في قلب الأرجنتين

في قلب الأرجنتين

كانت الساعة الثامنة صباحاً حينما وصلت إلى الأرجنتين، أقلّني التاكسي إلى منزل في ضواحي العاصمة بوينس آيرس، عند الباب وجدت شاباً وفتاتين يقرعون الجرس، ويطرقون الباب الحديدي بقوة، يقذفون النافذة، ويصرخون:
- «إيليه»، «إيليه»، افتح الباب.
كان الجو بارداً، والشتاء في سكرته الأخيرة، نظروا إليّ وأنا أضع حقيبتي على ظهري ماشياً نحو الباب في «ثقة»، لأن «الثقة» هي التي تنفي عنك تهمة الغربة.

سألتني الفتاة بتوجس:
- تبحث عن «إيليه»؟
- لا أنا من أجل إليخاندرو.
- إيليه هو اسم مستعار لإليخاندرو، غريب أن الكل يناديه بـ«إيليه» لماذا تناديه بإليخاندرو؟
هنا سقط قناع الثقة عن وجهي، فقلت بارتباك واضح:
- أنا لم ألتق إيليه من قبل.
- لكنك تحمل حقيبتك وأغراضك، هل تنوي المبيت عند شخص لا تعرف اسمه؟
- نعم.
- وكيف تبيت في منزل شخص لا تعرفه؟
- أممممم... بصراحة... أنا تواصلت معه عن طريق Couchsurfing.net (ترجمة اسم الموقع: ضيافة الكنبة).
نظر الثلاثة إليّ بتوجس، وقال الشاب:
- أنا لا أعرف ما الذي تتحدث عنه، لكن من أين أتيت؟
- من الكويت.
- وكم تبعد هذه عن بوينس آيرس (ظناً منهم أن الكويت مدينة أرجنتينية).
- 20 ساعة تقريباً.
- بالباص؟
- لا... بالطائرة.
نظرات الاستغراب التهمتني، وانهارت ثقتي، في هذه اللحظة فُتح الشباك العلوي، ليطل منه شاب أشقر طويل، يفرك عينيه في كسل ولامبالاة. هللوا جميعاً لرؤية إيليه، إطلالته كانت كفيلة بإيقاف أسئلة التحقيق الموجهة إليّ.
***
قبل الخوض في دنيا الأرجنتين، يجب أن نعرف ما هي فكرة «ضيافة الكنبة» (CouchSurfing)؟
قبل ولادة الإنترنت، كان الرحالة الاجتماعيون المهتمون باكتشاف المجتمعات من الداخل، يواجهون صعوبة في التعرف إلى الناس والسكن عندهم ورؤيتهم من الداخل. وهذا نوع الرحلة التي أقترفها أنا شخصياً، فأنا أسافر من أجل اكتشاف الوجه الحقيقي للمجتمع، وهي مهمة شاقة جداً، تتطلب منك اختراق المجتمع بطرق مبتكرة، والتلصص على حياة الناس بحيل واهية. وكانت هذه المهمة تحتاج منا من 6 إلى 24 أسبوعاً بحسب قدرات كل رحالة ودرجة انفتاح كل مجتمع. ومع دخول عصر الإنترنت، قام أحدهم بفتح هذا الموقع، الذي يسمح لك باستضافة أحد في منزلك أو السكن لدى الآخرين مجاناً، حيث يضع كل شخص ملفاً تعريفياً عنه، ثم يبدأ في التعرّف إلى الآخرين والتواصل معهم، ولكن لا تنتظر أكثر من كنبة صغيرة في صالون البيت للنوم عليها؟
وشخصياً، وجدتها تجربة ناجحة، تختصر عليَّ أسبوعين من محاولات اختراق المجتمع والتعرّف إلى أبنائه، إذ أجد نفسي - مجاناً - داخل أحد البيوت من اليوم الأول، وذلك ترف لا أعرف كيف أشكر «الإنترنت» عليه.
