مكاننا المناسب رحلة بحث وفرص لا تفوت
اهتم السير كين روبنسون بالتعليم والإبداع وشجع ملايين الناس على تغيير حياتهم ومنحهم الأمل ولاسيما مع طرحه فكرة العنصر The element، رحلة البحث عن الشغف الذي يمكن أن يغير كل شيء، في كتاب له بهذا العنوان وبمشاركة لو أرونيكا.
ويقصد بالعنصر نقطة التلاقي بين ما نقوم به وما نود أن نقوم به، أو ذلك المكان المناسب لنا الذي نخبر فيه هويتنا ونشعر بالسعادة والرضا والراحة والتدفق، ونمضي نحقق أهدافنا منسجمين ومستغرقين إلى درجة أننا لا ننتبه لمرور الوقت؛ وفي أحيان كثيرة نعمل ونتقدم دون أن نعي تفاصيل العملية كالسمكة التي تعيش في الماء ولا تعرف ما الماء.
ما يثير التفاؤل أن رحلة البحث عن المناسب واتباع الشغف مفتوحة لكل الناس وفي أي وقت؛ فالفرص لا تنتهي ولا تفوت كما نعتقد، لأن الحياة ليست خطية ولا تسير في اتجاه واحد مستقيم، كما أن قدراتنا والفرص المتاحة أمامنا تتجدد مع تقدم العمر.
استعداد وشغف وميول وفرصة
يرى روبنسون أنه لا توجد طريقة واحدة للبحث عن عنصرنا أو مكاننا المناسب، غير أن ملمحين لابد أن يتوافرا: الاستعداد الطبيعي والشغف؛ وأن شرطين أساسيين لا مفر من تحققهما هما الميول والفرصة، بحيث تبدأ السلسلة من اأنا مستعد لعمل هذا الشيء وأفهمهب ثم اأنا شغوف بهب وبعد ذلك اأريده بشدةب، وصولاً إلى اأين هو؟ب، لنجد أنفسنا بعد العثور على مقصدنا، وهذا الذي نبحث عنه مستمتعين في مكاننا المناسب.
الاستعداد الطبيعي يعني سهولة عمل شيء أو ممارسة نشاط، أو تبني نظرية، وهو شعور حدسي أو فهم باطني عميق لهذا الشيء من حيث كيفية استخدامه أو كيفية عمله. ويمكن أن يكون هذا العمل أو النشاط، أو النظرية بشكل عام كالموسيقى، أو بمعنى أدق كالموسيقى الكلاسيكية أو الموسيقى الشعبية، أو العزف على آلة محددة دون سواها؛ ولهذا يعد العثور على النقاط الإبداعية فينا وتطويرها جزءاً ضرورياً في ما نحن فيه الآن؛ ولا يمكن أن نعرف ماذا يمكن أن نكون على وجه التحديد، ما لم نضع أيدينا على تلك النقاط. ولكن لا يكفي الاستعداد وفهم الشيء وحده لأن يكون المرء في عنصره، أو في مكانه المناسب، بل لابد من توافر نوع من الولع والشغف؛ وكم صادفنا في حياتنا أشخاصاً يتمتعون بقدرات ومواهب طبيعية، لكنهم لا يرغبون في احتراف هذا العمل أو ممارسة تلك الهواية.
من جانب آخر، يشترط وجودنا في عنصرنا أو مكاننا المناسب توافر الميول؛ ويقصد بها زاوية رؤيتنا، ووجهة نظرنا ومنظورنا الشخصي حول أنفسنا وحول محيطنا. ويؤثر في ذلك صفاتنا الأساسية وشعورنا بالذات وتقديرنا لها، وفهم من حولنا لنا وتوقعاتهم منا. وهناك مؤشر يمكن أن يقودنا للتعرف على ميولنا واتجاهاتنا، وهو اعتقادنا المتعلق بدور الحظ في حياتنا؛ فالذين يحبون ما يقومون به يعتبرون أنفسهم محظوظين في الغالب؛ بينما يرى من لا يشعرون بالنجاح أنهم غير محظوظين. ويشترك أصحاب الإنجازات الكبرى بميول نحو المثابرة والإيمان بالذات والتفاؤل والطموح. كما تعتمد قدرتنا على فهم ظروفنا وخلق الفرص أو اقتناصها على توقعاتنا من أنفسنا بصورة كبيرة. ومن دون الفرصة المناسبة قد لا نتمكن من معرفة استعداداتنا مطلقاً، ولا ندرك إلى أين يمكن أن تأخذنا مواهبنا؛ وبدون الارتباط بمجتمع أو أشخاص يساعدوننا ويشاركوننا الشغف نفسه، لن يكون من السهل علينا أن نجد الشيء الذي نبحث عنه.
