان البرجان يُعرفان باسم قابيل وهابيل بسبب أسطورة تقول إن أخوين بنى كل منهما برجاً، وحين علا أحد البرجين قام صاحب البرج الصغير بقتل شقيقه, وتقول الأسطورة إن الأشباح أكملت بناء البرج الأصغر
لوحات الحرير داخل قصر قلعة فافل من المعالم الفنية التاريخية المميزة حيث توجد بها 137 لوحة تعد أكبر مجموعة في العالم لهذا الفن
هنا كان الملك يستقبل الجمهور، بالإضافة إلى المقابلات الرسمية مع السفراء والمفوضين والمندوبين فوق العادة
المزارعون ينتقلون إلى الأسواق الأسبوعية لبيع حصاد مزارعهم من الفاكهة
صناعة الجبن المدخن من أشهر الصناعات التي تنتشر في الإقليم, وعلى الجبال المحيطة بالمدينة تنتشر اكواخ أخرى متخصصة في بيع عديد من أصناف الأجبان