د. مبارك ربيع: أدرجت كتبي في مناهج التعليم لاستيفائها شروط المتعة

 د. مبارك ربيع: أدرجت كتبي في مناهج التعليم لاستيفائها شروط المتعة

يعتبر د.مبارك ربيع رمزاً من رموز الثقافة العربية الحديثة، فهو أديب وأكاديمي بارز، وأحد رواد الكتابة الأدبية الحديثة في المغرب. يكتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة والبحث العلمي والنقد الأدبي، وله في هذه المجالات عديد من النصوص السردية، والكتب والدراسات والمساهمات والمشاركات في الندوات والمؤتمرات، الوطنية والعربية والدولية.
كما يعتبر من بين المؤسسين لاتحاد كتّاب المغرب سنة 1960، وقد تحمَّل المسؤولية فيه دورات عدة. وفضلاً عن البحث والتدريس بمستوياته المختلفة، زاول الأستاذ ربيع مهام ثقافية وجامعية عدة، من بينها: عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وأمين عام المجلس الوطني للثقافة (وزارة الثقافـة/ المغرب)، وأمين عام مساعد للمجلس القومي للثقافة العربية، وهو أيضاً مؤسس ورئيس الجمعية المغربية للدراسات النفسية بالمغرب، وعضو الاتحاد الدولي لعلم النفس.

من بين أهم أعماله الروائية المنشورة: الطيبون،  رفقة السلاح والقمر، الريح الشتوية، بدر زمانه، برج السعـود، من جبالنا، درب السلطان (ثلاثة أجزاء)، أيام جبلية، طوق اليمام، أهل البياض، حب فبراير، خيط الروح.
 ومن مجاميعه القصصية:  سيدنا قدر، دم ودخان، رحلة الحب والحصاد، البلوري المكسور، من غرب... لشرق، صار... غدا، فضلاً عن مجموعة من الأعمال السردية الموجهة للأطفال والفتيان، وعديد من الدراسات والأبحاث العلمية حول الطفل وعلم التربية.
كما حاز إنتاجه الأدبي عديداً من الجوائز، من بينها:  جائزة محمد زفزاف للرواية العربية، منتدى أصيلة - 2008، وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي في فن الرواية / وزارة التراث والثفافة بعمان - 2006، والجائزة الأولى للمجمع اللغوي بالقاهرة، عن رواية «رفقة السلاح والقمر» - 1975، وجائزة المغرب العربي للرواية والقصة القصيرة في تونس، عن رواية «الطيبون» - 1974، وجائزة المغرب الكبرى للكتاب، عن رواية «برج السعود»، وزارة الثقافة، الرباط - 1990، وجائزة المغرب للكتاب، عن مجموعة «سيدنا قدر»، وزارة الثقافة، الرباط - 1969، وجائزة القصة، اتحاد كتاب المغرب، عن قصة «شلل»، الرباط  - 1965.
نشر الأديب مبارك ربيع نصوصه السردية داخل المغرب وخارجه، ومازال، منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، يواصل، بشكل دينامي ومتطور، إثراء المشهد السردي الأدبي العربي وتطويره والإضافة إليه، بنصوص سردية، تتنوع مضامينها وأسئلتها، وتتوسع مجالات تأويلها أيضا، ما جعلها تحظى باهتمام نقدي وتحليلي واسع ومكثف، من قبل نقاد مغاربة وعرب، اهتموا، بأشكال متفاوتة ومختلفة، برصد هذه التجربة، في بعدها التداولي العام، السردي والحكائي والدلالي، بمثل ما شكلت نصوصه السردية متناً أساسياً في الأطاريح والأبحاث الجامعية، وفي غيرها من فضاءات التلقي والمتابعة.
وإذا كان مبارك ربيع قد طلّق كتابة الشعر منذ مدة، فإنه لم يتوان في المساهمة في تشكيل خطاب سردي ونظري ونقدي حول الرواية والقصة القصيرة في المغرب وفي العالم العربي، منذ كتاباته الإبداعية والتحليلية الأولى، الرائدة في هذا الباب.
مر المشروع السردي لمبارك ربيع بعديد من المحطات والتلوينات الكتابية الأساسية، بما في ذلك خاصية التوسع التي تطبع هذه التجربة على مستوى التلقي والمقروئية. غير أن المتأمل في تجربة مبارك ربيع السردية، يدرك أن كاتبنا لم يبق وفياً لأسلوب خاص في الكتابة، وتمثّل الواقع، وتشكيل المتخيل، وبناء السرد. فنصوصه السردية ما فتئت تنوع فضاءاتها أمام عديد من الثيمات، والصور، والأسئلة، واللحظات، والظواهر، وغيرها، في تحولاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والذهنية والتربوية...
