نحو خيارات لـ«العربية» في مجالات الحوار الثقافي العالمي
تشكّل «اللغة»، بحد ذاتها، أحد أبرز العناصر المستخدمة في مجالات الحوار الثقافي، ولابد لنجاح هذا الاستخدام من أن تكون اللغات المعتمدة في هذا الحوار، قابلة للفهم والتعبير من قِبل المتحاورين، ذلك بما يعنيه مصطلحا «الفهم» و«التعبير» من أبعاد وقدرات وقابليات. ولعل من أبرز هذه الأمور أن تكون «اللغة» مطواعة لمتطلبات الحوار الثقافي، قابلة للتناغم مع احتياجاته وقادرة على التواصل مع ناسه والتوصيل في ما بينهم. وهذا جميعه قد يتطلّب من «اللغة» قابلية على استيعاب لكثير من أمور قد لا تكون من تراثها، أو خارجة عن النطاق التقليدي لمجالات استخدامها، وهنا تواجه «العربية» عدداً من القضايا التي قد تقف في طريق نجاحها الكلي في أن تكون لغة حوار ثقافي مثالية.
إن اللغة العربية، تحديداً، من أكثر الموضوعات التي تجذب الباحثين للخوض فيها من منطلقات متعددة ودوافع مختلفة، وجميعها منطلقات ودوافع تصبّ في خانة أساسٍ، هي خانة المحافظة على أصول هذه اللغة وضرورة تعزيز مجالات التواصل بها، علماً بأن هناك من الباحثين مَن يرى ازدواجية مقلقة تهدد أصالة العربية، هي ازدواجية ما يُعرف بالعربية «الفصحى» والعربية «المحكية». فهناك من يميل إلى اعتبار العربية «المحكية» عنصر تخريب على العربية «الفصحى»، وثمة من يميل إلى رؤية اشتراك ما بين «الفصحى» و«المحكية» يمكّن من المزاوجة، ولكن غير المستحبّة، بينهما. كما يذهب فريق آخر إلى تصوّر اختلاف جذري بين المحكيّة والفصحى.
وهنا، لابد من التوضيح، ومن وجهة نظر مبنيّة على الملاحظة المستمرة للواقع المعيش للغة العربية، والمتابعة البحثية الدائمة لتاريخية هذه اللغة، وخلافاً لما قد تذهب إليه جمهرة كبرى من الناس، أن لا خوف، في المبدأ، على اللسان العربي، لا من الانقراض ولا من ضعف التواصل به أو التعبير به، ولا من تفاعلات هذه الثنائية بين «الفصحى» و«المحكية» على الإطلاق. ولعلّ أبرز دليل على هذا، وأشدّه وضوحاً أن العرب، أو المعتمدين للعربية في التعبير والتواصل، ما برحوا يستخدمون هذا «اللسان»، بفصيحه ومحكيّه، منذ آلاف السنين وعبر اختلاف الأمكنة وتعدّد الثقافات وتباينها، من غير ما عُجمةٍ في ما بينهم على الإطلاق.
لقد اعتُمد اللسان العربي، وسيلة تعبير وتواصل حضاري، في مراحل ما قبل البدء بالدعوة المحمديّة إلى الإسلام، وكذلك الحال بعد انطلاق هذه الدعوة وانتشارها، وهو أيضاً اللسان الذي اعتُمد في كل المراحل الزمنية التالية، وفي كثير جداً من مجالات التعبير والتوصيل، التقليدية منها كما الإبداعية. فباللسان العربي نُظم الشعر العربي على مختلف العصور الأدبية العربية، وباللسان عينه أُنزل القرآن الكريم ودُوّنت مصنّفات فكرية وتاريخية وعلمية، كما وُضعت به كتابات اجتماعية وفلسفية وفنية، وكثير جداً مما استجدّ خلال القرنين الماضيين.
