على هامش ملتقى «العربي» الرابع عشر «ثقافة التسامح والسلام»
إذا أردنا أن نعرف معنى أنْ كنا أو نكون «أمة وسطاً»، فلا بد لنا أولا من استيعاب المعنى، ومن ثم تحديد المفهوم، من أجل شرح الدلالة. عادة ما يكون «الوسط» مجالاً بين نقيضين: يمين ويسار، أمام وخلف، أعلى وأسفل، خير وشر، صواب وخطأ، صحيح وباطل، جميل وقبيح، حلال وحرام... وهكذا.
فإذا كان «الوسط» زماناً أو مكاناً أو اسماً أو شكلاً أو صفة أو حالاً، فلا دلالة له في هذا السياق، الذي هو إرادة الله بأن جعلنا أمة وسطا، فالحقُّ أن يؤخذ الصواب كله والصحيح كله، ويُترك الخطأ والباطل كله، فمن الجهل أن نقف فوق برزخ بين النقيضين، ونقول إننا أمة وسط، فهذا لا شكّ في أنه خسران عظيم. أو أن نقول إنّ ما ندين به اعتقاد وسط بين معتقدات الأديان، أو عبادة أو شريعة وسطية، كيف ولماذا؟ إذن، فإنّ الأمر يقتضي منا تحديد ماهية «الوسط» أولاً، ربما بين شيئين غير متناقضين وغير متشابهين، وكلاهما خير إن أُعْمِل وشر إن أُهْمِل، فما هما؟
تأتي وسطية الأمة من الأخذ بمعطيات العقل والنقل بمقدار درء الشكّ العقلي والأخذ باليقين النقلي، فالتفكير العقلي يقوم أساساً على الشك للوصول إلى الحقيقة، بيد أنّ الإيمان يستند إلى اليقين لإثبات الحقّ. كان هذا هو الاختلاف الأصل بين الفلاسفة وعلماء الكلام في تاريخ الفكر الإسلامي، وقد كانت الأمة ضحية هذا الاختلاف، الذي سرعان ما تحول إلى صراع، فمنذ أن تشكك مثقفو الأمة بمقام الفلسفة ووقفوا ضدها، تراجعت قدرة العلماء المسلمين في كل الميادين الفكرية في المضي في سبيل التقدم العلمي. وليعلم من يقرأ هذا الحديث بأنّ كلّ علماء الإسلام، ولا نقول بعضهم أو معظمهم، ممن قدم للحضارة الإنسانية سبقاً علمياً في مجالات العلوم الطبيعية، كالطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك، قد اتُّهم في دينه ونواياه، حتى وصموا بالكفر أو الإلحاد أو الزندقة، أو على أقلّ تقدير وُصِفوا بأنّهم محدثو بدعة. لم يسلم المبدعون في الفن والأدب من تهمة الزندقة التي أُلحقت بالحلاج وأبي يزيد البسطامي ومحيي الدين بن عربي، وقد نالت من المتنبي والمَعَرّي وبشّار بن بُرْد، وأُلصقت بعبدالله بن المقفع وابن الريوندي، وآخرين كثيرين من الأدباء والفنانين والمفكرين.
قائمة سوداء
أما قائمة الأسماء الأطول في من اتهم بالكفر والإلحاد، فقد شملت: جابر بن حيان (كيميائي)، ومحمد بن موسى الخوارزمي (رياضيـــاتي)، ومحمد بن زكريا الرازي وابن سينا (من الأطباء)، والحسن بن الهيثم (فيزيائي)، وعمر الخيام (فلكي)، والزهراوي وابن النفيس (من الجراحين). كل هؤلاء الأعلام الذين يفخر بهم العالم، اتهموا في دينهم في عصرهم، وكان أساس التكفير يرجع إلى شطط التفكير، فقد حَسِبَ مناهضوهم أنّ كل تقدّم عن الركب خروج عن الأمة، وأنّ كل إبداعٍ بدعة، وكل ما لا أصل له بنص في الدين يُحظر اتباعه، فحثوا الناس على رفض الجديد، علماً وفكراً. وقد كان ادعاؤهم يقوم على مزاعمهم بأنّ الدين صالح لكل زمان ومكان، فأطّروا الدين بالنصّ، وشرحوا النصّ بما يوافق هواهم. فكل ما لا يتوافق مع النص الديني، حسب مفهومهم له، مرفوض لديهم، وبهذا كان الثبات السلبي صفة ملازمة لهم، فحين تبحث في تاريخهم عن التقدم لا ترى إلا رجعية. لقد أشار ابن سينا في كتابه «القانون في الطبّ» إلى «تلازم العلة بين النفس والجسد»، فإذا اشتكى عضو من أعضاء الجسد من مرض ما، اعتلت على أثر هذه الشكوى النفس، فترى الإنسان حزينا مكتئبا، والعكس في ذلك صحيح. وفي حقول العقل والنفس والجسد، شرَح الفلاسفة بمنهج العِلْم ما أُبهم على الناس من مقاصد الفَهْم، فأبت طائفة إلا أنْ تضع تلك الشروح في إطار الممنوع والمُحَرَّم قراءته وتداوله، الأمر الذي حَدَّ من استخدام العقل، ووَسَّع من دائرة تناول النقل؛ المنقول من الماضي والتراث وتجارب السالفين. لا شكّ في أنّ كلّ الحضارات قامت أساساً على الأخذ من المنقول، ثم قامت باختيار الجزء الموثوق والصحيح منه، وتركت الغَثّ من ذاك الذي لا يتواءم مع مسيرة التقدم الحضاري، فتعاملت مع صحيح المنقول بما هو معقول ومقبول لبناء حاضر ومستقبل بناء الإنسان والمجتمع والدولة. والدول المتخلفة هي التي ترجع إلى الماضي وتقف عنده، خائفة من كل جديد، تحسَب أنّ هذا الوقوف لها حصن عن الزلل والضلال. تقف لتنتظر النهاية، نهاية الحياة، للفوز بحياة أخرى أفضل، رغم تذكير كل الأديان للإنسان بالعمل الحثيث والتفكير العميق من أجل العطاء والبناء. لا بدّ للإنسان من تنمية عقله ونفسه وجسده، ليكون أكثر فاعلية في الوصول إلى الهدف المنشود... «السعادة».
السعادة هدف الحياة
إنّ السعادة ليست ترفاً، بل هي هدف أصلي من أهداف الحياة، أكان ذلك بكفاية الحاجات أم بتحصيل المندوب من الرغبات أو الجائز من الأمنيات. ولنعلم بأنّه ليس بالحزن والألم نسلم وندرك الغايات، بل بالكدّ والجدّ والعمل، فقد أكد الأطباء عبر التاريخ أنّ السعادة والفرح شفاء، والحزن والغضب يضعفان من مناعة الإنسان فيجعلانه عرضة لعلة النفس وأمراض الجسد. أما الخوف، فإنه يورِّث الارتباك والقلق، فهل رأيت خائفاً قد حقق إنجازاً، أو مرتبكاً ناجحاً، أو قلِقاً مبدعاً؟ ولكل ما سبق، نقول إنّ الوسطية ليست قُطْرا لدائرة الحياة بل هي مركزها، فمهما كَبُرت الدائرة أو ضاقت، ظل المركز مكانه لا يتغير. والوسطية هي الجوهر الفرد الذي تنبثق منه وعنه دوائر موجات عاطفة النفس وإشعاعات ضياء التفكير في أي مرتبة من مراتب العقل. وعليه فإنّ الوسطية لا يحدها الزمان أو المكان، بل هي نتاج فطرة خلقها الله لتكون خُلُقاً عاماً في عباده المخلصين. أمّا التطرف، فمنبوذ بعموم أشكاله واتجاهاته، التي دائماً ما تكون حافة سقوط الأمم والدول والحضارات. إنّ الشعوب هي التي تنهض بدولها دائماً، فبناء ثقافة الشعوب ورفعتها أمر حتمي على حكوماتها وقياداتها، لأن درب السلامة والسلام لا يمهده الجهل والتطرف، ولا الطغيان والتجبُّر، إنما يرصفه الإخلاص والأمل بالمستقبل، من خلال العطاء الجاد بالتخطيط والعمل.
التطرف فاتحة الإرهاب
إن التطرف فاتحة الإرهاب وطغيان الجهل وانتشاره، وهو يرتكز على عدم إدراك أبعاد النص الديني أولاً، ثم تفسيره أو تأويله بما يوافق هوى الجاهلين ثانياً، فإذا تم إعمال ذلك المفهوم الخاطئ، حلّت الفوضى بالمجتمع واضطرب الحكم وانهارت الدولة. وفي دولة الإسلام الأولى، يأتي الخوارج على قمة قائمة التطرُّف، ليشيعوا بين الناس جهالاتهم، ويشكلوا فصائل عسكرية مبعثرة الأماكن لتمزق كيان الدولة. وما إن تمزق كيان الدولة حتى سقطت دولة الخلفاء الراشدين. إنّ الظروف السياسية لقيام الدولة الأموية جعلتها تلجأ أولاً لمنظومة فكرية تؤصِّل فيها منظومتها السياسية في نظام الحكم وإداراته، ومنظومتها الاقتصادية في التعامل مع أملاك الدولة وأملاك الشعب، ومنظومتها العسكرية والأمنية تجاه أعدائها من الخارج وخصومها من الداخل. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع المنظومة الفكرية الأموية، فإنّ التاريخ يحكي لنا قرناً من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني. ولم يكن الحجاج بن يوسف الثقفي إلا رئيساً لجهاز المخابرات المركزي للدولة، ذلك الجهاز المسمى آنذاك «البريد». لقد كانت المعلومات الاستخباراتية تأتيه من أدنى أصقاع الدولة وأقصاها، عن طريق خط محطات البريد الممتدة بين القرى والمدن، التي تبعد الواحدة عن الأخرى أربعة فراسخ (اثني عشر ميلاً تقريباً)، الأمر الذي كان يسهِّل سرعة نقل المعلومة إلى القيادة المركزية في العاصمة دمشق.
بريد الفتن
ولم يكن انهيار الدولة الأموية بغريب على ممتهن قراءة أحداث التاريخ بين السطور ومن وراء الكلمات، أن يتبين أنّ السبب الأول في سقوط الدولة الأموية هو سيطرة الخصوم على محطات البريد وإرسالهم رسائل مزورة. وعندما أرسل والي خراسان نصر بن سيّار رسائل عديدة إلى الخليفة مروان بن محمد، آخر خلفاء الدولة الأموية، يحذره فيها من ثورة تشتعل:
أبلِغ أمير المؤمنين رسالة
محبَّرةً عن مُحكمات الرسائلِ
بأنّ عُداة الله أضحوا بأرضنا
يسوموننا إطفاء حقًّ بباطلِ
إلا أن هذه الرسالة لم تصل، وربما لم تلقَ اهتماماً، فألحقها برسالة أخرى، قال فيها:
أرى تحت الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أوّلها كلام
فإن لم يُطفها عقلاء قومٍ
يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظٌ أميّة أم نيام؟!
فإن يقظت فذاك بقاء ملك
وإن رقدت فإني لا ألام
فإن يك أصبحوا وثووا نياما
فقل قوموا فقد حان القيام
ففرّي عن رحالك ثم قولي
على الإسلام والعرب السلام
***
كان انتشار الفتن كانتشار النار في الهشيم، من خلال البريد الذي هو مثل وسائل الإعلام في يومنا هذا، يروّج ويُعلن ويُخفي، فتزيد حيرة الشعوب في فهم الحقيقة ومعرفة الحقّ، الذي أرهقه الباطل من أمامه ومن خلفه. وها نحن اليوم نرى نيران الحروب، وأسوأها الحروب الأهلية، التي يقتل ويضطهد ويسجن ويُشرّد فيها الأخ أخاه:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
هذه الحروب التي علا دخانها الأسود فحجب رؤية الحق، وأذكى نارا انبعثت منها سموم التحركات الإرهابية على الدول العربية: تونس وليبيا ومصر وسورية والعراق واليمن، سموم خنقت شعبنا العربي الحرّ الأبيّ، فأهلكت حرثاً وضرعاً وبشراً، وشردت وخوّفت فأبكت شِيباً ورجالاً ونساء وشباباً وأطفالاً، كانوا في أوطانهم آمنين... فبلدانهم هي منابع الحضارة ومناهل العلم والفن والأدب. فلا تحسب أيها العربي المنكوب في وطنك ومالك وأهلك وعيالك، أنّ إخوانك العرب ليسوا معَك أو ليسوا عليك بمحزونين... «فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تَصِفون» (سورة يوسف:18)... فلا يزال لسان حالهم يردد:
أُكَلِّفُ النَّفْسَ صَبْرًا وهْي جازعةٌ
والصّبْر في الحبِّ أعيا كل مشتاقِ
وكيف أنسى دياراً قد تركت بها
أهلاً كراماً لهم ودي وإشفاقي
فيا بريدَ الصَّبَا بَلّغ ذوي رحمي
أنّي مقيم على عهدي وميثاقي
لا بدّ للضِيقِ بعد اليأسِ من فَرَجٍ
وكلّ داجية يوماً لإشراقِ
سوف تتعافى بمشيئة الله دولنا العربية من ظلام الفتن والمؤامرات، وبفضل الله الذي جعلنا أمة واحدة، فها هي تونس الخضراء ثم مصر الكنانة قد تعافتا، على الرغم من كيد الكائدين الإرهابيين الحاقدين. ونحن العرب فرحون بسلامتيهما، إنها سلامة الأمة. لك يا تونس تحية العرب، فمنك انطلق لحن الحياة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فـــلا بــــد أن يســــــتجيب القدر
ولا بـــد لـــلـــــــــيــل أن يــــنـــــجلي
ولا بد للــــقـــــــيد أن يـــنـــكسر
لك يا تونس، يا مقرّ العلم والأدب والفنّ، منا الحبّ والسلام.
ولك يا مصر أتى العرب مهنئين، حين استقبلتِهم في شرم الشيخ بحفلٍ رائع، وهم يحملون لك قصائد السلام، وباقات ورد السلام، تلفها أشرطة من مواثيق الولاء. حمداً لله على سلامتك يا مصر، وتحية لك ولمساعيك في إحلال أواصر الحبّ والتسامح والسلام، التي هي ثقافة عصرنا هذا، وسُلّم نجاة الأمم. ■