من هنا، فإن الكتابة الروائية والقصصية عند مبارك ربيع هي بحث ومعرفة بالدرجة الأولى، عدا ما يميزها على مستوى استفادتها من خبرة صاحبها في مجال التحليل النفسي وعلم التربية، وغيرها من المعارف والنظريات الأخرى ذات الحضور اللافت في نصوصه الروائية، كما هو الشأن في تجربته السردية الموازية للفتيان والأطفال، وهي تجربة لها هي أيضاً موقعها وتأثيرها المميز وفي ما يلي نص الحوار.
- تعتبرون من رواد كتابة الرواية والقصة القصيرة في المغرب، حيث مازلتم تواصلون الكتابة داخل هذين الجنسين الأدبيين، ولكم في هذا الباب مجموعة من الإصدارات الروائية والقصصية... ففي نظركم، وانطلاقاً من تجربتكم الأدبية، ما الجنس الأدبي الذي وجدتم أنه يستجيب أكثر للتعبير عن واقع مجتمعنا العربي وتحولاته، في ماضيه وراهنه ومستقبله؟
- يمكن القول مبدئياً إن الرواية أكثر قابلية لوظيفة التعبير عن الواقع البشري بصفة عامة، وعن مجتمعنا العربي في تحولاته بمختلف السرعات وفق الظروف والفترات، لكن ما يقال مبدئياً ليس بالضرورة ما يصح عملياً؛ وهذا يبدو لي من حيث الوظيفة المجتمعية، إذا صح التعبير، بالنسبة لكل من الرواية والقصة والقصيرة، فالاختلاف في هذه الوظيفة يمكن التماسه في الدرجة، لا في الشدة، علماً بأن الإمكان التعبيري لكل من هذين الجنسين، يبقى تابعاً للقدرات والإمكانات الفنية للكاتب. 
تبعاً لذلك، يبدو الفرق بين الجنسين الأدبيين من حيث القدرة التعبيرية عن الواقع، متمثلاً في المستوى الأفقي للقابلية التحليلية للرواية، مقابل السهمية العمودية للقصة؛ وكل منهما، في اتجاه التعبير عن الواقع أو صياغته على الأصح، وهو ما يؤول إلى فارق من حيث القابلية للاستيعاب الفكري والحدثي في كل من الرواية والقصة؛ وكله في ضوء دينامية ونسبية تصورية، لمدى وحدود كل من الجنسين الأدبيين.   
  وبهذا الخصوص، فإن ما يعرضه السرد الأدبي في كل من الرواية والقصة، لا يمكن أن يعتبر واقعاً بالمعنى الإدراكي الحرفي، بل هو تركيب، قد يكون أقل أو أكثر واقعية أو جمالية من المدرك المباشر، لكنه في الحالات الفنية المكتملة، لا يمكن أن يكون أقل استشعاراً للواقعية، إن لم يكن أكثر من ذلك.
من هنا، إن كان القصد في تجربتي، تبرير الميل إلى أحد هذين الجنسين الأدبيين، فيمكن القول إن الموضوعاتية من جهة، ونوعية الشحن الذاتي من جهة ثانية، هما ما يجعل التوجه في لحظة إبداعية معينة، يتخذ سبيل قصة أو رواية، وذلك حتى لا أقول إن الموضوع وحده، هو ما يوحي أو يستلزم كتابة بهذا النوع، أو أن الأمر برمته يعود إلى عفوية اعتباطية، أو تمثلية صرف ذاتية.
- سؤال له علاقة بسابقه... يلاحظ أنه منذ العقد التسعيني من القرن الماضي، بدأ اهتمامكم ينصبٌُّ حول كتابة الرواية بشكل خاص، وإن لم تغادروا بشكل نهائي كتابة القصة القصيرة، من حين لآخر... فهل يتعلق الأمر بانخراط ما في زمن الرواية، شأن عديد من القاصين والشعراء والمفكرين العرب، في انعطافهم الكلي أو الجزئي نحو كتابة الرواية تحديداً؟
- أدبياً وإبداعياً ولدت ولاأزال قاصاً وروائياً في الآن نفسه، لم آت لمجال السرد الأدبي من صحافة ولا من ممارسة نقدية أو من ثقافية عامة، ولا بداعي استجابة إلى ما يسمى عصر الرواية، وهي تسمية فيها ما فيها من غير الحقيقة، وأقله تضمين مؤداه وكأن الفنون يحجب بعضها بعضاً، بينما التطور نفسه في هذه الميادين تراكمي، أكثر منه تجاوزي، كما لم آت إلى الرواية من أي تخصص إنساني أكاديمي؛ ومع أنني سيكولوجي اجتماعي تربوي، فقد مارست الكتابة السردية، وكذا النشر قبل التخصص الجامعي في هذا المجال؛ هذا مجرد توصيف للأمر الواقع لا أعتبره مزية ولا رزية، ولاأزال على النهج نفسه؛ أما ظهور القصة قبل الرواية في مساري الأدبي، ومنذ الستينيات من القرن الماضي، فذلك راجع إلى ما يفرضه ويتسع له واقعنا الثقافي من الناحية العملية، ولاسيما ظروف النشر آنذاك، ذلك أن نشر القصة في ملحق أدبي بجريدة يومية أو مجلة شهرية، أسهل إجرائية وأيسر بكثير من ظهور رواية، وهي علاوة على ما تستلزمه من وقت أطول في التأليف، تتطلب مجهود نشر من قبل مؤسسة مختصة، لاسيما في ظروف الطبع والنشر التي كانت عليها الحال في القرن الماضي، خلاف ما عليها الحال اليوم، وحتى أكون أكثر دقة، فقد بدأت كتابة الرواية قبل القصة القصيرة، وإن كان النشر في كتاب جاء عكس ذلك.
 وإذا كانت أول رواية منشورة لي وهي «الطيبون 1971» قد صدرت بعد عامين من صدور أول مجموعة قصصية وهي «سيدنا قدر»، فذلك لا يعني أن قصص المجموعة كلها كتبت قبل الرواية، بل بعضها فقط، مما كان قد نشر مسبقاً في الملحقات الأدبية المغربية، مثل «العلم»، «التحرير»، «المحرر»، وكذا المجلات المشرقية، مثل «الآداب» على وجه الخصوص... بل لا يعني صدور رواية «الطيبون» قبل غيرها من رواياتي، أنها أيضاً أول ما كتبت، وإنما يتعلق الأمر بأن «الطيبون» فازت وهي مخطوطة بجائزة المغرب العربي للرواية والقصة القصيرة بتونس آنذاك، ما فسح لها من فرص الانتشار، ويسر بالتالي نشرها قبل غيرها. وبالإجمال وعلى سبيل التوصيف فحسب، من دون قدح أو امتداح، ليس في مساري تحول أو ارتحال من جنس أدبي إلى آخر، أو أي مراعاة لمجرى نفعي أو اشتهاري، وما أزال حتى الآن على اعتباري واهتمامي الخاص لكل من الرواية والقصة، وأمارس البحث والتجديد فيهما معاً بالحمية والرؤية نفسيهما، كما أن لدي الآن مجموعة قصصية جديدة جاهزة للنشر.
 وأخيراً، يبدو أن ما يعتبر تحولاً ثقافياً عاماً شبه جذري إلى جنس الرواية، مرده إلى عوامل متعددة، من بينها النظرة الكمية الضيقة للمنتوج الإبداعي، بخاصة من قبل المثقفين عامة، والنقاد قبل غيرهم على وجه الخصوص، مما يمنح الرواية وضع التميز والامتياز في المشهد الثقافي؛ إذ لا ننسى أن المجموعة القصصية في كتاب، تشتمل على ما بين عشر وعشرين قصة، وهو ما يقارن في المعتاد، بمعادلة كتاب (قصصي) = كتاب (روائي)، وهي مقارنة مخلة ولا تجوز، كما أن دعوة عصر الرواية بذاتها، من شأنها أن تولد لدى البعض من غير المؤصلين كتاباً ونقاداً، انصرافاً أو إيلاء اهتمام أقل لما هو غير روائي؛ وعلى كل حال، فلا جنس أدبياً أو فنياً يغني عن غيره أو يقوم مقامه.
