مفهوم الحرية في مسرح الكاتب الكويتي بدر محارب

مفهوم الحرية  في مسرح الكاتب الكويتي بدر محارب

عالج المسرح العربي موضوع الحرية في كثير من المسرحيات، حيث كانت تمثل «تابوه» بالنسبة للمجتمع وللمبدع معاً، لكن المبدع المسرحي العربي لم يألُ جهداً في مناقشته واستحضاره في إبداعه المسرحي. لقد خلق هذا المسرح فضاءات جديدة في طرح أسئلة الإنسان المعزول، المشرد، المقصي اجتماعياً، المهمش اقتصادياً، وغير ذلك من الأمور التي فقد من خلالها الإنسان آدميته وكرامته، ونفسيته، مثل هذه الأفكار استطاعت نوعاً ما أن تطرح بشكل جاد ومؤثر قراءة فنية - أدبية في طرح مواضيعها، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في ما يشاع عن مفهوم المسرح السياسي وكأنه سلباً أو إيجاباً يتحدث عن سلطة جائرة أو عادلة، أو مسرح يسلط الضوء على مجتمع فقير جاهل متخلف حاثّاً إياه على تحقيق قفزة نوعية اقتصادية وحضارية.

 

الحقيقة، أن المسرح كما يقال مرآة الأمة، يخوض الصراع السياسي وغير السياسي، وكما أكد الناقد والكاتب علي عقلة عرسان، المسرح ليس وسيلة إعلام ولا يمكن أن يكون راعياً لموضوع اللافتات والإعلانات، لأنه في ذلك يفقد أهم عنصر من عناصره ألا  وهو الرسالة والقضية، ولذا نقول إن المسرح بناء جوهري للوعي الخلاق الفاعل والمؤثر في ميزان المواجهة.
وفي هذا الإطار سنحاول دراسة/ قراءة مسرحيات الكاتب المسرحي الكويتي بدر محارب «تاتانيا... ثلاث مسرحيات قصيرة»، وهي على التوالي: «حدث في جمهورية الموز»، و«تاتانيا»، و«دراما الشحاذين»، من خلال كتابه الصادر عن سلسلة عالم المعرفة التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت في عدد يناير 2015.
 
1 - السخرية السوداء في مسرحية «حدث في جمهورية الموز»
تتجلى عبارات السخرية السوداء باعتبارها وسيلة لغوية وفكرية لنقد الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في المجتمع، في عديد من الإشارات والأقوال التي نقرأها في مسرحية «حدث في جمهورية الموز»، فالتعذيب بوسائل خطيرة، والعقاب الذي يفوق جنس الفعل بوساطة أدوات قد تفقد الإنسان عقله أو قدرته أو حتى تؤدي إلى جعله مشلولاً لا يُرجى منه شيء... ثم التصفيق لها والدعاء للجلاد والقائد الذي يحميه... كل ذلك يؤكد أننا إزاء سخرية سياسية من مجتمع يقبل الظلم ويصفق لتعذيبه وتفقيره وتجويعه، من مجتمع يقبل الظلم ويقبِّل أيدي ظالميه، يخاف التعذيب والجلد ويدعو لجلاديه، مجتمع لا يفكر إلا في تجاوز كل فعل غير إرادي وغير مقصود أقدم عليه تجاه أي ممثل  للسلطة، حتى ولو كان أحقر شخص فيها... إن ما يؤكد أن السخرية وسيلة لنقد الواقع والوعي بالضعف والخنوع هو كونها تؤدي إلى تحريك ولو جزء بسيط من وعينا المغيب، فتنقذنا بشكل مضمر من تيهنا وخوفنا من الانحدار إلى اللاإنسانية، ثم الاتجاه نحو تبني وعي ينبني على الثأر والانتقام في حالة سقوط السلطة الظالمة المستبدة، ولعل ما وقع في بلدان «الربيع العربي» أخيراً خير دليل على ذلك، حيث الانتقام من السلطة السابقة وممثليها عرف كل أشكال التنكيل والإقصاء... يقول بدر محارب في المسرحية على لسان شخصياته:
كارلوس: نعم... هذا ما سمعته... وسمعت أنهم يمتلكون جهازاً يستطيع تتبع بصمة الشخص... وبما أن كل مولود في جمهورية الموز يتمُّ تبصيمه في يومه الأول... فهم يملكون بصماتنا جميعاً.
روبرتو: وهمْ قساةٌ في تحقيقاتهم.
كارلوس: ويستخدمون أساليب متطورة جداً في التعذيب.
روبرتو: ليكنِ الله في عونهم.
