عبدالحليم حافظ نجم الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين

في ربيع العام الحالي، يكون قد مر على رحيل عبدالحليم حافظ (1929 - 1977) أربعون عاماً بالتمام والكمال، الأمر الذي يدعونا إلى التأمل في مسألة فنية أساسية، هي أن هذا الفنان لم ينجح فقط طوال حياته الفنية بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي في أن يلمع كأشهر نجوم الغناء العربي في أثناء حياته (مع أنه لم يكن المطرب صاحب الصوت الأجمل أو الأقوى أو الأكثر طرباً)، بل إنه بقي متربعاً على عرش نجوميته حتى يومنا هذا، أي بعد مرور أربعة عقود كاملة على رحيله.
هذه الظاهرة اللافتة للانتباه تجعلنا أيضاً نلاحظ أن بعض مجايلي عبدالحليم حافظ من الفنانين والمغنين، مازالوا على قيد الحياة، حتى يومنا هذا، وأنهم ينتمون إلى جيل من الفنانين كان بينهم عبدالحليم حافظ، ويزعمون أنه كان يضع العراقيل الفنية أمامهم، خوفاً من أن يشكلوا أي منافسة فنية لنجوميته الغنائية.
وها هو عبدالحليم حافظ قد أمضى أربعة عقود كاملة في رحيله الأبدي، من دون أن يشكل أي من هؤلاء (من بقي منهم حتى اليوم، ومن رحل بعد عبدالحليم بسنوات)، أي منافسة حقيقية لجماهيرية عبدالحليم حافظ عند أجيال متعاقبة من المستمعين العرب. كما أنه لم يظهر في عالم الغناء العربي منذ رحيله وحتى يومنا هذا، صوت غنائي تذكرنا ألمعية نجوميته الفنية بألمعية ورسوخ نجومية عبدالحليم حافظ لدى الجماهير، في الربع الأول من القرن الجديد.
في رأيي أن هذه الظاهرة هي أهم ما يستحق التوقف عنده، ونحن نحيي الذكرى الأربعين لهذا النجم الغنائي، الذي لم يتبدل لمعانه الفني بين مرحلة وجوده على قيد الحياة ومرحلة رحيله.
وقبل أن يسترسل خيال قارئ هذا المقال وراء استنتاجات في غير محلها، فإني أسارع إلى القول إن الأمر لا يتعلق أبداً بأن عبدالحليم حافظ كان يمتلك أجمل الأصوات الغنائية العربية، في أثناء حياته، أو بعد رحيله، فقد ظهرت إلى جانبه ومن بعده مجموعة من الأصوات الرجالية الجميلة، حتى إن بعض هذه الأصوات يجيد أداء أصول الغناء العربي بطريقة تضاهي وأحياناً تفوق ما كان يقوم به عبدالحليم.
هناك إذن أسباب وجيهة أخرى لابد من إلقاء الضوء عليها، لتفسير هذا الثبات في نجومية عبدالحليم، في أثناء حياته، وبعد انقضاء أربعين عاماً على رحيله.
رمز لعصر غنائي
ليس هنالك في الأمر سر، فإلى جانب المواهب الفنية الجميلة التي أودعها الخالق في حنجرة عبدالحليم حافظ، فهو استخدم هذه المواهب بنسبة عالية جداً، في أن يكون رمزاً لعصر غنائي واجتماعي بأكمله، فشكل ظاهرة غنائية، وكان الرمز الحي لتيار جديد في الموسيقى والغناء عند العرب، إضافة إلى كونه وارثاً شرعياً لعصر نهضة الموسيقى العربية والغناء العربي في النصف الأول من القرن العشرين، الذي أطلقه سيد درويش منذ بداية القرن الماضي، وتابعه عباقرة من الجيل الذي تلاه، على رأسهم محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي، إضافة بعد ذلك إلى فريد الأطرش ومحمد فوزي ومحمود الشريف وسواهم، وهو عصر النهضة الذي تم التعبير عنه عبر أصوات غنائية عبقرية، على رأسها أصوات محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان.
من الواضح أن عبدالحليم حافظ، الذي ولد في عام 1929، قد تربى ونما وترعرع في كنف مدرسة التجديد الموسيقي والغنائي بعد سيد درويش، خاصة في التيار التجديدي الذي كان يتزعمه موسيقياً القصبجي وعبدالوهاب، وغنائياً عبدالوهاب وأسمهان.
إحساس موسيقي مرهف
ولا شك في أن الفتى عبدالحليم حافظ قد رضع خلاصة هذا العصر الفاحش الثراء، من خلال درجة عالية من الإحساس الموسيقي المرهف، الذي قاده في البداية ليس إلى ممارسة الغناء، بل إلى تعلُّم العزف على آلة الأوبوا، شديدة الحساسية والعذوبة، وهي إحدى آلات النفخ الخشبية في الأوركسترا السمفونية.
وفي المعهد الموسيقي الذي كان يدرس فيه عبدالحليم العزف على آلة الأوبوا، زامل وعايش رفاقه من أمثال كمال الطويل وعلي إسماعيل وأحمد فؤاد حسن وسواهم.
في تلك البدايات الأولى لعبدالحليم، انضم إلى فرقة الأوتار الذهبية التي شكّلها وقادها الموسيقي الموهوب عبدالحميد توفيق زكي، الذي كان مهووساً بتيار التجديد في الموسيقى والغناء العربيين، وكان يضم إلى فرقته كلاً من كارم محمود وفايدة كامل وهدى سلطان، التي لحن لها أغنيتها البديعة ايا ورد الجناين يا سيد الورودب، وعزف فيها عبدالحليم على آلة الأوبوا منفرداً بين المقطعين الثاني والثالث.
