مكاننا المناسب رحلة بحث وفرص لا تفوت

مكاننا المناسب رحلة بحث وفرص لا تفوت

اهتم‭ ‬السير‭ ‬كين‭ ‬روبنسون‭ ‬بالتعليم‭ ‬والإبداع‭ ‬وشجع‭ ‬ملايين‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬حياتهم‭ ‬ومنحهم‭ ‬الأمل‭ ‬ولاسيما‭ ‬مع‭ ‬طرحه‭ ‬فكرة‭ ‬العنصر‭ ‬The‭ ‬element،‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الشغف‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬له‭ ‬بهذا‭ ‬العنوان‭ ‬وبمشاركة‭ ‬لو‭ ‬أرونيكا‭.‬

ويقصد‭ ‬بالعنصر‭ ‬نقطة‭ ‬التلاقي‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬نود‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬المناسب‭ ‬لنا‭ ‬الذي‭ ‬نخبر‭ ‬فيه‭ ‬هويتنا‭ ‬ونشعر‭ ‬بالسعادة‭ ‬والرضا‭ ‬والراحة‭ ‬والتدفق،‭ ‬ونمضي‭ ‬نحقق‭ ‬أهدافنا‭ ‬منسجمين‭ ‬ومستغرقين‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬ننتبه‭ ‬لمرور‭ ‬الوقت؛‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬نعمل‭ ‬ونتقدم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعي‭ ‬تفاصيل‭ ‬العملية‭ ‬كالسمكة‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬الماء‭. ‬

ما‭ ‬يثير‭ ‬التفاؤل‭ ‬أن‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المناسب‭ ‬واتباع‭ ‬الشغف‭ ‬مفتوحة‭ ‬لكل‭ ‬الناس‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬وقت؛‭ ‬فالفرص‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬ولا‭ ‬تفوت‭ ‬كما‭ ‬نعتقد،‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬ليست‭ ‬خطية‭ ‬ولا‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬واحد‭ ‬مستقيم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قدراتنا‭ ‬والفرص‭ ‬المتاحة‭ ‬أمامنا‭ ‬تتجدد‭ ‬مع‭ ‬تقدم‭ ‬العمر‭. ‬

 

استعداد‭ ‬وشغف‭ ‬وميول‭ ‬وفرصة‭ ‬

يرى‭ ‬روبنسون‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬طريقة‭ ‬واحدة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬عنصرنا‭ ‬أو‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ملمحين‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتوافرا‭: ‬الاستعداد‭ ‬الطبيعي‭ ‬والشغف؛‭ ‬وأن‭ ‬شرطين‭ ‬أساسيين‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬تحققهما‭ ‬هما‭ ‬الميول‭ ‬والفرصة،‭ ‬بحيث‭ ‬تبدأ‭ ‬السلسلة‭ ‬من‭ ‬اأنا‭ ‬مستعد‭ ‬لعمل‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬وأفهمهب‭ ‬ثم‭ ‬اأنا‭ ‬شغوف‭ ‬بهب‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬اأريده‭ ‬بشدةب،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬اأين‭ ‬هو؟ب،‭ ‬لنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬بعد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬مقصدنا،‭ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬مستمتعين‭ ‬في‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭.‬

الاستعداد‭ ‬الطبيعي‭ ‬يعني‭ ‬سهولة‭ ‬عمل‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬ممارسة‭ ‬نشاط،‭ ‬أو‭ ‬تبني‭ ‬نظرية،‭ ‬وهو‭ ‬شعور‭ ‬حدسي‭ ‬أو‭ ‬فهم‭ ‬باطني‭ ‬عميق‭ ‬لهذا‭ ‬الشيء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كيفية‭ ‬استخدامه‭ ‬أو‭ ‬كيفية‭ ‬عمله‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬النشاط،‭ ‬أو‭ ‬النظرية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬كالموسيقى،‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬أدق‭ ‬كالموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬أو‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية،‭ ‬أو‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬محددة‭ ‬دون‭ ‬سواها؛‭ ‬ولهذا‭ ‬يعد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬النقاط‭ ‬الإبداعية‭ ‬فينا‭ ‬وتطويرها‭ ‬جزءاً‭ ‬ضرورياً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬الآن؛‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نضع‭ ‬أيدينا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬النقاط‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬الاستعداد‭ ‬وفهم‭ ‬الشيء‭ ‬وحده‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬عنصره،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬المناسب،‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬توافر‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الولع‭ ‬والشغف؛‭ ‬وكم‭ ‬صادفنا‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬أشخاصاً‭ ‬يتمتعون‭ ‬بقدرات‭ ‬ومواهب‭ ‬طبيعية،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬احتراف‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬ممارسة‭ ‬تلك‭ ‬الهواية‭. ‬

