بولونيـا في التاريخ الحديث

بولونيـا في التاريخ الحديث

لعبت‭ ‬بولونيا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬أثر‭ ‬فيه‭ ‬وغيّر‭ ‬وجهه‭ ‬إلى‭ ‬مسارات‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الفلك‭ ‬وفي‭ ‬اكتشاف‭ ‬الأورانيوم،‭ ‬وأخيراً‭ ‬حركة‭ ‬التضامن‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬وتحويل‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬القطب‭ ‬الواحد،‭ ‬الذي‭ ‬هيمن‭ ‬عليه‭ ‬العالم‭ ‬الحر‭ ‬بقيادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

تعتبر‭ ‬بولونيا‭ ‬أكبر‭ ‬دولة‭ ‬مساحة‭ ‬وسكاناً،‭ ‬بعد‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬وشرق‭ ‬أوربا‭. ‬وهي‭ ‬دولة‭ ‬عريقة‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬كانت‭ ‬ولاتزال‭ ‬موضع‭ ‬أطماع‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة‭ ‬لها،‭ ‬وقد‭ ‬تعرَّضت‭ ‬إلى‭ ‬أربع‭ ‬عمليات‭ ‬تقسيم،‭ ‬وكانت‭ ‬أخطرها‭ ‬التقسيم‭ ‬الثالث‭ ‬عام‭ ‬1795،‭ ‬حيث‭ ‬تقاسمت‭ ‬روسيا‭ ‬وبروسيا‭ ‬والنمسا‭ ‬كامل‭ ‬إقليم‭ ‬الاتحاد‭ ‬بين‭ ‬بولونيا‭ ‬وليتوانيا،‭ ‬ثم‭ ‬زال‭ ‬نهائياً‭ ‬من‭ ‬الوجود،‭ ‬واضطر‭ ‬ملك‭ ‬بولونيا‭ ‬بونياتوفسكي‭ ‬Stanistlav‭ ‬August‭ ‬Poniatovski‭ ‬بضغط‭ ‬عسكري‭ ‬روسي‭ ‬إلى‭ ‬التنازل‭ ‬عام‭ ‬1795‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬أنهى‭ ‬هذا‭ ‬التقسيم‭ ‬بولونيا‭ ‬وأزالها‭ ‬عن‭ ‬خريطة‭ ‬العالم‭.‬

أما‭ ‬التقسيم‭ ‬الرابع‭ ‬فقد‭ ‬حصل‭ ‬عام‭ ‬1939‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬نتيجة‭ ‬اتفاق‭ ‬ألماني‭ - ‬روسي،‭ ‬عُرف‭ ‬باتفاق‭ ‬مولوتوف‭ ‬وربنتروب‭. ‬وقد‭ ‬وقفت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬التقسيمات‭ ‬واحتفظت‭ ‬بمكان‭ ‬في‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬لديها‭ ‬لسفير‭ ‬بولونيا،‭ ‬وكان‭ ‬السلطان‭ ‬العثماني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لقاء‭ ‬لهذا‭ ‬السلك‭ ‬يسأل‭: ‬هل‭ ‬حضر‭ ‬سفير‭ ‬بولونيا؟‭.‬

 

كوبرنيكوس

أما‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬Copernicus‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬النظرة‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬الكون‭ ‬هي‭ ‬النظرة‭ ‬الموروثة‭ ‬عن‭ ‬المجد‭ ‬الإغريقي‭ ‬القديم،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬1500‭ ‬سنة‭ ‬تقريباً‭ ‬من‭ ‬ظهور‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الأحداث‭. ‬

وقد‭ ‬اختصر‭ ‬بطليموس‭ ‬النظريات‭ ‬الإغريقية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفلك‭ ‬بكتابه‭ ‬المشهور‭ ‬باسمه‭ ‬العربي‭  ‬‮«‬الماجسطي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأندلس‭ ‬بترجمة‭ ‬عن‭ ‬اليونانية‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينية‭. ‬كان‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬طورن‭ (‬مدينة‭ ‬بولونية‭)‬،‭ ‬درس‭ ‬القانون‭ ‬والطب،‭ ‬وشغل‭ ‬وظيفة‭ ‬كاهن‭ ‬في‭ ‬كاتدرائية‭ ‬بولونية،‭ ‬واهتم‭ ‬بعلم‭ ‬الفلك،‭ ‬ونشر‭ ‬عام‭ ‬1543‭ ‬رائعته‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬دوران‭ ‬الأفلاك‭ ‬السماوية‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬معنياً‭ ‬باضطهاد‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬لأن‭ ‬آراءه‭ ‬خالفت‭ ‬بعض‭ ‬معتقداتها،‭ ‬فقد‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬الكواكب‭ ‬تتحرك‭ ‬حول‭ ‬مركز‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الشمس‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬والشمس‭ ‬ذاتها‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬حول‭ ‬مجرتنا‭ ‬المسماة‭ ‬بدرب‭ ‬التبانة‭ (‬كتاب‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬منشورات‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭ ‬الكويتية‭).‬

لقد‭ ‬كشف‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬حقيقة‭ ‬واضحة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الكون،‭ ‬وأن‭ ‬نظريته‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬الزعم‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬حول‭ ‬الشمس،‭ ‬ولسنا‭ ‬بصدد‭ ‬شرح‭ ‬نظريته‭ ‬وتفاصيلها،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬إن‭ ‬أهمية‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬بدء‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬رحلة‭ ‬الفكر‭ ‬المتحرر‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬القدماء‭ ‬الإغريق‭ ‬والرومان،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يكفي‭ ‬للمواطن‭ ‬الأوربي‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬الحضارة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬لتثير‭ ‬لديه‭ ‬شعوراً‭ ‬بالإعجاب‭ ‬والعجز‭ ‬والرهبة‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الآثار،‭ ‬وكأنها‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬بشر‭ ‬غير‭ ‬البشر‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الأرباب‭. ‬إن‭ ‬صروحاً‭ ‬مثل‭ ‬بعلبك‭ ‬ومعبد‭ ‬الـ‭ ‬Pantheon  ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬ومدرج‭ ‬الكولوزيوم‭ ‬في‭ ‬روما‭  ‬والـ‭ ‬Acropolis  ‬والهياكل‭ ‬والمعابد‭ ‬اليونانية‭ ‬الرائعة‭  ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رهيبة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬فقدنا‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬المعارف‭ ‬المتعلقة‭ ‬بكيفية‭ ‬بناء‭ ‬هذه‭ ‬الصروح‭. ‬وكم‭ ‬كان‭ ‬طبيعياً‭ ‬قبول‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬القدماء‭ ‬كانوا‭ ‬أسمى‭ ‬فكرياً‭ ‬بمراحل‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬العاديين‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬من‭ ‬بعدهم‭.‬

أما‭ ‬فلسفة‭ ‬سقراط‭ ‬وأفلاطون‭ ‬وإقليدوس،‭ ‬فكانت‭ ‬لهم‭ ‬بمنزلة‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة،‭ ‬عليهم‭ ‬قبولها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬السؤال‭ ‬أو‭ ‬الشك‭ ‬فيها‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬البولوني‭ ‬الذي‭ ‬افتتح‭ ‬فضاء‭ ‬واسعاً‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الفلك،‭ ‬وأثبت‭ ‬أن‭ ‬إنسان‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬والاكتشافات‭ ‬ما‭ ‬يتفوق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬أيام‭ ‬الإغريق‭. ‬لقد‭ ‬فتح‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬التاريخ‭ ‬للذين‭ ‬جاءوا‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والعظماء‭ ‬مثل‭ ‬غاليلي‭ ‬Galilee‭ ‬وكليبر‭ ‬Clipper  ‬ونيوتن‭ ‬Newton‭ ‬وغيرهم،‭ ‬الذين‭ ‬فتحوا‭ ‬آفاقاً‭ ‬واسعة‭ ‬للعلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬للعلماء‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬بعدهم‭ ‬وتابعوا‭ ‬مسيرتهم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحرروا‭ ‬من‭ ‬رهبة‭ ‬الماضي‭ ‬ومن‭ ‬نفوذ‭ ‬الكنيسة،‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬أفكار‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬هرقطة‭ ‬وفكرة‭ ‬الشمس‭ ‬مركز‭ ‬الكون‭ ‬رأياً‭ ‬سخيفاً‭ ‬وباطلاً‭... ‬وأقل‭ ‬ما‭ ‬توصف‭ ‬به‭ ‬أنها‭ ‬خطيئة‭  ‬في‭ ‬حق‭ ‬الإيمان‭. (‬المرجع‭ ‬السابق‭)‬

لقد‭ ‬نجا‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬لأن‭ ‬كتابه‭ ‬نُشر‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت‭.‬

والخلاصة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستنتجه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬هؤلاء‭ ‬العظماء‭ ‬أن‭ ‬للكون‭ ‬قوانين‭ ‬تحكمه‭ ‬ويمكن‭ ‬للعقل‭ ‬البشري‭ ‬أن‭ ‬يفهمها‭ ‬وتدفعه‭ (‬الكون‭) ‬قوى‭ ‬يمكن‭ ‬حساب‭ ‬آثارها‭ ‬باستخدامنا‭ ‬للرياضيات‭.‬

لم‭ ‬ينجُ‭ ‬هؤلاء‭ ‬العظماء‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬الكنيسة‭ ‬ومحاكم‭ ‬التفتيش،‭ ‬فجردانو‭ ‬برونو‭ ‬Jordano‭ ‬Bruno‭ ‬الذي‭ ‬آمن‭ ‬بها‭ ‬ونشرها‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬لاحقته‭ ‬الكنيسة‭ ‬وعاقبته‭ ‬حرقاً‭ ‬على‭ ‬العمود‭. ‬أما‭ ‬غاليلي‭ ‬Galile  ‬الذي‭ ‬آمن‭ ‬بما‭ ‬اكتشفه‭ ‬كوبرنيكوس،‭ ‬فأحالته‭ ‬الكنيسة‭ ‬إلى‭ ‬محاكم‭ ‬التفتيش،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬تراجعه‭ ‬أمامها‭ ‬عن‭ ‬إيمانه‭ ‬بهذه‭ ‬النظرية،‭ ‬فقد‭ ‬حكمت‭ ‬عليه‭ ‬بالإقامة‭ ‬الجبرية‭ ‬وعاش‭ ‬منعزلاً‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬منقطعاً‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬وليس‭ ‬صحيحاً‭ ‬ما‭ ‬أشيع‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬أمامها‭ ‬إنها‭ ‬تدور،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬قال‭ ‬ذلك‭ ‬لكان‭ ‬مصيره‭ ‬مصير‭ ‬جردانو‭ ‬برونو‭.‬

 

نقابة‭ ‬التضامن

‮«‬كم‭ ‬فرقة‭ ‬عسكرية‭ ‬يملك‭ ‬البابا؟‮»‬‭... ‬قالها‭ ‬ستالين‭ ‬ساخراً‭ ‬ومستخفاً‭ ‬بالعقيدة‭ ‬الدينية‭ ‬وبالقيم‭ ‬المعنوية‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الشعوب‭ ‬وفي‭ ‬ضمائرها‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬التاريخ‭ ‬البولوني‭ ‬وطبعته‭ ‬بطابعها‭ ‬مبدأ‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬فقد‭ ‬عرفت‭ ‬بولونيا‭ ‬أول‭ ‬دستور‭ ‬لها‭ ‬عام‭ ‬1791،‭ ‬وهي‭ ‬لاتزال‭ ‬تحتفل‭ ‬في‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬وهو‭ ‬ثاني‭ ‬دستور‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬الدستور‭ ‬الأميركي،‭ ‬وأول‭ ‬دستور‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬وقبل‭ ‬الدستور‭ ‬كانت‭ ‬طبقة‭ ‬النبلاء‭ ‬فيها‭ ‬تنتخب‭ ‬الملوك‭ ‬وتعزلهم‭ ‬عن‭ ‬عروشهم‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬قادت‭ ‬نقابة‭ ‬التضامن‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬ليخ‭ ‬فاليسا‭ ‬حملة‭ ‬احتجاجات‭ ‬العمال‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬بناء‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬غدانس،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يطالبون‭ ‬بظروف‭ ‬عمل‭ ‬أفضل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬وبحقهم‭ ‬في‭ ‬الإضراب‭ ‬وتشكيل‭ ‬نقابة‭ ‬عمال‭ ‬مستقلة‭. ‬وكان‭ ‬فاليسا‭ ‬مجرد‭ ‬عامل‭ ‬كهربائي‭ ‬لم‭ ‬يكمل‭ ‬تعليمه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إسقاط‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي،‭ ‬بل‭ ‬أراد‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله‭ - ‬العمل‭ ‬في‭ ‬شراكة‭ ‬مع‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬الحاكم‭ (‬البيان‭: ‬حركة‭ ‬التضامن‭ ‬البولندية،‭ ‬
14-11-2008‭). ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬هذه‭ ‬النقابة‭ ‬تكبر‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬تضم‭ ‬10‭ ‬ملايين‭ ‬عامل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1980‭. ‬وأمام‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬النقابة‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬بتظاهراتها‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬البولونية،‭ ‬أعلن‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬وزعيم‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬البولوني‭ ‬يارو‭ ‬جالسكي‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬وألقى‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬فاليسا‭ ‬ومعاونيه؛‭ ‬ثم‭ ‬أفرج‭ ‬عنه‭ ‬بعد‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬شهراً‭ ‬من‭ ‬اعتقاله،‭ ‬فقد‭ ‬تحرر‭ ‬فاليسا‭ ‬ولكن‭ ‬بقيت‭ ‬حركة‭ ‬التضامن‭ ‬محظورة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التظاهرات‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬أدت‭ ‬فعلياً‭ ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬انهيار‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي،‭ ‬حيث‭ ‬اعترفت‭ ‬السلطات‭ ‬بنقابة‭ ‬التضامن‭ ‬وتمّ‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬إدخال‭ ‬إصلاحات‭ ‬سياسية‭ ‬واسعة‭ ‬أدت‭ ‬في‭ ‬النتيجة‭ ‬إلى‭ ‬استقلال‭ ‬بولونيا‭ ‬عن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬وانتخاب‭ ‬ياروجالسكي‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬لبولونيا،‭ ‬ثم‭ ‬خلفه‭ ‬ليش‭ ‬فاليسا‭ ‬في‭ ‬الرئاسة‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬يتم‭ ‬تبادل‭ ‬السلطة‭ ‬بين‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار،‭ ‬الذي‭ ‬حوّل‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬السابق‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬اشتراكي،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬للحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬أي‭ ‬وجود‭.‬

‭ ‬

دور‭ ‬البابا‭ ‬والكنيسة‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬البولونية

من‭ ‬المعروف‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬فرض‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬بقوة‭ ‬الجيوش‭ ‬السوفييتية‭ ‬على‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الوسطى‭ ‬والشرقية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬بولونيا،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬اتخذتها‭ ‬أميركا‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬وبريطانيا‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬يالطا‭ ‬عام‭ ‬1945‭. ‬وكانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬تعارض‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬منذ‭ ‬قيامه،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬لسعيه‭ ‬لاستئصال‭ ‬الدين‭ ‬المسيحي‭ ‬وفرض‭ ‬الإلحاد‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة‭. ‬وكما‭ ‬حرصت‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة‭ ‬على‭ ‬محافظة‭ ‬الشعب‭ ‬البولوني‭ ‬على‭ ‬هويته‭ ‬القومية‭ ‬وتقاليده‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬أنماط‭ ‬الحياة‭ ‬السوفييتية،‭ ‬بقيت‭ ‬تمارس‭ ‬نفوذاً‭ ‬كبيراً‭ ‬على‭ ‬البولونيين‭ ‬كمؤسسة‭ ‬وحيدة‭ ‬مستقلة‭ ‬عن‭ ‬السلطات‭ ‬الحاكمة؛‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬علاقتها‭ ‬بهذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تمرّ‭ ‬بفترات‭ ‬مختلفة‭ ‬تحظى‭ ‬فيها‭ ‬بقدر‭ ‬أكبر‭ ‬أو‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬والحقوق‭.‬

وقد‭ ‬اعترف‭ ‬الزعيم‭ ‬السوفييتي‭ ‬ميخائيل‭ ‬جورباتشوف‭  ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬بتأثير‭ ‬البابا‭ ‬والكنيسة‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬والوسطى،‭ ‬وكان‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬مكنت‭ ‬من‭ ‬تفكيك‭ ‬النظام‭ ‬السوفييتي‭ ‬التوتاليتاري‭ ‬بطريقة‭ ‬سلمية‭. ‬ونذكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬زيارة‭ ‬البابا‭ ‬لبولونيا‭ ‬عام‭ ‬1979‭ ‬وتشجيعه‭ ‬للثوار‭ ‬بعبارته‭ ‬السحرية‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تخافوا‮»‬‭  ‬وخلال‭ ‬الأحداث‭ ‬كانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬تدعو‭ ‬السلطات‭ ‬والمعارضة‭ ‬إلى‭ ‬التزام‭  ‬الهدوء،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تشجع‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الاستقلالية،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬تساعد‭ ‬المعارضة‭ ‬خصوصاً‭ ‬عقب‭ ‬إعلان‭ ‬السلطات‭ ‬البولونية‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬عام‭ ‬1981،‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬حتى‭ ‬يوليو‭ ‬1983،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬استمرت‭ ‬‮«‬التضامن‮»‬‭ ‬في‭ ‬نشاطها‭ ‬بالعمل‭ ‬السري‭ ‬وإصدار‭ ‬الكتب‭ ‬والنشرات‭ ‬والبيانات‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭. ‬كانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬تبدي‭ ‬معارضتها‭ ‬للنظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬منها‭ ‬مقاطعة‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬الانتخابات‭ ‬البرلمانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عملية‭ ‬شكلية‭ ‬لا‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬البابا‭ ‬يوحنا‭ ‬بولس‭ ‬الثاني‭ ‬واتحاد‭ ‬نقابات‭ ‬العمال‭ ‬الأمريكية،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬دعم‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬تمثَّل‭ ‬في‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬فعند‭ ‬إعلان‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬عام‭ ‬1980،‭ ‬فرضت‭ ‬واشنطن‭ ‬عقوبات‭ ‬اقتصادية‭ ‬على‭ ‬بولونيا‭ ‬وعلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬معاً،‭ ‬وأخذت‭ ‬تدعم‭ ‬نقابة‭ ‬التضامن‭ ‬بصورة‭ ‬سرية،‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬معركتها‭ ‬ضد‭ ‬الشيوعية‭ ‬التي‭ ‬بدأها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬رونالد‭ ‬ريجان‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬أما‭ ‬نقابات‭ ‬العمال‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬فوقفت‭ ‬إلى‭ ‬جانبها،‭ ‬كما‭ ‬دافعت‭ ‬منظمة‭ ‬العمل‭ ‬الدولية‭ ‬عن‭ ‬نقابة‭ ‬التضامن‭ ‬وطالبت‭ ‬برفع‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭. ‬وقد‭ ‬حصلت‭ ‬الحركة‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬معنوي‭ ‬جديد‭ ‬عندما‭ ‬زارت‭ ‬مارجريت‭ ‬تاتشر‭ ‬رئيسة‭ ‬وزراء‭ ‬بريطانيا‭ ‬بولونيا‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬وأبلغت‭ ‬ياروجلسكي‭ ‬أن‭ ‬بولونيا‭ ‬لن‭ ‬يتحسَّن‭ ‬اقتصادها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعمَّ‭ ‬الحرية‭ ‬فيها،‭ ‬وخاطبت‭ ‬عمال‭ ‬غدانسك‭ ‬المضربين‭ ‬‮«‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يوقفكم‮»‬‭.‬

 

دور‭ ‬اليهود

كانت‭ ‬بولونيا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬مركزاً‭ ‬مهماً‭ ‬للديانة‭ ‬اليهودية‭ ‬وعلوم‭ ‬اليهود‭ ‬الدينية‭. ‬لقد‭ ‬استقر‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬منذ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬الملاحقات‭ ‬والاضطهادات‭ ‬التي‭ ‬عانوها‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬الأخرى‭. ‬ويتبين‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬التاريخية‭ ‬أن‭ ‬حكام‭ ‬بولونيا‭ ‬كانوا‭ ‬يستقبلونهم‭ ‬بترحاب،‭ ‬لأنهم‭ ‬أرادوا‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬اليهود‭ ‬منافسين‭ ‬للألمان‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يستوطنون‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬البولونية‭. ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬اليهود‭ ‬ظروفاً‭ ‬ملائمة‭ ‬للتطور‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فسكنوا‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬تجمعات‭ ‬منفصلة‭ (‬جيتو‭   Ghetto‭) ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬شؤونها‭ ‬ذاتياً،‭ ‬وبعد‭ ‬توحيد‭ ‬بولونيا‭ ‬وليتوانيا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬راح‭ ‬اليهود‭ ‬يستقرون‭ ‬في‭ ‬أراضي‭ ‬ليتوانيا‭ ‬أيضاً‭. ‬في‭ ‬عام‭ ‬1939‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬ونصف‭ ‬المليون‭ ‬أي‭ ‬حوالي‭ ‬10‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬سكانها‭. ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬انخفض‭ ‬عددهم‭ ‬إلى‭ ‬حوالي‭ ‬200000‭ ‬فقط‭ ‬بسبب‭ ‬عمليات‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬المخططة‭ ‬والمنظَّمة‭ ‬بدقة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المحتلين‭ ‬النازيين‭ ‬الألمان،‭ ‬والتي‭ ‬استهدفت‭ ‬اليهود‭ ‬كما‭ ‬استهدفت‭ ‬البولون‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الجنسيات‭ ‬الأخرى‭ ‬والغجر‭. ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬الحكم‭ ‬الشيوعي‭ ‬فضل‭ ‬عدد‭ ‬منهم‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬انتمائهم‭ ‬القومي‭ ‬والديني‭ ‬وبدلوا‭ ‬أسماءهم‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مساهمة‭ ‬اليهود‭ ‬البولون‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬كانت‭ ‬مهمة‭ ‬جداً،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬أحواض‭ ‬السفن‭ ‬والمدن‭ ‬الكبرى‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬فجَّرت‭ ‬الثورة‭ ‬ضد‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭. ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬نفوذهم‭ ‬بعد‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭. ‬أعود‭ ‬بالذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬القس‭ ‬يانوفسكي‭ ‬المقرب‭ ‬من‭ ‬فاليسا،‭ ‬وبحضوره،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مواعظه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1995‭: ‬‮«‬إن‭ ‬البولون‭ ‬لا‭ ‬يدرون‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬يحكمهم،‭ ‬هل‭ ‬اليهود‭ ‬القادمون‭ ‬من‭ ‬موسكو،‭ ‬أم‭ ‬إسرائيل؟‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬عتب‭ ‬اليهود‭ ‬على‭ ‬فاليسا،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬كلام‭ ‬القس‭.‬

 

السلطات‭ ‬تعترف‭ ‬بأول‭ ‬نقابة‭ ‬غير‭ ‬شيوعية

نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬اندلعت‭ ‬التظاهرات‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬المدن‭ ‬بشكل‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬مثيل‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بنقابة‭ ‬التضامن‭ ‬كأول‭ ‬نقابة‭ ‬لا‭ ‬تتبع‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي،‭ ‬وإجراء‭ ‬مفاوضات‭ ‬معها‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬أسلوبها‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأزمات‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هنغاريا‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا،‭ ‬وذلك‭ ‬بعزل‭ ‬الحركة‭ ‬والردع‭ ‬المنظم‭ ‬للمضربين‭. ‬وقد‭ ‬تقوم‭ ‬السلطة‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬بتقديم‭ ‬بعض‭ ‬التنازلات‭ ‬بهدف‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬حركة‭ ‬الإضرابات‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬فقد‭ ‬اختلف‭ ‬الوضع‭ ‬ورأى‭ ‬السوفييت‭ ‬أنهم‭ ‬أمام‭ ‬حركة‭ ‬عمالية‭ ‬منظمة‭ ‬وقوية‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬الحزب‭. ‬

نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬الضغوطات‭ ‬والوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتدهور‭ ‬قبل‭ ‬ياروجلسكي‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬أن‭ ‬يفاوض‭ ‬‮«‬التضامن‮»‬‭ ‬وعقدت‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬الطاولة‭ ‬المستديرة‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬لقد‭ ‬جلست‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الطاولة‭ ‬عندما‭ ‬قدَّمتُ‭ ‬أوراق‭ ‬اعتمادي‭ ‬إلى‭ ‬فاليسا‭ ‬رئيس‭ ‬جمهورية‭ ‬بولونيا‭ ‬في‭ ‬حينه‭. ‬توصَّل‭ ‬الطرفان‭ ‬إلى‭ ‬إصلاحات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬جرت‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬أول‭ ‬انتخابات‭ ‬حرة‭ ‬في‭ ‬الكتلة‭ ‬الشيوعية،‭ ‬فازت‭ ‬بنتيجتها‭ ‬حركة‭ ‬التضامن‭ ‬بأكثرية‭ ‬المقاعد،‭ ‬وشكلت‭ ‬أول‭ ‬حكومة‭ ‬غير‭ ‬شيوعية‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬حركة‭ ‬التضامن‭ ‬سلمية،‭ ‬حققت‭ ‬أهدافها‭ ‬وأكثر‭ ‬مما‭ ‬طمحت‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬أرادت‭ ‬تحقيقه‭. ‬وبعد‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬انهار‭ ‬جدار‭ ‬برلين،‭ ‬وأطيح‭ ‬بعناصر‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬خسارة‭ ‬فادحة‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬بولونيا‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬شرق‭ ‬أوربا‭ ‬هو‭ ‬أهميتها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه،‭ ‬إذ‭ ‬يعتبرها‭ ‬مركز‭ ‬المنطقة‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬على‭ ‬حدوده‭ ‬الغربية،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬بولونيا‭ ‬تشكل‭ ‬حاجزاً‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ألمانيا،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬ثقلاً‭ ‬سكانياً‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المزايا‭ ‬تنقلب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬نقاط‭ ‬ضعف،‭ ‬فالوعي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬البولوني‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬تاريخ‭ ‬من‭ ‬العداء‭ ‬لروسيا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬القوة‭ ‬المهيمنة‭ ‬في‭ ‬التقسيمات‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬لبولونيا‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭. ‬وعندما‭ ‬توصلت‭ ‬السلطات‭ ‬والمعارضة‭ ‬نتيجة‭ ‬محادثات‭ ‬الطاولة‭ ‬المستديرة‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬إلى‭ ‬حلول‭ ‬وسطية‭ ‬تضمنت‭ ‬إجراء‭ ‬انتخابات‭ ‬برلمانية‭ ‬دعمت‭ ‬الكنيسة‭ ‬مرشحي‭ ‬نقابة‭ ‬التضامن‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬أول‭ ‬حكومة‭ ‬غير‭ ‬شيوعية‭ ‬عجلت‭ ‬بانتقال‭ ‬بولونيا‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬حر‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬العامة‭ ‬عام‭ ‬1990‭ ‬فقد‭ ‬أيدت‭ ‬ترشيح‭ ‬ليش‭ ‬فاليسا،‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بالرئاسة،‭ ‬ثم‭ ‬أعلنت‭ ‬حيادها‭ ‬ووجه‭ ‬الأساقفة‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬أتباعهم‭ ‬‮«‬إننا‭ ‬لا‭ ‬ننحاز‭ ‬إلى‭ ‬طرف‭ ‬معين‮»‬‭ ‬والتزم‭ ‬القساوسة‭ ‬ألا‭ ‬يقودوا‭ ‬الحملات‭ ‬الانتخابية‭ ‬وألا‭ ‬يسمحوا‭ ‬لأحد‭ ‬بقيادتها‭ ‬في‭ ‬الكنائس‭ ‬أو‭ ‬بنشر‭ ‬الدعاية‭ ‬بدعم‭ ‬أحد‭.‬

 

انهيار‭ ‬النظام‭ ‬التوتاليتاري

السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭: ‬لماذا‭ ‬ذهب‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الجبروتي،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬ظاهر‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬المادية‭ ‬وفي‭ ‬المجالات‭ ‬الفنية‭ ‬والعمرانية‭ ‬والعلمية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬إنجازاته‭ ‬وكفاءاته؟

إن‭ ‬النظام‭ ‬السوفييتي‭ ‬لم‭ ‬يتطور‭ ‬بسبب‭ ‬عاملين‭ ‬رئيسين‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬أولهما‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬والقمع‭ ‬والطبقة‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬والضاغطة‭ ‬بأن‭ ‬يستمر‭ ‬الوضع‭ ‬على‭ ‬حاله‭. ‬وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬جمود‭ ‬سياسي‭ ‬واقتصادي‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‭. ‬وأما‭ ‬العامل‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬تفكير‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬بولونيا‭ ‬التي‭ ‬استفادت‭ ‬من‭ ‬الأوضاع‭ ‬القائمة،‭ ‬وقد‭ ‬ارتبطت‭ ‬مصالحها‭ ‬بمصالح‭ ‬القوة‭ ‬المسيطرة‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬لرأي‭ ‬المواطنين‭ ‬أو‭ ‬لأي‭ ‬انتخابات‭ ‬شعبية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬لأي‭ ‬إصلاح‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬اقتصادي‭. ‬

وقد‭ ‬صوّر‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أن‭ ‬الشعوب‭ ‬السوفييتية‭ ‬كانت‭ ‬كمن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬وليس‭ ‬له‭ ‬آخر‭. ‬كان‭ ‬القطار‭ ‬يهتزّ‭ ‬ويعتقد‭ ‬من‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬يسير،‭ ‬وعندما‭ ‬جاء‭ ‬جورباتشوف‭ ‬وأعلن‭ ‬سياسته‭ ‬الإصلاحية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬perestroika‭ ‬and‭ ‬glasnost‭ ‬‭(‬الإصلاح‭ ‬والشفافية‭) ‬وأزاح‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬نوافذ‭ ‬القطار،‭ ‬وجد‭ ‬الركاب‭ ‬أنهم‭ ‬لايزالون‭ ‬في‭ ‬مكانهم،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬القطار‭ ‬يتحرك‭ ‬ببطء‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬فبدأوا‭ ‬يفرّون‭ ‬من‭ ‬النوافذ‭ ‬والأبواب،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬الفارين‭ ‬بولونيا‭.‬

 

بولونيا‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ديمقراطيتها

وعندما‭ ‬تخلصت‭ ‬بولونيا‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬المفروض‭ ‬عليها،‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬مبادئها‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وتبادل‭ ‬السلطة‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬اختيار‭ ‬الشعب‭ ‬حكامه،‭ ‬وعلى‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬السلطات،‭ ‬وجعل‭ ‬الانتخابات‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المحافظة‭ ‬والقاعدة‭ ‬النسبية‭. ‬ورُبّ‭ ‬سائل‭ ‬يسأل‭ ‬اليوم‭: ‬أين‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬التاريخي‭ ‬بل‭ ‬الأسطوري‭ ‬الذي‭ ‬غيَّر‭ ‬وجه‭ ‬العالم؟‭ ‬فاليسا‭ ‬يرأس‭ ‬اليوم‭ ‬حزباً‭ ‬سياسياً‭ ‬صغيراً‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬البرلمانية‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬عام‭ ‬2001‭. ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬حزبه‭ ‬أن‭ ‬يوصل‭ ‬نائباً‭ ‬واحداً‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬النسبة‭ ‬الدنيا‭ ‬المطلوبة‭ ‬وهي‭ ‬5‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬الناخبين‭.‬

‭ ‬

مَن‭ ‬يفجِّر‭ ‬الثورة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬للحكم

أين‭ ‬أصبح‭ ‬هؤلاء‭ ‬اللاعبون‭ ‬الكبار‭ ‬ومستشاروهم‭ ‬الذين‭ ‬غيَّروا‭ ‬وجه‭ ‬التاريخ‭ ‬وأدخلوا‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬عصر‭ ‬القطب‭ ‬الواحد؟‭ ‬فاليسا‭ ‬يبقى‭ ‬رمزاً‭ ‬للتاريخ‭ ‬البولوني‭ ‬بل‭ ‬لتاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬أما‭ ‬الجنرال‭ ‬ياروجلسكي‭ ‬الذي‭ ‬أنقذ‭ ‬بولونيا‭ ‬من‭ ‬سحق‭ ‬السوفييت‭ ‬لها،‭ ‬فلا‭ ‬تزال‭ ‬محاكمته‭ ‬مستمرة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1994‭. ‬لقد‭ ‬سمحت‭ ‬لي‭ ‬الظروف‭ ‬بلقاء‭ ‬الرجلين،‭ ‬فشعرت‭ ‬أن‭ ‬فاليسا‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬كان‭ ‬يصلح‭ ‬لمرحلة‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬يصلح‭ ‬لما‭ ‬بعدها‭. ‬فعندما‭ ‬انتهت‭ ‬رئاسته‭ ‬للجمهورية‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬راتب،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هنالك‭ ‬قانون‭ ‬يمنحه‭ ‬ذلك،‭ ‬فهدد‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬عمله‭ ‬السابق‭ ‬كعامل‭ ‬كهربائي‭ ‬في‭ ‬أحواض‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬غدانسك،‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬أشعل‭ ‬فيه‭ ‬ثورته،‭ ‬ليعيل‭ ‬نفسه‭ ‬وأسرته‭ ‬الكبيرة،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬الحكومة‭ ‬إلى‭ ‬تخصيص‭ ‬راتب‭ ‬له‭. ‬أما‭ ‬الجنرال‭ ‬ياروجلسكي‭ ‬فهو‭ ‬يجسِّد‭ ‬تاريخ‭ ‬التوتاليتارية،‭ ‬يخاطبك‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬نظارات‭ ‬سوداء،‭ ‬منتصب‭ ‬القامة،‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬مظاهر‭ ‬القوة‭ ‬رغم‭ ‬تقدمه‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬فلا‭ ‬تقرأ‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬إلا‭ ‬علامات‭ ‬الاستفهام‭. ‬حوكم‭ ‬أخيراً‭ ‬هو‭ ‬وسبعة‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬الشيوعيين‭ ‬بتهمة‭ ‬إعلان‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬عام‭ ‬1981‭ ‬دون‭ ‬وجه‭ ‬حق،‭ ‬وبارتكاب‭ ‬انتهاكات‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬قائلاً‭ ‬إن‭ ‬قراره‭ ‬إعلان‭ ‬الأحكام‭ ‬عرفياً‭ ‬كان‭ ‬شراً‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منه،‭ ‬لأنه‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬درء‭ ‬كارثة‭ ‬كانت‭ ‬تتربَّص‭ ‬ببولونيا‭ ‬ومهّد‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وأنه‭ ‬جنّب‭ ‬بولونيا‭ ‬تدخلاً‭ ‬عسكرياً‭ ‬سوفييتياً‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬للمجر‭ ‬عام‭ ‬1956‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬لأن‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬كانت‭ ‬ستقوم‭ ‬بهذه‭ ‬الخطوة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ (‬مؤسسة‭ ‬دبي‭ ‬للإعلام‭). ‬

لقد‭ ‬أدى‭ ‬كلا‭ ‬الرجلين‭ ‬دوره‭ ‬وفقاً‭ ‬لما‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬مصلحة‭ ‬بلده‭. ‬أما‭ ‬بولونيا‭ ‬فقد‭ ‬تصالحت‭ ‬مع‭ ‬نفسها‭ ‬وتصالحت‭ ‬مع‭ ‬جيرانها‭ ‬ومعظمهم‭ ‬كانوا‭ ‬أعداء‭ ‬الأمس،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬1939‭ ‬كانت‭ ‬بهجوم‭ ‬ألمانيا‭ ‬على‭ ‬بولونيا،‭ ‬كان‭ ‬البولينيون‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قالوا‭ ‬لهتلر‭ ‬‮«‬لا‮»‬‭ ‬وأبوا‭ ‬الاستسلام،‭ ‬وهم‭ ‬قالوا‭ ‬للسوفييت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭  ‬‮«‬كفى‮»‬‭ ‬ودمّروا‭ ‬الهيكل‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬بولونيا‭ ‬من‭ ‬تقدم‭ ‬واستقرار‭ ‬كان‭ ‬لمصالحتها‭ ‬مع‭ ‬نفسها‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬مع‭ ‬جيرانها‭ ‬ثانياً‭... ‬تصالحت‭ ‬بولونيا‭ ‬مع‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬الاجتماع‭ ‬التاريخي‭ ‬بين‭ ‬الحكومة‭ ‬وممثلي‭ ‬النقابة،‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬باجتماع‭ ‬الطاولة‭ ‬المستديرة،‭ ‬وقد‭ ‬سرّعت‭ ‬أحداث‭ ‬بولونيا‭ ‬استقلال‭ ‬جميع‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الوسطى‭ ‬والشرقية‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬بولونيا‭ ‬تصالحت‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬داخلها،‭ ‬فإنها‭ ‬تصالحت‭ ‬أيضاً‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬اليهودية‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بتاريخها‭ ‬منذ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬وشكلت‭ ‬لها‭ ‬عقدة‭ ‬ذنب‭ ‬ومعاناة‭ ‬كمعاناة‭ ‬بطل‭ ‬أسطورة‭ ‬سيزيف،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬الدعاية‭ ‬اليهودية‭  ‬والدعم‭ ‬الأمريكي‭. ‬لقد‭ ‬واجهت‭ ‬بولونيا‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬بجرأة‭ ‬وموضوعية‭ ‬بهدف‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭. ‬تصالحت‭ ‬بولونيا‭ ‬مع‭ ‬جيرانها،‭ ‬وطوروا‭ ‬معاً‭ ‬لغة‭ ‬مشتركة‭ ‬وبدأوا‭ ‬عهداً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬حسن‭ ‬الجوار‭ ‬والتعاون‭.‬

 

الخلاصة

هذا‭ ‬هو‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬لعبته‭ ‬بولونيا‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العلمي،‭ ‬منذ‭ ‬كوبرنيكوس‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬آفاقاً‭ ‬واسعة‭ ‬للفكر‭ ‬البشري‭ ‬بتحريره‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الإرث‭ ‬اليوناني‭ ‬والروماني،‭ ‬وسيطرة‭ ‬الكنيسة‭ ‬وتقاليدها‭ ‬وتراثها‭. ‬أما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي،‭ ‬فإنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تضاؤل‭ ‬حجم‭ ‬نقابة‭ ‬التضامن‭ ‬وانكماشها‭ ‬وما‭ ‬انفك‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬مؤيدين‭ ‬الآن،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭ ‬الجناح‭ ‬اليمين‭ ‬المعتدل‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الأحزاب‭ ‬الاشتراكية‭ ‬التي‭ ‬انبثقت‭ ‬من‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬هذا‭ ‬التنظيم‭ ‬وسوف‭ ‬يبقى‭ ‬يشغل‭ ‬حيزاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬بولونيا‭ ‬وفي‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬وتراثاً‭ ‬إنسانياً‭ ‬تقتدي‭ ‬به‭ ‬الشعوب‭ ‬المقهورة‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬الظلم‭. ‬لقد‭ ‬لسعت‭ ‬الشعب‭ ‬البولوني‭ ‬زيادة‭ ‬طفيفة‭ ‬في‭ ‬أسعار‭ ‬اللحوم‭ ‬فرضتها‭ ‬السلطة‭ ‬فثار‭ ‬ودمّر‭ ‬هياكل‭ ‬هذه‭ ‬السلطة‭ ‬الشمولية‭.‬

وفي‭ ‬غمرة‭ ‬أحداث‭ ‬ما‭ ‬سُمِّي‭ ‬بالربيع‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬ساده‭ ‬العنف‭ ‬والقتل‭ ‬والتهجير‭ ‬بكل‭ ‬وسائل‭ ‬القمع‭ ‬والأسلحة‭ ‬الفتاكة‭ ‬والمدمرة،‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬حريّاً‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نتعلم‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬البولونية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ثورة‭ ‬سلمية‭ ‬شعبية،‭ ‬شعارها‭ ‬‮«‬لا‭ ‬للعنف‮»‬،‭ ‬لكي‭ ‬نتجنب‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬

بقايا‭ ‬جدران‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى