ملف الإنشاد الديني: بين الأجناس والسياقات الفنية

ملف الإنشاد الديني: بين الأجناس والسياقات الفنية
        

ترجمة: أمير الغندور - نرمين نزار

          يعرف الإنشاد الديني بأنه أداء صوتي إيقاعي لمقاطع الشعر العربي في إطار أداء طقوسي اسلامي، أما مؤدي هذا النوع من الأداء الصوتي فيعرف بالـ«منشد»، وهو عادة ما يكون من الذكور، وينادى جوازا بلقب «شيخ» دلالة على اكتسابه قدرًا من المكانة الدينية الرفيعة. ويعتبر الإنشاد - بالنص أو بالسياق - شكلا من أشكال التعبد والتضرع والابتهال، على الرغم من أنه لا يمثل جزءًا أساسيًا من جوهر الشعائر في الإسلام.

          لكن المدهش في الإنشاد الديني، أنه عندما يمارس ضمن الشعائر الدينية، فإنه قد ينفتح على تنويعات واسعة من التجارب والمعاناة الشعورية، والتي تتراوح بين النشوة الصوفية وإلهاب الذائقة الجمالية. وبهذا، فإن الإنشاد الديني يقع على الحدود البرزخية غير المحددة بين الفن والدين، بين الموسيقى والإسلام .. وبين القيم الفنية والقيم الروحية.

بين الإنشاد والطرب

          من الناحية التاريخية، هناك علاقة وثيقة بين الإنشاد والطرب والذي هو بحكم تعريفه يعني الأداء الصوتي الإيقاعي الذي يستهدف الإطراب والنشوة بل ويمثل الإطراب الخلفية التدريبية المهمة التي تؤدي بالمنشد إلى النجاح في ممارسة الإنشاد الديني.

          فمن جهة، يمكن اعتبار الإنشاد الديني كما لو كان يقع على حدود ممارسات الغناء في شكل أغنيات تمزج التقاليد الموسيقية العربية الحضرية مع النصوص والأدعية الدينية الإسلامية، إلا أنه يفتقر إلى سياق الجدية والالتزام الديني التقليدي. ومن جهة أخرى، وعلى صعيد الأداء الفني، فإن الإنشاد الديني يعتبر وثيق الصلة بالتشكيلات والأجناس الفنية الصوتية الإيقاعية في الحياة الإسلامية، مثل الآذان للصلاة، وقراءة القرآن الكريم التجويدية، والتي تشتمل جميعها على دور أساسي للأداء الصوتي الإيقاعي المنغوم والرخيم. إلا أنها لا تدخل في باب الإنشاد الديني.

          وبالرغم من وجود انطباع سائد بين أغلب الباحثين وحتى بين الأشخاص العاديين على حد سواء، بأن الإسلام يحرم الموسيقى واللحن الإيقاعي في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية، أو بأنه يستهجن الموسيقى الإيقاعية في أي سياق - ولذلك فكثيرا ما يظن الباحثون أن توظيف الغناء الإيقاعي والموسيقي في الفرق والطرق الصوفية إنما هو أمر استثنائي ونادر الحدوث في الإسلام - إلا أن الواقع يؤكد وجود قدر واضح من الاستخدام والتوظيف للإيقاعات اللحنية والموسيقية، حتى داخل متن الشعائر والممارسات الإسلامية.

الإنشاد الديني والتجويد..علاقة تاريخية

          ويستند انتشار الأصوات الإيقاعية والموسيقية المؤداة في الشعائر الإسلامية إلى الدور المهم للتلاوة التجويدية للقرآن. فقد نجح المسلمون في تطوير عدد من القراءات التجويدية للقرآن الكريم بغرض تقريب رسالته إلى قلوب السامعين وتسهيل عملية الحفظ والتذكر وتوضيح معاني الآيات.

          وفي مصر على سبيل المثال، يمكنك أن تستمع بشكل يومي ومستمر إلى قراءات تجويدية للقرآن الكريم وإلى أذان الصلاة وإلى ابتهالات دينية بأصوات إيقاعية ومنغمة وبشكل معتاد.