كارلوس: نعم... أعانهم الرب... فهم يتعبون من أجل راحتنا.
روبرتو: بل يتعذبون من أجل راحتنا.
كارلوس: وحين يقررون القبض على مواطن... فلا يعيقهم زمان ولا مكان.
روبرتو: نعم... يقتحمون البيوت وغرف النوم. سواء أكان الوقت نهاراً أم ليلاً... ما أروعهم.
كارلوس: نعم... وهم لا يبالون بما يرتدي الشخص حين يتمُّ القبض عليهم... سواء أكان عارياً أم مرتدياً بيجامته... اللهم احرسهم يا رب.
روبرتو: سمعت أنهم يستخدمون التعليق والخوازيق.
كارلوس: وإطفاء السجائر في الجسد.
روبرتو: ونتف الرموش وقلع الأظفار.
كارلوس: وثقب الكفوف والأقدام.
روبرتو: والصعق بالكهرباء.
كارلوس: والحبس مع الفئران والعقارب والأفاعي.
روبرتو: أعانهم الله... كم يتعبون من أجلنا.
كارلوس: فليحرسهم الرب... كم يتعذبون من أجلنا... (ص 30-31).
إن تصوير مشاهد التعذيب والعقاب التي يعددها المؤلف هنا على لسان شخصياته يؤكد بالملموس ذلك الوعي الجمعي بكون أي دولة/ سلطة استبدادية لا يمكنها الاستمرار في الحكم إلا بواسطة هذه الأفعال، لأنها تجعل من مواطنيها خائفين وخاضعين لها دون تمرد أو ثورة عليها... بل يقومون بالمستحيل لتجنب غضبها (السلطة) وانتقامها منهم، واعتبار هذه المشاهد أموراً مقبولة وواجبة ضد كل معارض أو منتقد لها أو خارج عنها، فيدعون لها ويبررون لها أفعالها وقراراتها الجائرة والظالمة باعتبارها السلطة الناهية والآمرة والقائدة في شخص ممثلها الأعلى وهو رئيس الجمهورية ومن يمثله أو ينوب عنه.
تحكي المسرحية قصة مواطن كان نائماً أثناء دخول أحد أفراد أسرة رئيس حكومة الجمهورية إلى مقهى، حيث وقف له جميع مرتاديه احتراماً وتقديراً له إلا هذا المواطن الذي كان مستغرقاً في نوم عميق، ولم تؤثر الجلبة التي أحدثها الزائر ومرافقوه ليستيقظ من نومه. لكن عند استيقاظه أطلعه أصدقاؤه على الأمر كله وخوَّفوه من انتقام المسؤول المذكور واعتقاله وتعذيبه بكل أنواع التعذيب، فبات ليالي عدة بلا نوم يفكر وينتظر مصيره، حتى هجرته زوجته واتخذه الناس سخرية... ثم قرر في النهاية التوجه إلى إدارة المخابرات ليسلِّم نفسه لهم ويتخذوا الإجراءات في حقه، لكنه فوجئ بأن العقاب هو مجرد صفعة قوية على خده عاقبه بها رئيس المخابرات جراء اقتحام مكتبه دون استئذان أو أدب أو احترام. فأدرك أنه كان يضخم الأمر فقط، وأن الأمر لا يحتاج إلا عقاباً بسيطاً جداًّ مثل الصفعة على الخد.
ويصل الأمر بالسخرية إلى أن تكون عنواناً للاستهزاء من الحرية وطالبيها والمنادين بها، فالحرية فيروس ومرض مزمن ومعدٍ، وإن لم يتمَّ التدخل لإيقاف انتشاره فستكون نتائجه وخيمة على السلطة أولاً وأخيراً... يكتب بدر محارب في المشهد السابع من المسرحية:
أنطونيو (أليخاندرو): وهلْ أنتَ متأكد يا دكتور من تشخيصك؟
الطبيب: كل التأكيد يا سيدي... تحليل الدم والأعراض التي ظهرت على المريض جميعها تشير إلى أنه قد أصيب بمرض «حمى الحرية».
أنطونيو: وهل هذا المرض معدٍ؟
الطبيب: بل وشديد العدوى أيضاً يا سيدي... وقد أمرت بالتحفظ على المريض وحجزه في الحجر الصحي... كي لا ينتقل المرض إلى أحد.
أنطونيو: خطأ... كان يجب عليك قتله ودفنه في قبر خارج حدود العاصمة... وتعقيم المنطقة التي بها القبر... وأي إصابة جديدة ادفنوها... وادفنوا مع المريض كل أقاربه من الدرجة الأولى والثانية والثالثة... وسأصدر قراري بإنشاء مقبرة جماعية تضمُّ المصابين بهذا المرض... وأقاربهم.