- كتبتم بشكل لافت ومهيمن، في رواياتكم، عن الريف بمثل ما كتبتم، أيضاً، عن المدينة، حيث أصدرتم، في هذا المجال، بعض النصوص الروائية، التي ترصد تحولات الريف والمدينة على حد سواء... فما سر هذا الاهتمام المزدوج لديكم باستيحاء فضاء الريف والمدينة في رواياتكم؟ هل للأمر علاقة ما بسؤال النوستالجيا والمعرفة والانتماء إلى كلا الفضاءين فقط، أم أن تفكيركم الإبداعي يستوعب الفضاءين معاً، في امتداد أحدهما في الآخر؟
- يمكن القول من منظور أول: إنني كتبت وأكتب كل ما يثيرني، والحياة البشرية، بل الكونية بصفة عامة، كلها إثارة وعوامل استفزاز إبداعي لمن يرى وبعين مبدع؛ ومن جهة أخرى، فالرواية على وجه الخصوص، وكما عبرت عن ذلك منذ حوالي نصف قرن، وكما تمثله كتاباتي، هي الفن الأدبي الشامل، وهذه الشمولية تعني أن سعتها سعة الكون في مستوياته وغناه وتنوعه، كما في مستوياتها وغناها وتنوعها، فهي تحتمل المباشر والضمني والنثري والشعري والحواري والملحمي والوصفي التحليلي والتقرير العلمي والوثائقي... وغيرها من الخطابات والمستويات، علاوة على الوهمي والتوهيمي والشبيه والمفارق والمركب والبسيط... وغيرها من العوالم في العمل الواحد، مما لا يتسع لشموليته غير السمة الروائية كما أراها وأكتبها.
من هنا، فالريف والحضر، وتفاعلات التحول المجتمعي وأحواله، هي من مظهر الحياة البشرية والكونية عموماً ومخبرها، بمختلف تجلياتها النوعية، في دقائقها وتعرجاتها وتلاوينها وتولداتها... هي ما يخلق رؤيتنا الانبهارية الإبداعية، وبالتالي استجابتنا على هذا النحو التعبيري أو ذاك؛ ومما لا شك فيه أن للخبرة الشخصية والتجارب الذاتية اليومية والمجاورة، طابعها في ما يعبر عنه فنياً، وقد تكون لها الأسبقية على غيرها؛ وهذا يصدق جزئياً على تجربتي، فعلاقتي بالريف والحـضر ماثلة بالواقعي والتأملي، كما أنه ماثل بالقوة نفسها مسار المجتمع المغربي التحولي، بدءاً من الريفي إلى الحضري، ومن التقليدي إلى الحديث والحداثي، فكراً وسلوكاً وعلاقات، على المستويات الفردية والجمعية، كما على مستوى المجتمع والدولة ككل، فمن الطبيعي أن تحوز هذه المظاهر موقع الامتياز في الرؤية الإبداعية والاقتناص، بيد أن الوقوف عند اعتبار العلاقة بين الإبداعي والواقعي حتى في مظاهره التحولية على هذا النحو، يطبع العلاقة بآلية غير منتجة إن لم نقل قاتلة، ذلك أن المجتمع والتحول الذي يعبر عنه المبدع، لا يحمل بالضرورة طابع المطابقة، وإلا انتفت ضرورة وجوده أمام واقع معبر بذاته وتحوله، ولا يحتاج إلى صورة مكررة منه، فالتعبير الإبداعي بطبيعته مجاوز وأكثر من ذلك خلاق... هل ننسى أن الروائي يمكنه أن يعبر عما لا علاقة مباشرة له معه؟ هل عليّ أن أبيض البيضة لكي أتحدث عنها، كما قال الراوي والناقد العربي قديماً؟ وإليكم مثال: قال أحدهم وكتب في السبعينيات من القرن الماضي، عن روايتي «رفقة السلاح والقمر»، ما معناه أنها ضرب من إظهار العضلات... ويقصد أنني كتبت عن حرب لم أعشها مباشرة... أهذا مبلغ ما يعتبر بمنزلة صدق في الكتابة؟ إنه بؤس رؤية وفهم وقراءة...
 ورصد المجتمع في تنوعاته وتحولاته، لا يقتصر على ما بين «مدر وحضر» رغم صحته ووجاهته، إنه أيضاً وبالأساس، تحول الفكر والعلاقات والمشاريع والتطلعات، ما يطبع العمل الإبداعي في خالقيته بميسم الإنسانية، عندما تتوافر له عوامل الاكتمال الفني، وإلا فلا رصد التحول المجتمعي، ولا تجاوزه، يخلق بذاته في ذاته، أدباً حقاً.