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬يشترط‭ ‬وجودنا‭ ‬في‭ ‬عنصرنا‭ ‬أو‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭ ‬توافر‭ ‬الميول؛‭ ‬ويقصد‭ ‬بها‭ ‬زاوية‭ ‬رؤيتنا،‭ ‬ووجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬ومنظورنا‭ ‬الشخصي‭ ‬حول‭ ‬أنفسنا‭ ‬وحول‭ ‬محيطنا‭. ‬ويؤثر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬صفاتنا‭ ‬الأساسية‭ ‬وشعورنا‭ ‬بالذات‭ ‬وتقديرنا‭ ‬لها،‭ ‬وفهم‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬لنا‭ ‬وتوقعاتهم‭ ‬منا‭. ‬وهناك‭ ‬مؤشر‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقودنا‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬ميولنا‭ ‬واتجاهاتنا،‭ ‬وهو‭ ‬اعتقادنا‭ ‬المتعلق‭ ‬بدور‭ ‬الحظ‭ ‬في‭ ‬حياتنا؛‭ ‬فالذين‭ ‬يحبون‭ ‬ما‭ ‬يقومون‭ ‬به‭ ‬يعتبرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬محظوظين‭ ‬في‭ ‬الغالب؛‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بالنجاح‭ ‬أنهم‭ ‬غير‭ ‬محظوظين‭. ‬ويشترك‭ ‬أصحاب‭ ‬الإنجازات‭ ‬الكبرى‭ ‬بميول‭ ‬نحو‭ ‬المثابرة‭ ‬والإيمان‭ ‬بالذات‭ ‬والتفاؤل‭ ‬والطموح‭. ‬كما‭ ‬تعتمد‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ظروفنا‭ ‬وخلق‭ ‬الفرص‭ ‬أو‭ ‬اقتناصها‭ ‬على‭ ‬توقعاتنا‭ ‬من‭ ‬أنفسنا‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬الفرصة‭ ‬المناسبة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬استعداداتنا‭ ‬مطلقاً،‭ ‬ولا‭ ‬ندرك‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تأخذنا‭ ‬مواهبنا؛‭ ‬وبدون‭ ‬الارتباط‭ ‬بمجتمع‭ ‬أو‭ ‬أشخاص‭ ‬يساعدوننا‭ ‬ويشاركوننا‭ ‬الشغف‭ ‬نفسه،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭. ‬

 

تفكير‭ ‬مختلف‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذكاء‭ ‬

يؤكد‭ ‬روبنسون‭ ‬أن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬ضالتنا‭ ‬أو‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬وأسس،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬التفكير‭ ‬بصورة‭ ‬مختلفة‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬تحدي‭ ‬ما‭ ‬نعتبره‭ ‬أمرا‭ ‬مفروغاً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بقدراتنا‭ ‬وقدرات‭ ‬الآخرين،‭ ‬ونتخطى‭ ‬صعوبة‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة‭ ‬حوله‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صار‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬نسيج‭ ‬منطقنا،‭ ‬وكالهواء‭ ‬الذي‭ ‬نتنفسه؛‭ ‬كأن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬حواسنا‭ ‬خمس‭ - ‬كما‭ ‬تعلمنا‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ - ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬حواس‭ ‬أخرى‭ ‬كإحساسنا‭ ‬بالاتزان،‭ ‬وبدرجة‭ ‬الحرارة،‭ ‬وبالألم؛‭ ‬ولهذا‭ ‬يعد‭ ‬المفروغ‭ ‬منه‭ ‬أكبر‭ ‬أعداء‭ ‬التجديد‭ ‬والإبداع‭. ‬

