بولونيـا في التاريخ الحديث
لعبت بولونيا في التاريخ الحديث دوراً مهماً أثر فيه وغيّر وجهه إلى مسارات أخرى، لا سيما في علم الفلك وفي اكتشاف الأورانيوم، وأخيراً حركة التضامن التي أدت إلى تطوير النظام الشيوعي وتحويل العالم إلى نظام القطب الواحد، الذي هيمن عليه العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة.
تعتبر بولونيا أكبر دولة مساحة وسكاناً، بعد أوكرانيا في وسط وشرق أوربا. وهي دولة عريقة في التاريخ، كانت ولاتزال موضع أطماع الدول المجاورة لها، وقد تعرَّضت إلى أربع عمليات تقسيم، وكانت أخطرها التقسيم الثالث عام 1795، حيث تقاسمت روسيا وبروسيا والنمسا كامل إقليم الاتحاد بين بولونيا وليتوانيا، ثم زال نهائياً من الوجود، واضطر ملك بولونيا بونياتوفسكي Stanistlav August Poniatovski بضغط عسكري روسي إلى التنازل عام 1795.
لقد أنهى هذا التقسيم بولونيا وأزالها عن خريطة العالم.
أما التقسيم الرابع فقد حصل عام 1939 أثناء الحرب العالمية الثانية نتيجة اتفاق ألماني - روسي، عُرف باتفاق مولوتوف وربنتروب. وقد وقفت الدولة العثمانية ضد هذه التقسيمات واحتفظت بمكان في السلك الدبلوماسي لديها لسفير بولونيا، وكان السلطان العثماني في كل لقاء لهذا السلك يسأل: هل حضر سفير بولونيا؟.
كوبرنيكوس
أما كوبرنيكوس Copernicus فقد ظهر في مطلع القرن السادس عشر، حيث كانت النظرة العلمية إلى طبيعة الكون هي النظرة الموروثة عن المجد الإغريقي القديم، أي قبل نحو 1500 سنة تقريباً من ظهور كوبرنيكوس على مسرح الأحداث.
وقد اختصر بطليموس النظريات الإغريقية في مجال الفلك بكتابه المشهور باسمه العربي «الماجسطي»، الذي وصل إلى الغرب عن طريق الأندلس بترجمة عن اليونانية إلى العربية ثم إلى اللاتينية. كان كوبرنيكوس من مواليد طورن (مدينة بولونية)، درس القانون والطب، وشغل وظيفة كاهن في كاتدرائية بولونية، واهتم بعلم الفلك، ونشر عام 1543 رائعته بعنوان «دوران الأفلاك السماوية»، ولم يكن معنياً باضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، لأن آراءه خالفت بعض معتقداتها، فقد جعل كل الكواكب تتحرك حول مركز واحد هو الشمس بدلاً من الأرض، والشمس ذاتها تدور في فلك حول مجرتنا المسماة بدرب التبانة (كتاب تاريخ العالم، منشورات عالم المعرفة الكويتية).
لقد كشف كوبرنيكوس حقيقة واضحة عن طبيعة الكون، وأن نظريته تنطوي على ما هو أكثر كثيراً من مجرد الزعم أن الأرض تدور في فلك حول الشمس، ولسنا بصدد شرح نظريته وتفاصيلها، ولكن ما يمكن قوله إن أهمية كوبرنيكوس تتمثل في بدء مرحلة جديدة من رحلة الفكر المتحرر من هيمنة القدماء الإغريق والرومان، فقد كان يكفي للمواطن الأوربي أن ينظر إلى مواقع الحضارة الكلاسيكية المطلة على البحر المتوسط لتثير لديه شعوراً بالإعجاب والعجز والرهبة أمام هذه الآثار، وكأنها من صنع بشر غير البشر أو من صنع الأرباب. إن صروحاً مثل بعلبك ومعبد الـ Pantheon في فرنسا ومدرج الكولوزيوم في روما والـ Acropolis والهياكل والمعابد اليونانية الرائعة لا تزال رهيبة حتى اليوم، في وقت فقدنا فيه كل المعارف المتعلقة بكيفية بناء هذه الصروح. وكم كان طبيعياً قبول الاعتقاد بأن القدماء كانوا أسمى فكرياً بمراحل من الناس العاديين الذين جاءوا من بعدهم.