- حظي مشروعكم الروائي بتوسع لافت في مجال التلقي والمقروئية، نتيجة انفتاحه على البرامج التعليمية والدرس التربوي، على الأقل من خلال ثلاثة نصوص روائية، تركت أصداء طيبة إثر اعتمادها ضمن المقررات الدراسية (الطيبون، رفقة السلاح والقمر، الريح الشتوية) ومقارنة بنصوص روائية مغربية أخرى، تم اعتمادها في هذا المجال، نجد أن رواياتك قد حققت أشكالاً معينة من النفاذ والاختراق والتأثير وتحقيق الاستجابة من لدن جمهور المتلقين من التلاميذ والأطر التربوية...  ما سر هذا التفاعل الإيجابي بين هذه الشريحة من المتلقين ورواياتك المقررة ضمن دراسة المؤلفات، في البرامج التعليمية المغربية؟
- أولاً يمكن القول إن المناهج الدراسية هي التي انفتحت على كتاباتي وليس العكس، ومن ناحية ثانية، لا يمكن أن يرجع لي كشخص أي فضل في عملية الانتشار والمقروئية على النحو الذي ذكرت، ذلك أنني لا أتحدث عن أعمالي أو أدعو إليها، سواء الإبداعية منها أو العلمية، لسبب بسيط هو أنني لا أحسن التسويق، كما لا أعتبره من واجباتي، بل إنني في هذه النظرة أعتبر تمام واجبي أن أكتب وأكتب فقط، رغم أن هذا قد لا يكون كل المطلوب.
 ومهما يكن أسوق المثال التالي: عندما أُعلمت رسمياً بداية سبعينيات القرن الماضي بأن رواية «الطيبون» قد وردت تقارير على الإدارة المركزية، بشأن إدماجها في المنهاج الدراسي الثانوي، قلت للمسؤول آنذاك - رحمه الله - إنني أهدي هذا العمل إلى الأجيال المغربية من دون مقابل، لذلك يمكنني التخلي عن جميع حقوقي بهذا الصدد، فكان الرد بما معناه؛ أولاً: الكتاب مؤلف أدبي حر وليس كتاباً مدرسياً بالمعنى الحرفي. ثانياً؛ الإدارة المركزية (الوزارة) ليست طرفاً تجارياً، لذلك يُنتظر من المؤلف أن يعمل على نشر كتابه ليكون في متناول المتعلمين مطلع السنة الدراسية، وإلا يُعتمد غيره.
وللعلم، فقد كانت دراسة المؤلفات آنذاك أغلبها عربية مشرقية من جهة، كما أن «الطيبون» كانت قد حاكت مكانتها الأدبية، بتقبل القراء والنقاد داخل المغرب وخارجه، وكان من أول المنوهين بها الناقد التونسي والأديب الكبير د. توفيق بكار.
يمكنني أن أقول: إذا كانت كتاباتي السردية على العموم بما فيها القصص القصيرة، قد حازت جاذبية مقروئية وأُدمجت  كنماذج أدبية في المناهج الدراسية (حتى في مدارس البعثات الأجنبية بالمغرب)، فذلك يرجع بالنسبة إلي، إلى أنني أكتب بذاتية خالصة إلى حد كبير، وأمارس بكامل الوعي توافر المتعة على مستويات الفكر والتعبير والحدث والصورة... وأظنها جملة متضافرات من بين أخرى، تشكل ما يرومه القارئ، أو ما شعرت بأن الأجيال قرأته، ولاتزال تقرأه وتذكرني به، في كتاباتي.
- يُعرف عنكم، أيضاً، اهتمامكم الأكاديمي والبحثي بعلم النفس وعلم التربية، وغيرهما من المعارف والنظريات الموازية، وأيضاً اهتمامكم بالكتابة للفتيان وللأطفال... فما حدود تأثير اهتمامكم وأبحاثكم وإصداراتكم العلمية في تجربتكم الإبداعية، عموماً، وخصوصاً على مستوى ما تكشف عنه نصوصكم السردية، من إمكانات كبيرة لاستثمار لغات الحلم واللاوعي واللاشعور الفردي والجمعي، وغيرها؟
- على العموم، أشعر أنني لا أكتب ولم أكتب أبداً تحت الطلب، أو استجابة لضغط ما، حتى الذاتي منه إن صح التفكير هنا قبل التعبير، بمعنى أنني أكتب تحت شعور الإثارة الموضوعاتية مبدئياً، وهي لا تخلو من ذاتية في الإدراك وخصوصية التفاعل؛ لكن الأمر لا يتعدى هذه الحدود، وأعمل على أن يبقى كذلك غير تابع لما هو غيره أو أكثر؛ من هنا فالتفاعل بين المكونات الثقافية العامة والعلمية الخاصة  للذات، أمر معقول ومحسوم في مبدئه، بغض النظر عما يتخذه من تجليات.