          ولا تعتبر هذه الممارسات من آذان وقراءات تجويدية من قبيل الموسيقى. فالموسيقى يقصد بها أصوات الآلات الموسيقية، والتي غالبا ما يتم ربطها بتابو الرقص والخمور. الموسيقى مصطلح مذموم في السياقات الدينية. وهذا يفسر تقلص دور الآلات الموسيقية في الإنشاد الديني، وذلك لارتباطها بالموسيقى المصنوعة من صوت غير بشري. بل إن تعبير «غناء» يعد من التعبيرات المحملة بمدلولات دنيوية، بحيث لا يليق بها أن تحضر في سياق الممارسات والطقوس الدينية. ولهذا اصطلح على تسمية أداء المقاطع الإيقاعية الموزونة من الشعر بغرض دينيّ بـ «الإنشاد الديني»، ولا يسمى بالغناء الديني. عندما لا يكون النص شعرياً، تُستخدم مصطلحات أخرى مثل «تجويد» و «آذان». كل هذه الأجناس تشترك نغمياً في الكثير من السمات، وما يميّز بينها هو النص والسياق أكثر منه الأسلوب الموسيقي.

سمات الإنشاد الديني:

          هناك سمات مشتركة عديدة بين الإنشاد الديني الإسلامي والموسيقى العربية من مثل سمات الصوت المنفرد (المونوفونية) monophony والتنويع الصوتي (الهيتروفونية) heterophony ، وكذلك نظم المقامات والإيقاعات اللحنية والتشكيل الشعري والموسيقي ومحورية الشعر والأداء التعبيري الارتجالي للنصوص المشحونة والمفعمة بالمعاني، والتطويل والاستطراد في التجويد والتلحين، والارتجال اللاقياسي والاستجابة الطربية من السامع.

          إلا أن هناك سمات أخرى ينفرد بها الإنشاد الديني وهي تنبع من ثلاثة عوامل تكوينية:

          (1) الطبيعة المحافظة للمجال الديني، والتي أدت إلى تسيد وانتشار سمات محددة في الموسيقى العربية قبيل فترة ثلاثينيات القرن العشرين.

          (2) ميل المنشدين لتفادي التشبه بالأعراف الموسيقية المنتشرة لدى المغنين والمطربين ، وهو ما دفع المنشدين إلى تعمد التميز عن هذه الأعراف الموسيقية الدنيوية بسمات جديدة مختلفة ومستقلة.

          (3) المتطلبات الوظيفية المفروضة والمفترضة في ممارسة الإنشاد الديني والمستمدة من دوره الخاص وسياقه المحدد.

          ترسخ للإنشاد الديني قدر ما من الأهمية داخل سياق محدد من الممارسات الدينية، وذلك في إطار الغاية التي تتوخاها هذه الممارسات من تشكيل معان دينية واجتماعية محددة، في الوقت نفسه تتشكل سلطة المنشد ومكانته وتتكثف عملية الحساسية الشعورية من خلال الإطراب.

الإعلام والإنشاد والموسيقى العربية

          انتشر الإنشاد الديني واكتسب قدرًا كبيرًا من الشعبية في وسائل ووسائط الإعلام، بما في ذلك الوسائط السمعية والبصرية، والتي بدأت مع مطلع القرن العشرين بالأقراص الصوتية، ثم بعد ذلك عبر البث الإذاعي منذ العشرينيات ، ثم من خلال البث التلفزيوني في الستينيات، ثم بواسطة أشرطة الكاسيت في السبعينيات. وبالرغم من أن أغلب هذه الوسائط والوسائل الإعلامية مالت نحو تفضيل السياقات ذات الاستقلالية والانفصال والقابلة للتوظيف لتحقيق أهداف تجارية وترفيهية واضحة، فإن الإنشاد الديني استمر في الوجود والإزدهار، على العكس من المصير الذي طال الموسيقى العربية. فقد استمرت أجناس محددة من الإنشاد الديني في الحضور مباشرة خلال الشعائر والممارسات الدينية اليومية والأسبوعية. كما أصبحت تبث خلال المناسبات السنوية الدينية مثل المولد النبوي، واحتفالات شهر رمضان، والموالد والأعياد الشعبية ذات الطابع الديني المعروفة، وحتى المناسبات الحياتية الشخصية مثل عقد القران والطهور وذكرى الوفاة.

          في هذا السياق، يطمح المنشد إلى خلق وتوليد مشاعر عارمة لدى المستمعين. وخلال هذه العملية يحدث للمنشد أن تتصاعد وتتكثف مشاعره هو نفسه؛ فتصبح مهمته هي محاولة نقل هذه المشاعر من داخل ذاته إلى الآخرين خارجه، من خلال التقنيات الصوتية والإيقاعية والنصية، بغرض توليد مشاعر مماثلة في القوة لدى المستمعين. ومن الناحية النظرية، يمكن أن نعد هذا الحثّ والرغبة في التأثير بمنزلة نزوع ديني يحاول فيه الطرف صاحب الخطاب والأكثر امتلاء بالمشاعر نقل مشاعره إلى الطرف الآخر المستمع للخطاب. إلا أنه على مستوى التطبيق والممارسة، فغالبا ما تتداخل الأطراف والأغراض والنتائج، ويتولد لدينا حالة شعورية تسمى بـ «الوجد» الصوفي حيث يندمج الروحاني بالطرب الإيقاعي.

«السميعة».. آلة إلهام المنشدين

          خلال الإنشاد الديني، يقوم المستمعون بدور فعال، حيث تظهر استجاباتهم الصوتية الفورية مصحوبة بإماءات استحسان عقب كل مقطع مؤثر وبهذا تتحول ردود الأفعال هذه إلى ما يشبه التغذية المرتدة إلى المنشد فترشد أداءه وقراراته، وتؤدي بالتالي إلى تعظيم الزخم الشعوري لأدائه الإنشادي. وتمتد هذه العملية التي تؤدي إلى إرشاد وتوجيه أداء المنشد، وبالتالي تطوير الطاقة الروحية لأدائه. هذا التطوير يحتاج إلى عاملين وهما أن يكون الأداء حيًا حاضرًا غير مسجل، وأن يتم بشكل ارتجالي غير ميكانيكي بحيث يسهل تعديله اعتمادا على استجابات السامعين.

          ويمكن القول أن هذه العملية التي تعتمد على الأداء والاستجابة لتطوير الأداء، والتي يمكن وصفها بكونها ذات طبيعة سيبرنيتيقية، كانت بمنزلة إحدى العمليات الأساسية الفاعلة في مجمل الموسيقى العربية قبيل ثلاثينيات القرن الماضي. لكن اليوم لا توجد هذه العملية السيبرنيتيقة إلا في الإنشاد الديني فقط، بينما لم تعد تمارس في الموسيقى العربية.

          من سمات الإنشاد الديني أنه يعتمد بشكل جوهري على الأداء الصوتي البشري، وغالبا في صيغة فردية وارتجالية. إلا أن هناك أشكالًا من الأداء الجماعي الكورالي في الإنشاد الديني وتحديدا لدى الطرق الصوفية، كذلك من غير المستحب استخدام الآلآت الموسيقية في الإنشاد الديني لأن ذلك يعد عند البعض بمنزلة تجديف. مخارج الألفاظ يجب أن تكون على درجة عالية من الدقة بهدف توصيل النص للسامع كما يجب أن يكون الصوت قوياً، غالباً حاداً، وأن يكون قادرا على النفاذ إلى قلوب السامعين ومتمتعا بقدرة تعبيرية مكثفة. وأن يحظى بما يطلبه التجويد في قراءة القرآن من حيث طول النفس وانضباط مخارج الألفاظ.

          تتعدد الوتائر اللحنية والإيقاعية للإنشاد، فتسمح للمنشد المنفرد بعمل تنويعات صوتية كثيرة للمقطع الواحد melisma. وبذلك تصبح للمنشد المنفرد سيطرة تامة على تنويع الأبعاد الإيقاعية للمقطع، فعادة لا يوجد مع المنشد المنفرد ملحن ولا موزّع ولا قائد يفرض عليه إيقاعًا محددًا دون غيره. بل يتمتع المنشد المنفرد بحرية كاملة.

          ويقوم المنشد بممارسة سيطرته الإيقاعية تلك خلال عملية الأداء والممارسة نفسها، بما يمكنه من التعبير عن مشاعره الداخلية بكل تلقائية ومباشرة في تساوق مع النص الذي يصدح به.

          أما في حالة الإنشاد الجماعي، فيختلف الأمر. حيث يتحدد للمجموعة دورها وإيقاعها. لكن بشكل عام تتراوح الإيقاعات بين الأحادية الصوتية monophonic وبين التنويع heterophonic.

