عبدالحليم حافظ نجم الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين

عبدالحليم حافظ نجم الغناء العربي  في النصف الثاني من القرن العشرين

في‭ ‬ربيع‭ ‬العام‭ ‬الحالي،‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬رحيل‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭  (‬1929‭ - ‬1977‭) ‬أربعون‭ ‬عاماً‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يدعونا‭  ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬فنية‭ ‬أساسية،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬فقط‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬الفنية‭ ‬بين‭ ‬خمسينيات‭ ‬وسبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يلمع‭ ‬كأشهر‭ ‬نجوم‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حياته‭ (‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المطرب‭ ‬صاحب‭ ‬الصوت‭ ‬الأجمل‭ ‬أو‭ ‬الأقوى‭ ‬أو‭ ‬الأكثر‭  ‬طرباً‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬بقي‭ ‬متربعاً‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬نجوميته‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬كاملة‭ ‬على‭ ‬رحيله‭.‬

هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬اللافتة‭ ‬للانتباه‭ ‬تجعلنا‭ ‬أيضاً‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬مجايلي‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والمغنين،‭ ‬مازالوا‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وأنهم‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬كان‭ ‬بينهم‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬ويزعمون‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬العراقيل‭ ‬الفنية‭ ‬أمامهم،‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشكلوا‭ ‬أي‭ ‬منافسة‭ ‬فنية‭ ‬لنجوميته‭ ‬الغنائية‭. ‬

وها‭ ‬هو‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬قد‭ ‬أمضى‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬رحيله‭ ‬الأبدي،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ (‬من‭ ‬بقي‭ ‬منهم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬ومن‭ ‬رحل‭ ‬بعد‭ ‬عبدالحليم‭ ‬بسنوات‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬منافسة‭ ‬حقيقية‭ ‬لجماهيرية‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬عند‭ ‬أجيال‭ ‬متعاقبة‭ ‬من‭ ‬المستمعين‭ ‬العرب‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬رحيله‭ ‬وحتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬صوت‭ ‬غنائي‭ ‬تذكرنا‭ ‬ألمعية‭ ‬نجوميته‭ ‬الفنية‭ ‬بألمعية‭ ‬ورسوخ‭ ‬نجومية‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬لدى‭ ‬الجماهير،‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الجديد‭.‬

في‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هي‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬التوقف‭ ‬عنده،‭ ‬ونحن‭ ‬نحيي‭ ‬الذكرى‭ ‬الأربعين‭ ‬لهذا‭ ‬النجم‭ ‬الغنائي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتبدل‭ ‬لمعانه‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬مرحلة‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬ومرحلة‭ ‬رحيله‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يسترسل‭ ‬خيال‭ ‬قارئ‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬وراء‭ ‬استنتاجات‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬محلها،‭ ‬فإني‭ ‬أسارع‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬أبداً‭ ‬بأن‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬كان‭ ‬يمتلك‭ ‬أجمل‭ ‬الأصوات‭ ‬الغنائية‭ ‬العربية،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حياته،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬رحيله،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬الرجالية‭ ‬الجميلة،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات‭ ‬يجيد‭ ‬أداء‭ ‬أصول‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬بطريقة‭ ‬تضاهي‭ ‬وأحياناً‭ ‬تفوق‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬عبدالحليم‭.‬

هناك‭ ‬إذن‭ ‬أسباب‭ ‬وجيهة‭ ‬أخرى‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬عليها،‭ ‬لتفسير‭ ‬هذا‭ ‬الثبات‭ ‬في‭ ‬نجومية‭ ‬عبدالحليم،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حياته،‭ ‬وبعد‭ ‬انقضاء‭ ‬أربعين‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬رحيله‭.‬

 

رمز‭ ‬لعصر‭ ‬غنائي

ليس‭ ‬هنالك‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬سر،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬المواهب‭ ‬الفنية‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬أودعها‭ ‬الخالق‭ ‬في‭ ‬حنجرة‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬فهو‭ ‬استخدم‭ ‬هذه‭ ‬المواهب‭ ‬بنسبة‭ ‬عالية‭ ‬جداً،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رمزاً‭ ‬لعصر‭ ‬غنائي‭ ‬واجتماعي‭ ‬بأكمله،‭ ‬فشكل‭ ‬ظاهرة‭ ‬غنائية،‭ ‬وكان‭ ‬الرمز‭ ‬الحي‭ ‬لتيار‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬وارثاً‭ ‬شرعياً‭ ‬لعصر‭ ‬نهضة‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬والغناء‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬الذي‭ ‬أطلقه‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وتابعه‭ ‬عباقرة‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬تلاه،‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬ورياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬إضافة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬فريد‭ ‬الأطرش‭ ‬ومحمد‭ ‬فوزي‭ ‬ومحمود‭ ‬الشريف‭ ‬وسواهم،‭ ‬وهو‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬عبر‭ ‬أصوات‭ ‬غنائية‭ ‬عبقرية،‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬أصوات‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم‭ ‬وأسمهان‭.‬