وبهذا الخصوص، من الوارد أن بعض الأفكار والتصورات تأتي مشتركة، بين ما هو علمي وما هو إبداعي... مثلاً أن تتحدث عن صراع نفسي، اجتماعي، سياسي، طبقي في كتاب علمي (سيكولوجي أو غيره)، وأن تصوره عن طريق السرد قصة أو رواية؛ هنا قد يكون الموضوع واحداً، لكن المنهج والأسلوب والرؤية، مختلفة تمام الاختلاف في أدوات الاشتغال وفي طبيعة الأداء  نفسها، أي في الجوهر لا في مجرد شكليات.
ومن جهة أخرى، لا يمكن نفي أو انتفاء التفاعل في الذات المبدعة بين المكونات الثقافية للرؤية في شموليتها؛ ورغم أنني عملياً قد مارست الكتابة السردية قبل التخصص العلمي، فالتفاعل حاصل قبل وبعد... لا ننسى أننا نعيش ونترعرع في ثقافة سيكولوجية اجتماعية عامة وعامية أيضاً، وهي بالذات ما يقنن جزئياً ليصبح علماً اختبارياً، من ثم فالقاسم المشترك السيكولوجي والسوسيولوجي يجد مكانه في الإبداع، وليس بالضرورة ما هو تخصصي، ويبقى الأهم من كل ذلك، وهو الصياغة السردية: كيف تقول روائياً؟
ولمزيد التوضيح أشير إلى أن صرح الـتحليل النفساني الفرويدي العتيد، وقد تفرع عنه وتفرخ منه الكـثيـر، إنما هو «تنظير عملي»، أو تقنين لمنتوج إبداعي مسرحي لأعمـال سوفوكل اليوناني: (أوديب الملك... إلكترا...)، بما يجعل التقنين العلمي ذاته، في بعض مجالاته، مديناً للإبداع الأدبي السردي... وهل نحن في عصرنا اليوم ومنجزاته التكنولوجية العلمية، بمنافاة ومنأى عن استلهام، بل وتحقيق الرؤية الخيالية للكون والمستقبل، المتأتية من قبل أدباء روائيين وغير روائيين؟
وبخصوص الكتابة للأطفال، أقول إني أستعظمها كثيراً، وأتهيبها أكثر، وإنتاجي فيها مهما يكن أعتبره محدوداً، رغم أنه يتجاوز ما نشر مستقلاً مما تبنته منظمات ولجان من قبل «اليونسكو» وغيرها، إلى نصوص ضمن الكتب القرائية لكثير من المستويات التعليمية، فضلاً عما يُقتبس من كتاباتي في هذا المجال؛ لذلك تنتابني مشاعر الصدمة والخيبة عندما أقرأ الكثير مما يكتب على أنه موجه للأطفال.
 صحيح أن بعض هذه المشاعر أعيشها عندما أطلع على نماذج غير عربية ولغير مجتمعاتنا، ولغير أطفالنا أيضاً، لكن الإثارة والخيبة أكثر، في ما يوجه بلغتنا ولأطفالنا اليوم على الخصوص، بعيداً عن كل تهيب أو تهيؤ، بل ولبواعث تجارية خالصة في غالب الأحيان.        
- كتبتم حتى الآن أضخم رواية مغربية عن المدينة (الدار البيضاء)، في ثلاثة أجزاء، تحت عنوان «درب السلطان»، فيما كتب محمد عز الدين التازي ثلاثية روائية عن مدينة «فاس»، بعنوان «زهرة الآس»... وكما هو معلوم، فقد كُتبت عديد من الروايات عن «الدار البيضاء» تحديداً، من قبل روائيين مشهود لهم بباعهم في هذا الباب، من قبيل العروي والمديني وزفزاف، وغيرهم، غير أن اهتمامكم أنتم أيضاً برصد تحولات هذا الفضاء الحضري، تبقى له خصوصياته الكتابية وخلفياته المرجعية المتحكمة فيه... فلمَ لجأتم إلى إعادة إنتاج مدينة الدار البيضاء تحديداً، روائياً وتخييلياً، في أمكنتها وأزمنتها المتناسلة؟ وهل تصلح الدار البيضاء فعلا أن تكون مسرحاً للرواية؟
- هذا السؤال يمكن أن يطرح بصدد كل أعمالي الروائية والقصصية، فأنا أكتب لنداء ذاتي موضوعي، هذا من حيث المبدأ، كما أن الجانب العملي والخبرة المباشرة لهما دورها، باعتباري استوعبت كما استوعبني فضاء الدار البيضاء، لكن هل يمنع ذلك أن أكتب عن فضاءات لم أحيها... وربما لن أحياها؟ مستقبلية مثلا؟ تخيلية صرفة؟ ما المانع؟ 
وعلى كلّ، فلم يكتب أحد، ولن يكتب أحد ما كُتب في ثلاثية «درب السلطان»، لسبب بسيط: كلّ له رؤيته وريشته.