بيت إيليه/إليخاندرو كان يعج بالزوار طوال الوقت، مما يحرمك النوم، ويرزقك الصداقات. الشباب هنا غريبون، يبدون غير مبالين، يدخنون، شعورهم رثة، ملابسهم كالهيبز. لكن نقاشاتهم سياسية عميقة، ونظراتهم الاقتصادية غائرة، الكل يذكرك هنا بشخصية «جيفارا»، ذلك المثقف الوسيم المتعلم الثوري غير المبالي المحب للحياة... والنساء. (يذكر أن «صورة جيفارا» هي أكثر صورة إنسان منتشرة على وجه الأرض، خصوصاً على القمصان، وهناك إحصائية بأن غالبية الذين يرتدون قمصان جيفارا لا يعرفون من هو!).
الحدث الأهم آنذاك، هو الحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم الأمريكية على حكومة الأرجنتين بدفع مبلغ صغير لإحدى الشركات الأمريكية الدائنة، ويترتب عليه انهيار اتفاقيات الصلح والجدولة مع بقية الدائنين حول العالم، ووجوب الدفع لبقية الدائنين في الوقت نفسه، مما يترتب عليه انهيار للاقتصاد الأرجنتيني، وخسارة نصف أصول الدولة بما فيها رواتب التأمينات الاجتماعية للمتقاعدين! لم يكن صعباً عليَّ فهم الحوار، إذ إن سب أمريكا كان يشكّل أكثر من ثلثي الحوار.
في بيت إليخاندرو، انغمست في المجتمع تماماً. أصبحت أراه من الداخل، هذا المجتمع يمر بحالة نفسية صعبة، فهم يتصرفون ويتحدثون كالأغنياء، لكنهم بلد فقير! وأغلب الشباب الذين قابلتهم بمن فيهم إليخاندرو كانوا عاطلين عن العمل (بالرغم من شهاداتهم الجامعية)، لذا كان صوت التذمّر العالي هو السبب في إيصال حكومة يسارية ثورية في هذا البلد المتنوّر المتفتّح.
وفي خضم الأحاديث عن الاقتصاد والبطالة، يقاطع إليخاندرو الجميع ويدعوهم إلى جلسة شواء أضلاع لحم على شرف البدوي العابر للمحيطات...عبدالكريم الشطي! كيف يمكن لشخص عاطل عن العمل دعوة 7 أشخاص إلى أضلاع بقر مشوية؟!
الاستعمار الإسباني للأرجنتين كان مختلفاً جداً عن بقية الاستعمار في أمريكا اللاتينية. لأن ذيل أمريكا الجنوبية السفلي (يضم الأرجنتين وتشيلي) - ويسمّيه الأمريكان «بسكوتة الآيس كريم»، نظراً لشكله المخروطي - لم تقم فيه حضارات قديمة وعريقة وغنية مثلما حدث في المكسيك وكولومبيا وبيرو. والإسبان لم يكونوا يبحثون عن أراضٍ فارغة، بل كانوا يبحثون عن مدن فيها الذهب والعبيد والثروة، لذا لم تشكّل لهم هذه المناطق أي أهمية. وحينما وصلت الدفعة الأولى من المستعمرين الإسبان، أقامت مستعمرة صغيرة في مكان بوينس آيرس اليوم، لكن السكان الأصليين طردوهم شمالاً إلى باراجواي، حيث استقبلتهم قبائل أخرى تكره قبائل الأرجنتين. وحين ترك الإسبان الأرجنتين تركوا وراءهم الأبقار والخيول العربية التي أحضروها من الأندلس (الأمريكتان لم تعرفا الخيول والأبقار قبل الاستعمار الإسباني). وظلت هذه الخيول والأبقار ترعى في المراعي الخضراء (الأرجنتين تضم أكبر مرعى حر في العالم) لمائتي سنة، مكوّنة بذلك ثروة حيوانية مهولة للأجيال القادمة.
***
في الطائرة إلى الأرجنتين، وجدتني محشوراً بين وفد أرجنتيني عائد من موسكو لحضور مؤتمر عن الطاقة النووية. أخذت أستمع لموسيقى لهجتهم: إسبانية لكن على مقام إيطالي، يتحدثون بسرعة، من دون انقطاع، كانوا اجتماعيين جداً. سرعان ما دخلت في الحديث معهم، فتح أحدهم زجاجة مياه غازية، وأخذ يمررها على الجميع، الكل كان يشرب بعد الآخر من الزجاجة من دون أن يشعر بالاشمئزاز، عرفت - في ما بعد - أنهم اكتسبوا هذا الطبع من شربهم «المتة» الأرجنتينية، حيث يشرب أحدهم «المتة» ويمرر الكأس نفسها على الجميع.