          في الغالب يتبنى الإنشاد اللغة العربية الفصحى - لغة القرآن الكريم - وغالبا ما تكون في شكل قصائد، وموشحات، والجنسين الفنيين لهما ما للشعر من وزن وقافية.

          هناك أيضا أنواع من الإنشاد باللهجة العامية (وبخاصة في منطقة الدلتا) وهي تعتمد على الأجناس الفنية الشعبية، مثل: الموال والزجل. إلا أنها تتعرض للنقد من قبل من ينتمون إلى النخبة، كما لو كانت دلالة على الجهل. وغالبا ما يتمتع المنشد الديني المنفرد بحرية اختيار المقاطع التي ينشدها. تدور الموضوعات الأساسية للإنشاد حول التضرع لله (الإبتهالات) - التوجه بالتقديس والحب لله - التوجه للرسول طلبا للشفاعة - مديح وحب الرسول - المواعظ الدينية - القصص الديني وبخاصة القصص التي تروي المعجزات النبوية. كذلك يحتوي الإنشاد الصوفي على التعبير عن التجارب الروحانية والوجدانية - الشوق العارم لله وللرسول الإرشاد في السبل الصوفية، وغالبا ما يرد فيها بعض الرموز المقصورة على الخاصّة.

سمات المنشد

          أغلب المنشدين هم من الرجال وذلك يتناسب مع الثقافة الإسلامية المحافظة فضلا عن طبيعة الإنشاد التي تتطلب وجود المنشد في الأماكن العامة.

          يتلقى المنشد عادة تدريبا وتعليما دينيا رسميا يمده بمعرفة دينية جيدة, ولكن بمعرفة أكثر قوة وتفوقا في مجال اللغة والأدب. وعليه أن يكون حافظا للقرآن الكريم ومرتلا له لكن ليس هناك تعليم أو تدريب رسمي معتمد ينتج منشدين؛ فالمنشد يكتسب حساسيته وعلمه من خلال جهده الخاص في حفظ المقاطع الشعرية سواء بالسماع أو من الكتب. وهو يتلقن فن الأداء الصوتي الإيقاعي من خلال السماع والتقليد والمشاركة وذلك في غياب أي نوع من النوتة الموسيقية المعروفة في الأداء الموسيقي الدنيوي، ولذلك فالمنشد الديني هو بمنزلة مبدع فني موسيقي يعتمد على خبرته العملية في الشعر والمقامات بشكل تلقائي وارتجالي. كما يتوجب عليه أن يتمتع بذاكرة قوية وتلفظ دقيق وسليم وذائقة حساسة للشعر وقدرة عالية على التعبير عن المشاعر من خلال الصوت. ويتميز المنشد الديني عن غيره من المغنين أو المطربين بهويته الدينية والتي تصبغ أداءه بقداسة الدين حتى لو كان يتقاضى أجرا عن الإنشاد. وتتعزز هذه الهوية من خلال زيه الديني ومعرفته العميقة بأمور الدين وأيضا بلقب شيخ الذي ينادى به، والذي يربطه بذوي المكانة الدينية المحترمة. ويستطيع المنشد أن يرتقي في مكانته تلك من خلال الاستمرار في المسار نفسه من ممارسة الإنشاد الديني بحيث تتأكد مكانته كشيخ، لكنه إن قام بالخروج عن مسار الإنشاد وانخرط في الغناء الموسيقي على غرار المطربين العاديين فإن مكانته تلك تتعرض للخطر.
-------------------------------
* أكاديمي أمريكي مقيم في كندا.

 

 

مايكل فريشكوف*   

 




 





 





 





حفل انشاد ديني لإحدى الفرق في المغرب





المولوية.. أداء فني صوفي ينتشر في تركيا وسورية يعتمد في جوهره على روح الصوفية





الشيخ النقشبندي من أبرز مؤدي الابتهالات الدينية





انشاد ديني جماعي





المنشد الصوفي الشيخ أحمد التوني





الأداء الفردي لمنشد يختلف من ثقافة لأخرى ومنطقة لسواها





السميعة.. يعتمد عليهم المنشد في مسار أدائه الطربي





للمنشد الحرية في اختيار مقاطع الانشاد





للمنشد الحرية في اختيار مقاطع الانشاد





أجواء احتفالية ذات طابع ديني





إحدى الليالي الدينية