لنعد إلى الدار البيضاء وثلاثية «درب السلطان»، وحتى أكون صادقاً، فلم يكن الدافع من قريب أو بعيد، يتمثل في تسجيل سبق في الكتابة العدّادية من ثلاثية أو خماسية... وإن كان البعض يبدأ ــ عن حسن نية ــ بتسجيل أنها أول ثلاثية مغربية في هذا الباب؛ لا بأس، لكن الدار البيضاء عالم باهراً حقاً، إنها مختبر تحولي كوني مكتمل، بشرياً، صناعياً، ومعمارياً؛ ولم تكن الثلاثية وحدها مجال رصدي لهذه المدينة، فـ«الريح الشتوية» قبلها ضمت مشهدية التحولات الباكرة الأساسية في الدار البيضاء، كما تناولته بنحو أدق ومن منظور خاص رواية «برج السُّعود»، وعرضته كذلك بعض قصصي القصيرة أيضاً، عبر رصد بعض جوانبه في الشخصيات والعلاقات... لكن تحولات الدار البيضاء حتى مشارف نهاية القرن الماضي وإرهاصاته إلى اليوم وما يليه، تبدو حمَّالة أبعاد غير مسبوقة، أهمها تداخل المجالات وخاصة منها السياسي الاجتماعي الذي يطبع كل شيء، حتى ما يبدو مجرد تحول هندسي معماري، لذلك تأتي الثلاثية ومعمار «درب السلطان»، أكثر من مجرد شخوص نموذجية تتحرك في علاقات محدودة أو محددة، بل هي رمزيات وإشارات على مسارات مختلفة، تشي بما له جذور وامتدادات متفاعلة في الحاضر والمستقبل على مستويات عديدة؛ وهنا يمكن الوقوف عند ما لامسه سؤال سابق من حيث الفرق بين المنهجية العلمية والطريقة السردية الروائية تحديداً، حيث إن ما يمكن أن تقوله دراسات ميدانية سيكو سوسيو اقتصادية سياسية، يترجم إلى دينامية مجتمعية روائية والعكس، مع احتفاظ كل بطابعه وتميزه.
- كتبتم في رواياتكم عن الإنسان والحرب والحب والاستعمار والمقاومة والاستقلال والحرية والريف والجبل والأرض والمدينة والبحر والمرأة والأجيال، وصولاً إلى الربيع العربي في آخر رواياتكم «حب فبراير»، وغيرها من الموضوعات واللحظات الأساسية في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، تلك التي ميزت مشروعكم الروائي، في واقعيته وفي تجريبيته، وأضفتم عليه طابع التنوع والمغايرة والخصوصية... فكيف تفكرون في موضوعات رواياتكم؟ وهل فكرتم، بموازاة ذلك، في كتابة سيرتكم الذاتية، خاصة أن رواياتكم تكاد تكون تخييلية صرفة، خلافاً لبعض روائيينا ممن يستندون إلى تجاربهم الذاتية في كتابة رواياتهم؟
- أشير أولاً وبهذه المناسبة، إلى أن «حب فبراير»، والتي كانت حتى الآن آخر ما صدر لي من رواية، لها رديف ــ حتى لا أقول توأماً ــ صدر في الآونة الأخيرة، ولعله موزع في المكتبات حالياً، وهو رواية «خيط الروح» بنكهة خاصة جداً، عن المركز الثقافي العربي، وقد تأتي فرصة للحديث عنها بعد أن يتعرف عليها القارئ.
أعود إلى السؤال، تصوري للرواية كما أفهمه وأمارسه وكما تنكتب عني، أنها الفن الأدبي الشامل، وإذا كان هذا المفهوم يصدق على الخصوصية الفنية الذاتية لهذا الجنس الأدبي، كما سبقت الإشارة إليه، فإنه يصدق أيضاً على موضوعاتية الرواية، من أنها لا يعجزها موضوع، إذا توافرت البصيرة الروائية، وهي ضرب من القابلية الحساسة للدهشة والانبهار، وهنا لا يبدو شيء في الكون يندرج في صنف «المألوف» بصفة مطلقة، إنما هي تفاوتات ناجمة عن عوامل مختلفة وحالات نفسية اجتماعية، تؤدي أحياناً إلى عدم الالتفات إلى إشارات موضوع ما أو حدث معين، أو إلى تأجيل إلى حين، أو اختزان إلى اكتمال.