تفكير مختلف وأكثر من ذكاء
يؤكد روبنسون أن العثور على ضالتنا أو مكاننا المناسب يجب أن يقوم على مبادئ وأسس، من بينها التفكير بصورة مختلفة. وهذا يعني تحدي ما نعتبره أمرا مفروغاً منه في ما يتصل بقدراتنا وقدرات الآخرين، ونتخطى صعوبة طرح أسئلة حوله بعد أن صار جزءاً من نسيج منطقنا، وكالهواء الذي نتنفسه؛ كأن نقول إن حواسنا خمس - كما تعلمنا في المدرسة - دون أن ننتبه إلى حواس أخرى كإحساسنا بالاتزان، وبدرجة الحرارة، وبالألم؛ ولهذا يعد المفروغ منه أكبر أعداء التجديد والإبداع.
ويرى، من ناحية أخرى، أنه إذا لم ندرك حقيقة وجود أكثر من ذكاء- كذكاءات هاورد جاردنر المتعددة: الموسيقي، والجسدي/الحركي، والمنطقي/الرياضي، واللغوي، والمكاني/الفضائي، وذكاء العلاقة بالذات، والعلاقة بالآخرين، والذكاء الطبيعي- ونعرف أننا نرى العالم بطرق متعددة، فنحن نحد من الفرص المتاحة أمامنا للعثور على الشخص الذي يجب أن نكونه. وعلى هذا، يقتضي العثور على عنصرنا السماح لأنفسنا بتجريب جميع الطرق المتاحة حتى نخبر العالم ونكتشف مكامن نقاط قوتنا؛ ولعل من المفيد أن نعرف أن الذكاء الإبداعي عبارة عن قدرتنا على التعامل مع مواقف جديدة والعثور على حلول أصيلة ومبتكرة، وأن الذكاء البشري ديناميكي ومتفرد ومتميز للغاية كبصمة الأصبع.
كلنا أذكياء ومبدعون
من وجهة نظر روبنسون، لا يمكن أن يكون المرء مبدعا من دون التصرف بذكاء، لأن التفكير بإبداع هو المستوى الأعلى من الذكاء. ومن الضروري عند البحث عن العنصر أو مكاننا المناسب أن نفهم طبيعة الإبداع وعلاقته بالذكاء، ونختبر ملامح الذكاء البشري الأساسية ونتعرف على قوى الخيال الفريدة، لأنها وراء كل إنجاز إنساني فريد- وإن اعتبره البعض الساذج عيباً ومصدراً للتهكم ينال الأشخاص المحلقين - ولا يتعين علينا الاكتفاء بربط الذكاء بالقدرة الأكاديمية، وإلا أصبح معظمنا من غير الأذكياء؛ فالإبداع في حقيقة الأمر ليس مقصوراً على أشخاص معينين، لأننا ولدنا جميعاً بقدرات كبيرة على الإبداع. ويبقى السر في إظهار هذه القدرات. كما لا ينحصر الإبداع في أنشطة بعينها كالفنون، بل يوجد في كل مجال، سواء علوم أو رياضيات أو هندسة أو إدارة الأعمال، أو الرياضة أو العلاقات العامة؛ ولا يعتبر الإبداع سمة ثابتة لا دخل لنا فيها كلون عيوننا؛ وليس من الوارد أن يكون الناس إما مبدعين أو غير مبدعين، بل من الممكن أن نصبح أكثر إبداعاً في أعمالنا وحياتنا الشخصية.
الإبداع كالقراءة والكتابة
يعد الإبداع كالقراءة والكتابة - وفقا لروبنسون - فإذا اعتبرنا أنه من المفروغ منه أن كل شخص تقريباً قادر على تعلُّم القراءة والكتابة - وإذا لم يستطع أحد فعل ذلك فسيكون لأنه لم يتعلم - فإن الشيء نفسه ينطبق على الإبداع؛ فعندما يقول الناس إنهم غير مبدعين، فهذا يعني أنهم في الغالب لا يعرفون كيف يكون الإبداع عملياً. وباستخدام الذكاءات المتعددة يمكن أن يكون الإبداع في كل شيء. ومن ديناميكيات الإبداع أن يطرق المبدعون مواهب متعددة، فينتقل مبدع، على سبيل المثال، من نوع من الكتابة إلى نوع آخر، ومن فن إلى فن، ومن علم لآخر وهكذا؛ أما المشترك بين المبدعين فهو أنهم يحبون الوسط الذي يعملون فيه، فيحب الموسيقيون الأصوات، ويعشق الكتَّاب الحروف، ويتمتع الراقصون بالحركة، ويميل الرياضيون للتعامل مع الأرقام، ويسعد رواد الأعمال بعقد الصفقات، ولا يمل المدرسون المبدعون من التدريس. ولا ينظر مثل هؤلاء إلى أعمالهم على النحو الشائع لغاية معينة، بل يعملون لأنهم يريدون أن يعملوا لوجودهم في مكانهم المناسب.
الاستفادة من الخيال
يمكن أن تخدم العلاقة المعقدة والعميقة بين الخيال والإبداع البحث عن العنصر أو المكان المناسب؛ لاسيما ونحن نعرف أننا نستطيع مغادرة واقعنا إلى أماكن أخرى وأزمنة مختلفة، وهذه العملية من الرؤية بعيون العقل ضرورية للخيال، وقوة تجلب إلى عقولنا أشياء لا وجود لها في واقعنا المحسوس؛ ومن خلال خيالنا يمكن أن نبدع ونخبر الحرية؛ ونتأكد أن الخيال أساس لكل شيء فريد، ولغة أساسية للفنون والعلوم ونظم الفلسفة ومختلف جوانب الثقافة الإنسانية. ويستطيع الإبداع أخذ عملية الخيال إلى مستوى آخر، لأنه عملية امتلاك أفكار أصيلة وقيمة، أما الخيال وحده فيمكن أن يجري على نحو باطني ويمضي المرء يومه متخيلاً دون ملاحظة شيء، بينما لا يمكن القول إن فلاناً مبدع دون أن يفعل شيئاً؛ ولهذا لابد من الاستفادة من الخيال لعمل شيء جديد، أو التوصل إلى حل مشكلة، أو التفكير في مشكلة جديدة وطرح أسئلة حولها، فالإبداع في النهاية خيال تطبيقي.
خبرات الذروة والإدمان اللذيذ
نخبر الذروة عندما نكون في قلب مكاننا المناسب وفي عمق عنصرنا؛ نعيش حينها اللحظة ونذوب فيما نخبره ونغدو في أحسن أحوالنا؛ لكن عدم قيامنا بما نحب لا يعني أن نوجد في منطقتنا المفضلة على الدوام، فلابد أن يأتي وقت لا نتدفق فيه كما ينبغي، ومن الطبيعي ألا يكون مزاجنا رائقاً على الدوام، ولهذا يتبع البعض طقوساً وروتيناً حتى يتسنى لهم دخول منطقتهم الخاصة المفضلة. ومن يتعرَّف على مكانه المناسب أو عنصره يستطيع أن يجد نفسه فيه بشكل منتظم، حيث يعيش الحرية ويخبر الأصالة؛ ويشعر أنه يقوم بما ينبغي أن يقوم به، ويجد نفسه وينتقل إلى حالة ما ورائية. وما يميز العمل من هذه المنطقة أن الطاقة لا تسحب ولا تستهلك، بل تمنح وتعزز؛ فالأنشطة التي نحبها تملأنا بطاقة ذهنية أو نفسية تصعد وتهبط مع مستوى الشغف. كما ترتبط خبرات الذروة بتغيرات فسيولوجية على أثر انطلاق هرمونات كالإندورفين في الدماغ والأدرينالين في الجسد، فيتحسن معدل الأيض، ونعيش خبرة تغيرنا، ولا بأس إذا تحول ذلك إلى إدمان لأنه سيكون إدماناً صحياً ولذيذاً.
معوقات وحلول
يرى روبنسون أن قصور فهمنا لقدراتنا وعلاقتها ببعضها، ومواطن قوتنا وإمكاناتنا المعينة على النمو والتغيير، يمنعنا من معرفة مكاننا المناسب؛ فعندما نفكر بعقولنا تعمل مشاعرنا وأجسادنا بصورة منفصلة مثل الأجهزة المنفصلة المنعزلة ولا ننتبه للطبيعة العضوية الكلية؛ هذا إلى جانب حدود تضعها أمامنا مجموعة الأنداد والثقافة التي نعيش فيها وتوقعاتنا من أنفسنا، فتقصينا عن عنصرنا أو مكاننا المناسب. ونجد أن معظم العباقرة والمبدعين لم يحبوا المدرسة ولم يتفوقوا فيها ولم يكتشف بعضهم نفسه إلا في مرحلة لاحقة في الحياة بعد التعافي من تجارب المدرسة السلبية. ومكمن المشكلة في ثقافة المجتمعات ونظرتها السلبية إلى التعليم، وأشد ما يثير الأسف أن هذه النظرة السلبية تتعمق وتفاقم المشكلة.
يستغرق التعليم في بعض القدرات الأكاديمية كالتحليل النقدي والتفكير باستخدام الكلمات والأرقام؛ ويرتب المواد الدراسية في هرم تقع الرياضيات والعلوم ومهارات اللغة في قمته، والعلوم الإنسانية في منتصفه، والفنون في الأسفل؛ وعلى هذا الأساس تراجع نصيب الفنون في المدارس والجامعات لمصلحة المواد الأكاديمية الأخرى، وصار التقييم قائماً على نتائج امتحانات مقننة، مما وضع التلاميذ الصغار والطلبة في كل مكان تحت ضغوط هائلة. وبعد أن يبدأ الأطفال رحلتهم إلى التعلم بخيالات وعقول خصبة واستعداد للمغامرة، ينتهون برغبة في الخلاص. وبدلاً من أن يطور التعليم المواهب الطبيعية، نجده يكبتها ويقتل الدافعية للإبداع. ولا حل من دون تحويل التعليم من نظم وضعت لتخدم الثورة الصناعية والمنافسة الاقتصادية إلى نظم تخدم الإنسان وتساعده على اكتشاف مواهبه وقدراته .