الغريب أنهم من جهات مختلفة وتعرّفوا إلى بعضهم في هذه الرحلة. حكمي المبدئي عليهم أنهم ثرثارون، اجتماعيون، مرحون.
كان عليَّ أن أعرف بعد ذلك خطورة الثرثرة الأرجنتينية، إذ إنهم ينافسون شلالات أيجوازو (شلالات أرجنتينية تعد أكبر شلالات في العالم). عليك أن تتحاشى الأرجنتينيين إذا لم تكن في كامل قدراتك الإنصاتية والاستماعية، وإلا ستنهار فوراً. هم يحبون اللقاءات الاجتماعية والثرثرة لساعات متواصلة، ولياقتهم في هذا المجال لا يبرزها شعب آخر. وهم أكثر شعوب العالم زيارة للأطباء النفسيين. وتبدو زيارة الطبيب النفسي لديهم مسألة اعتيادية جداً، لدرجة أني كنت أرتب موعداً مع صديقة أرجنتينية، فكانت تقول لي - بكل أريحية - إنها ستنهي موعدها النفسي وتلتقيني في مقهى تحت العيادة! - وحينما سألتها - في ما بعد:
- لماذا تذهبين للطبيب النفسي وأنت إنسانة طبيعية؟
قالت - بكل أريحية أخرى -:
- للثرثرة، أنا أزوره مرتين في الأسبوع، أثرثر عن كل تفاصيلي الصغيرة! لقد قلت له إني سأقابل شاباً من الكويت للمرة الأولى في حياتي.
- وبعد تلك الثرثرة ما الذي يحدث؟
- بعدها أخرج متفائلة للحياة، هل سبق أن زرت طبيباً نفسياً؟
- والدي طبيب نفسي. لكن لم يسبق لي أن دخلت عيادة، فأنا أتشافى بالسفر، الصلاة، القراءة، الأصدقاء. ألا يكلفك الطبيب كثيراً في ظل الأوضاع الاقتصادية؟
- لقد اضطررت مرتين أن أدفع له بعد نزول الراتب، لكني لا أرتاح إلا بزيارته!
لاحظت أن الأرجنتينيين لديهم كل شيء: العلم، الفن، الثقافة، الكرة، الأكل، الوسامة... واللحم. لكنهم لا يسافرون. وقد لاحظت غيرتهم حينما كنت أتحدث عن أسفاري ورحلاتي، ومن وقتها بدأت مراعاة مشاعرهم والصمت عن الحديث عن السفر.
***
القرن الماضي كان عصيباً على العالم القديم: حروب عرقية، ثورات حمراء، اختراعات ذات أنياب حربية، تصادم كنائس، أنظمة ربوية مطوّرة. كل هذا دفع سكان العالم القديم إلى هجرات عابرة للقارات، كان على رأسها: أستراليا، أمريكا الشمالية، الأرجنتين. هذه الوجهات تمتاز بأراض خصبة ممددة، شعوب بلا جذور في الأرض وبالتالي بلا تعصُّب، فرص اقتصادية، وسلام يرفرف على الأرض. كانت الأرجنتين الخيار الأفضل لمهاجري البحر المتوسط: الطليان والإسبان والرومانيين واليوغسلافيين، وكانوا يفضلونها على كندا وأستراليا. وهي نوعية مثقفة من المهاجرين خانتهم حكوماتهم أو ظروفهم. وسرعان ما انتعشت الأرجنتين على يد القادمين الجدد. ولأن أكثر من نصف المهاجرين كانوا إيطاليين، فقد تفشّت الفنون في الأرجنتين بشكل سريع: الأقمشة، العمران، الموسيقى، الصناعة. وفي العشرينيات أصبحت الأرجنتين من أغنى دول العالم، وانتعش ميناء بوينس آيرس بتصدير الفن الأرجنتيني إلى العالم كله. في تلك الفترة أصبحت الحكومة تهتم بجلب النحّاتين والرسّامين والكتّاب والشعراء وكل ما له اتصال بالفن، لتبني دولة كاملة على مفهوم الفن، ويصبح الفن أولوية تسبق الصناعة والسبك والإنتاج.