الطبيب: نعم يا سيدي... هذا عين العقل... سأقوم حالاً بتنفيذ أمرك... (ص 43).
ما نود الإشارة إليه هنا هو أن هذه المسرحية المعبرة عن الواقع الاجتماعي الذي تعيشه بلدان عربية اليوم، من ثورات شعبية وثورات مضادة، قد كتبها الكاتب المبدع بدر محارب عام 2007، أي قبل أربع سنوات على الأقل من هذه الثورات العربية. ومن هنا نستنتج أنه في مسرحيته كان كالمتنبئ أو المفكر المستقبلي الذي يفكر لأهله وناسه وقومه، ويدرك وعيهم الجمعي وتفكيرهم السياسي والثقافي وحتى رؤيتهم لواقعهم ومستقبلهم. إن الكاتب في مسرحية «حدث في جمهورية الموز» يرسم معالم ثورة الحرية التي طالبت بها شعوب عربية ومازالت تفعل، كما يرسم في نهايتها معالم الثورة المضادة ورجوع الأمور إلى نصابها وإلى نقطة الصفر وعودة النظام السابق أكثر قوة وشراسة من السابق، وهذه لعمري حال بعض البلدان العربية التي عرفت ثورات شعبية ثم بعد مدة قصيرة فقدت هذه الثورات بريقها ووجودها، لتعود أنظمة الاستبداد برجالاتها ومعالمها الكلية من جديد إلى هرم السلطة ودواليبها.

2 - صراع العلم والجهل في مسرحية «تاتانيا»
«تاتانيا» اسم قرية نائية بعيدة عن العاصمة، لا يصل إليها أي شيء، منقطعة عنها على جميع الاتجاهات ولا تعرف أي تنمية أو اهتمام أو شعور بوجودها ضمن حدود الوطن. يحرس أبوابها، أو بالأحرى الطريق الوحيدة المؤدية إليها، مفتشان أمنيان من أهل القرية نفسها، يمنعان كل غريب يريد الدخول إليها، كما يوقفان كل وسيلة نقل حديثة من التوغل في ترابها، إلا الحمير والبغال والدواب. وفي أحد الأيام يحضر معلم إليها قادماً من العاصمة لتعليم أبناء القرية وإنقاذهم من الأمية والجهل، فيتعرض للتفتيش الدقيق من طرف المفتشين وتُصادر كتبه في الفلسفة على أساس أنها تحتاج إلى تصريح من قسِّ القرية الذي يشرِّع كل شيء ويفرض قوانينه العامة والخاصة على أهل القرية وحتى على زائريها.
يتعرض المعلم لمواقف مختلفة ومتعددة، تسخر منه ومن وظيفته ومن عمله الذي لن ينفع القرية وأهلها في شيء، مادام القسُّ هو كل شيء فيها، حيث يمثل لهم العلم والمعرفة والدين والقانون والأعراف والعادات والتقاليد والقيم... أما العلم الذي يحمله المعلم فلا يساوي شيئاً أمام علم القس وفكره المتوقد، وقيادته الدينية الرشيدة المستمدة من الله... يكتب بدر محارب في مسرحية «تاتانيا»:
رامون: بالطبع لا... هي يومياتي الخاصة... أخبريني... ما أعلى سلطة هنا في القرية؟
سارة: إنه بالتأكيد العمدة... ثم هناك القس الذي يضع القوانين والقواعد التي نسير عليها... وبيير رئيس الشرطة الذي يشرف على تنفيذ هذه القوانين.
رامون: وماذا عن الشعب؟
فرانسيس: أي شعب؟
رامون: أنتم... ما دوركم في القرية؟
فرانسيس: دورنا هو تنفيذ القوانين... وهل هناك دور أشرف من هذا الدور؟ (ص 57).
انطلاقاً من هذه الأمور والمعلومات التي حصل عليها المعلم، يقرر أن يساعد أهل القرية على الثورة ضد الظلم والتعسف والقهر والإكراه على الفعل، فها هو يعلِّم الناس كيفية قول كلمة «لا» ضد كل قرار جائر، وقانون ظالم، وحكم غير عادل، وها هو يقف ضد القس ورئيس الشرطة ويجابههما بحقيقة أن حرية التعبير مكفولة للجميع، والتعبير عن الرأي وعن الموقف المخالف حق للناس في المجتمع حتى تكون لهم القدرة على اختيار الصائب من الخاطئ، وتمييز الخير من الشر، والحق من الباطل، بل ها هو ينتفض في وجه كل من يخضع لسلطة القس والعمدة وقانونهما الظالم والمبني على أهوائهما الخاصة... ونجد ذلك واضحاً في هذا المقطع من المسرحية:
رامون: هكذا! بكل بساطة تنتهكون حرية الفرد؟ تمنعون حقه في الاختيار؟ تخرقون القوانين والأعراف بحجة المصلحة العامة؟
(يتجه لشعب تاتانيا)
وأنتم؟ أين أنتم من كل هذا؟ أين حقكم في التعبير؟ أين صراخكم بكلمة «لا» ضد الظلم؟ «لا» ضد القهر؟ أين «لا» ضد القمع؟
بيير: لا تجهد نفسك يا معلم العاصمة... لن تجد «لا» واحدة في هذه القرية الآمنة.
(يهم القس وبيير بالخروج فتصرخ مونيكا).
مونيكا: بل سيجد يا رئيس الشرطة... وسنصرخ بأعلى أصواتنا «لا» وألف «لا».
رامون: ها هو صوت قد خرج رافضاً ظلمكم. (ص 69).
إن مواجهة المعلم رامون للقس ورئيس الشرطة ووراءهم العمدة لم تكن سهلة، بل كانت مهمة صعبة، لأن أهل القرية كانوا يجهلون حقوقهم ولا يعلمون هل خضوعهم لهذه السلطة الظالمة هو خضوع مستمد من الدين أم هو خضوع الخائف والضعيف والجاهل، ولذلك فمهمة المعلم كانت إقناعهم بكونهم على ضلالة وجهل وتخلف إن هم استمروا في الصمت على الظلم والقهر... لقد حقق المعلم في النهاية هدفه الأسمى المتمثل في إخراج أهل القرية من الجهل ومن الخنوع لسلطة دينية لا شرعية لها، حيث انتفض الناس على هذه السلطة وتكتل الجميع لمواجهة القس والعمدة ورئيس الشرطة، لكن عند الامتحان فشل الناس في الاستمرار في قول كلمة «لا»، فتمَّ اعتقاله ورميه في قبو مظلم لا هواء فيه، حيث اجتمعت الرطوبة الخانقة مع البرودة السقيمة مثلما اجتمعت في أجساد الناس ممن تحجرت قلوبهم وأغمضوا عيونهم عن رؤية الحق وأخرسوا ألسنتهم عن نطق الحقيقة.
لكن ما يثير في نهاية المسرحية هو كون هذه المهمة التي وضعها  المعلم على عاتقه لإنقاذ أهل قرية تاتانيا من الضلال، قد انقلبت عليه بالويل والثبور، حيث وجد نفسه مجرماً بعد قتله العمدة الذي كان يستعد لزفافه على سارة بإيعاز وتحريض من مونيكا. لقد انتصر الجهل على العلم في هذه النقطة بالذات، حيث فشل المعلم في حل لغز المؤامرة التي اشترك فيها الكل: القس، ورئيس الشرطة بيير، وسارة، وأبوها فرانسيس، وحتى مونيكا الفتاة اللعوب... من أجل توريطه في جريمة قتل العمدة الذي كان ينوي عزل القس حتى تتسنى الفرصة لرئيس الشرطة ليخلفه، ويبقى القس في منصبه ويتورط شخص غريب من خارج القرية وذلك ما كان.
هنا تكمن عبقرية كاتب المسرحية، لأن القارئ عندما يستمر في قراءة أو مشاهدة المسرحية ممثلة على الركح يستنتج مباشرة قبل النهاية أن المعلم سيفوز في النهاية ويحقق غايته في تنوير أهل قرية «تاتانيا»، وينقذهم من الجهل والضلال والغيّ والفساد، لكنه يفاجأ في النهاية بأنه سيكون ضحية خدعة كبرى تتجلى في الاعتداد بعلمه ومعرفته وثقافته لمواجهة جيش جرار من الجاهلين والفاسدين والظلمة.
