وينسلو هومِر «ريح معتدلة» أم «هبوب الريح»؟

وينسلو هومِر «ريح معتدلة»  أم «هبوب الريح»؟

في‭ ‬عام‭ ‬1873،‭ ‬بدأ‭ ‬الرسَّام‭ ‬الأمريكي‭ ‬وينسلو‭ ‬هومر‭ ‬برسم‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬الزيتية‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬بالألوان‭ ‬المائية‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أنجزه‭ ‬خلال‭ ‬زيارته‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬غلوشستر‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬ماساتشوستس،‭ ‬وفيها‭ ‬نرى‭ ‬زورق‭ ‬صيد‭ ‬شراعياً‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬متوسط‭ ‬ارتفاع‭ ‬الموج،‭ ‬وعلى‭ ‬متنه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أولاد‭ ‬ورجل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬السن‭. ‬

وانتهى‭ ‬الرسام‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬وعرضها‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1876،‭ ‬بمناسبة‭ ‬مرور‭ ‬مائة‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬استقلال‭ ‬أمريكا‭. ‬فقداستغرق‭ ‬إنجازها‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬بسبب‭ ‬التعديلات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجريها‭ ‬الرسَّام‭ ‬عليها‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬خلال‭ ‬تفحص‭ ‬اللوحة‭ ‬بواسطة‭ ‬اأشعة‭ ‬إكسب،‭ ‬نذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬حذف‭ ‬صورة‭ ‬ولد‭ ‬رابع‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬قرب‭ ‬الصاري،‭ ‬ورسم‭ ‬مرساة‭ ‬الزورق‭ ‬محله،‭ ‬كما‭ ‬حذف‭ ‬الرسام‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬مركبين‭ ‬شراعيين‭ ‬كبيرين‭ ‬كانا‭ ‬في‭ ‬الأفق‭.‬

 

موجة‭ ‬كوربيه

كان‭ ‬هومر‭ ‬قد‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1866،‭ ‬واطلع‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬كوربيه‭ ‬ومونيه‭ ‬اللذين‭ ‬رسما‭ ‬موج‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬نالت‭ ‬شهرة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬وقتها،‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭  ‬فيه‭  ‬أن‭ ‬اموجةب‭ ‬كوربيه‭ ‬تركت‭ ‬أثراً‭ ‬في‭ ‬نفسه‭. ‬كما‭ ‬اطلع‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬على‭ ‬الرسوم‭ ‬الحفرية‭ ‬اليابانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبهر‭ ‬الفنانين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬آنذاك،‭ ‬ويظهر‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬الرسوم‭ ‬في‭ ‬تركز‭ ‬االحركةب‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬واسكونب‭ ‬النصف‭ ‬الأيمن‭. ‬ولكن‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭.‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬1879،‭ ‬عندما‭ ‬عرضت‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬فيلادلفيا،‭ ‬تبدّل‭ ‬اسمها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أحد‭ ‬النقاد،‭ ‬ليصبح‭ ‬اهبوب‭ ‬الريحب‭. ‬ولا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الرسام‭ ‬اعترض‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬الجديدة،‭ ‬فراجت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الاسم‭ ‬الأصلي،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التبدّل‭ ‬تم‭ ‬وسط‭ ‬مديح‭ ‬غير‭ ‬متحفظ‭. ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬أحد‭ ‬النقاد‭ ‬يقول‭: ‬اليس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المعرض‭ ‬لوحة‭ ‬أصدق‭ ‬منهاب،‭ ‬وكتب‭ ‬آخر‭ ‬يقول‭: ‬اإن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ركب‭ ‬زورقاً‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬مائج‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬عرف‭ ‬تصلب‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭ ‬ومد‭ ‬الساقين‭ ‬أو‭ ‬ضمهما‭ ‬إلى‭ ‬بعضهما‭ ‬لحفظ‭ ‬التوازن،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬ظاهر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحةب‭.‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬المتأنية‭ ‬لهذه‭ ‬اللوحة‭ ‬تؤكد‭ ‬عبقرية‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬خطاب‭ ‬متفائل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صورة‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬أبسط‭ ‬أشكال‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية‭. ‬فالواقعية‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل‭ ‬بدءاً‭ ‬بالملابس‭ ‬ووضعية‭ ‬الأجسام‭ ‬ومواضعها‭ ‬لحفظ‭ ‬التوازن‭ ‬وميلان‭ ‬الشراع‭ ‬مع‭ ‬الريح‭. ‬ولكن‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬نرى‭ ‬مناخاً‭ ‬من‭ ‬الاطمئنان‭ ‬يسود‭ ‬إبحار‭ ‬الزورق‭ ‬نحو‭ ‬الميناء،‭ ‬رغم‭ ‬هبوب‭ ‬الريح‭. ‬فالرجل‭ ‬العجوز‭ ‬ترك‭ ‬دفة‭ ‬الزورق‭ ‬في‭ ‬عهدة‭ ‬الولد‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الأفق،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يهمس‭ ‬بثقة‭ ‬الفنان‭ ‬بالجيل‭ ‬الصاعد‭ ‬وبقدرته‭ ‬على‭ ‬الإمساك‭ ‬بمستقبل‭ ‬البلاد‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1899،‭ ‬رسم‭ ‬هومر‭ ‬لوحة‭ ‬مشابهة‭ ‬قليلاً‭ ‬اسمها‭ ‬اتيار‭ ‬الخليجب،‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬زورقاً‭ ‬صغيراً‭ ‬وسط‭ ‬أمواج‭ ‬عاتية،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تتميز‭ ‬عن‭ ‬لوحتنا‭ ‬هذه،‭ ‬بغلبة‭ ‬طابع‭ ‬التشاؤم‭ ‬عليها‭. ‬

ولذا‭ ‬راحت‭ ‬اهبوب‭ ‬الريحب‭ ‬تكتسب‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المؤرخين‭ ‬والنقاد‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬وعندما‭ ‬اشتراها‭ ‬متحف‭ ‬اناشيونال‭ ‬جاليريب‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬عام‭ ‬1943،‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭: ‬أجمل‭ ‬صورة‭ ‬فنية‭ ‬عما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ .