السفر إلى الولايات المتحدة

السفر إلى الولايات المتحدة
        

          كنت أحلم طوال سنوات دراستى في المرحلة الثانوية بأن أذهب إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه مثل طه حسين الذي أصبح مثلي الأعلى في كل شيء، وعندما دخلت إلى جامعة القاهرة واخترت قسم اللغة العربية بكلية الآداب، قسم طه حسين، تواصل الحلم في داخلي، وتزايد مع السنوات، وزادت عليه رغبة الحصول على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن، فقد كنت معجبًا بمحمد غنيمى هلال وكتاباته، وكان جهير الصوت الأدبي في سنوات الستينيات، وقرأت مقالاته في مجلة «المجلة» وغيرها من مجلات الستينيات، وعرفت ما كتبه عن «الأدب المقارن» في كتاب، لايزال من أهم كتب الأدب المقارن في اللغة العربية، فأضفت إلى حلم الذهاب إلى فرنسا، حلم الحصول على دكتوراه الأدب المقارن منها. ولم أرض، في الحلم، بالذهاب إلى جامعة مونبلييه التي حصل فيها طه حسين على أطروحته، بل ذهب بي خيال أحلام اليقظة إلى باريس، عاصمة النور أو «فترينة الدنيا» كما وصفها توفيق الحكيم في كتابه الجميل «زهرة العمر»، وكانت باريس قد أخذت تتحول إلى أسطورة تشبه جنة العلم والفنون، بعد أن قرأت ما كتبه الصاوي محمد عنها وما كتبه الحكيم على وجه التحديد، وكم تصورت نفسى «محسن» الذي وصفه توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» أو الحكيم نفسه الذي نشر رسائله إلى صديقه الباريسى في «زهرة العمر».

          ومرّت سنوات الكلية، وتوالت سنوات ما بعد التخرج، حيث أصبحت معيدا في الكلية، وكان لابد من تسجيل أطروحة الماستير التي لم يقض العمل فيها على حلم الذهاب إلى باريس للحصول على الدكتوراه في الأدب المقارن.

          لكن كارثة 1967 وما أعقبها من تقليص خطط البعثات إلى الخارج بددت الحلم، وكان لابد من إتقان اللغة الإنجليزية لاعتبارات عملية، تتصل بمتابعة مدرسة النقد الأدبى التي كانت صاعدة في السنوات الخمس الأولى من الستينيات في مواجهة تيار النقد الواقعى وفرضت على خيالى الشاب تحولات الواقع المصرى، الذي أخذ يزداد إلحاحا في مدى التحول الاشتراكى، تغيير حلم الدكتوراه من باريس إلى لندن التي أخذت أمتلك عنان لغتها بعون من دراسة إضافية في الجامعة الأمريكية وحاولت أستاذتي سهير القلماوي أن تحصل لى على منحة من إحدى الجامعات الأمريكية لأكمل فيها الحصول على أطروحتى للدكتوراه في النقد الأدبى، وعرف الدكتور يعقوب السيد بكر محاولات أستاذتى وشعرت أن الحلم قارب التحقق عندما أصبح من نصيب قسم اللغة العربية الحصول على منحة لدراسة الدكتوراه في إحدى الجامعات الأمريكية، وتم ترشيحى بالفعل ووعدنى الدكتور يعقوب بكر، رحمه الله، وكان عميد الكلية في ذلك الوقت بالتدخل للإسراع بالإجراءات حتى لا تتعثر الأمور، لكن حتى هذا الأمل في استكمال معرفتى بنظريات النقد الغربى ومدارسه، تبدد عندما عرفت أن المنحة أو البعثة تم تحويلها إلى قسم اللغة الإنجليزية، نتيجة نفوذ الدكتور رشاد رشدى، رحمه الله، وكان رئيس قسم اللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، وذا نفوذ أكبر، فأخذ البعثة، وأضاف مدتها الزمنية إلى أحد تلاميذه الذي كان في الولايات المتحدة أصلا، خصوصا بعد أن استنفد هذا التلميذ المقرب منه السنوات المقررة له، وكان في حاجة إلى سنوات أخرى والطريف أن هذا التلميذ - بعد أن حصل على درجة الدكتوراه - استقر في الولايات المتحدة، وآثر العمل فيها على العمل في الجامعة المصرية، وبقيت أنا في حال بائس من إحباط الحلم.

          ولم يكن أمامى إلا العمل في أطروحة الدكتوراه والتفكير في الاستقرار اللازم لهذا العمل واخترت العمل في التراث النقدى والبلاغى، تحت إشراف أستاذتى سهير القلماوى التي أشرفت على أطروحة الماستير، وتزوجت، وأخذت أعمل في أطروحة الدكتوراه التي وضعت فيها كل جهدى، أملا في أن أنجز عملا علميا متميزا، يضيف أفقا جديدا في مدى التراث النقدى الذي لاأزال متعلقا به، واستغرقنى العمل إلى الدرجة التي أنستنى الحلم القديم، وانتهيت فعلا من العمل بعد أربع سنوات متواصلة، خصوصا بعد أن أصبحت قادرا على مطالعة المراجع الإنجليزية، بفضل المنحة الدراسية التي ساعدتنى سهير القلماوى في الحصول عليها، كى أصبح قادرا على القراءة بالإنجليزية، لاسيما أن موضوع الرسالة «الصورة الشعرية» الذي كنت أعمل فيه، لم يكن له مراجع متاحة باللغة العربية سوى كتاب وحيد للدكتور مصطفى ناصف، رحمه الله، وأصبحت مدرسا في الجامعة، بعد درجة الدكتوراه، ووعدونى بإمكان حصولى على إجازة دراسية لمدة عام أقضيها في إحدى الجامعات الأمريكية، ولكنى لم آخذ الوعد على محمل الجد، فقد اكتفيت بما نالنى من إحباط، وقد كان فراغى من أطروحة الدكتوراه في يونيو 1973 وحصولى على درجة مدرس في شهر يوليو 1973 فيما أذكر.

          وقد أفرحنى وأفرح مصر كلها نجاح الجيش المصرى في عبور قناة السويس، واسترداد سيناء السليبة في أكتوبر المجيد سنة 1973، فارتفعت جماهيرية السادات الذي أصبح بطل العبور، ولم تتأثر هذه الجماهيرية رغم الثغرة، ورغم دخول مصر مباحثات فصل القوات، وبداية صفحة جديدة من الصراع العربي - الإسرائيلي، وبداية مناخ ديمقراطي زعم السادات أنه ماضٍ فيه، جنبا إلى جنب سياسة الانفتاح التي لم تكن آثارها السلبية قد ظهرت فور تطبيقها. أما عنى، فقد انشغلت بالتدريس في القسم، وكنت أقبل ما يوكله لى القسم من تدريس أى مادة، فقمت بتدريس البلاغة ومذاهب النقد الأدبى الحديث والنقد العربى القديم ومذاهب التفسير الإسلامى وعلوم أخرى، فقد كان أساتذة القسم الكبار يرون أنه من الأفضل لتكويننا العلمى المستقبلى أن نقوم بتدريس مواد القسم المتعددة لنكتسب المزيد من الخبرة والمعرفة الموسوعية، خصوصا ونحن في ريعان الشباب، وهى خطة لايزال معمولا بها إلى اليوم، تقريبا رغم تغير الأحوال والظروف.

          وكان زميلى أحمد شمس الذي تخرج قبلى بعدد من السنوات، قد أتيحت له فرصة السفر إلى كوريا، ليعمل مدرسا للغة العربية في جامعة سيول، إن لم تخنى الذاكرة، وبعد انتهاء عمله فيها لم يعد إلى مصر، فذهب إلى الولايات المتحدة، وتنقل بين جامعاتها بعد أن اكتسب خبرة تعليم اللغة العربية للأجانب، واستقر فيها ابتداء من 1973 تقريبا، متنقلا بسبب الدروس الصيفية بين جامعات عديدة، منها جامعة ماديسون في ولاية وسكنسون التي نجح في إقامة علاقة وثيقة بالمتنفذين في قسم اللغات والدراسات الإفريقية بها، خصوصا صديقنا المشترك داستن كاول الذي كان يقوم بتدريس اللغة العربية، فيما عدا الفصل الدراسى الصيفى الذي انفرد أحمد شمس بالتدريس فيه أكثر من مرة وعندما حصل داستن كاول على إجازة دراسية لعام كامل، كان لابد من إيجاد بديل له طوال هذا العام، فاقترح عليه أحمد شمس أن أكون أنا هذا البديل، ولحسن الحظ كان داستن على اطلاع بكتابى «الصورة الفنية في التراث النقدى والبلاغى» وعدد من مقالاتى التي نشرتها، ومن المؤكد أن أحمد شمس بطيبته المعروفة ووفائه لأصدقائه قد أضاف العديد من الصفات المغرية، فتحمس داستن كاول لتزكية طلبى لدى الكلية، وكتب أحمد شمس الطلب بنفسه.