كل مراجع السفر ومدوّنات الرحّالة التي قرأتها، تُجمِع على أن أفضل مكان يجب أن يُزار في الأرجنتين، هو «المقبرة»! تحديداً مقبرة ريكوليتا. أتيتها لأجد نفسي في متحف باذخ وليس مقبرة، لم أعد أستغرب حصولها على لقب أفخم مقبرة في العالم. المكان عبارة عن قبور عائلية صغيرة، تُمنح كل عائلة مساحة صغيرة لا تتعدى 4x4 تبني فيها ضريحاً مزركشاً بالتماثيل والوجوه الرومانية، وتضع أبناءها في توابيت.
في المقبرة يمكن أن تقف مع كل قبر/تحفة وتأخذ لنفسك صورة تذكارية، ستجد نفسك تغني - غصباً عنك - وأنت تتسكّع داخلها، يمكنك أن تأخذ مجهراً صغيراً وتطارد الفراشات التي تغازل ورد القبور، الموت هنا أغنية على مقام التانجو.
ولا تنس أن تقف على قبر إيفيتا، ذلك الرمز الأرجنتيني الضخم، الذي ظل يرفرف في ضمير الأرجنتيني ويجعله توّاقاً للعدل والاشتراكية والحرية، ما اضطر الحكومات العسكرية إلى مطاردتها بعد موتها، وإخفاء قبرها أكثر من سبع مرات، وقد أرسلوا جثمانها لإيطاليا وإسبانيا، لكنه كان يعود رغماً عنهم!
هنا تعلمت شيئاً مهما عن سيكولوجية الأرجنتيني: الفن يأتي أولاً، حتى في الموت لابد من الفن. وهذه القاعدة تلمسها في كل بوينس آيرس، التماثيل تملأ الشوارع والميادين، الأبنية لها أديم مختلط غريب: الدوران الأول والثاني على الطراز الروماني تأثراً بالإيطاليين، أما الدور الثالث وما فوق (الذي بني في فترة لاحقة) فهو على الطراز الفرنسي، لتأثر الأرجنتينيين بالفنون الباريسية المختلفة.
لا تستغرب هذا الفن في الأرجنتين، فقد طلبت من صديق أن يأخذني إلى مكتبة لأشتري بعض الكتب، فوجدت نفسي في دار أوبرا كبيرة مملوءة بالكتب، وحينما سألت عن السبب، قالوا لي إن صاحب دار الأوبرا قرر أن يحولها إلى مكتبة، وهي بلا شك أجمل مكتبة في العالم. (نصيحة بعد شراء الكتب توجه إلى مسرح الأوبرا، حيث تحول إلى مقهى كبير، واستمتع بالموسيقى الحية والقهوة والكتاب)، اسم المكتبة: El ATENEO.
***
بلغ الفن ذروته في الأرجنتين في العشرينيات، وأصبحت من أكثر دول العالم ترفاً ودلالاً. المسارح في بوينس آيرس، كانت أكثر من المسارح في باريس! مصانع الجلود تسلخ البقر، وتلقي اللحم في القمامة، وتكتفي بالجلد لتغطية طلبات الحقائب والأحذية للأوربيين. موسيقى التانجو بدأت في الحانات كوسيلة لتسويق الفتيات، لكن عليّة القوم طردوا هذه الموسيقى من الأرجنتين، وحينما سافر «عليّة القوم» إلى باريس، وجدوا أن هذه الموسيقى انتشرت في باريس، فسامحت الطبقة الزرقاء هذه الموسيقى وأعادتها إلى الأرجنتين لتصبح حنجرة البلاد.
لكن «يا فرحة ما تمت»، فقد استولى الجيش على الحكم، وطرد اليساريين من الحكومة، وغرقت البلاد في ثورات وتمزقات داخلية بين الجيش والكنيسة واليسار واليمين، أدت إلى ما يسمّونه بـ«الحرب القذرة» La Guerra Sucia، التي فُقد فيها أكثر من أربعين ألف أرجنتيني لا يعرف مصيرهم إلى اليوم، وأدت إلى تقهقر الأرجنتين وانهيار اقتصادها.
