على هامش ملتقى «العربي» الرابع عشر «ثقافة التسامح والسلام»

على هامش ملتقى «العربي» الرابع عشر  «ثقافة التسامح والسلام»

إذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬معنى‭ ‬أنْ‭ ‬كنا‭ ‬أو‭ ‬نكون‭ ‬‮«‬أمة‭ ‬وسطاً‮»‬،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬لنا‭ ‬أولا‭ ‬من‭ ‬استيعاب‭ ‬المعنى،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تحديد‭ ‬المفهوم،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شرح‭ ‬الدلالة‭.‬‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬الوسط‮»‬‭ ‬مجالاً‭ ‬بين‭ ‬نقيضين‭: ‬يمين‭ ‬ويسار،‭ ‬أمام‭ ‬وخلف،‭ ‬أعلى‭ ‬وأسفل،‭ ‬خير‭ ‬وشر،‭ ‬صواب‭ ‬وخطأ،‭ ‬صحيح‭ ‬وباطل،‭ ‬جميل‭ ‬وقبيح،‭ ‬حلال‭ ‬وحرام‭... ‬وهكذا‭.‬

فإذا‭ ‬كان‭ ‬‮«‬الوسط‮»‬‭ ‬زماناً‭ ‬أو‭ ‬مكاناً‭ ‬أو‭ ‬اسماً‭ ‬أو‭ ‬شكلاً‭ ‬أو‭ ‬صفة‭ ‬أو‭ ‬حالاً،‭ ‬فلا‭ ‬دلالة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬إرادة‭ ‬الله‭ ‬بأن‭ ‬جعلنا‭ ‬أمة‭ ‬وسطا،‭ ‬فالحقُّ‭ ‬أن‭ ‬يؤخذ‭ ‬الصواب‭ ‬كله‭ ‬والصحيح‭ ‬كله،‭ ‬ويُترك‭ ‬الخطأ‭ ‬والباطل‭ ‬كله،‭ ‬فمن‭ ‬الجهل‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬فوق‭ ‬برزخ‭ ‬بين‭ ‬النقيضين،‭ ‬ونقول‭ ‬إننا‭ ‬أمة‭ ‬وسط،‭ ‬فهذا‭ ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬خسران‭ ‬عظيم‭. ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬ما‭ ‬ندين‭ ‬به‭ ‬اعتقاد‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬معتقدات‭ ‬الأديان،‭ ‬أو‭ ‬عبادة‭ ‬أو‭ ‬شريعة‭ ‬وسطية،‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا؟‭ ‬إذن،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأمر‭ ‬يقتضي‭ ‬منا‭ ‬تحديد‭ ‬ماهية‭ ‬‮«‬الوسط‮»‬‭ ‬أولاً،‭ ‬ربما‭ ‬بين‭ ‬شيئين‭ ‬غير‭ ‬متناقضين‭ ‬وغير‭ ‬متشابهين،‭ ‬وكلاهما‭ ‬خير‭ ‬إن‭ ‬أُعْمِل‭ ‬وشر‭ ‬إن‭ ‬أُهْمِل،‭ ‬فما‭ ‬هما؟

‭ ‬تأتي‭ ‬وسطية‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬الأخذ‭ ‬بمعطيات‭ ‬العقل‭ ‬والنقل‭ ‬بمقدار‭ ‬درء‭ ‬الشكّ‭ ‬العقلي‭ ‬والأخذ‭ ‬باليقين‭ ‬النقلي،‭ ‬فالتفكير‭ ‬العقلي‭ ‬يقوم‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬الشك‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬الإيمان‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬اليقين‭ ‬لإثبات‭ ‬الحقّ‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الاختلاف‭ ‬الأصل‭ ‬بين‭ ‬الفلاسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الأمة‭ ‬ضحية‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف،‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬صراع،‭ ‬فمنذ‭ ‬أن‭ ‬تشكك‭ ‬مثقفو‭ ‬الأمة‭ ‬بمقام‭ ‬الفلسفة‭ ‬ووقفوا‭ ‬ضدها،‭ ‬تراجعت‭ ‬قدرة‭ ‬العلماء‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الميادين‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬المضي‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭. ‬وليعلم‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬بأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬علماء‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولا‭ ‬نقول‭ ‬بعضهم‭ ‬أو‭ ‬معظمهم،‭ ‬ممن‭ ‬قدم‭ ‬للحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬سبقاً‭ ‬علمياً‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬كالطب‭ ‬والفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬والرياضيات‭ ‬والفلك،‭ ‬قد‭ ‬اتُّهم‭ ‬في‭ ‬دينه‭ ‬ونواياه،‭ ‬حتى‭ ‬وصموا‭ ‬بالكفر‭ ‬أو‭ ‬الإلحاد‭ ‬أو‭ ‬الزندقة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أقلّ‭ ‬تقدير‭ ‬وُصِفوا‭ ‬بأنّهم‭ ‬محدثو‭ ‬بدعة‭. ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬المبدعون‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والأدب‭ ‬من‭ ‬تهمة‭ ‬الزندقة‭ ‬التي‭ ‬أُلحقت‭ ‬بالحلاج‭ ‬وأبي‭ ‬يزيد‭ ‬البسطامي‭ ‬ومحيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي،‭ ‬وقد‭ ‬نالت‭ ‬من‭ ‬المتنبي‭ ‬والمَعَرّي‭ ‬وبشّار‭ ‬بن‭ ‬بُرْد،‭ ‬وأُلصقت‭ ‬بعبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‭ ‬وابن‭ ‬الريوندي،‭ ‬وآخرين‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬والمفكرين‭. ‬

 

قائمة‭ ‬سوداء

أما‭ ‬قائمة‭ ‬الأسماء‭ ‬الأطول‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬اتهم‭ ‬بالكفر‭ ‬والإلحاد،‭ ‬فقد‭ ‬شملت‭: ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬حيان‭ (‬كيميائي‭)‬،‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬الخوارزمي‭ (‬رياضيـــاتي‭)‬،‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬زكريا‭ ‬الرازي‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ (‬من‭ ‬الأطباء‭)‬،‭ ‬والحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم‭ (‬فيزيائي‭)‬،‭ ‬وعمر‭ ‬الخيام‭ (‬فلكي‭)‬،‭ ‬والزهراوي‭ ‬وابن‭ ‬النفيس‭ (‬من‭ ‬الجراحين‭).‬‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعلام‭ ‬الذين‭ ‬يفخر‭ ‬بهم‭ ‬العالم،‭ ‬اتهموا‭ ‬في‭ ‬دينهم‭ ‬في‭ ‬عصرهم،‭ ‬وكان‭ ‬أساس‭ ‬التكفير‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬شطط‭ ‬التفكير،‭ ‬فقد‭ ‬حَسِبَ‭ ‬مناهضوهم‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬تقدّم‭ ‬عن‭ ‬الركب‭ ‬خروج‭ ‬عن‭ ‬الأمة،‭ ‬وأنّ‭ ‬كل‭ ‬إبداعٍ‭ ‬بدعة،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أصل‭ ‬له‭ ‬بنص‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬يُحظر‭ ‬اتباعه،‭ ‬فحثوا‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬الجديد،‭ ‬علماً‭ ‬وفكراً‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ادعاؤهم‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مزاعمهم‭ ‬بأنّ‭ ‬الدين‭ ‬صالح‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬فأطّروا‭ ‬الدين‭ ‬بالنصّ،‭ ‬وشرحوا‭ ‬النصّ‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬هواهم‭. ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬الديني،‭ ‬حسب‭ ‬مفهومهم‭ ‬له،‭ ‬مرفوض‭ ‬لديهم،‭ ‬وبهذا‭ ‬كان‭ ‬الثبات‭ ‬السلبي‭ ‬صفة‭ ‬ملازمة‭ ‬لهم،‭ ‬فحين‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬تاريخهم‭ ‬عن‭ ‬التقدم‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬إلا‭ ‬رجعية‭. ‬لقد‭ ‬أشار‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬القانون‭ ‬في‭ ‬الطبّ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تلازم‭ ‬العلة‭ ‬بين‭ ‬النفس‭ ‬والجسد‮»‬،‭ ‬فإذا‭ ‬اشتكى‭ ‬عضو‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الجسد‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬ما،‭ ‬اعتلت‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬الشكوى‭ ‬النفس،‭ ‬فترى‭ ‬الإنسان‭ ‬حزينا‭ ‬مكتئبا،‭ ‬والعكس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬صحيح‭. ‬وفي‭ ‬حقول‭ ‬العقل‭ ‬والنفس‭ ‬والجسد،‭ ‬شرَح‭ ‬الفلاسفة‭ ‬بمنهج‭ ‬العِلْم‭ ‬ما‭ ‬أُبهم‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬مقاصد‭ ‬الفَهْم،‭ ‬فأبت‭ ‬طائفة‭ ‬إلا‭ ‬أنْ‭ ‬تضع‭ ‬تلك‭ ‬الشروح‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الممنوع‭ ‬والمُحَرَّم‭ ‬قراءته‭ ‬وتداوله،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬حَدَّ‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬العقل،‭ ‬ووَسَّع‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬تناول‭ ‬النقل؛‭ ‬المنقول‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬والتراث‭ ‬وتجارب‭ ‬السالفين‭. ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬الحضارات‭ ‬قامت‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬من‭ ‬المنقول،‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬باختيار‭ ‬الجزء‭ ‬الموثوق‭ ‬والصحيح‭ ‬منه،‭ ‬وتركت‭ ‬الغَثّ‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتواءم‭ ‬مع‭ ‬مسيرة‭ ‬التقدم‭ ‬الحضاري،‭ ‬فتعاملت‭ ‬مع‭ ‬صحيح‭ ‬المنقول‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬معقول‭ ‬ومقبول‭ ‬لبناء‭ ‬حاضر‭ ‬ومستقبل‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدولة‭. ‬والدول‭ ‬المتخلفة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬وتقف‭ ‬عنده،‭ ‬خائفة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جديد،‭ ‬تحسَب‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الوقوف‭ ‬لها‭ ‬حصن‭ ‬عن‭ ‬الزلل‭ ‬والضلال‭. ‬تقف‭ ‬لتنتظر‭ ‬النهاية،‭ ‬نهاية‭ ‬الحياة،‭ ‬للفوز‭ ‬بحياة‭ ‬أخرى‭ ‬أفضل،‭ ‬رغم‭ ‬تذكير‭ ‬كل‭ ‬الأديان‭ ‬للإنسان‭ ‬بالعمل‭ ‬الحثيث‭ ‬والتفكير‭ ‬العميق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العطاء‭ ‬والبناء‭. ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬للإنسان‭ ‬من‭ ‬تنمية‭ ‬عقله‭ ‬ونفسه‭ ‬وجسده،‭ ‬ليكون‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الهدف‭ ‬المنشود‭... ‬‮«‬السعادة‮»‬‭. ‬

 

السعادة‭ ‬هدف‭ ‬الحياة

إنّ‭ ‬السعادة‭ ‬ليست‭ ‬ترفاً،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬هدف‭ ‬أصلي‭ ‬من‭ ‬أهداف‭ ‬الحياة،‭ ‬أكان‭ ‬ذلك‭ ‬بكفاية‭ ‬الحاجات‭ ‬أم‭ ‬بتحصيل‭ ‬المندوب‭ ‬من‭ ‬الرغبات‭ ‬أو‭ ‬الجائز‭ ‬من‭ ‬الأمنيات‭. ‬ولنعلم‭ ‬بأنّه‭ ‬ليس‭ ‬بالحزن‭ ‬والألم‭ ‬نسلم‭ ‬وندرك‭ ‬الغايات،‭ ‬بل‭ ‬بالكدّ‭ ‬والجدّ‭ ‬والعمل،‭ ‬فقد‭ ‬أكد‭ ‬الأطباء‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬أنّ‭ ‬السعادة‭ ‬والفرح‭ ‬شفاء،‭ ‬والحزن‭ ‬والغضب‭ ‬يضعفان‭ ‬من‭ ‬مناعة‭ ‬الإنسان‭ ‬فيجعلانه‭ ‬عرضة‭ ‬لعلة‭ ‬النفس‭ ‬وأمراض‭ ‬الجسد‭. ‬أما‭ ‬الخوف،‭ ‬فإنه‭ ‬يورِّث‭ ‬الارتباك‭ ‬والقلق،‭ ‬فهل‭ ‬رأيت‭ ‬خائفاً‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬إنجازاً،‭ ‬أو‭ ‬مرتبكاً‭ ‬ناجحاً،‭ ‬أو‭ ‬قلِقاً‭ ‬مبدعاً؟‭ ‬ولكل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬نقول‭ ‬إنّ‭ ‬الوسطية‭ ‬ليست‭ ‬قُطْرا‭ ‬لدائرة‭ ‬الحياة‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مركزها،‭ ‬فمهما‭ ‬كَبُرت‭ ‬الدائرة‭ ‬أو‭ ‬ضاقت،‭ ‬ظل‭ ‬المركز‭ ‬مكانه‭ ‬لا‭ ‬يتغير‭. ‬والوسطية‭ ‬هي‭ ‬الجوهر‭ ‬الفرد‭ ‬الذي‭ ‬تنبثق‭ ‬منه‭ ‬وعنه‭ ‬دوائر‭ ‬موجات‭ ‬عاطفة‭ ‬النفس‭ ‬وإشعاعات‭ ‬ضياء‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مرتبة‭ ‬من‭ ‬مراتب‭ ‬العقل‭. ‬وعليه‭ ‬فإنّ‭ ‬الوسطية‭ ‬لا‭ ‬يحدها‭ ‬الزمان‭ ‬أو‭ ‬المكان،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬فطرة‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬لتكون‭ ‬خُلُقاً‭ ‬عاماً‭ ‬في‭ ‬عباده‭ ‬المخلصين‭. ‬أمّا‭ ‬التطرف،‭ ‬فمنبوذ‭ ‬بعموم‭ ‬أشكاله‭ ‬واتجاهاته،‭ ‬التي‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬حافة‭ ‬سقوط‭ ‬الأمم‭ ‬والدول‭ ‬والحضارات‭. ‬إنّ‭ ‬الشعوب‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬بدولها‭ ‬دائماً،‭ ‬فبناء‭ ‬ثقافة‭ ‬الشعوب‭ ‬ورفعتها‭ ‬أمر‭ ‬حتمي‭ ‬على‭ ‬حكوماتها‭ ‬وقياداتها،‭ ‬لأن‭ ‬درب‭ ‬السلامة‭ ‬والسلام‭ ‬لا‭ ‬يمهده‭ ‬الجهل‭ ‬والتطرف،‭ ‬ولا‭ ‬الطغيان‭ ‬والتجبُّر،‭ ‬إنما‭ ‬يرصفه‭ ‬الإخلاص‭ ‬والأمل‭ ‬بالمستقبل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العطاء‭ ‬الجاد‭ ‬بالتخطيط‭ ‬والعمل‭. ‬

 

التطرف‭ ‬فاتحة‭ ‬الإرهاب

إن‭ ‬التطرف‭ ‬فاتحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬وطغيان‭ ‬الجهل‭ ‬وانتشاره،‭ ‬وهو‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬إدراك‭ ‬أبعاد‭ ‬النص‭ ‬الديني‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬تفسيره‭ ‬أو‭ ‬تأويله‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬هوى‭ ‬الجاهلين‭ ‬ثانياً،‭ ‬فإذا‭ ‬تم‭ ‬إعمال‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم‭ ‬الخاطئ،‭ ‬حلّت‭ ‬الفوضى‭ ‬بالمجتمع‭ ‬واضطرب‭ ‬الحكم‭ ‬وانهارت‭ ‬الدولة‭. ‬وفي‭ ‬دولة‭ ‬الإسلام‭ ‬الأولى،‭ ‬يأتي‭ ‬الخوارج‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬قائمة‭ ‬التطرُّف،‭ ‬ليشيعوا‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬جهالاتهم،‭ ‬ويشكلوا‭ ‬فصائل‭ ‬عسكرية‭ ‬مبعثرة‭ ‬الأماكن‭ ‬لتمزق‭ ‬كيان‭ ‬الدولة‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تمزق‭ ‬كيان‭ ‬الدولة‭ ‬حتى‭ ‬سقطت‭ ‬دولة‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدين‭. ‬إنّ‭ ‬الظروف‭ ‬السياسية‭ ‬لقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية‭ ‬جعلتها‭ ‬تلجأ‭ ‬أولاً‭ ‬لمنظومة‭ ‬فكرية‭ ‬تؤصِّل‭ ‬فيها‭ ‬منظومتها‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬وإداراته،‭ ‬ومنظومتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أملاك‭ ‬الدولة‭ ‬وأملاك‭ ‬الشعب،‭ ‬ومنظومتها‭ ‬العسكرية‭ ‬والأمنية‭ ‬تجاه‭ ‬أعدائها‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬وخصومها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭. ‬وسواء‭ ‬اتفقنا‭ ‬أو‭ ‬اختلفنا‭ ‬مع‭ ‬المنظومة‭ ‬الفكرية‭ ‬الأموية،‭ ‬فإنّ‭ ‬التاريخ‭ ‬يحكي‭ ‬لنا‭ ‬قرناً‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والأمني‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الحجاج‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬الثقفي‭ ‬إلا‭ ‬رئيساً‭ ‬لجهاز‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزي‭ ‬للدولة،‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬المسمى‭ ‬آنذاك‭ ‬‮«‬البريد‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬تأتيه‭ ‬من‭ ‬أدنى‭ ‬أصقاع‭ ‬الدولة‭ ‬وأقصاها،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬خط‭ ‬محطات‭ ‬البريد‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬القرى‭ ‬والمدن،‭ ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬الواحدة‭ ‬عن‭ ‬الأخرى‭ ‬أربعة‭ ‬فراسخ‭ (‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬ميلاً‭ ‬تقريباً‭)‬،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسهِّل‭ ‬سرعة‭ ‬نقل‭ ‬المعلومة‭ ‬إلى‭ ‬القيادة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬دمشق‭. ‬

 

بريد‭ ‬الفتن

ولم‭ ‬يكن‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية‭ ‬بغريب‭ ‬على‭ ‬ممتهن‭ ‬قراءة‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ‭ ‬بين‭ ‬السطور‭ ‬ومن‭ ‬وراء‭ ‬الكلمات،‭ ‬أن‭ ‬يتبين‭ ‬أنّ‭ ‬السبب‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬سقوط‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية‭ ‬هو‭ ‬سيطرة‭ ‬الخصوم‭ ‬على‭ ‬محطات‭ ‬البريد‭ ‬وإرسالهم‭ ‬رسائل‭ ‬مزورة‭. ‬وعندما‭ ‬أرسل‭ ‬والي‭ ‬خراسان‭ ‬نصر‭ ‬بن‭ ‬سيّار‭ ‬رسائل‭ ‬عديدة‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬مروان‭ ‬بن‭ ‬محمد،‭ ‬آخر‭ ‬خلفاء‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية،‭ ‬يحذره‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬تشتعل‭:‬

أبلِغ‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬رسالة

محبَّرةً‭ ‬عن‭ ‬مُحكمات‭ ‬الرسائلِ

بأنّ‭ ‬عُداة‭ ‬الله‭ ‬أضحوا‭ ‬بأرضنا

يسوموننا‭ ‬إطفاء‭ ‬حقًّ‭ ‬بباطلِ

 

إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬لم‭ ‬تصل،‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬تلقَ‭ ‬اهتماماً،‭ ‬فألحقها‭ ‬برسالة‭ ‬أخرى،‭ ‬قال‭ ‬فيها‭:‬

أرى‭ ‬تحت‭ ‬الرماد‭ ‬وميض‭ ‬جمر

ويوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬ضرام

فإنّ‭ ‬النار‭ ‬بالعودين‭ ‬تذكى

وإن‭ ‬الحرب‭ ‬أوّلها‭ ‬كلام

فإن‭ ‬لم‭ ‬يُطفها‭ ‬عقلاء‭ ‬قومٍ

يكون‭ ‬وقودها‭ ‬جثث‭ ‬وهام

فقلت‭ ‬من‭ ‬التعجب‭ ‬ليت‭ ‬شعري

أأيقاظٌ‭ ‬أميّة‭ ‬أم‭ ‬نيام؟‭!‬

فإن‭ ‬يقظت‭ ‬فذاك‭ ‬بقاء‭  ‬ملك

وإن‭ ‬رقدت‭ ‬فإني‭ ‬لا‭ ‬ألام

فإن‭ ‬يك‭ ‬أصبحوا‭ ‬وثووا‭ ‬نياما

فقل‭ ‬قوموا‭ ‬فقد‭ ‬حان‭ ‬القيام

ففرّي‭ ‬عن‭ ‬رحالك‭ ‬ثم‭ ‬قولي

على‭ ‬الإسلام‭ ‬والعرب‭ ‬السلام

‭***‬

كان‭ ‬انتشار‭ ‬الفتن‭ ‬كانتشار‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬الهشيم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬البريد‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مثل‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬يروّج‭ ‬ويُعلن‭ ‬ويُخفي،‭ ‬فتزيد‭ ‬حيرة‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الحقيقة‭ ‬ومعرفة‭ ‬الحقّ،‭ ‬الذي‭ ‬أرهقه‭ ‬الباطل‭ ‬من‭ ‬أمامه‭ ‬ومن‭ ‬خلفه‭. ‬وها‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬نرى‭ ‬نيران‭ ‬الحروب،‭ ‬وأسوأها‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية،‭ ‬التي‭ ‬يقتل‭ ‬ويضطهد‭ ‬ويسجن‭ ‬ويُشرّد‭ ‬فيها‭ ‬الأخ‭ ‬أخاه‭: ‬

وظلم‭ ‬ذوي‭ ‬القربى‭ ‬أشد‭ ‬مضاضة

على‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬وقع‭ ‬الحسام‭ ‬المهنّدِ

‭ ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬علا‭ ‬دخانها‭ ‬الأسود‭ ‬فحجب‭ ‬رؤية‭ ‬الحق،‭ ‬وأذكى‭ ‬نارا‭ ‬انبعثت‭ ‬منها‭ ‬سموم‭ ‬التحركات‭ ‬الإرهابية‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭: ‬تونس‭ ‬وليبيا‭ ‬ومصر‭ ‬وسورية‭ ‬والعراق‭ ‬واليمن،‭ ‬سموم‭ ‬خنقت‭ ‬شعبنا‭ ‬العربي‭ ‬الحرّ‭ ‬الأبيّ،‭ ‬فأهلكت‭ ‬حرثاً‭ ‬وضرعاً‭ ‬وبشراً،‭ ‬وشردت‭ ‬وخوّفت‭ ‬فأبكت‭ ‬شِيباً‭ ‬ورجالاً‭ ‬ونساء‭ ‬وشباباً‭ ‬وأطفالاً،‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭ ‬آمنين‭... ‬فبلدانهم‭ ‬هي‭ ‬منابع‭ ‬الحضارة‭ ‬ومناهل‭ ‬العلم‭ ‬والفن‭ ‬والأدب‭. ‬فلا‭ ‬تحسب‭ ‬أيها‭ ‬العربي‭ ‬المنكوب‭ ‬في‭ ‬وطنك‭ ‬ومالك‭ ‬وأهلك‭ ‬وعيالك،‭ ‬أنّ‭ ‬إخوانك‭ ‬العرب‭ ‬ليسوا‭ ‬معَك‭ ‬أو‭ ‬ليسوا‭ ‬عليك‭ ‬بمحزونين‭... ‬‮«‬فصبرٌ‭ ‬جميلٌ‭ ‬والله‭ ‬المستعان‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تَصِفون‮»‬‭ (‬سورة‭ ‬يوسف‭:‬18‭)... ‬فلا‭ ‬يزال‭ ‬لسان‭ ‬حالهم‭ ‬يردد‭:‬

أُكَلِّفُ‭ ‬النَّفْسَ‭ ‬صَبْرًا‭ ‬وهْي‭ ‬جازعةٌ‭ ‬

والصّبْر‭ ‬في‭ ‬الحبِّ‭ ‬أعيا‭ ‬كل‭ ‬مشتاقِ

وكيف‭ ‬أنسى‭ ‬دياراً‭ ‬قد‭ ‬تركت‭ ‬بها‭ ‬

أهلاً‭ ‬كراماً‭ ‬لهم‭ ‬ودي‭ ‬وإشفاقي

فيا‭ ‬بريدَ‭ ‬الصَّبَا‭ ‬بَلّغ‭ ‬ذوي‭ ‬رحمي‭ ‬

أنّي‭ ‬مقيم‭ ‬على‭ ‬عهدي‭ ‬وميثاقي

لا‭ ‬بدّ‭ ‬للضِيقِ‭ ‬بعد‭ ‬اليأسِ‭ ‬من‭ ‬فَرَجٍ‭ ‬

وكلّ‭ ‬داجية‭ ‬يوماً‭ ‬لإشراقِ

سوف‭ ‬تتعافى‭ ‬بمشيئة‭ ‬الله‭ ‬دولنا‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬ظلام‭ ‬الفتن‭ ‬والمؤامرات،‭ ‬وبفضل‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬جعلنا‭ ‬أمة‭ ‬واحدة،‭ ‬فها‭ ‬هي‭ ‬تونس‭ ‬الخضراء‭ ‬ثم‭ ‬مصر‭ ‬الكنانة‭ ‬قد‭ ‬تعافتا،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كيد‭ ‬الكائدين‭ ‬الإرهابيين‭ ‬الحاقدين‭. ‬ونحن‭ ‬العرب‭ ‬فرحون‭ ‬بسلامتيهما،‭ ‬إنها‭ ‬سلامة‭ ‬الأمة‭. ‬لك‭ ‬يا‭ ‬تونس‭ ‬تحية‭ ‬العرب،‭ ‬فمنك‭ ‬انطلق‭ ‬لحن‭ ‬الحياة‭:‬

إذا‭ ‬الشعب‭ ‬يوماً‭ ‬أراد‭ ‬الحياة‭ ‬

فـــلا‭ ‬بــــد‭ ‬أن‭ ‬يســــــتجيب‭ ‬القدر

ولا‭ ‬بـــد‭ ‬لـــلـــــــــيــل‭ ‬أن‭ ‬يــــنـــــجلي‭ 

ولا‭ ‬بد‭ ‬للــــقـــــــيد‭ ‬أن‭ ‬يـــنـــكسر

لك‭ ‬يا‭ ‬تونس،‭ ‬يا‭ ‬مقرّ‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬والفنّ،‭ ‬منا‭ ‬الحبّ‭ ‬والسلام‭.‬

‭ ‬ولك‭ ‬يا‭ ‬مصر‭ ‬أتى‭ ‬العرب‭ ‬مهنئين،‭ ‬حين‭ ‬استقبلتِهم‭ ‬في‭ ‬شرم‭ ‬الشيخ‭ ‬بحفلٍ‭ ‬رائع،‭ ‬وهم‭ ‬يحملون‭ ‬لك‭ ‬قصائد‭ ‬السلام،‭ ‬وباقات‭ ‬ورد‭ ‬السلام،‭ ‬تلفها‭ ‬أشرطة‭ ‬من‭ ‬مواثيق‭ ‬الولاء‭. ‬حمداً‭ ‬لله‭ ‬على‭ ‬سلامتك‭ ‬يا‭ ‬مصر،‭ ‬وتحية‭ ‬لك‭ ‬ولمساعيك‭ ‬في‭ ‬إحلال‭ ‬أواصر‭ ‬الحبّ‭ ‬والتسامح‭ ‬والسلام،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ثقافة‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬وسُلّم‭ ‬نجاة‭ ‬الأمم‭. ‬