لابد، في هذا المجال، من التفريق بين ما هو لسان عربي، من جهة، وما هو لغة عربية، من جهة أخرى. فاللغة، أساساً، وفي المعاجم، من جذر (ل غ و)، و«اللغو» هو الكلام المتغيّر والمتبدّل والذي لا يبقى على حال واحدة، أما اللسان، فهو النظام المبدئي أو المنهجي الذي تتمظهر به اللغة أو تتجلى. ولعل من أبرز ما يشهدُ على هذا التوجّه في التفريق التأسيسي بين ما هو «لغة» وما هو «لسان» أن النص القرآني، وهو عمدة الباحثين والدّارسين في مجالات اللغة العربية ومرجعهم الأساس فيها، لا يذكر، على الإطلاق، لفظة أو تعبير «لغة عربية»، بل يذكر، وباستمرار، لفظة أو تعبير «لسان» و«لسان عربي». فالحكمة الإلهية، كما يرد في النص القرآني، تقضي بأن يعتمد كل واحد من رسل الله «لسان» قومه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} (سورة إبراهيم: 4)، فاللسان، إذن، هو أساس التواصل في الدعوة، والقرآن الكريم، الذي أرسل به إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، أنزل عليه من لدن الله {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (سورة الشعراء: 195)، ويتكرر تأكيد هذا بتعريف الله تعالى للقرآن الكريم، إذ يقول {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (سورة النحل: 103).
اللسان أساس اللغات
لقد عرف اللسان العربي، بشهادة التاريخ ما توافق العرب أنفسهم على أنه «لغة قريش»، و«لغة مُضَر» و«لغة حِمير» و«لغة طيء»، وسوى ذلك من اللغات العربية الكثيرة والمتعددة بتعدد الناس وتنوّع مناطقهم وأمزجة تعبيرهم وأذواقهم التنغيمية في التعبير والتواصل. ويمكن، تالياً، استخلاص أن ثمة لساناً عربياً تقوم عليه لغات عربية، ولأن هذا اللسان العربي هو أساس اللغة وعمادها، فهو تالياً مجال ثبات لا مجال تغيّر، و«اللغة»، ههنا، بحاجة إلى «لسان» تنهض على أسسه. ولما كانت «اللغة» مجال تحوّل و«اللسان» مجال ثبات، فلقد بات من الطبيعي، بل من الضروري أن تشهد «اللغة» تغيرات وتبدّلات، بحكم طبيعة مسرح وجودها، في حين أن «اللسان» يبقى ثابتاً لا يتغيّر ولا ينبغي له أن يتغيّر.
بناء على هذا، تكمن المسألة الكبرى التي يعانيها أهل «العربية» والمتعاملون بها ومعها، وقوام هذه المسألة أن النَّص القرآني دُوِّن بـ«لسان» عربي ولكن بمنطوق «لغة» معينة من لغات هذا اللسان، هي «لغة قريش»، التي عادت وتوزّعت، بدورها، ضمن لهجات مناطقية واجتماعية عدة. ومع اعتماد المسلمين للغة قريش هذه، ضمن اللسان العربي، في تدوين النص القرآني وتلاوته، صارت هذه اللغة، من دون سواها من لغات اللسان العربي، بمنزلة لسان، علماً بأنها، وبحكم كونها لغة، أي متغيرة ومتبدلة، لا تملك المقومات الأساسية للسان القائمة على الثبات!
قد يرى بعضهِم في أخذ لغة قريش، ضمن «اللسان العربي»، دور هذا اللسان مشكلة، وهذا صحيح وواقعي، لكن الاستمرار في اعتبار هذا الأمر مشكلة، وبشهادة الواقع اللغوي العربي القديم منه والمعاصر على حد سواء، لا يمكن أن يشكل حلاً للمشكلة على الإطلاق، بل إنه يولّد عدداً من المشكلات.
من هنا، وحفاظاً على لغة تدوين النص القرآني، ممثلة بلغة قريش، وحفاظاً على فاعلية دور كل من اللسان بثباتيّته واللغة بحركيتها، كان لابد من تحويل المشكلة إلى قضية والنظر فيها على هذا الأساس.
تتلخص القضية في أنه صار من اللازم لوجود متحرك، أي للغة متحركة، من تعاملٍ معها على أساس أنها وجود ثابت، أي لسان، إذ لا يمكن إيقاف حركية اللغة، ولا يمكن، كذلك، التخلي عن أساسية ثبات اللسان. من هنا، لابد من الاعتراف، من جهة أولى، بحق ما يعرف بـ «لغة قريش» في التطور والتجدد ومواكبة البيئة الزمانية والمكانية والمزاجية التي تكون فيها، والاعتراف من جهة ثانية، بضرورة اعتبار هذه اللغة تحديداً لساناً ثابتاً يمارس عبره النص القرآني احتفاظه بثباتياته التي تفرضها قدسيته وتتطلبها مبادئ الإيمان الديني به.
