فؤاد التكرلي... من القصة القصيرة إلى الرواية

فؤاد التكرلي... من القصة القصيرة إلى الرواية

فؤاد التكرلي (1927-2008) قاص عراقي من جيل الخمسينيات، وُلد في 22 أغسطس 1927م، ونشر أول قصة له سنة 1951م، وأول مجموعة قصصية بعنوان «الوجه الآخر» سنة 1960م، ثم أعاد نشرها بطبعة ثانية مزيدة سنة 1982م، وله مجموعتان قصصيتان، هما: «موعد النار» و«خزين اللامرئيات». وفي سنة 1980م نشر روايته الأولى «الرجع البعيد»، فجاءت خطوة مهمة في تطور الرواية العراقية من الناحية الفنية - التحليلية، وقد تضمنت تعدداً في الأصوات الأيديولوجية والتعبيرية، ثم أصدر سنة 1995م روايته الثانية «خاتم الرمل»، إلا أنها عاشت تحت ظلال روايته الأولى ولم تحقق استجابة كبيرة، فقد نهلت من فكره وفنه وتصوّراته الشيء الكثير. ثم أصدر روايته الثالثة «المسرات والأوجاع»، وفي سنة 2007م، أصدر روايته الرابعة «اللاسؤال واللاجواب»، وقد تضمنت الرواية الأخيرة شيئاً من سيرته الذاتية... حصل على عديد من الجوائز الأدبية العربية، منها «جائزة العويس».

يشكّل التكرلي مع القاص عبدالملك نوري ثنائياً له ميزاته الفنية والموضوعية في طبيعة بناء القصة، وفي حركة الشخصيات، وفي توظيف المضامين، فقد كانا خير ممثلين لجيل الخمسينيات في الحداثة، وفي تمثيلهما للواقعية آنذاك، التي ساهمت في التأثير على الأجيال التالية بالذات في ما كتبه كل من نزار عباس، ومحمد خضير من الأجيال التالية.
تعد قصته الطويلة «الوجه الآخر»، التي سميت المجموعة باسمها، من أفضل القصص التي أثارت مشكلة الإنسان وعذابه، عبر بطلها «محمد جعفر»، الذي يعيش حالة من العوز والضيق في حياته الزوجية حين تصاب زوجته بالعمى بعد ولادة عسيرة يذهب ضحيتها الوليد، مما يغيّر نظرة البطل إلى حياته وإلى زوجته، ويُحدث تحوّلاً في تصرّفاته وفي نزواته وتطلعاته، فيعمد إلى إعادة زوجته إلى بيت أهلها ويتطلع إلى جسد «سليمة»، زوجة الرجل الغني، إنه يعاني أزمة جنسية ومشاعر من الكبت والانسحاق في دواخله، على الرغم من كونه متزوجاً، أي إنه لم يستطع التوغل داخل واقعه، فظل عاجزاً عن الإتيان بعمل مهم وفاعل وضروري، وهذه هي سمة أبطال فؤاد التكرلي، فهم عاجزون، يعانون فشلهم، فقد كان محمد جعفر خائفاً. وهو يعرض هذا الإحساس عبر السرد المعتمد على أسلوبين: أحدهما ضمير المتكلم والآخر ضمير الغائب، وعبر الوصف المركز الذي يوغل نحو أعماق النفس البشرية، وعبر التداعي أو من خلال المونولوج الداخلي، إذ يجد في ذاته محاولة لإعادة ترتيب أحاسيس الكاتب بشكل ينسجم مع المرحلة التي عاشها، أو مع مفاهيمه للحياة، فأبطاله يكاد أن يتشابهوا في معاناتهم، وهذا ما يعكس تأثير شخصية المؤلف عليهم، فهم «أناس معذبون في الحياة، لا يلقون إلا ما يؤذي وما يعكس الرغبات والآراء، ولا تلتفت إليهم الحياة بعين، ولا تكاد تشعر بوجودهم، ولا تشعر بأن لهم حقاً من العناية والرعاية، إنهم ضائعون، وإنهم لشاعرون بهذا الضياع».
يشعر محمد جعفر بالملل المريع وبالتعب وبالفشل، والمستقبل أمامه مسدود أو ميت، وقد وظّف حدث الموت وعمى الزوجة لنسج حبكة الانعطاف الحاصل في مسيرة حياة البطل واستغلالها لكشف ما في حياته من آلام ومن تكرار ممل، ومن نماذج بشرية تتصارع من أجل البقاء، أحدها يأكل لحم الآخر، وما شخصية «سيد هاشم» الرجل الغني والمستغِل والمنتفِع الذي يمتص دماء الآخرين بالربا، إلا رمز لواقع فاسد تسود فيه المادة، وتتلاشى أمام عناصر الخير كلها. وبالفعل كان محمد جعفر عاجزاً عن إسعاف المريض، وكذلك بالنسبة لزوجته العمياء، وهذا ما جعله يبحث عن الوجه الآخر الهارب منا والذي ينقص حياتنا.