كان العشق الفني الأساسي لعبدالحليم حافظ في تلك المرحلة المبكرة، موسيقى وغناء محمد عبدالوهاب بشكل خاص.
بعد ذلك قامت صداقة شخصية جمعت كلاً من عبدالحليم شبانة (اسمه الأصلي) وكمال الطويل ومحمد الموجي، القادم من كلية الزراعة، ولكنه كان ممتلئاً بعشق الموسيقى والغناء.
وكان هذا الثلاثي الفني من تلاميذ التيار التجديدي الذي يمثله محمد عبدالوهاب، لكنه كان يتميز عن بقية الفنانين المعجبين بعبدالوهاب والمتأثرين به، بأنه لم يكن يتوقف عند حدود تقليد نجمهم المفضل، بل التعبير عما يعتمل في داخلهم من أفكار موسيقية جديدة، تعد تعبيراً جديداً عن التيار الذي يقوده ويعبر عنه عبدالوهاب.
شخصية متفردة
ولقد حدث في البدايات الفنية الأولى لعبدالحليم حافظ، أنه كان يرفض تلبية رغبة متعهدي الحفلات بتكرار أغاني عبدالوهاب، بل كان يصر على أن يقدم الألحان الجديدة التي كان يزوده بها زملاؤه الفنانون الجدد.
كذلك، حدث أنه عندما تقدم عبدالحليم إلى امتحان في الغناء أمام عبدالوهاب، غنى له قصيدته الشهيرة اجبل التوبادب (من مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي)، فكان أكثر ما أثار إعجاب عبدالوهاب أن هذا المطرب الناشئ أدى اللحن بشخصيته الغنائية الخاصة، ولم يقلد أداء محمد عبدالوهاب.
إلى جانب هذه الإرهاصات الأولى التي كانت تبشر منذ البداية بظهور تيار جديد يتابع ما قامت به مدارس التجديد السابقة في الموسيقى العربية والغـــناء العربي، فــقد انضم إلى هذه الكوكبة من الملحنين الجـــدد وراء حنجرة عبدالحليم حافظ الجديدة، عدد من شعراء الأغنية من أبناء الجيل الجديد أيضاً، كان في مقدمتهــم كل من سمير محبـــوب ومحـــمد علي أحمد (صافيني مرة، وعلى قد الشوق).
ومع اكتمال تكون هذا التيار الجديد الذي يضم مجموعة من الملحنين والشعراء الجدد، حول الحنجرة الجديدة التي يحملها عبدالحليم حافظ، فقد شاءت الأقدار أن تقدم المسرح الذي تعلن من على خشبته ولادة هذا التيار الفني الجيد، المنبثق من رحم التيار العريض الذي يقوده، موسيقياً وغنائياً، محمد عبدالوهاب.
ففي ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 1953، أقيمت حفلة غنائية كبرى، كانت تبثها إذاعة القاهرة مباشرة على الهواء، وكان يقدم البرنامج في هذه الحفلة الممثل المسرحي الكبير يوسف وهبي، وكانت الحفلة مقامة خصيصاً لإعلان تحول مصر من النظام الملكي، إلى النظام الجمهوري.
ولادة تيار فني جديد
في تلك الليلة، وبينما كان الممثل الكبير يوسف وهبي يعلن ولادة الجمهورية المصرية، فقد أعلن بين فقرات الحفلة الموسيــقية عن ولادة مغن جديد هو عبدالحليم حافظ. لكن الحقيقة التي ثبتت بعد ذلك تؤكد أن يوسف وهبي لم يكن يعلن ولادة نجم غنائي جديد، بل ولادة تيار فني جديد، سينضم إليه باختياره الكامل، الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، معبراً عن إعجابه بصوت وأداء عبدالحليم حافظ، وبألحان كل من محمد الموجي وكمال الطويل.
هذا التيار الجديد، الذي كان صوت عبدالحليم حافظ رمزه العلني، انضم إليه فيما بعد كل من بليغ حمدي ومنير مراد في التلحين، وكل من صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي، من شعراء العامية المصرية، اللذين تحولا إلى كتابة شعر الأغنية الوطنية والعاطفية، خصيصاً لحنجرة عبدالحليم حافظ، وألحان كمال الطويل ومحمد الموجي.
عبدالحليم حافظ لم يكن إذن مجرد صوت غنائي جميل، يقدم أداءً غنائياً جميلاً وعصرياً، بل تحول ليكون الرمز الأول لتيار كامل من التجديد الموسيقي والغنائي، الـذي ملأ النصف الثاني من القرن العشرين، وتحول في جزء من إنتاجه إلى مؤرخ لعصر كامل من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية العربية، انطلاقاً من مصر، وشمولاً لكل أرجاء الوطن العربي.
إن تكرار ظاهرة كظاهرة عبدالحليم حافظ، لا يرتبط فقط بظهور صوت جديد متميز (وعندنا من هذا الكثير)، بل يرتبط بظهور عصر كامل من تطور الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية يعم أرجاء الوطن العربي، ويتم التعبير عنه من خلال تيارات فنية جديدة، وحناجر غنائية جديدة >
شادية وعبدالحليم حافظ في فيلم معبودة الجماهير