أما فلسفة سقراط وأفلاطون وإقليدوس، فكانت لهم بمنزلة النصوص المقدسة، عليهم قبولها من دون السؤال أو الشك فيها. من هنا تبرز أهمية كوبرنيكوس البولوني الذي افتتح فضاء واسعاً في عالم الفلك، وأثبت أن إنسان القرن السادس عشر يمكنه أن يحقق في مجال العلوم والاكتشافات ما يتفوق على ما تحقق أيام الإغريق. لقد فتح كوبرنيكوس التاريخ للذين جاءوا من بعده من العلماء والعظماء مثل غاليلي Galilee وكليبر Clipper ونيوتن Newton وغيرهم، الذين فتحوا آفاقاً واسعة للعلم والمعرفة، للعلماء الذين جاءوا بعدهم وتابعوا مسيرتهم، بعد أن تحرروا من رهبة الماضي ومن نفوذ الكنيسة، التي اعتبرت أفكار كوبرنيكوس هرقطة وفكرة الشمس مركز الكون رأياً سخيفاً وباطلاً... وأقل ما توصف به أنها خطيئة في حق الإيمان. (المرجع السابق)
لقد نجا كوبرنيكوس من ملاحقة الكنيسة، لأن كتابه نُشر وهو على فراش الموت.
والخلاصة أن ما يمكن أن نستنتجه من أعمال هؤلاء العظماء أن للكون قوانين تحكمه ويمكن للعقل البشري أن يفهمها وتدفعه (الكون) قوى يمكن حساب آثارها باستخدامنا للرياضيات.
لم ينجُ هؤلاء العظماء من ملاحقة الكنيسة ومحاكم التفتيش، فجردانو برونو Jordano Bruno الذي آمن بها ونشرها في أوربا لاحقته الكنيسة وعاقبته حرقاً على العمود. أما غاليلي Galile الذي آمن بما اكتشفه كوبرنيكوس، فأحالته الكنيسة إلى محاكم التفتيش، وبالرغم من تراجعه أمامها عن إيمانه بهذه النظرية، فقد حكمت عليه بالإقامة الجبرية وعاش منعزلاً في بيته منقطعاً عن العالم، وليس صحيحاً ما أشيع عن أنه قال أمامها إنها تدور، ولو كان قال ذلك لكان مصيره مصير جردانو برونو.
نقابة التضامن
«كم فرقة عسكرية يملك البابا؟»... قالها ستالين ساخراً ومستخفاً بالعقيدة الدينية وبالقيم المعنوية الراسخة في نفوس الشعوب وفي ضمائرها. من هذه القيم التي ميزت التاريخ البولوني وطبعته بطابعها مبدأ الديمقراطية، فقد عرفت بولونيا أول دستور لها عام 1791، وهي لاتزال تحتفل في الثالث من شهر مايو من كل عام بهذه المناسبة، وهو ثاني دستور في العالم بعد الدستور الأميركي، وأول دستور في أوربا. وقبل الدستور كانت طبقة النبلاء فيها تنتخب الملوك وتعزلهم عن عروشهم.
من هنا قادت نقابة التضامن التي أسسها ليخ فاليسا حملة احتجاجات العمال في حوض بناء السفن في مدينة غدانس، حيث كانوا يطالبون بظروف عمل أفضل في ظل ارتفاع الأسعار وبحقهم في الإضراب وتشكيل نقابة عمال مستقلة. وكان فاليسا مجرد عامل كهربائي لم يكمل تعليمه، ولم يكن يهدف إلى إسقاط النظام الشيوعي، بل أراد - على حد قوله - العمل في شراكة مع الحزب الشيوعي الحاكم (البيان: حركة التضامن البولندية،
14-11-2008). ثم أخذت هذه النقابة تكبر حتى أصبحت تضم 10 ملايين عامل في عام 1980. وأمام قوة هذه النقابة التي اجتاحت بتظاهراتها مختلف المدن البولونية، أعلن رئيس الوزراء وزعيم الحزب الشيوعي البولوني يارو جالسكي الأحكام العرفية في البلاد وألقى القبض على فاليسا ومعاونيه؛ ثم أفرج عنه بعد أحد عشر شهراً من اعتقاله، فقد تحرر فاليسا ولكن بقيت حركة التضامن محظورة، غير أن التظاهرات والاحتجاجات التي انطلقت عام 1988 احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، أدت فعلياً إلى بداية انهيار النظام الشيوعي، حيث اعترفت السلطات بنقابة التضامن وتمّ الاتفاق على إدخال إصلاحات سياسية واسعة أدت في النتيجة إلى استقلال بولونيا عن الاتحاد السوفييتي وانتخاب ياروجالسكي أول رئيس لبولونيا، ثم خلفه ليش فاليسا في الرئاسة. ومنذ ذلك الحين يتم تبادل السلطة بين اليمين واليسار، الذي حوّل الحزب الشيوعي السابق إلى حزب اشتراكي، ولم يعد للحزب الشيوعي أي وجود.
دور البابا والكنيسة في الأزمة البولونية
من المعروف أنه كان من نتائج الحرب العالمية الثانية فرض النظام الشيوعي بقوة الجيوش السوفييتية على بلدان أوربا الوسطى والشرقية، بما فيها بولونيا، وذلك على أساس القرارات التي اتخذتها أميركا والاتحاد السوفييتي وبريطانيا في مؤتمر يالطا عام 1945. وكانت الكنيسة الكاثوليكية في بولونيا تعارض هذا النظام منذ قيامه، ولا سيما لسعيه لاستئصال الدين المسيحي وفرض الإلحاد على الجميع بطرق مختلفة. وكما حرصت هذه الكنيسة على محافظة الشعب البولوني على هويته القومية وتقاليده في وجه أنماط الحياة السوفييتية، بقيت تمارس نفوذاً كبيراً على البولونيين كمؤسسة وحيدة مستقلة عن السلطات الحاكمة؛ وإن كانت علاقتها بهذه الأخيرة تمرّ بفترات مختلفة تحظى فيها بقدر أكبر أو أقل من الحرية والحقوق.
وقد اعترف الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف مرات عدة بتأثير البابا والكنيسة على الأوضاع في أوربا الشرقية والوسطى، وكان واحداً من العوامل الرئيسة التي مكنت من تفكيك النظام السوفييتي التوتاليتاري بطريقة سلمية. ونذكر في هذا المجال زيارة البابا لبولونيا عام 1979 وتشجيعه للثوار بعبارته السحرية «لا تخافوا» وخلال الأحداث كانت الكنيسة تدعو السلطات والمعارضة إلى التزام الهدوء، ومن ناحية أخرى تشجع الاتجاهات الاستقلالية، ثم أخذت تساعد المعارضة خصوصاً عقب إعلان السلطات البولونية الأحكام العرفية عام 1981، التي استمرت حتى يوليو 1983، وبالرغم من ذلك استمرت «التضامن» في نشاطها بالعمل السري وإصدار الكتب والنشرات والبيانات التي تدعو إلى الثورة. كانت الكنيسة تبدي معارضتها للنظام الشيوعي بأشكال مختلفة، منها مقاطعة رجال الدين الانتخابات البرلمانية التي كانت في الواقع عملية شكلية لا تعبّر عن موازين القوى السياسية في البلاد على الإطلاق.
إضافة إلى دعم البابا يوحنا بولس الثاني واتحاد نقابات العمال الأمريكية، كان هناك دعم غير مباشر تمثَّل في ردود الفعل التي صدرت من الدول الغربية، فعند إعلان حالة الطوارئ في بولونيا عام 1980، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على بولونيا وعلى الاتحاد السوفييتي معاً، وأخذت تدعم نقابة التضامن بصورة سرية، كجزء من معركتها ضد الشيوعية التي بدأها الرئيس الأميركي رونالد ريجان أثناء الحرب الباردة. أما نقابات العمال في الدول الغربية، فوقفت إلى جانبها، كما دافعت منظمة العمل الدولية عن نقابة التضامن وطالبت برفع حالة الطوارئ. وقد حصلت الحركة على دفع معنوي جديد عندما زارت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا بولونيا عام 1982 وأبلغت ياروجلسكي أن بولونيا لن يتحسَّن اقتصادها إلا بعد أن تعمَّ الحرية فيها، وخاطبت عمال غدانسك المضربين «أن لا شيء يستطيع أن يوقفكم».
دور اليهود
كانت بولونيا في القرن السادس عشر مركزاً مهماً للديانة اليهودية وعلوم اليهود الدينية. لقد استقر اليهود في بولونيا منذ القرون الوسطى هرباً من الملاحقات والاضطهادات التي عانوها في الدول الأوربية الأخرى. ويتبين من المراجع التاريخية أن حكام بولونيا كانوا يستقبلونهم بترحاب، لأنهم أرادوا أن يصبح اليهود منافسين للألمان الذين كانوا يستوطنون بكثرة في المدن البولونية. وقد وجد اليهود ظروفاً ملائمة للتطور الاقتصادي، فسكنوا في المدن الكبرى على أساس تجمعات منفصلة (جيتو Ghetto) لها الحق في تسيير شؤونها ذاتياً، وبعد توحيد بولونيا وليتوانيا في أواخر القرن الرابع عشر، راح اليهود يستقرون في أراضي ليتوانيا أيضاً. في عام 1939 كان عدد اليهود في بولونيا حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون أي حوالي 10 في المائة من سكانها. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انخفض عددهم إلى حوالي 200000 فقط بسبب عمليات الإبادة الجماعية المخططة والمنظَّمة بدقة من قبل المحتلين النازيين الألمان، والتي استهدفت اليهود كما استهدفت البولون وغيرهم من الجنسيات الأخرى والغجر. وفي فترة الحكم الشيوعي فضل عدد منهم التخلي عن انتمائهم القومي والديني وبدلوا أسماءهم.
لا شك في أن مساهمة اليهود البولون في تغيير النظام الشيوعي كانت مهمة جداً، خاصة أن وجودهم في أحواض السفن والمدن الكبرى كان من العوامل التي فجَّرت الثورة ضد هذا النظام. وقد ازداد نفوذهم بعد تغيير النظام. أعود بالذاكرة إلى ما قاله القس يانوفسكي المقرب من فاليسا، وبحضوره، في إحدى مواعظه في عام 1995: «إن البولون لا يدرون الآن من يحكمهم، هل اليهود القادمون من موسكو، أم إسرائيل؟» وقد عتب اليهود على فاليسا، لأنه لم يعترض على كلام القس.
السلطات تعترف بأول نقابة غير شيوعية
نتيجة لذلك اندلعت التظاهرات التي اجتاحت المدن بشكل لم يسبق له مثيل مما دفع السلطة إلى الاعتراف بنقابة التضامن كأول نقابة لا تتبع الحزب الشيوعي، وإجراء مفاوضات معها بدلاً من اللجوء إلى أسلوبها في التعامل مع الأزمات السابقة في كل من هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وذلك بعزل الحركة والردع المنظم للمضربين. وقد تقوم السلطة الشيوعية في بعض الأحيان بتقديم بعض التنازلات بهدف الحد من انتشار حركة الإضرابات. أما في بولونيا فقد اختلف الوضع ورأى السوفييت أنهم أمام حركة عمالية منظمة وقوية لا تقع تحت سيطرة الحزب.
نتيجة هذه الضغوطات والوضع الاقتصادي المتدهور قبل ياروجلسكي وزير الدفاع في حينه أن يفاوض «التضامن» وعقدت بين الطرفين الطاولة المستديرة التاريخية في عام 1989، لقد جلست إلى هذه الطاولة عندما قدَّمتُ أوراق اعتمادي إلى فاليسا رئيس جمهورية بولونيا في حينه. توصَّل الطرفان إلى إصلاحات سياسية واقتصادية جرت على أساسها أول انتخابات حرة في الكتلة الشيوعية، فازت بنتيجتها حركة التضامن بأكثرية المقاعد، وشكلت أول حكومة غير شيوعية في الاتحاد السوفييتي. لقد كانت حركة التضامن سلمية، حققت أهدافها وأكثر مما طمحت إليه أو أرادت تحقيقه. وبعد ستة أشهر من ذلك انهار جدار برلين، وأطيح بعناصر النظام الشيوعي الواحد تلو الآخر.
كانت خسارة فادحة للاتحاد السوفييتي، لأن ما يميز بولونيا من دول شرق أوربا هو أهميتها بالنسبة إليه، إذ يعتبرها مركز المنطقة الأمنية التي أقامها على حدوده الغربية، خاصة أن بولونيا تشكل حاجزاً في مواجهة ألمانيا، كما أنها تمثل ثقلاً سكانياً. بيد أن هذه المزايا تنقلب في الوقت نفسه إلى نقاط ضعف، فالوعي الاجتماعي البولوني يسيطر عليه تاريخ من العداء لروسيا، التي كانت القوة المهيمنة في التقسيمات الأربعة التي حصلت لبولونيا عبر التاريخ الحديث. وعندما توصلت السلطات والمعارضة نتيجة محادثات الطاولة المستديرة عام 1989 إلى حلول وسطية تضمنت إجراء انتخابات برلمانية دعمت الكنيسة مرشحي نقابة التضامن. وقد أدى ذلك في ما بعد إلى تشكيل أول حكومة غير شيوعية عجلت بانتقال بولونيا من النظام الشيوعي إلى نظام ديمقراطي حر. أما في الانتخابات الرئاسية العامة عام 1990 فقد أيدت ترشيح ليش فاليسا، الذي فاز بالرئاسة، ثم أعلنت حيادها ووجه الأساقفة رسالة إلى أتباعهم «إننا لا ننحاز إلى طرف معين» والتزم القساوسة ألا يقودوا الحملات الانتخابية وألا يسمحوا لأحد بقيادتها في الكنائس أو بنشر الدعاية بدعم أحد.
انهيار النظام التوتاليتاري
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ذهب هذا النظام الجبروتي، رغم ما تركه من أثر ظاهر في الحياة المادية وفي المجالات الفنية والعمرانية والعلمية التي لا تزال تشهد على الكثير من إنجازاته وكفاءاته؟
إن النظام السوفييتي لم يتطور بسبب عاملين رئيسين على الأقل، أولهما السياسة التي كانت تقوم على القوة والقمع والطبقة المسيطرة على النظام والضاغطة بأن يستمر الوضع على حاله. وقد نتج عن ذلك جمود سياسي واقتصادي على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأما العامل الثاني فقد تمثل في نمط تفكير الطبقة الحاكمة في بولونيا التي استفادت من الأوضاع القائمة، وقد ارتبطت مصالحها بمصالح القوة المسيطرة دون أي اعتبار لرأي المواطنين أو لأي انتخابات شعبية، وبالتالي لم يعد هناك مجال لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي.
وقد صوّر أحد الباحثين في هذا المجال أن الشعوب السوفييتية كانت كمن يعيش في قطار له أول وليس له آخر. كان القطار يهتزّ ويعتقد من فيه أنه يسير، وعندما جاء جورباتشوف وأعلن سياسته الإصلاحية المتمثلة في perestroika and glasnost (الإصلاح والشفافية) وأزاح الستار عن بعض نوافذ القطار، وجد الركاب أنهم لايزالون في مكانهم، لقد كان القطار يتحرك ببطء إلى الأمام فبدأوا يفرّون من النوافذ والأبواب، وكان أول الفارين بولونيا.
بولونيا تعود إلى ديمقراطيتها
وعندما تخلصت بولونيا عام 1989 من النظام المفروض عليها، عادت إلى مبادئها الديمقراطية، وتبادل السلطة القائم على مبدأ اختيار الشعب حكامه، وعلى التوازن بين السلطات، وجعل الانتخابات تجري على أساس المحافظة والقاعدة النسبية. ورُبّ سائل يسأل اليوم: أين هذا البطل التاريخي بل الأسطوري الذي غيَّر وجه العالم؟ فاليسا يرأس اليوم حزباً سياسياً صغيراً اشترك في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2001. لم يستطع حزبه أن يوصل نائباً واحداً إلى البرلمان، لأنه لم يحصل على النسبة الدنيا المطلوبة وهي 5 في المائة من أصوات الناخبين.
مَن يفجِّر الثورة قد لا يصلح للحكم
أين أصبح هؤلاء اللاعبون الكبار ومستشاروهم الذين غيَّروا وجه التاريخ وأدخلوا العالم في عصر جديد هو عصر القطب الواحد؟ فاليسا يبقى رمزاً للتاريخ البولوني بل لتاريخ العالم، أما الجنرال ياروجلسكي الذي أنقذ بولونيا من سحق السوفييت لها، فلا تزال محاكمته مستمرة منذ عام 1994. لقد سمحت لي الظروف بلقاء الرجلين، فشعرت أن فاليسا رجل من التاريخ كان يصلح لمرحلة وقد لا يكون يصلح لما بعدها. فعندما انتهت رئاسته للجمهورية وجد نفسه من دون راتب، حيث لم يكن هنالك قانون يمنحه ذلك، فهدد بالعودة إلى عمله السابق كعامل كهربائي في أحواض السفن في غدانسك، المكان الذي أشعل فيه ثورته، ليعيل نفسه وأسرته الكبيرة، مما دفع الحكومة إلى تخصيص راتب له. أما الجنرال ياروجلسكي فهو يجسِّد تاريخ التوتاليتارية، يخاطبك من خلف نظارات سوداء، منتصب القامة، تبدو عليه مظاهر القوة رغم تقدمه في السن، فلا تقرأ في وجهه إلا علامات الاستفهام. حوكم أخيراً هو وسبعة من المسؤولين الشيوعيين بتهمة إعلان الأحكام العرفية في البلاد عام 1981 دون وجه حق، وبارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. دافع عن نفسه قائلاً إن قراره إعلان الأحكام عرفياً كان شراً لا بد منه، لأنه أسهم في درء كارثة كانت تتربَّص ببولونيا ومهّد الطريق نحو الديمقراطية، وأنه جنّب بولونيا تدخلاً عسكرياً سوفييتياً كما حدث للمجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، لأن القوات الروسية كانت ستقوم بهذه الخطوة إذا لم يقدم عليها هو (مؤسسة دبي للإعلام).
لقد أدى كلا الرجلين دوره وفقاً لما رأى فيه مصلحة بلده. أما بولونيا فقد تصالحت مع نفسها وتصالحت مع جيرانها ومعظمهم كانوا أعداء الأمس، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الحرب العالمية الثانية التي بدأت في الأول من شهر سبتمبر 1939 كانت بهجوم ألمانيا على بولونيا، كان البولينيون أول من قالوا لهتلر «لا» وأبوا الاستسلام، وهم قالوا للسوفييت بعد ذلك «كفى» ودمّروا الهيكل.
إن ما حققته بولونيا من تقدم واستقرار كان لمصالحتها مع نفسها أولاً، ثم مع جيرانها ثانياً... تصالحت بولونيا مع نفسها في الاجتماع التاريخي بين الحكومة وممثلي النقابة، الذي عُرف باجتماع الطاولة المستديرة، وقد سرّعت أحداث بولونيا استقلال جميع دول أوربا الوسطى والشرقية. وإذا كانت بولونيا تصالحت مع الحالة السياسية في داخلها، فإنها تصالحت أيضاً مع الحالة اليهودية التي ارتبطت بتاريخها منذ القرون الوسطى، وشكلت لها عقدة ذنب ومعاناة كمعاناة بطل أسطورة سيزيف، وذلك بسبب الدعاية اليهودية والدعم الأمريكي. لقد واجهت بولونيا هذه المعضلة بجرأة وموضوعية بهدف الوصول إلى الحقيقة. تصالحت بولونيا مع جيرانها، وطوروا معاً لغة مشتركة وبدأوا عهداً جديداً من علاقات حسن الجوار والتعاون.
الخلاصة
هذا هو الدور الذي لعبته بولونيا في التاريخ الحديث على الصعيد العلمي، منذ كوبرنيكوس الذي فتح آفاقاً واسعة للفكر البشري بتحريره من هيمنة الإرث اليوناني والروماني، وسيطرة الكنيسة وتقاليدها وتراثها. أما على الصعيد السياسي، فإنه بالرغم من تضاؤل حجم نقابة التضامن وانكماشها وما انفك عنها من مؤيدين الآن، لا تزال منذ نشأتها الجناح اليمين المعتدل في وجه الأحزاب الاشتراكية التي انبثقت من الحزب الشيوعي، ولا يزال هذا التنظيم وسوف يبقى يشغل حيزاً كبيراً في تاريخ بولونيا وفي تاريخ العالم، وتراثاً إنسانياً تقتدي به الشعوب المقهورة في الثورة على الظلم. لقد لسعت الشعب البولوني زيادة طفيفة في أسعار اللحوم فرضتها السلطة فثار ودمّر هياكل هذه السلطة الشمولية.
وفي غمرة أحداث ما سُمِّي بالربيع العربي، الذي ساده العنف والقتل والتهجير بكل وسائل القمع والأسلحة الفتاكة والمدمرة، كم كان حريّاً بنا أن نتعلم من التجربة البولونية التي كانت ثورة سلمية شعبية، شعارها «لا للعنف»، لكي نتجنب الكثير مما وصلنا إليه ■
بقايا جدران تعود إلى العصور الوسطى