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬قد‭ ‬تربى‭ ‬ونما‭ ‬وترعرع‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬مدرسة‭ ‬التجديد‭ ‬الموسيقي‭ ‬والغنائي‭ ‬بعد‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬التيار‭ ‬التجديدي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتزعمه‭ ‬موسيقياً‭ ‬القصبجي‭ ‬وعبدالوهاب،‭ ‬وغنائياً‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأسمهان‭.‬

 

إحساس‭ ‬موسيقي‭ ‬مرهف

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الفتى‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬قد‭ ‬رضع‭ ‬خلاصة‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬الفاحش‭ ‬الثراء،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬الموسيقي‭ ‬المرهف،‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬الغناء،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬تعلُّم‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬الأوبوا،‭ ‬شديدة‭ ‬الحساسية‭ ‬والعذوبة،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬آلات‭ ‬النفخ‭ ‬الخشبية‭ ‬في‭ ‬الأوركسترا‭ ‬السمفونية‭.‬

وفي‭ ‬المعهد‭ ‬الموسيقي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرس‭ ‬فيه‭ ‬عبدالحليم‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬الأوبوا،‭ ‬زامل‭ ‬وعايش‭ ‬رفاقه‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬كمال‭ ‬الطويل‭ ‬وعلي‭ ‬إسماعيل‭ ‬وأحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬حسن‭ ‬وسواهم‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى‭ ‬لعبدالحليم،‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬فرقة‭ ‬الأوتار‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬شكّلها‭ ‬وقادها‭ ‬الموسيقي‭ ‬الموهوب‭ ‬عبدالحميد‭ ‬توفيق‭ ‬زكي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مهووساً‭ ‬بتيار‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين،‭ ‬وكان‭ ‬يضم‭ ‬إلى‭ ‬فرقته‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬كارم‭ ‬محمود‭ ‬وفايدة‭ ‬كامل‭ ‬وهدى‭ ‬سلطان،‭ ‬التي‭ ‬لحن‭ ‬لها‭ ‬أغنيتها‭ ‬البديعة‭ ‬ايا‭ ‬ورد‭ ‬الجناين‭ ‬يا‭ ‬سيد‭ ‬الورودب،‭ ‬وعزف‭ ‬فيها‭ ‬عبدالحليم‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬الأوبوا‭ ‬منفرداً‭ ‬بين‭ ‬المقطعين‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث‭.‬

كان‭ ‬العشق‭ ‬الفني‭ ‬الأساسي‭ ‬لعبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬المبكرة،‭ ‬موسيقى‭ ‬وغناء‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬قامت‭ ‬صداقة‭ ‬شخصية‭ ‬جمعت‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬عبدالحليم‭ ‬شبانة‭ (‬اسمه‭ ‬الأصلي‭) ‬وكمال‭ ‬الطويل‭ ‬ومحمد‭ ‬الموجي،‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الزراعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬ممتلئاً‭ ‬بعشق‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬الثلاثي‭ ‬الفني‭ ‬من‭ ‬تلاميذ‭ ‬التيار‭ ‬التجديدي‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يتميز‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الفنانين‭ ‬المعجبين‭ ‬بعبدالوهاب‭ ‬والمتأثرين‭ ‬به،‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬تقليد‭ ‬نجمهم‭ ‬المفضل،‭ ‬بل‭ ‬التعبير‭ ‬عما‭ ‬يعتمل‭ ‬في‭ ‬داخلهم‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬موسيقية‭ ‬جديدة،‭ ‬تعد‭ ‬تعبيراً‭ ‬جديداً‭ ‬عن‭ ‬التيار‭ ‬الذي‭ ‬يقوده‭ ‬ويعبر‭ ‬عنه‭ ‬عبدالوهاب‭.‬

 

شخصية‭ ‬متفردة

ولقد‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬الفنية‭ ‬الأولى‭ ‬لعبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬تلبية‭ ‬رغبة‭ ‬متعهدي‭ ‬الحفلات‭ ‬بتكرار‭ ‬أغاني‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬الألحان‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يزوده‭ ‬بها‭ ‬زملاؤه‭ ‬الفنانون‭ ‬الجدد‭.‬