          وفوجئت في أحد شهور الصيف التي كنت أقضيها في الإسكندرية ببرقية - كيبل - من جامعة ماديسون وسكنسون بقبولى للعمل فيها، والتعاقد معى لمدة عام، على أن أبدأ عملى في شهر سبتمبر، إن لم تخنى الذاكرة، وكدت أرقص فرحا بعد أن قرأت البرقية، وكنت أعرف أن أحمد شمس وراء كل شىء، وأنه فعل ذلك ليمنحنى الفرصة لتحقيق حلمى القديم بالدراسة العليا في إحدى جامعات الولايات المتحدة صحيح أننى كنت قد حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، لكن الحلم القديم لم يمحه الزمن، كل ما حدث أنه أصبح رغبة متقدة في أن أكمل ما كان ينقصنى من معرفة النقد الأدبى بمدارسه التي كانت معاصرة وجديدة في ذلك الوقت، وكنا قد أخذنا نسمع عن البنيوية، وقرأنا كتاب أستاذ الفلسفة الكبير زكريا إبراهيم عن «مشكلة البنية» ضمن السلسلة التي كان لها أعمق الأثر في جيلى بعنوان «مشكلات فلسفية»، ولم أكن قد قرأت كتاب زميلى صلاح فضل عن «النظرية البنائية في النقد الأدبى» ولم أقرأ كتاب صلاح إلا بعد أن عدت من الولايات المتحدة، ولا أذكر أن الكتاب صدر قبل سفرى في مطالع سبتمبر على الأقل، وكنت متشوقا لأقرأ عن البنيوية الفرنسية في مصادرها التي كنت أعلم أنها مترجمة كلها إلى اللغة الإنجليزية، وقررت الذهاب إلى جامعة ماديسون وسكنسون لأقوم بتدريس العربية ليومين أو ثلاثة في الأسبوع، وأقضى بقية الوقت في التهام كل المعارف النقدية ولوازمها في الأيام الباقية. وأخيرا، نجحت في الاتصال بأحمد شمس في ولاية نورث كارولينا التي كان يعمل في جامعتها في ذلك الوقت فأوصانى بالذهاب إليه، قبل بدء التدريس في جامعة ماديسون بأسبوعين على الأقل، وذلك لكى أتعود على الحياة الجامعية الأمريكية، وأحضر معه بعض دروسه، فقد كانت جامعته تبدأ السنة الدراسية، قبل أن تبدأ جامعة ماديسون بثلاثة أسابيع فيما أذكر، وأوصانى أن أتصل به تليفونيا من مطار نيويورك للطيران الداخلى - مطار لاجوارديا - بمجرد وصولى إليه، كى أخبره بتفاصيل وصولى إلى مدينة شارلوت عاصمة ولاية نورث كارولينا التي كان يعمل في إحدى جامعاتها في مدينة بوون.

          وساعدنى أحمد مرسى، وكان صديقا حميما جدا في ذلك الوقت، على أن أحصل على دعم مالى من جامعة القاهرة للسفر إلى الولايات المتحدة في مهمة دراسية لمدة عام، وكان مقربا من رئيس جامعة القاهرة، حسن حمدى، وعندما اكتملت استعدادات السفر، انطلقت إلى مطار القاهرة، وركبت طائرة شركة T.W.A في أطول رحلة قمت بها في حياتى إلى ذلك الوقت إلى نيويورك، بعد توقف في أحد المطارات الأوربية، لم نغادر فيها الطائرة التي وصلت إلى نيويورك في الصباح الباكر وخرجت من مطار ون كنيدى الدولى، وانتقلت إلى مطار لاجوارديا للطيران الداخلى بين الولايات، وكانت أكثر كلمة سمعتها خارج المطار إلى أن أوصلنى التاكسى إلى لاجوارديا القريب هى كلمة shit بكل تنويعاتها، وفي مطار لاجوارديا، جلست في كافتيريا وجدتها أمامى، أحتسى القهوة الأمريكية، وأهدأ قليلا لأستجمع مشاعرى المختلطة التي كان يمتزج فيها الفرح بالخوف والقلق، فيغلبنى التوتر الذي كنت أغلبه بقراءة القرآن في سري، وذهبت بعد أن استجمعت نفسى، وحجزت مقعدا في الطائرة المسافرة إلى مطار شارلوت، كما أخبرنى أحمد شمس، وجعلنى أجعل خط الطيران: القاهرة - نيويورك - شارلوت - ماديسون، ونجحت في محادثته تليفونيا، وكان يعلم بموعد وصولى، وانتظر مكالمتى في مكتبه، ورحب بى فرحا، مبديا الحماسة المحببة التي لاأزال معتادا عليها، كلما خاطبته هاتفيا، وأبلغته أن طائرتى ستصل إلى مطار شارلوت في تمام الساعة السادسة والنصف مساء، فطمأننى بأنه سيكون في انتظارى، ولكى يزيد من طمأنتى أعطانى تليفون سكرتيرة القسم الذي يعمل فيه، فقد كان يعرف خوفى من نسيانه مواعيدنا في القاهرة، وصرخ بلهجته الأقصرية لا تقلق سترانى بمجرد دخولك إلى صالة الوصول، ولن يمنعنى عن ذلك إلا الموت وبالطبع، اختفى التوجس من داخلى، واطمأننت إلى عدم نسيانه الموعد كالعادة، فتوكلت على الله، وجلست ساعات طويلة، أنتظر طائرة شركة «نورث وست» للطيران الداخلي، في رحلتها إلى لاجوارديا، ولاحظت، أثناء الحجز، أن لا أحد طلب أن يرى جواز سفرى، بعد أن أبرزته في مطار ون كنيدي، وأنا أعبر الجوازات إلى داخل الولايات المتحدة.

          وبعد انتظار طويل إلى جانب حقيبتى، حان موعد الانتقال إلى المكان المخصص لطائرة عاصمة نورث كارولينا، وركبت الطائرة التي طارت بى لساعتين فيما أذكر، إلى أن وصلنا إلى مطار شارلوت في الجنوب الأمريكى، وانتظرت حقيبتى إلى أن تسلمتها، وخرجت أحملها إلى حيث ينتظرنى العزيز أحمد شمس الدين الحجاجى، وللأسف لم أجده بين المنتظرين، فحملت الحقيبة إلى أن وصلت إلى كافتيريا، جلست فيها أراقب مدخل المطار، مدركا أن أحمد شمس سوف يتأخر بعض الوقت كعادته، ومر الوقت بطيئا ثقيلا، وأخذ المطار يخلو من الخارجين والداخلين تدريجيا، وطلب منى النادل في الكافتيريا حساب القهوة، فدفعتها، وخرجت وهم يغلقون أبواب الكافتيريا ومضيت حاملا حقيبتى الثقيلة إلى باب المطار الوحيد، ووقفت أنتظر العزيز أحمد شمس، وظللت واقفا ساعة كاملة ثم ساعة أخرى، ولم يظهر أحمد، فحاولت مهاتفة السكرتيرة التي أعطانى رقمها، ولكن ما من مجيب فقد كانت الساعة تجاوز التاسعة مساء، ولم يكن معى رقم منزلها، فجربت تليفون منزل أحمد، ولكن ما من مجيب، فازداد قلقى، وبدأت الأسئلة المذعورة ماذا جرى لهذا الرجل، أيمكن أن يكون خرج من منزله متأخرا؟ ولكنى في انتظاره أكثر من ساعتين ونصف، وقد أخبرنى أن المسافة من بيته إلى المطار حوالى ساعة عبر الطريق السريع هل يمكن أن يكون قد حدث له شىء أثناء القيادة؟ لم أملك إلا أن أدعو الله له بالسلامة، ومع العاشرة مساءً أخذ القلق يتزايد، خوفا من أن يكون حدث له حادث، ومع تزايد حركة عقرب الساعة، بدأت ألحظ وجوه الأمريكان السود الذين يحومون حولى، فأخذ الرعب يتزايد، فقد حذرنى منهم العارفون بالولايات المتحدة، وقال لى الزاعمون بمعرفتهم ولايات الجنوب أنها ولايات غير آمنة في المساء، وأننى سوف أكون محظوظا، إن اكتفى شذاذ الآفاق بسرقة محفظتى وساعتى مقابل حياتى، أما إذا لم أكن محظوظا فقد تنالنى طعنة سكين أو خنجر. وكانت الساعة أخذت تجاوز الحادية عشرة، وأنا جالس على حقيبتى ولمحت ما يشبه القاعدة المرتفعة كعمود قليل الارتفاع توجد عليه خارطة المدينة، وتحتها أسماء الفنادق، ومعها أرقام تليفونات، وما على المرء إلا أن يضغط الزر الموجود أمامه اسم الفندق، ويطلب منهم غرفة وإرسال تاكسي، وقلت لنفسي: حسنًا هذا هو الحل الأخير، إذا لم يصل أحمد حتى الثانية عشرة، أى منتصف الليل، سأضغط زر أحد الفنادق، وأطلب إرسال تاكسى يحملنى إلى الفندق ، وأبيت ليلتى آمنا، وفي الصباح يفعل الله ما يشاء ولكن أين أحمد شمس؟ ماذا جرى له؟ مؤكد حدثت حادثة في الطريق، لا يمكن أن يكون قد نسي وصولي كل هذا الوقت، وظللت أضرب أخماسا في أسداس، ينهشنى القلق على صاحبى، ويملؤنى الخوف من وحدتى في مكان أصبح مخيفا، وزادنى خوفا تلفتى الدائم وحذرى من أن أمريكيًا أسود يمر من بعيد وأقول لنفسي: سامحك الله يا أحمد، ولي الله في الليلة الأولى في الولايات المتحدة. واستمعت إلى دقات ساعة الميدان الصغير، فهممت بالذهاب لأضغط على زر أحد الفنادق، وحملت الحقيبة، وكلما تقدمت خطوتين، أتوقف وأدعو الله أن ينتهى هذا الرعب، وأستريح، وأنظر إلى الساعة مرة أخرى، متعلقا بأمل بدأ يتقلص منذ أكثر من ساعة، وعندما وصلت الساعة إلى الثانية عشرة والربع، حزمت أمرى، وحملت الحقيبة مرة أخرى، لكى أحجز في أحد الفنادق وما كدت أقترب من الخارطة المضيئة حتى سمعت صوت محرك سيارة آتية في الطريق المقفر تماما حتى من التاكسى، فتوقفت عن مد يدى إلى اسم أى فندق وفجأة سمعت صوت أحمد شمس بلهجته الأقصرية التي تتميز بتعطيش الجيم: ابر، ونظرت ملهوفا فإذا به أحمد، وإذا بسيارته تتوقف، ويخرج منها أمامى، باديا عليه إرهاق القيادة لفترة طويلة، وفي اللحظة التي شعرت فيها بالاطمئنان عليه، انفجرت بالعبارات الغاضبة الخانقة، ولكنه أخذنى في أحضانه، وهو يلهث من الانفعال، قائلا: لقد ضللت الطريق، وبدلا من أن أتجه إلى الشمال حيث يوجد مطار شارلوت، اتجهت إلى الجنوب، ووصلت إلى مدينة أخرى، بحثت عن مطارها، وظللت أنتظر الطائرة القادمة من نيويورك، وانتظرت خروجك وعندما لم أجدك سألت، فإذا بى في مدينة أخرى، ومطار آخر، واضطررت أن أقود السيارة مرة أخرى متجها إلى شمال الطريق، إلى أن وصلت إلى مدينة شارلوت، وها أنذا، واحتضننى مرة أخرى، وهو يرحب بى، وأنا أضحك من الغضب والاطمئنان عليه، وانتهاء هذا الموقف الكابوسى في تلك الليلة.

          وتحركنا بالسيارة الساعة الثانية عشرة والنصف، وقاد أحمد السيارة إلى الطريق السريع الذي اتجهنا فيه جنوبا إلى بوون المدينة التي يعمل فيها أحمد ويقيم، وكان علي طوال الطريق أن أنتبه وأنبه أحمد إلى أنه يقترب من الرصيف أكثر من اللازم، وأخاف أن ينام وهو سائق وأطلب منه أن يحدثنى، ويجيب عن أسئلتى، وعينى مسلطة على اتجاه السيارة، في طريق سريع، كان خاليا لحسن الحظ، وأخيرا، وصلنا إلى منزله وحملت حقيبتى للمرة الأخيرة في اليوم الطويل الذي آن له أن ينتهى، وصعدت معه إلى الطابق الثانى، حيث توجد حجرتان، الكبيرة حجرة نومه، والثانية خصصها لي وما أن أخرجت منامتى من الحقيبة، وهو ماض في أسئلته عن أحوال القاهرة، حتى سقطت في السرير نائما على الفور، ولم أدر به وهو يتركنى ذاهبا إلى غرفته.

          ولم أستيقظ إلا في وقت متأخر من الصباح، وخرجت إلى شرفة البيت الخشبى، حيث يأتى الضوء، فرأت عيناى واحدا من أجمل المشاهد التي أذكرها في الولايات المتحدة، فقد كان البيت يقع على ربوة تل، تمتد تحته مئات الهكتارات من الخضرة الهابطة إلى سفح يبدو أشبه بالغابة التي يحتضنها امتداد التل الذي يعلو ربوته المنزل الخشبى الصغير الذي استأجرة أحمد من أرملة خمسينية العمر، زارتنا في عصر اليوم لترحب بضيف أحمد صديقها الذي تعتز به كثيرا، وجلست معنا في الشرفة وتحدثت معى، وأنا أمارس المحادثة باللغة الإنجليزية التي كنت أنطقها كما تعلمتها، وهى تنطقها بلهجتها الجنوبية اللافتة، ومضى اليوم سريعا، لم نغادر فيه المنزل، فقد كان يوم عطلة في جامعة أحمد التي لم تكن بدأت الدراسة فيها بعد. وفي صباح اليوم التالى، تناولنا الإفطار في باحة البيت المفتوحة على المروج المترامية حولنا، وكنت أشعر بهدوء نفسى كامل، وراحة كاملة، وآمل في أن أواجه عاما كاملا من الحياة في الجامعات الأمريكية ومكتباتها، فقد كنت في مطالع الثلاثين من عمرى، متوثبا بالنشاط والرغبة النهمة في معرفة مجال تخصصى الذي لايزال في حاجة إلى المزيد من المعرفة، لأنه مجال لا يكف عن التغير والتطور وأخذت إنجليزيتى تتحسَّن بسبب حواراتى مع أصدقاء أحمد وزملائه بعد، هؤلاء الذين أعداهم أحمد بطيبته وكرمه، فصاروا يتسابقون في دعوتنا إلى الإفطار وكانت دهشتى بالغة عندما دعانا أحدهم إلى ضيعة له مترامية الأطراف، وقد عرفت أنه ليس وحده في ذلك.

          واصطحبنى أحمد إلى الجامعة في يوم الدراسة الأول، وألقى لطلابه أولى محاضرات الفصل الدراسى الأول، وكانت في الديانات البدائية التي أنتجت الأساطير وكان اهتمامه بهذا الموضوع بعض اهتمامات أطروحته لدرجة الدكتوراه، وكانت عن «الأسطورة في المسرح المصرى» ولاتزال إلى اليوم أهم مرجع في مجالها، وظللت أداوم معه على الذهاب إلى محاضراته طوال الأسبوع الأول إلى أن تعودت على طريقة محاضراته وكيفية إدارة الدرس والحوار مع الطلاب، فتركنى بقية الأسبوع الثانى أتجول حرا في الجامعة، وأتجول في مكتبة البيع الخاصة بها، لا أشترى شيئا، وإنما أتعرف على العناوين والكتابات التي تهمنى، أو أذهب إلى مكتبة الجامعة وأقرأ فيها ما أريد، أو أجلس في الكافيتريا العامة، وأتعرف على عقلية الطلبة، واستكملت معرفة الحياة الجامعية الأمريكية وقبل أن تنتهى استضافة أحمد لى أبى إلا أن يمتد كرمه إلى جامعة ماديسون، فخاطب المدرس المساعد الذي كان سيعمل معى، وأقرب تلميذاته إليه في الفصل الدراسى الذي سبقنى بالتدريس فيه، وأوصلنى يوم ذهابى إلى ماديسون، في سيارته، إلى المطار، وهو مطمئن أننى سأجد من ينتظرنى هناك، ويرعانى في مدينة ماديسون إلى أن أتعود تماما على الحياة في المدينة والجامعة على السواء وياله من صديق وفي وأخ كريم لايزال على وفائه وأخوته الصادقة إلى اليوم.

          هكذا نزلت من الطائرة في مطار ماديسون في اليوم الأول من وصولى، فوجدت في انتظارى إسماعيل الذي كان شابا سودانيا، في مثل عمرى تقريبا، ورحب بى ترحيبا حارا كما لو كان يعرفنى منذ سنوات، فقد كان شابا يألف ويؤلف، واصطحبنى في تاكسى من المطار إلى فندق ماديسون في وسط المدينة بجوار الجامعة، وأعطونى غرفة واسعة، تطل نافذتها على الشارع وكان الفندق فخما لا يقل مستوى عن هيلتون القاهرة، أجرة الإقامة فيه ثلاثون دولارا في اليوم ولم يطالبنى أحد بالدفع مقدما، ولم أشعر بارتفاع الثمن، فقد كانت الولايات المتحدة لا تعرف الغلاء الفاحش الذي عرفته في السنوات اللاحقة وأبلغنى إسماعيل أنه سيأتى في الصباح، وسيتركنى لكى أستريح، لكنه لم يغادر إلا بعد أن أن أخبرنى أنه قد عثر لى على مسكن ملائم سيرينى إياه في الصباح، قبل أن يصحبنى لزيارة مكتبى في الجامعة، واستلام المكتب المخصص لى، وهو مكتب داستن كاول الذي سيكون مكتبى لعام كامل. وبعد أن تركنى إسماعيل، وجلست وحدى في غرفتى، وأخرجت ما أرتديه مؤقتا لأنه قال لى إنى لن أقيم في الفندق أكثر من ثلاثة أيام ومع قدوم المساء، رن الجرس في مكتبى، وسمعت من يقول لى بالإنجليزية هاللو دكتور ابر، أنا تلميذة أحمد شمس وصديقته المقربة، هل تنزل لمقابلتي أم أصعد إليك، فبادرت بالإجابة: انتظريني، أنا هابط إليك. وارتديت ملابسي بسرعة، فوجدت فتاة طويلة لحيمة، ترتدي بنطالا وصديرية، وهى تتطلع إلىّ باسمة، فاتحة ذراعيها على امتدادهما لعناقى، وربتت على ظهرى كأنها أم حنون مع أنها لم تتجاوز العشرينيات، ولكن السمنة الواضحة أعطتها ملامح جعلتها تبدو أكبر من عمرها. ودعتنى إلى الخروج معها كى أتعرف على ماديسون، مؤكدة لى أن أحمد شمس أوصاها برعايتى، وتلبية كل مطالبى، فتمتمت شاكرا لها، وخرجنا من الفندق إلى الشارع الرئيسى الذي تطل عليه غرفتى، وكان المساء قد حل، والأضواء غمرت الشارع العامر بالحياة، وأخذنا نسير معا، وهى تحكى لى كل ما يمكن أن أطلب معرفته عن مدينة ماديسون في ولاية وسكنسون التي عاصمتها ميلواكى، وأخبرتنى أن هذه المدينة هى مسقط رأس جولدا مائير التي ولدت فيها لأبوين يهوديين، مهاجرين إلى الولايات المتحدة، بحثا عن الأماكن وفرص الحياة الثرية، وذلك قبل أن تهاجر جولدا الشابة إلى فلسطين، وتشترك مع بن جوريون في تأسيس العصابات الصهيونية التي اغتصبت أرض فلسطين، والانتصار على العرب الذين حاولوا إنقاذ فلسطين التي أصبحت إسرائيل، ومضت نانسى قائلة إنهم في ميلواكى صنعوا تمثالا لجولدا مائير وضعوه في متحفها باعتبارها فخرا لليهود الذين هم أكبر المجموعات السكانية غير المسيحية في الولاية، وقد أضاف لى إسماعيل السودانى، الذي أطلقت عليه هذا الاسم معتزا بصداقته، واعتزازا بوفائه لكل السودانيين الموجودين في المدينة، أقول أضاف لي معلومة مهمة، مؤداها أن تدريس اللغة العربية وآدابها، كان يقع ضمن اختصاصات قسم اللغات السامية، لكن الصهيونيين المتنفذين في الجامعة، طردوا اللغة العربية من القسم، في عدائهم للعرب، فلم تجد اللغة العربية مكانا في أقسام الكلية إلا في قسم اللغات والآداب الأفريقية، على أساس أن اللغة العربية لغة أفريقية، يحتل ناطقوها الشمال الإفريقى كله على الأقل، وأخبرنى إسماعيل أن حفاوة قسم اللغات والآداب الأفريقية باستقبال اللغة العربية والترحيب بها، ترجع إلى أن أغلب الأساتذة إما أفارقة مهاجرون، أو أمريكيون سود يعتزون بأصولهم الأفريقية الأولى. أما نانسى فقد ظلت تجوب أهم شوارع مدينة ماديسون القريبة من الحى الجامعى ولم نتوقف إلا بعد أن شعرنا بالإرهاق، فجلسنا في أحد المحال لتناول مشروب، وهى لا تكف عن الحديث في كل شىء، بما فيه حياتها نفسها، وأخيرا صحبتنى إلى الفندق مصرّة على أن توصلنى إلى غرفتى، فاستجبت لرغبتها، وما أن وصلنا إلى باب الغرفة، دون أن يعترض أحد على صعودها معى، حتى حييتها شاكرا، معترفا بجميل صنعها، وسارعت بإغلاق الباب حتى لا تدخل معى الغرفة، فلم أكن أجرؤ على دعوتها إلى الغرفة خوفا من القيل والقال، ناسيا أنني في الولايات المتحدة التي لا يتدخل فيها أحد في حياة أحد، ولا حتى الاعتراض على سلوكه مهما كان، ولم أدرك إلا بعد أشهر أن كثيرا من التقاليد المتوارثة التي حملتها معى من القاهرة لم يكن لها محل من الإعراب في هذه البلاد التي تتقدس فيها حرية الفرد إلى أقصى درجة يمكن تخيلها.

          وكان صوت إسماعيل السودانى بشارة صباح اليوم الثانى في مدينة ماديسون، وسرعان ما هبطت إليه مليئا بالنشاط، وذهبنا معا إلى مقر شركة مالكة عقارات، منها عمارة عشرة أدوار في الشارع الموازى للفندق، وينتهى بحدائق حرم جامعة ماديسون، وكانت المسافة بين مدخل العمارة التي أقمت فيها ومدخل المبنى الذي يقع فيه مكتبى، تحتاج إلى المشى على القدمين حوالى خمس عشرة دقيقة، وبعد توقيع عقد الشقة التي ذهبنا إليها وتفقدناها، شعرت بالراحة النفسية لملاءمتها ما أنا في حاجة إليه، فقد كانت مكونة من غرفتين وصالة، واحدة للنوم، والثانية بها مكتب متصل بأرفف كتب تعلوه في اتجاه السقف وتركنا العمارة، بعد معرفة الدور الذي تقع فيه الغسالات الكهربائية، ونزلنا إلى المدخل الذي يقع بعد غرفة صغيرة بها صندوق بريد لكل شقة، وعلمنى إسماعيل كيفية استخدام الأرقام السرية وانطلقنا إلى الجامعة، ومررنا على مكتبة الجامعة المفتوحة حتى العاشرة مساء، وأمامها مكتبة كبيرة من أدوار عديدة لبيع الكتب والمراجع الجامعية في أحد الأدوار إلى جانب أدوار أخرى للأدوات الكتابية والهدايا، ودور أخير لما يمكن أن يحتاج إليه طلاب الجامعة خارج تلك الدوائر.

          ووصلنا إلى المبنى الذي يقع فيه مكتبى، في الدور السادس، وحصلنا على المفتاح من سكرتيرة القسم، وكانت شابة، جميلة الوجه، رشيقة في العشرينيات الأولى من عمرها، بالغة الحيوية، لا تفارقها الابتسامة، وصحبتنى وإسماعيل إلى مكتبى، وفتحت الباب، مشيرة بحركة راقصة باليه أن أدخل، وتركتنا راكضة إلى مكتبها. ولفت انتباهنا أن الجدار المواجه للباب كان من الزجاج، يطل على امتداد بحيرة ميندوتا التي ذكرتني ببحيرة قارون في الفيوم، لكن مع الفارق في جمال ما يحيط ببحيرة ميندوتا. وسرعان ما أبلغني إسماعيل أن اسم البحيرة هندى الأصل، وأن مدينة وسكنسون تقع في منطقة البحيرات التي تمتد إلى مدينة شيكاغو التي تبعد عن ماديسون ثلاث ساعات ونصفا بالسيارة، وأن المنطقة كلها كانت موطنا للهنود الذين بقيت أسماء بحيراتهم على حالها، وتركنى إسماعيل أستمتع بمشهد البحيرة الجميل، وأتخيل كيفية قضائى عاما كاملا، أتطلع قبل وبعد المحاضرات إلى بحيرة ميندوتا، وأنا جالس على مكتبى الذي يمتد بطول الغرفة المستطيلة الصغيرة التي أخذت أتطلع إلى أرفف المكتبة التي تحتل الجدار الأيسر بعد الباب، ووجدت الأرفف مكدسة بكتب أغلبها بالإنجليزية، أخبرنى إسماعيل أنها في عهدتى إلى أن ينتهى عام تعاقدى، ويعود داستن من إجازته الجامعية الممتدة لعام.

          وكانت السكرتيرة قد أعطتنى الأوراق التي فيها الفصول التي سأقوم بتدريسها في الفصل الأول مع أسماء الطلاب الذين سيساعدنى إسماعيل، على إنجاز مهام التدريس الرئيسية لهم، فيقوم بتصحيح التمارين اللغوية والإشراف على غيرها من الواجبات التي سوف أقوم بتكليف الطلاب بتجهيزها قبل مواعيد المحاضرات، في المنزل أو المكتبة، فقد كان إسماعيل متعاقدا مع القسم للعمل T.A أو مساعد مدرس وهو النظام المتبع في الجامعات الأمريكية إذا زاد عدد الطلاب على ستة، وكان عدد طلابى يزيد على العشرة بقليل، أنا الذي تعودت على التدريس لمئات الطلاب في قاعات محاضرات كلية الآداب في جامعة القاهرة. وظللت أتحدث معه عن تفاصيل عملى، وهو يجيبنى عن كل أسئلتى.. إلى أن حان وقت الغداء، فقال لي: سنذهب إلى منزلى، حيث ستتعرف على زوجتى بيف التي ظلت صديقة عزيزة مثل زوجها حتى بعد أن عدت إلى القاهرة وجامعة القاهرة، متحسرا على أيامى في جامعة ماديسون التي كانت الجامعة الأولى التي عملت بها في الولايات المتحدة.

 

جابر عصفور