ويرى،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬ندرك‭ ‬حقيقة‭ ‬وجود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذكاء‭- ‬كذكاءات‭ ‬هاورد‭ ‬جاردنر‭ ‬المتعددة‭: ‬الموسيقي،‭ ‬والجسدي‭/‬الحركي،‭ ‬والمنطقي‭/‬الرياضي،‭ ‬واللغوي،‭ ‬والمكاني‭/‬الفضائي،‭ ‬وذكاء‭ ‬العلاقة‭ ‬بالذات،‭ ‬والعلاقة‭ ‬بالآخرين،‭ ‬والذكاء‭ ‬الطبيعي‭- ‬ونعرف‭ ‬أننا‭ ‬نرى‭ ‬العالم‭ ‬بطرق‭ ‬متعددة،‭ ‬فنحن‭ ‬نحد‭ ‬من‭ ‬الفرص‭ ‬المتاحة‭ ‬أمامنا‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نكونه‭. ‬وعلى‭ ‬هذا،‭ ‬يقتضي‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬عنصرنا‭ ‬السماح‭ ‬لأنفسنا‭ ‬بتجريب‭ ‬جميع‭ ‬الطرق‭ ‬المتاحة‭ ‬حتى‭ ‬نخبر‭ ‬العالم‭ ‬ونكتشف‭ ‬مكامن‭ ‬نقاط‭ ‬قوتنا؛‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬الإبداعي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مواقف‭ ‬جديدة‭ ‬والعثور‭ ‬على‭ ‬حلول‭ ‬أصيلة‭ ‬ومبتكرة،‭ ‬وأن‭ ‬الذكاء‭ ‬البشري‭ ‬ديناميكي‭ ‬ومتفرد‭ ‬ومتميز‭ ‬للغاية‭ ‬كبصمة‭ ‬الأصبع‭. ‬

 

كلنا‭ ‬أذكياء‭ ‬ومبدعون

من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬روبنسون،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬مبدعا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التصرف‭ ‬بذكاء،‭ ‬لأن‭ ‬التفكير‭ ‬بإبداع‭ ‬هو‭ ‬المستوى‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭. ‬ومن‭ ‬الضروري‭ ‬عند‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العنصر‭ ‬أو‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬طبيعة‭ ‬الإبداع‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالذكاء،‭ ‬ونختبر‭ ‬ملامح‭ ‬الذكاء‭ ‬البشري‭ ‬الأساسية‭ ‬ونتعرف‭ ‬على‭ ‬قوى‭ ‬الخيال‭ ‬الفريدة،‭ ‬لأنها‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬إنجاز‭ ‬إنساني‭ ‬فريد‭- ‬وإن‭ ‬اعتبره‭ ‬البعض‭ ‬الساذج‭ ‬عيباً‭ ‬ومصدراً‭ ‬للتهكم‭ ‬ينال‭ ‬الأشخاص‭ ‬المحلقين‭ ‬‭- ‬ولا‭ ‬يتعين‭ ‬علينا‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بربط‭ ‬الذكاء‭ ‬بالقدرة‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وإلا‭ ‬أصبح‭ ‬معظمنا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الأذكياء؛‭ ‬فالإبداع‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬مقصوراً‭ ‬على‭ ‬أشخاص‭ ‬معينين،‭ ‬لأننا‭ ‬ولدنا‭ ‬جميعاً‭ ‬بقدرات‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭. ‬ويبقى‭ ‬السر‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬هذه‭ ‬القدرات‭. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬ينحصر‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬بعينها‭ ‬كالفنون،‭ ‬بل‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال،‭ ‬سواء‭ ‬علوم‭ ‬أو‭ ‬رياضيات‭ ‬أو‭ ‬هندسة‭ ‬أو‭ ‬إدارة‭ ‬الأعمال،‭ ‬أو‭ ‬الرياضة‭ ‬أو‭ ‬العلاقات‭ ‬العامة؛‭ ‬ولا‭ ‬يعتبر‭ ‬الإبداع‭ ‬سمة‭ ‬ثابتة‭ ‬لا‭ ‬دخل‭ ‬لنا‭ ‬فيها‭ ‬كلون‭ ‬عيوننا؛‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الوارد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الناس‭ ‬إما‭ ‬مبدعين‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مبدعين،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نصبح‭ ‬أكثر‭ ‬إبداعاً‭ ‬في‭ ‬أعمالنا‭ ‬وحياتنا‭ ‬الشخصية‭. ‬