كذلك،‭ ‬حدث‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬تقدم‭ ‬عبدالحليم‭ ‬إلى‭ ‬امتحان‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬أمام‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭ ‬اجبل‭ ‬التوبادب‭ (‬من‭ ‬مسرحية‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى‭ ‬لأحمد‭ ‬شوقي‭)‬،‭ ‬فكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬إعجاب‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المطرب‭ ‬الناشئ‭ ‬أدى‭ ‬اللحن‭ ‬بشخصيته‭ ‬الغنائية‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولم‭ ‬يقلد‭ ‬أداء‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬الإرهاصات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبشر‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬بظهور‭ ‬تيار‭ ‬جديد‭ ‬يتابع‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬مدارس‭ ‬التجديد‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬والغـــناء‭ ‬العربي،‭ ‬فــقد‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الكوكبة‭ ‬من‭ ‬الملحنين‭ ‬الجـــدد‭ ‬وراء‭ ‬حنجرة‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬الجديدة،‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الأغنية‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬أيضاً،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مقدمتهــم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سمير‭ ‬محبـــوب‭ ‬ومحـــمد‭ ‬علي‭ ‬أحمد‭ (‬صافيني‭ ‬مرة،‭ ‬وعلى‭ ‬قد‭ ‬الشوق‭).‬

ومع‭ ‬اكتمال‭ ‬تكون‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الملحنين‭ ‬والشعراء‭ ‬الجدد،‭ ‬حول‭ ‬الحنجرة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬المسرح‭ ‬الذي‭ ‬تعلن‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬خشبته‭ ‬ولادة‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬الفني‭ ‬الجيد،‭ ‬المنبثق‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬التيار‭ ‬العريض‭ ‬الذي‭ ‬يقوده،‭ ‬موسيقياً‭ ‬وغنائياً،‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭.‬

ففي‭ ‬ليلة‭ ‬الثالث‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬1953،‭ ‬أقيمت‭ ‬حفلة‭ ‬غنائية‭ ‬كبرى،‭ ‬كانت‭ ‬تبثها‭ ‬إذاعة‭ ‬القاهرة‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬الهواء،‭ ‬وكان‭ ‬يقدم‭ ‬البرنامج‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحفلة‭ ‬الممثل‭ ‬المسرحي‭ ‬الكبير‭ ‬يوسف‭ ‬وهبي،‭ ‬وكانت‭ ‬الحفلة‭ ‬مقامة‭ ‬خصيصاً‭ ‬لإعلان‭ ‬تحول‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الملكي،‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬الجمهوري‭.‬

 

ولادة‭ ‬تيار‭ ‬فني‭ ‬جديد

في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬الممثل‭ ‬الكبير‭ ‬يوسف‭ ‬وهبي‭ ‬يعلن‭ ‬ولادة‭ ‬الجمهورية‭ ‬المصرية،‭ ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬بين‭ ‬فقرات‭ ‬الحفلة‭ ‬الموسيــقية‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭ ‬مغن‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭. ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬ثبتت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬وهبي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلن‭ ‬ولادة‭ ‬نجم‭ ‬غنائي‭ ‬جديد،‭ ‬بل‭ ‬ولادة‭ ‬تيار‭ ‬فني‭ ‬جديد،‭ ‬سينضم‭ ‬إليه‭ ‬باختياره‭ ‬الكامل،‭ ‬الموسيقار‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬معبراً‭ ‬عن‭ ‬إعجابه‭ ‬بصوت‭ ‬وأداء‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬وبألحان‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬الموجي‭ ‬وكمال‭ ‬الطويل‭.‬

هذا‭ ‬التيار‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬رمزه‭ ‬العلني،‭ ‬انضم‭ ‬إليه‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بليغ‭ ‬حمدي‭ ‬ومنير‭ ‬مراد‭ ‬في‭ ‬التلحين،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الأبنودي،‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العامية‭ ‬المصرية،‭ ‬اللذين‭ ‬تحولا‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬شعر‭ ‬الأغنية‭ ‬الوطنية‭ ‬والعاطفية،‭ ‬خصيصاً‭ ‬لحنجرة‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬وألحان‭ ‬كمال‭ ‬الطويل‭ ‬ومحمد‭ ‬الموجي‭.‬

عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إذن‭ ‬مجرد‭ ‬صوت‭ ‬غنائي‭ ‬جميل،‭ ‬يقدم‭ ‬أداءً‭ ‬غنائياً‭ ‬جميلاً‭ ‬وعصرياً،‭ ‬بل‭ ‬تحول‭ ‬ليكون‭ ‬الرمز‭ ‬الأول‭ ‬لتيار‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬التجديد‭ ‬الموسيقي‭ ‬والغنائي،‭ ‬الـذي‭ ‬ملأ‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وتحول‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭ ‬إلى‭ ‬مؤرخ‭ ‬لعصر‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬العربية،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وشمولاً‭ ‬لكل‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

إن‭ ‬تكرار‭ ‬ظاهرة‭ ‬كظاهرة‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬فقط‭ ‬بظهور‭ ‬صوت‭ ‬جديد‭ ‬متميز‭ (‬وعندنا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكثير‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬يرتبط‭ ‬بظهور‭ ‬عصر‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬يعم‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ويتم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تيارات‭ ‬فنية‭ ‬جديدة،‭ ‬وحناجر‭ ‬غنائية‭ ‬جديدة‭ >‬

شادية‭ ‬وعبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬معبودة‭ ‬الجماهير