***
كنت خططت لرحلة تتزامن مع حدث عالمي مهم في العالم، لكنه في الأرجنتين يعتبر حدثاً مقدساً: كأس العالم لكرة القدم. كانت المباريات تقام في البرازيل، لكن الحماس والكهرباء يأتيان من الأرجنتين. أنا لا أحب كرة القدم ولا أتابعها، وآخر مباراة حضرتها كانت في عام 1988 ونمت في الملعب، لكنني في الأرجنتين لا أفوّت مباراة واحدة، خصوصاً إذا كانت للمنتخب أو لفريق البوكا (فريق مارادونا)، لأن المباراة هناك عبارة عن حفلة كبيرة، الكل يعرف الكل وإن لم يلتقوا مسبقاً! هم فوضويون، لكنهم يغنون ويصفقون في أوركسترا منظمة في الملعب. هم ثرثارون، لكنهم يصمتون في خشوع وقت ركلة الجزاء. هم مسالمون، لكنهم همجيون في حالة الخسارة. جبت الأرجنتين كلها وحيداً من دون خوف، لكن حينما أذهب إلى مباراة في لابوكا، فإني أذهب برفقة أرجنتينيين خوفاً مما قد يحصل لي في حالة الخسارة!
من أجل كأس العالم، قامت البلديات بوضع شاشات عملاقة في الحدائق العامة، مطوقة بمدرجات تكفي آلاف البشر. ولأن نقل المباراة يتم في حديقة تشتهر بجمالها وأسواقها، فقد حرصت على الذهاب مبكراً قبل المباراة بساعة، لأفاجأ بأن الحديقة مطوّقة بسيارات إسعاف وشرطة، من أجل تنظيم الحضور الكثيف الموجود لمشاهدة نقل المباراة! أقنعت شرطياً بإدخالي لأني سائح أتى من بلاد بعيدة، فأدخلني بعد نصف ساعة من الانتظار. كانت المباراة بين إيران والأرجنتين، المدرج يعج بالناس في منظر مهيب يشعرك بأنك في ملعب حقيقي وليس في حديقة. جلست بجانبي فتاتان مراهقتان، تحللان خطة المدرب في المباراة السابقة بشكل دقيق، يجعلني أشعر بالحرج من قلة معلوماتي الرياضية. وأزعم بأن اهتمام الأرجنتينيات بكرة القدم يشكّل ظاهرة تستحق الدراسة! (تحذير وتنويه: إياك ثم إياك ثم إياك أن تتفاصح أمام فتاة أرجنتينية بمعلوماتك الكروية مهما بلغت معرفتك ومستواك).
بدأت المباراة، ونزلت الصواعق على الجمهور، هتافات منظمة، صخب جانبي، وجوه مصبوغة بأعلام الأرجنتين، قبعات مزهوّة بالأزرق الفاتح، عاشقة مراهقة في حضن حبيبها، فتاة مكسورة الرجل، عجوز سبعينية... وبدوي واحد تائه في الملعب. في خضم هذه الأجواء، ناولتني جارتي كأساً ساخنة يرتفع منها عود معدني، حان وقت «المتة»، الكثير من الحاضرين مع قناني «المتة»، يملأون الكؤوس ويديرونها على من حولهم من دون أن يعرفوهم. شربت بكل ثقة «المتة» الأرجنتينية الأولى، ولكن الثقة العمياء، جعلتني أرتشف جرعة كبيرة ساخنة حرقت لساني، نظرت إليّ الفتاة لتفضحني:
- إكسترانخيرو؟ (أجنبي).
- نعم.
- من إيران؟
قبل أن أتمكن من الإجابة، كانت كل العيون من حولي تحدق فيَّ بغضب! من دون أن يعطوني فرصة للإجابة، أحدهم استدعى الأمن، وقال إن إيرانياً بين الجمهور! أخرجت بطاقتي وبينت لهم أني لست من إيران. ضحكت الفتاة وأعطتني علم الأرجنتين لأرفعه كتأكيد لولائي. ولحظتها قررت ألا أتفاعل مع أي هجمة للمنتخب الإيراني مهما حصل!