من جــهة أخرى، فـهذه الـموضوعات برمتها، لا يمكن أن تكون أجنبية عن الذات بصفة كلية، أي إنها خارجية محض، إذ لابد من رابط ذاتي، يمكن أن يعتبر «وسيطاً» ليصبح مكوناً ملتحماً بصفة جوهرية في موضوعه؛ وهذا المكون الجوهري (الرابط)، ليس مادياً بالضرورية، بل قد يكون لازمنياً لامكانياً أي وجدانياً فكرياً تخييلياً.
من هذ المنظور، يمكن القول إن تنوع الموضوعات في كتاباتي الروائية، يعكس هذا التركيب، وهو أيضاً يحمل بعض عناصر إجابة عما يُعتبر سيرة ذاتية تخصني، لم أكتبها (حتى الآن على الأقل)؛ ذلك أن الذاتية الروائية المجتمعية الفكرية الوجدانية من خلال ما ذكرت، توجد مبثوثة من خلال ما أكتب، لكن العمل في نهاية الأمر يبقى رواية، ويمكن أن أكتب شيئاً آخر غير روائي، أحمله عنواناً من قبيل «سيرتي الذاتية»؛ ولا أفكر مطلقاً في شيء مما يطلق عليه «سيرة ذاتية روائية»، أو ما جاور ذلك؛ ويبدو لي شخصياً أن اقتصار الرواية على موضوعات محددة ذاتية أو قطاعية خارجية مهما كانت أهميتها، يمثل إلجاماً للطاقة الروائية إذا توافرت، إذ في اعتباري أن الخاصية الصميمية لفن الرواية والروائي معاً، تكمن في القدرة على الحلول في الموضوع، طبيعة كانت أو كائناً أو حدثاً... وهو ما يعني الخروج عن الذات مبدئياً، تبقى الأدوات والآليات والأسلوب، وتلك من خاصيات إحدى «الصناعتين».
-  أوليتم اهتماماً كبيراً للحكاية في رواياتكم وقصصكم، لكن من يتمعن عن كثب في متنكم الروائي والقصصي، يفطن إلى أن الاهتمام بأسئلة الكتابة لم يكن غائباً أو مغيباً، من تفكيركم الإبداعي ومن نصوصكم السردية... فما هي، في نظركم، أسئلة الكتابة التي تهيمن اليوم على تفكيركم الروائي، في علاقتها بتشكل الواقع، الذي تنشغلون به؟
- السؤال الأهم والجوهري، ضمن أسئلة الرواية وهاجس الروائي في رأيي، يتمثل في: كيف أقول؟ أي كيف أمارس الكتابة روائياً؟ إذ لا يهم كثيراً ما تقول، وربما يمكن أن تقول ما تريد، بكيفية أكثر اقتصادية وجدوى، إذا صغت ذلك في مقال مباشر أو دراسة تحليلية، لكن القول الروائي له امتيازه وخصوصيته؛ ويتفرع عن السؤال الأول أسئلة كثيرة أخرى، من قبيل كيف أقول روائياً وبشكل مختلف؟ وهنا مدخل أسئلة التجريب والتجديد، بيد أنها أسئلة لا تأتي بالضرورة على هذا النحو من الطرح المعزول المباشر، بل لا تأتي عبر الألفاظ، إنما تتجسد في حالات من التوتر أو الحيرة أو الشعور بالعجز عن الكتابة، أو مظهر استعصاء موضوع... وغير ذلك، بمعنى أنها تحيل إلى وضع انتفاء الكتابة لمجرد الكتابة، وإنما الكتابة لوجود ما يكتب حقاً، أي بتوافر عناصره وآلياته وتجربته الخاصة ليتجسد روائياً.
أما ما يهيمن على تفكيري اليوم، فهـو أســئلة مداهمة مخترقة تتعلق بوضعنا الثقافي المحلي، بالمواطن والوطن، إلى أين وكيف؟ سؤال العدالة الاجتماعية الثقافية، التعددية اللغوية، وأيضاً مشاهد التدمير الذاتي في المجتمع العربي، الدين والحياة، الحرية والتطرف، القيم الإنسانية الكونية وتجلياتها، أسئلة لا أنفرد بها وأراها مشتركة مع غيري من المثقفين والمواطنين، أما التعبير عن ذلك... روائياً... فهو مسألة أخرى ■