3 - تبادل الأدوار بين الشخصيات في مسرحية «دراما الشحاذين»
تحكي مسرحية «دراما الشحاذين» قصة متشرديْن تقطعت بهما السبل في البحث عن مكان يأويان إليه للمبيت والراحة، فيجدان مكاناً مهجوراً في ملك الدولة ولم يتمَّ بعْدُ بناؤه أو إصلاحه، وبعد مدة قصيرة من الاستقرار به، حضر متشردان (رجل وامرأة) يظهر عليهما أنهما يملكانه قبلهما، خاصة أن بعض متعلقاتهما الخاصة موجودة بالمكان من أفرشة وموقد ناري وبعض المكسرات وقناني الشراب... فيفاجآن بهما، لكنهما يستقبلانهما بعد التوسل إليهما بمشاركتهما المكان لليلة واحدة فقط، ثم بعد مدة يقتحم لص هارب من الشرطة عليهم المكان، فيضطرون إلى استقباله هو أيضاً بعد التوسل إليهم، خاصة بعدما دخل شرطي يبحث عنه بينهم فادَّعوْا له أنهم ممثلون مسرحيون يقومون بتدريبات على مسرحية جديدة في غفلة عن الصحافة التي تلاحقهم من أجل السبق الصحفي ومعرفة جديدهم، فيقتنع الشرطي بالكذبة ويشاركهم الأمر بالمشاهدة على أساس أنه من الجمهور، لكن سرعان ما أشركوه في التمثيل وأدخلوه في اللعبة لينقذوا أنفسهم من الاعتقال والإجلاء من المكان... يقول بدر محارب في المسرحية:
اللورد جون: أنا سأكون الملك الممثل، ولكننا بحاجة إلى الملكة الممثلة... (الشرطي) يا سيدي... هل تشاركنا التدريبات؟
الشرطي: (بخجل) أنا؟ لكن لم يسبق لي أن مثلتُ يا سيدي.
اللورد جون: كلنا ممثلون يا عزيزي... تعال سأخبرك بما تفعله... لن يكون هناك حوار لك...  (يصرخ): إضاءة.
(ماكس يتجه إلى محول الإنارة فيطفئه).
(يصرخ) موسيقى.
(يقوم الجميع بالعزف من خلال أفواههم بموسيقى رومانسية، فيدخل الشرطي بدور الملكة وهو يتراقص مع اللورد الذي يقوم بدور الملك، يستمران في الرقص، حتى يستلقيَ اللورد وينام، ويخرج الشرطي).
(تتحول الموسيقى إلى موسيقى ترقب حين يدخل ماكس في دور العم، يتلفت يميناً ويساراً ثم يقف أمام اللورد النائم).
(اللورد يهمس بقوة)...
اللورد جون: ضعِ السمَّ في أذني... السمَّ في أذني.
(يتردد ماكس ثم يضع السم ويهرب، يدخل الشرطي في دور الملكة وتتغير الموسيقى حسب ما يتطلبه الموقف، يُفاجأ بمقتل الملك فيبكي وينوح بغير صوت، ثم يدخل ماكس ويخفف معاناة الشرطي (الملكة) ويعطيها هدية فتفرح، ثم يجران الملك المقتول إلى الخارج).
(يظهر اللورد ويشير إلى أدْوين كي يتحدث)... (ص 100).
إن التشرد ليس قدراً على الإنسان، فقد يكون هو نفسه سبباً في تشرُّده وضياعه بين الحواري والشوارع يمارس التسول، وبأفعاله الشيطانية قد يفقد ثقة الناس فلا يرضى أي أحد بتشغيله أو الرأفة به، لأنه لا يستحقها مادام يخون الأمانة، ويسرق صاحب النعمة عليه، ويختلس كل ما وقعت يده عليه... إن الإنسان بطبعه طماع لا يرتاح إلا وقد حصل على ما في يد غيره، لذلك فأغلب شخصيات المسرحية هم كذلك، بأفعالهم قادوا أنفسهم إلى التشرد والضياع، وبشرورهم هم يتيهون في الشوارع، لا سكن ولا طعام نظيف، ولا حتى تقدير لآدميتهم... ولا نجد الرحمة إلا في ما بينهم، لأنهم يفتقدون القدرة على تحقيق رغد العيش. ولذلك نجدهم رحماء بينهم لأنهم فقدوها في الآخرين.
يستغل بدر محارب الحوار الذي دار بين الجميع حول فيكتوريا وأحقية جاك بها دون الآخرين، متوعداً لهم بالقتل والضرب إن فكروا في الاقتراب منها، ليجعل من الحرية طعاماً لكل تعبير عن رأي وموقف، وملْحاً لحياة الإنسان كيفما كان وضعه الاجتماعي. إنها حق فطري لكل الناس، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، صغاراً أو كباراً، رجالاً أو نساءً... إنها الفطرة الأولى. فمن أجل الحرية مات كثير من الناس، وتفرقت بهم السبل، وأُسقطت أنظمة سياسية، وخربت بلدان كثيرة، ومن أجلها مازالت بعض الشعوب تحارب وتقاوم مستعمريها ومغتصبي أرضها ووطنها ■

 

لقطة من مسرحية تاتانيا لفرقة مسرح الخليج العربي