***
هناك ثلاثة وجوه تعبّر عن الثقافة الأرجنتينية، تراها في كل زاوية، وتسمع عنها في كل حوار، وتحسّها مغروسة في كل عقل أرجنتيني باطن: مارادونا بشعره الغجري، إيفيتا بشعرها الأشقر، كارلوس كارديل بقبعته السوداء (أشهر مغني تانجو). والغريب أن المجتمع منقسم حولهم بطريقة حادة! إما تتيماً أو كرهاً!
خذوا مثلاً: في عشاء فاخر مع أزواج أرجنتينيين، يقول لي أحد الأزواج:
- سوف أسألك سؤالاً جاداً، إذ أحسست بالحرج فأرجو ألا تجيبني وتحتفظ بالإجابة لنفسك، سوف أقدّر موقفك.
واستمر في مقدمة طويلة يمهّد للسؤال، جعلتني أدرك وقتها أنه سيسألني عن أسراري الخاصة، وكعربي كنت واثقاً بأني لن أجيبه، فأنا أحب الاحتفاظ بخصوصيتي، وافقت على شرطه، فسألني وهو يأخذ نفساً عميقاً:
- ما رأيك في دييجو مارادونا؟
نعم يا سادة يا كرام، كان هذا هو السؤال! حاولت أن أكون دبلوماسياً في الرد وأبدي إعجاباً عاماً بالرجل. لكن صديقي أبدى امتعاضه، وبعد فترة قصيرة من النقاش، علمت بأنه يكره مارادونا. وبعد دراسة للمجتمع الأرجنتيني، أدركت أن أغلب الذين يكرهون مارادونا هم الطبقة التي كانت غنية ومتعلمة قبل وصول الحكم اليساري للبلد. إذ إن مارادونا في نظرهم، فوضوي وجاهل وعنيف وكاذب ولعوب، ويتحدر من حي فقير وطبقة غير راقية، لذا يرفضون أن يكون الوجه الذي يمثلهم، ويزعجه أن يعمل مارادونا في دبي، لأنه سيعطي انطباعاً خاطئاً عن الأرجنتين لدى العرب.
كل الشخصيات الأخرى مختلف عليها، بشكل حاد في المجتمع، وبإمكانك أن تعرف ميول الأرجنتيني اليسارية أو اليمينية من خلال رأيه في هذه الشخصيات! (نصيحة: كن حذراً وأنت تتحدث مع أي أرجنتيني عن هذه الشخصيات، فقد تخسره بسبب رأيك غير المهم).
***
طلبت من إليخاندرو أن يختار لي مطعماً لا أنساه، فأخبرني عما يسمى بـ«المطاعم السرية»، وهي غالية الثمن نوعاً ما، وتحتاج إلى أن أتأنق وأرتدي ثياباً لائقة. وفعلاً حجز لي مطعماً سرياً وأعطاني العنوان والموعد.

ما هي المطاعم السرية؟
بعد الزلزال الاقتصادي الذي ضرب الأرجنتين في بداية عام 2000م، أقفلت الكثير من المطاعم الراقية (خصوصاً التي تستورد موادها من الخارج)، كما خفضت المطاعم رواتب الكثير من كبار الطهاة، لذا بدأ هؤلاء الطهاة بإعداد وجبات عشاء سرية في منازلهم لمن يرغب. وجدتني أمام منزل في حي أرجنتيني متوسط، قرعت الجرس، فتحت زوجة الطاهي الباب، واستقبلتني بود، بيته أنيق ومتناسق. جاءني الطاهي، احتسينا الإسبرسو في الصالون، ثم دعاني إلى العشاء. الأطباق خليط من النكهات الأرجنتينية والصينية، لذيذة جداً. الطاهي يعمل في فندق مرموق وقدم برنامجاً تلفزيونياً من قبل وله تاريخ عريق مع المطابخ الراقية. اشترطا عليَّ ألا ألتقط صوراً، فهو طاه عالمي ولا يريد لأحد أن يعرف أنه يستقبل زبائن في بيته. قطعاً سيكون عشاؤك دافئاً حينما تشعر بأنك في بيت أسرة صديق، الأطباق كانت مختلفة عن كل ما تناولته من قبل، والرجل وزوجته كانا على مستوى من الثقافة، ما جعل الحوارات عميقة ومنسابة ورقراقة.
