زمن القرزمة

روى الشاعر الكبير بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير) مرة، حكاية تتصل ببداياته الشعرية، قال: كنتُ أتردّد وأنا فتى دون العشرين من عمري إلى حلقة الشيخ إسكندر العازار، شيخ الحلقات الأدبية في ذلك الزمان، وكنتُ أقرأ عليه قصائدي، فيتناولها بالنقد اللاذع، وهو يُردّد: «لن تكون شاعراً يا بشارة، أنت صحفي، دع الشعر لسليم»، مشيراً إلى سليم العازار، أحد أعضاء الحلقة. وذات ليلة كنّا في مقهى من مقاهي بيروت البحرية نجلس حول الشيخ، فالتفت إليّ فجأةً وقال: هاتِ ما عندك يا بشارة، فقرأت عليه قصيدةً لا أذكرها، فلما انتهيتُ الــتــفـــتُّ إليه فوجدته يبتسم وهو يحمل صَدَفة من صدفات التوتيا، يُعمل سكّينه فيها ويتناول لحمها اللذيذ، ويقول لي: «شعرك مثل التوتيا هذه ... جزء من اللحم اللذيذ، وتسعة وتسعون جزءاً من الصدف الشائك الذي لا يصلح لغير...»، هنا توقف عن الكلام ونظر إليّ ساخراً ورمى الصدَفة في البحر، إلى أن جئت الحلقة ذات يوم بقصيدتي التي مطلعها:
عشتَ فالعبْ بشعرها يا نسيمُ
واضحكي في خدودِها يا كرومُ
فصفّق لها الشيخ وهلّل، ثم ربت على كتفيّ قائلاً: «ظلّ بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيراً».
والحكاية معبّرة، وإن كان من الممكن أن يروي مثلها كل رفاق الأخطل الصغير في القرن العشرين، بل كل الشعراء الأقدمين، بدءاً بامرئ القيس وخاله «مهلهل الشعراء ذاك الأول»، إنها تدلّ على أن المرء لا يستوي شاعراً إلا بعد مخاض طويل من مظاهره، إنه ما إن ينتهي من كتابة نص حتى يمزّقه، ثم يعاود كتابته من جديد ليتخلّى عنه لاحقاً وليبدأ من جديد، فــلا تــتــكلّل رحلته الجديدة أو الأخيرة بالسلامة المرجوّة، فيدرك بعد ذلك أن لا سبيل للقبض على زمام القصيدة إلا إذا قرأ تراثه الشعري، ثم التفت إلى الثقافة الأجنبية، وقبل كل شيء إلى ذاته يسائلها عمّا إذا كان خُلق لكتابة الشعر أم لمهن أخرى.
كانت القرزمة ممراً إجبارياً للشاعر، وكانت الشروط الشكلية للقصيدة، من وزن وقافية وضرورة أن يدلّ الكلام على معنى، تقف حاجزاً أمام الراغبين في دخول جنة الشعر، فلما زال هذا الحاجز في وقتنا الراهن، إذ اعتبر البعض قصيدة النثر شعراً، ومؤلفها شاعراً، زالت عقبة كأداء أمام هؤلاء الراغبين، بل إن الشاعر الذي لم يكن صدر له ديوان في السابق إلا بعد بلوغه الستين أو ألسبعين من عمره، مثل بدوي الجبل، بات يصدر له في السنة الواحدة أكثر من ديوان، بل بات يصدر له قبل بلوغه العشرين دواوين عدة، وكل هذا كان من نِعَم إلغاء القرزمة، ومن نِعَم إلغاء الشروط الشكلية، وعندما التفت غواة الشعر إلى الشعر مستطلعين حاله، لم يجدوا في الأعمِّ الأغلب صلة تُذكر بين ما يقرأونه اليوم وما قرأوه في عصور الشعر الذهبية ■