علامات الصدق الفني
أبرز ما تتصف به قصص التكرلي هو واقعيتها، وإدانتها لجوانب الواقع المهترئة، لأنه ينطلق من مجتمعه، فهو ينبوع لا ينضب، وهذا دليل الصدق الفني الذي تتسم به قصصه، وقد وظّف حواره العامي وتداعيات أبطاله وأحاديثه الداخلية لإبراز هذا الإحساس، وقد نجح في هذا التوظيف على الرغم من كل علامات الاستفهام حول جدوى الحوار العامي!
أما بطله عبدالرضا في قصة «موعد النار» التي كتبت عام 1955، فهو يعاني عجزه عن تحقيق أمنيته، حينما جاء هارباً من الهضبة الإيرانية لزيارة الكاظمية، فيتلاشى أمله إلى قعر الهاوية. إن هذا الإحباط يتكرر كثيراً، كما في قصة «غرباء»، التي يشعر فيها بالاغتراب المكاني والعقلي، نتيجة فشله في الإخصاب لموت الابن، كما حصل في قصة «الوجه الآخر».
ولعل من أجمل قصص التكرلي قصة «الطريق إلى المدينة» من خلال بطلها «عبود»، إذ يصوّر لنا الكاتب فيها فشله في قتل أخته غسلاً للعار، وكان قد لاحق هواجسه وأفكاره الداخلية بإحساس نادر، فلا الشرب ولا الهروب من الواقع يجديه ولا شجاعته تعينه أو تكوينه الجسدي يفيده، إنه عاجز من كل الوجوه، وهذه سمة قصص التكرلي، فبطله هزأة قصير منبوذ، كما هي حال بطل «نشيد الوطن» لعبدالملك نوري، وتكرر حالة تلاشي الخصب حينما يحدث الإجهاض لأخت عبود البلهاء، مما يعبّر عن عجز آخر يتواشج مع عجز البطل فكرياً وفنيّاً وفعليّاً، وهذا ما يحصل في قصة «الصمت واللصوص».

أبعاد إصلاحية
لقد وظّف التكرلي في قصة «الغراب» الحكاية الشعبية في دفع حركة القصة وإطالتها، لمنحها موثبات التفاعل مع الواقع من خلال حديث الأم إلى ابنتها، وهي تسرد لها الحكاية باللهجة المحلية، لكن ما يلاحظ على القصة أنها احتوت على مضامين العجز والخواء، وحاولت إدانة حالة السكون والتلاشي والفشل والخوف التي يزرعها الآباء في نفوس الأبناء، فالغراب من الرموز أو الحيوانات التي يتطيّر منها الناس، وكان سرد الحكاية ضمن هذه الأجواء مدعاة لشعور الطفلة بالخوف والرعب من المجهول ومن عناصر الشر. أما قصة «سيمباثي» التي كتبها عام 1972م، فإنها ظهرت في مرحلة متأخرة بعد أن وقف جيل الستينيات على قدميه، وبرز قصّاصون متأثرون بأسلوب التكرلي، فالمفروض أن تأتي هذه القصة بشيء جديد، لكنها كانت عاجزة كما هي حال شخصياته عن تجاوز إطار قصصه السابقة. وتكشف قصة «القنديل المنطفئ» عن العجز الجنسي الذي راود شخصياته بالفعل أو بالنتائج، وقد شاعت الموضوعات الخاصة بالكبت وغسل العار والبغاء وبعض ملامح الشذوذ في قصصه نتيجة ما كان سائداً في واقعه، لذا جاءت مضامينه ذات أبعاد إصلاحية في جوهرها، من دون تصريح مباشر بذلك، وهذا ما يلاحظ على قصتي: «التنور»، و«العيون الخضر».
أبرزت قصصه أزمة الإنسان المعاصر، وظهور تيار العبث واللامعقول وعبثية الوجود، وهي إدانة مضمرة للأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق.
أما روايته «الرجع البعيد»، فإنها رواية صعبة المراس، تخضع لشيء من التفسير والتأويل النقدي، لذا احتملت تفسيرات عدة، وصمت الكاتب عن إبداء الرأي حولها، لأنها تتناول مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ العراق المعاصر، خصوصاً أنها تتحدث عن ثورة 14 يوليو 1958م وما بعدها من أحداث وصراعات بين الشيوعيين والقوميين، وقد تضمنت إدانة لجميع الأطراف المتصارعة، بصورة غير مباشرة، وفيها تخلى الكاتب عن سلطة الراوي كليّ العلم، وسمح لبعض الشخصيات بأن تسرد الأحداث على لسانها، وعبر ضمير المتكلم «أنا»، وهذا يعد تطوراً نوعياً في كتابة الرواية المتعددة الأصوات، فضلاً عمّا تضمنته من إحالات رمزية غير مغلقة عن المسكوت عنه الاجتماعي، وبالذات «زنا المحارم»، وبهذا كسر التكرلي الطوق المهيمن الذي يمنع الحديث عن مثل هذه الأمور التي سبق ذكرها، مثل الشذوذ والانحراف. أما روايته «المسرات والأوجاع»، فتناولت هيمنة الموقف السياسي للأشخاص على الكفاءة والقدرات الإدارية، فقد أصبح موظف الاستعلامات شبه الأمي مديراً عاماً!
لقد ترك فؤاد التكرلي لنا تراثاً أدبياً حافلاً، ولم يجمع تراثه المقالي والحوارات العديدة التي أجريت معه، وهو  تراث له أثره في تاريخ الحركة الأدبية في العراق، وخصوصاً جيل الخمسينيات، لأنه يعد الحلقة الوسطى بين جيل روّاد القصة العراقية، من أمثال محمود أحمد السيد، وذي النون أيوب، ويوسف متى، وعبدالحق فاضل... وغيرهم، وبين جيل الستينيات الخصب الذي يمثل عدداً كبيراً من القصّاصين ■