الآن بدأت أفهم كيف يمكن للفقير أن يأكل لحماً؟
***
يمكنك أن تفهم الكثير من سيكولوجية وتاريخ البلد من أكل الشوارع. فهو انعكاس صادق لكرم الأرض، وجينات الناس، وصلصات الأمهات، وفتافيت الأساطير. لذا أعتبره فصلاً اجتماعياً خاصاً في كل بلد، أتتبعه وأدرسه مجهرياً. معدل الرواتب هنا لا يتجاوز الـ130 دولاراً، ونسب البطالة تجاوزت الـ30 في المائة، وأكل الشوارع عبارة عن لحم، ولحم، والمزيد من اللحم! عربات تملأ الشوارع: تبيع النقانق السمينة، اللحم المقدد، البرجر، الكلاوي، المخ، الكبد... وكل أجزاء البقرة. ما أعرفه عن الدولة الفقيرة أن اللحم عزيز، ويؤكل في المناسبات. دخلت إلى أحد المطاعم الراقية «من دون خوان»، والمشهور بالآسادو (اللحم المشوي)، فقدم لي صحناً متخماً بكتف بقرة وقطع ضخمة من القرع والبطاطا المشوية، لم يسبق لي أن تدللت «لحمياً» بهذا الشكل، وكانت الفاتورة عشرين دولاراً فقط!
أحد أهم أسباب وفرة اللحم لديهم، هو البقر الذي تركه الإسبان وراءهم حينما هجروا الأرجنتين، حيث وجدت الأبقار نفسها في أكبر مرعى حر في العالم، فظلت تتكاثر من دون أن يلمسها أحد. واليوم يوجد في الأرجنتين أربعون مليون نسمة مقابل تسعون مليون بقرة! وهي ثاني أكبر مستودع للبقر في العالم بعد البرازيل.
هل بدأت تتضح لكم الصورة؟
***
قالت لي العجوز:
«حينما كنت صبية صغيرة في التاسعة، أرسلني والدي إلى موسكو لأتعلم الباليه!».
قال لي زوجها:
«حينما كنت في السادسة، أرسلتني عائلتي مع أختي إلى باريس لنتعلم البيانو والقيثارة».
حينما تتعرف أكثر على الأرجنتينيين، تجد أنهم أغنياء وأثرياء من كل النواحي، ما عدا رواتبهم! فقد عاشوا كطبقة متوسطة وأغنياء قرابة قرن كامل، وبسبب أصولهم الأوربية، فقد كانوا يقضون صيفهم في أوربا كل عام، وكانوا يتفاخرون على جيرانهم في أمريكا اللاتينية بأنهم أوربيون جينياً وحضارياً، ولكن الحكومات العسكرية المتعاقبة أضعفت الاقتصاد بشكل كبير. تلتها حكومات رأسمالية أمريكية الهوى، فتحت أبوابها للاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة، فكانت سبباً في انهيار تام للاقتصاد. والتف الناس حول الحكومات اليسارية والاشتراكية وأعادوها للسلطة بقوة، فمنعت هذه الحكومات اليسارية زيادة الأسعار في البلد، بينما كانت العملة تنهار مقارنة بالدولار، وانحطت قيمة البيزو الأرجنتيني إلى أقل من 15 ضعفاً، بينما الأسعار في البلد شبه ثابتة، فأصبح الأرجنتيني قادراً على الشراء في الأرجنتين بسبب ثبات الأسعار، وعاجزاً عن شراء أي شيء خارج الأرجنتين، لذلك فإن الأرجنتيني غني وفقير. غني في بلده وفقير خارج بلده.
وإذا كانت المدن كالنساء، فإن الأرجنتين هي بنت الثري الذي أصابه الفقر، وهي أحسن من يخطب، لأنها تتصرّف برقيّ الأغنياء وتعيش بتواضع الفقراء.
هل عرفتم كيف يأكل الفقير لحماً؟ ■

 

شوارع بيونس آيرس لها طابع خاص يجمع بين القدم والفن الشعبي الذي يزيّن الجدران والمحال

 

خلال فترات كأس العالم تنقلب الأرجنتين رأساً على عقب، توضع الشاشات في كل مكان، وتبرز صور أيقونة كرة القدم العالمي مارادونا وغيره من نجوم الكرة في الأرجنتين