إنها قضية لابد من تنظير خاص بها من خلال تأمين عيش سوي لها. وأساس هذا كله يبرز عبر إشكالية مفادها: كيف لناس «العربية» الاستمرار في التواصل عبر هذه «اللغة»، التي لابد من الاعتراف بحركيتها، والتي صارت «لساناً»، وهي لا تمتلك، في أصل وجودها، مقومات اللسان، ولا تقدر أن تحل محله على الإطلاق؟!
لعل في البحث عما يمكن اعتباره «العربية» الأساسية المعاصرة ما قد يقود إلى حسن تعامل مع هذه القضية. والمقصود بالعربية الأساسية، هنا، هو تحديد الحد الأدنى الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه من مقومات لغة قريش، أي العربية الفصحى بالمفهوم المعاصر، لتشكل أساساً ثابتاً في التعامل مع هذه اللغة. وبذا، يمكن للغة المتحركة تأمين الحد الأدنى العضوي في فاعليتها اللسانية. وبناء على النتائج المتوخاة من هذا الاقتراح، سيمكن للعربية الفصحى، أن تظل متمسكة بالأسس اللسانية التي توفر إجماعاً عربياً للتواصل معها، عبر الماضي والحاضر والمستقبل، وبشكل خاص عبر النص القرآني، وتكفل لها، في الوقت عينه، تلبية كل تحولاتها ضمن متغيرات البيئة الزمانية والمكانية والمزاجية لناسها.
بناء على هذا، فقد يكون من الواجب العربي العام التوافق على إيجاد هيئة أو لجنة أكاديمية متخصصة، تحظى باعتراف واسع، وتكون ذات موثوقية لا غبار عليها، تعمل على اعتماد ما يمكن اعتباره اللغة العربية الأساسية المعاصرة التي لا تغادر أبداً أصول عربية قريش ومبادئ اللسان العربي معاً، ولا تخون، في الوقت عينه، تطورات الزمن وتغيراته.
ويبقى الجانب الآخر، والأهم، من تحقيق أهلية «العربية»، لتكون لغة حوار ثقافي عربي وعالمي فعال في حيوية «لغة قريش» قابعاً في تمكين ناسها من تبوؤ موقع إيجابي، أو دور فاعل ومؤثر في حركية العيش الإنساني المعاصر، وعدم القناعة بواقع يكتفي بمجرد اعتماد العربية لغة تلقٍّ في عملية الحوار الثقافي. إنه الجانب المتمثل في قابلية العقلية «العربية» لأن تتحول من مجرد عقلية مستهلكة إلى عقلية منتجة. إن من ينتج موضوعاً، أو فكرة أو اختراعاً أو سلعة، فإنه ينتج ما ينتجه ويعمل على تعريفه وتسميته وتقديمه إلى الآخرين، باللغة التي فكّر بها فيه. من هنا، فإن ما من حل جذري ينقذ «العربية» من عدم تسنُّمها ريادة لغوية، على مستوى التحاور الثقافي للوجود الإنساني المعاصر المتحضر، إلا بتحولها من مجالات العقلية الاستهلاكية الممعنة في سلبيتها إلى رحاب العقليتين التجديدية والإنتاجية بكل ما فيهما من إيجابية.
واقع الحال، أن «العربية» مؤهلة لتكون لغة إنتاج معرفي، وقد سبق لها أن كانت كذلك في مراحل يحفظها لها التاريخ الإنساني باعتزاز وفخر. و«العرب» يكدّون اليوم ليكون لهم نصيب مرموق في مجالات الإنتاج المعرفي، عبر انهماك كثير من بعثات التخصص العلمي في بحار أبحاث ما برحت تلفت إليها أنظار كثير من أهل الاختصاص. والعرب موجودون فعلاً على أكثر من واحد من مفاصل الحياة المعاصرة، أكان هذا المفصل سياسياً أو اقتصادياً أو جغرافياً أو سوى ذلك، وهم قادرون، بحكم هذا الوجود، على المشاركة الفاعلة والإيجابية في الدفق الإنساني المعاصر لتلاقي الحضارات وتفاعلها الإيجابي في ما بينها عبر مجالات الحوار الثقافي. و«العربية» قادرة، بفاعلية ما فيها من «لسان» و«لغة»، إذا ما لاقت حسن انتباه ووعيَ رعايةٍ وعمق بحث ودراسة وصدق رغبة في التطوير الإيجابي من ناسها وعلمائها والمتعاملين بها، من أن تكون هذه الأداة الإنسانية الفعَّالة في صناعة الحوار الثقافي في الزمن الراهن للعولمة ■