 

الإبداع‭ ‬كالقراءة‭ ‬والكتابة

يعد‭ ‬الإبداع‭ ‬كالقراءة‭ ‬والكتابة‭ - ‬وفقا‭ ‬لروبنسون‭ - ‬فإذا‭ ‬اعتبرنا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المفروغ‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬تقريباً‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تعلُّم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ - ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أحد‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬فسيكون‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ - ‬فإن‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الإبداع؛‭ ‬فعندما‭ ‬يقول‭ ‬الناس‭ ‬إنهم‭ ‬غير‭ ‬مبدعين،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنهم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الإبداع‭ ‬عملياً‭. ‬وباستخدام‭ ‬الذكاءات‭ ‬المتعددة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬ومن‭ ‬ديناميكيات‭ ‬الإبداع‭ ‬أن‭ ‬يطرق‭ ‬المبدعون‭ ‬مواهب‭ ‬متعددة،‭ ‬فينتقل‭ ‬مبدع،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬فن‭ ‬إلى‭ ‬فن،‭ ‬ومن‭ ‬علم‭ ‬لآخر‭ ‬وهكذا؛‭ ‬أما‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬المبدعين‭ ‬فهو‭ ‬أنهم‭ ‬يحبون‭ ‬الوسط‭ ‬الذي‭ ‬يعملون‭ ‬فيه،‭ ‬فيحب‭ ‬الموسيقيون‭ ‬الأصوات،‭ ‬ويعشق‭ ‬الكتَّاب‭ ‬الحروف،‭ ‬ويتمتع‭ ‬الراقصون‭ ‬بالحركة،‭ ‬ويميل‭ ‬الرياضيون‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأرقام،‭ ‬ويسعد‭ ‬رواد‭ ‬الأعمال‭ ‬بعقد‭ ‬الصفقات،‭ ‬ولا‭ ‬يمل‭ ‬المدرسون‭ ‬المبدعون‭ ‬من‭ ‬التدريس‭. ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬إلى‭ ‬أعمالهم‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الشائع‭ ‬لغاية‭ ‬معينة،‭ ‬بل‭ ‬يعملون‭ ‬لأنهم‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يعملوا‭ ‬لوجودهم‭ ‬في‭ ‬مكانهم‭ ‬المناسب‭. ‬

 

الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬

يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخدم‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬والعميقة‭ ‬بين‭ ‬الخيال‭ ‬والإبداع‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العنصر‭ ‬أو‭ ‬المكان‭ ‬المناسب؛‭ ‬لاسيما‭ ‬ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬أننا‭ ‬نستطيع‭ ‬مغادرة‭ ‬واقعنا‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬وأزمنة‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهذه‭ ‬العملية‭ ‬من‭ ‬الرؤية‭ ‬بعيون‭ ‬العقل‭ ‬ضرورية‭ ‬للخيال،‭ ‬وقوة‭ ‬تجلب‭ ‬إلى‭ ‬عقولنا‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬المحسوس؛‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬خيالنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نبدع‭ ‬ونخبر‭ ‬الحرية؛‭ ‬ونتأكد‭ ‬أن‭ ‬الخيال‭ ‬أساس‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬فريد،‭ ‬ولغة‭ ‬أساسية‭ ‬للفنون‭ ‬والعلوم‭ ‬ونظم‭ ‬الفلسفة‭ ‬ومختلف‭ ‬جوانب‭ ‬الثقافة‭ ‬الإنسانية‭. ‬ويستطيع‭ ‬الإبداع‭ ‬أخذ‭ ‬عملية‭ ‬الخيال‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬آخر،‭ ‬لأنه‭ ‬عملية‭ ‬امتلاك‭ ‬أفكار‭ ‬أصيلة‭ ‬وقيمة،‭ ‬أما‭ ‬الخيال‭ ‬وحده‭ ‬فيمكن‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬باطني‭ ‬ويمضي‭ ‬المرء‭ ‬يومه‭ ‬متخيلاً‭ ‬دون‭ ‬ملاحظة‭ ‬شيء،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬فلاناً‭ ‬مبدع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬شيئاً؛‭ ‬ولهذا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬لعمل‭ ‬شيء‭ ‬جديد،‭ ‬أو‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬مشكلة،‭ ‬أو‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬مشكلة‭ ‬جديدة‭ ‬وطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬حولها،‭ ‬فالإبداع‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬خيال‭ ‬تطبيقي‭. ‬

 

خبرات‭ ‬الذروة‭ ‬والإدمان‭ ‬اللذيذ

نخبر‭ ‬الذروة‭ ‬عندما‭ ‬نكون‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭ ‬وفي‭ ‬عمق‭ ‬عنصرنا؛‭ ‬نعيش‭ ‬حينها‭ ‬اللحظة‭ ‬ونذوب‭ ‬فيما‭ ‬نخبره‭ ‬ونغدو‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬أحوالنا؛‭ ‬لكن‭ ‬عدم‭ ‬قيامنا‭ ‬بما‭ ‬نحب‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نوجد‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬المفضلة‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬وقت‭ ‬لا‭ ‬نتدفق‭ ‬فيه‭ ‬كما‭ ‬ينبغي،‭ ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬مزاجنا‭ ‬رائقاً‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬ولهذا‭ ‬يتبع‭ ‬البعض‭ ‬طقوساً‭ ‬وروتيناً‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لهم‭ ‬دخول‭ ‬منطقتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬المفضلة‭. ‬ومن‭ ‬يتعرَّف‭ ‬على‭ ‬مكانه‭ ‬المناسب‭ ‬أو‭ ‬عنصره‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬فيه‭ ‬بشكل‭ ‬منتظم،‭ ‬حيث‭ ‬يعيش‭ ‬الحرية‭ ‬ويخبر‭ ‬الأصالة؛‭ ‬ويشعر‭ ‬أنه‭ ‬يقوم‭ ‬بما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬به،‭ ‬ويجد‭ ‬نفسه‭ ‬وينتقل‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬ما‭ ‬ورائية‭. ‬وما‭ ‬يميز‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬أن‭ ‬الطاقة‭ ‬لا‭ ‬تسحب‭ ‬ولا‭ ‬تستهلك،‭ ‬بل‭ ‬تمنح‭ ‬وتعزز؛‭ ‬فالأنشطة‭ ‬التي‭ ‬نحبها‭ ‬تملأنا‭ ‬بطاقة‭ ‬ذهنية‭ ‬أو‭ ‬نفسية‭ ‬تصعد‭ ‬وتهبط‭ ‬مع‭ ‬مستوى‭ ‬الشغف‭. ‬كما‭ ‬ترتبط‭ ‬خبرات‭ ‬الذروة‭ ‬بتغيرات‭ ‬فسيولوجية‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬انطلاق‭ ‬هرمونات‭ ‬كالإندورفين‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬والأدرينالين‭ ‬في‭ ‬الجسد،‭ ‬فيتحسن‭ ‬معدل‭ ‬الأيض،‭ ‬ونعيش‭ ‬خبرة‭ ‬تغيرنا،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬إذا‭ ‬تحول‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬إدمان‭ ‬لأنه‭ ‬سيكون‭ ‬إدماناً‭ ‬صحياً‭ ‬ولذيذاً‭. ‬

 

معوقات‭ ‬وحلول

يرى‭ ‬روبنسون‭ ‬أن‭ ‬قصور‭ ‬فهمنا‭ ‬لقدراتنا‭ ‬وعلاقتها‭ ‬ببعضها،‭ ‬ومواطن‭ ‬قوتنا‭ ‬وإمكاناتنا‭ ‬المعينة‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬والتغيير،‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب؛‭ ‬فعندما‭ ‬نفكر‭ ‬بعقولنا‭ ‬تعمل‭ ‬مشاعرنا‭ ‬وأجسادنا‭ ‬بصورة‭ ‬منفصلة‭ ‬مثل‭ ‬الأجهزة‭ ‬المنفصلة‭ ‬المنعزلة‭ ‬ولا‭ ‬ننتبه‭ ‬للطبيعة‭ ‬العضوية‭ ‬الكلية؛‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حدود‭ ‬تضعها‭ ‬أمامنا‭ ‬مجموعة‭ ‬الأنداد‭ ‬والثقافة‭ ‬التي‭ ‬نعيش‭ ‬فيها‭ ‬وتوقعاتنا‭ ‬من‭ ‬أنفسنا،‭ ‬فتقصينا‭ ‬عن‭ ‬عنصرنا‭ ‬أو‭ ‬مكاننا‭ ‬المناسب‭. ‬ونجد‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬العباقرة‭ ‬والمبدعين‭ ‬لم‭ ‬يحبوا‭ ‬المدرسة‭ ‬ولم‭ ‬يتفوقوا‭ ‬فيها‭ ‬ولم‭ ‬يكتشف‭ ‬بعضهم‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬التعافي‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬المدرسة‭ ‬السلبية‭. ‬ومكمن‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمعات‭ ‬ونظرتها‭ ‬السلبية‭ ‬إلى‭ ‬التعليم،‭ ‬وأشد‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الأسف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬السلبية‭ ‬تتعمق‭ ‬وتفاقم‭ ‬المشكلة‭.‬

يستغرق‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القدرات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬كالتحليل‭ ‬النقدي‭ ‬والتفكير‭ ‬باستخدام‭ ‬الكلمات‭ ‬والأرقام؛‭ ‬ويرتب‭ ‬المواد‭ ‬الدراسية‭ ‬في‭ ‬هرم‭ ‬تقع‭ ‬الرياضيات‭ ‬والعلوم‭ ‬ومهارات‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬قمته،‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬منتصفه،‭ ‬والفنون‭ ‬في‭ ‬الأسفل؛‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬تراجع‭ ‬نصيب‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬لمصلحة‭ ‬المواد‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الأخرى،‭ ‬وصار‭ ‬التقييم‭ ‬قائماً‭ ‬على‭ ‬نتائج‭ ‬امتحانات‭ ‬مقننة،‭ ‬مما‭ ‬وضع‭ ‬التلاميذ‭ ‬الصغار‭ ‬والطلبة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬تحت‭ ‬ضغوط‭ ‬هائلة‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬الأطفال‭ ‬رحلتهم‭ ‬إلى‭ ‬التعلم‭ ‬بخيالات‭ ‬وعقول‭ ‬خصبة‭ ‬واستعداد‭ ‬للمغامرة،‭ ‬ينتهون‭ ‬برغبة‭ ‬في‭ ‬الخلاص‭. ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يطور‭ ‬التعليم‭ ‬المواهب‭ ‬الطبيعية،‭ ‬نجده‭ ‬يكبتها‭ ‬ويقتل‭ ‬الدافعية‭ ‬للإبداع‭. ‬ولا‭ ‬حل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تحويل‭ ‬التعليم‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬وضعت‭ ‬لتخدم‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬والمنافسة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬تخدم‭ ‬الإنسان‭ ‬وتساعده‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬مواهبه‭ ‬وقدراته‭ .