المؤثرات الإسلامية في «كليلة ودمنة»... تطابقات مع «النهج»

المؤثرات الإسلامية في «كليلة ودمنة»...  تطابقات مع «النهج»

قال‭ ‬الأديب‭ ‬المشتهر‭ ‬لابنه‭ ‬اليافع‭ (‬كبير‭ ‬المحامين‭ ‬ونقيبهم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭): ‬‮«‬لن‭ ‬تصبح‭ ‬مثقفا‭ ‬مرموقا،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬قرأت‭ ‬ثلاثة‭: ‬‮«‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ونهج‭ ‬البلاغة‭ ‬وكليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭... ‬صرّح‭ ‬لي‭ ‬الابن‭ ‬بذلك،‭ ‬وكنت‭ ‬أنوه‭ ‬بسعة‭ ‬معرفته‭ ‬وعمق‭ ‬خطابه‭ ‬وصفاء‭ ‬بيانه،‭ ‬وهو‭ ‬يناقش‭ ‬مسألة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭.‬

وإذ‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬تعرّف‭ ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭ ‬و«النهج‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬لفتني‭ ‬إدراج‭ ‬الكتاب‭ ‬الثالث‭ ‬بينهما،‭ ‬وكان‭ ‬لايزال‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬البعيدة‭ ‬مجرد‭ ‬أقاصيص‭ ‬حاكتها‭ ‬الخرافة‭ ‬من‭ ‬قديم‭ ‬الأزمنة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬الشاعر‭  ‬الفرنسي‭ ‬‮«‬لافونتين‮»‬‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الحديث،‭ ‬فاستفزني‭ ‬كلام‭ ‬المحامي‭ ‬الكبير‭ ‬للعودة‭ ‬إليه،‭ ‬مستبرئا‭ ‬الدلالات‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬خص‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬مترعًا‭ ‬بالبلاغة‭ ‬الخلابة‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع،‭ ‬مترجم‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬‮«‬الفارسية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬نسخة‭ ‬صدرت‭ ‬حديثا،‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬فارسي‭ ‬الأصل،‭ ‬كان‭ ‬اسمه،‭ ‬قبل‭ ‬إسلامه،‭ ‬روزبه‭ ‬بن‭ ‬داذويه،‭ ‬فلما‭ ‬أسلم‭ ‬سمي‭ ‬عبدالله‭ ‬وكني‭ ‬بأبي‭ ‬محمد‭.. ‬ويعود‭ ‬لقبه‭ (‬ابن‭ ‬المقفع‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أباه‭ ‬داذويه‭ ‬كان‭ ‬متوليًا‭ ‬خراج‭ ‬فارس‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحجاج،‭ ‬فأخذ‭ ‬بعض‭ ‬أموال‭ ‬السلطان،‭ ‬فضربه‭ ‬الحجاج‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬فتقفعتا،‭ ‬فلُقِّب‭ ‬بالمقفع‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬غير‭ ‬الموثق‭ ‬والمغفل‭ ‬كاتبه،‭ ‬وقع‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬مغالطتين‭: ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬السلطان‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متداولاً‭ ‬حينذاك،‭ ‬وأول‭ ‬استخدام‭ ‬له‭ ‬ظهر‭ - ‬فعليا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلاجقة‭. ‬والثانية،‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬انتداب‭ ‬داذويه‭ ‬عاملا‭ ‬على‭ ‬الخراج‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ما‭ ‬يريب‭ ‬في‭ ‬صحته،‭ ‬إذا‭ ‬توقفنا‭ ‬عند‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الأب‭ ‬والابن،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬المعلومة‭ ‬المضطربة،‭ ‬بصدد‭ ‬قدم‭ ‬عهد‭ ‬الأسرة‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تعيين‭ ‬داذويه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنصب،‭ ‬لا‭ ‬يتسم‭ ‬بالواقعية،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬الحجاج‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬تعصبه‭ ‬ضد‭ ‬الفرس،‭ ‬الذين‭ ‬استبعدوا‭ ‬عن‭ ‬الجيش‭ ‬والإدارة‭ ‬حتى‭ ‬قيام‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭. ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬شغل‭ ‬منصبا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬برمك‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬المنصور،‭ ‬متزامنًا‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬حين‭ ‬اتهم‭ ‬الأخير‭ ‬بالزندقة،‭ ‬وانتهى‭ ‬أمره‭ ‬إلى‭ ‬القتل،‭ ‬ربما‭ ‬بتوجيه‭ ‬من‭ ‬الخليفة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬سلوكه‭ ‬أو‭ ‬كتاباته‭ ‬حينذاك،‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬صحة‭ ‬التهمة،‭ ‬ما‭ ‬يرجح‭ ‬أن‭ ‬قتله‭ ‬تم‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بثورة‭ ‬عبدالله‭ ‬عبد‭ ‬علي‭ (‬عم‭ ‬المنصور‭) ‬في‭ ‬الشام،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬لجأ‭ ‬بعد‭ ‬فشله‭ ‬إلى‭ ‬البصرة،‭ ‬حيث‭ ‬تولى‭ ‬أمرها،‭ ‬حينئذ،‭ ‬أخوه‭ ‬سليمان‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬تسليمه،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أمان‭ ‬يبقي‭ ‬على‭ ‬حياته‭. ‬وقيل‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬صاغ‭ ‬الوثيقة،‭ ‬ولكن‭ ‬المنصور‭ ‬نكث‭ ‬العهد‭ ‬بقتل‭ ‬عمه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬المصير‭ ‬عينه،‭ ‬وفق‭ ‬رواية‭ ‬البلاذري‭ ‬في‭ ‬‮«‬أنسابه‮»‬‭.‬

 

ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الجهشياري

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬إسلام‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬كان‭ ‬سابقًا‭ ‬بسنوات‭ ‬قليلة‭ ‬على‭ ‬العهد‭ ‬العباسي،‭ ‬إذا‭ ‬توقفنا‭ ‬عند‭ ‬رواية‭ ‬الجهشياري‭ (‬الوزراء،‭ ‬الكتاب‭)‬،‭ ‬بأنه‭ ‬عمل‭ ‬كاتبا‭ ‬لوالي‭ ‬نيسابور‭ (‬126هـ‭/ ‬748م‭)‬،‭ ‬منتصرًا‭ ‬لوالٍ‭ ‬ضد‭ ‬آخر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬كرمان،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬البصرة،‭ ‬ربما‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬خلافة‭ ‬بني‭ ‬أمية،‭ ‬ساعيا‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العهد‭ ‬الجديد‭. ‬فالتحق‭ ‬بعيسى‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬العباسي،‭ ‬حيث‭ ‬وجد‭ ‬مناخا‭ ‬موائما‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬امتلاك‭ ‬ناصية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬البصرة‭ ‬كانت‭ ‬مشتهرة‭ ‬بعلومها‭. ‬كما‭ ‬تفتحت‭ ‬فيها‭ ‬مواهبه‭ ‬الأدبية،‭ ‬مستبطنا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه،‭ ‬نزوعا‭ ‬إلى‭ ‬السياسة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬التصريح‭ ‬بأفكار‭ ‬في‭ ‬موضوعة‭ ‬العدالة،‭ ‬تتضمن‭ ‬إرشادات‭ ‬ونصائح‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬الحكم‭ ‬الفردي،‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬حينذاك،‭ ‬أو‭ ‬بعده،‭ ‬في‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قصده‭ ‬من‭ ‬هؤلاء،‭ ‬سوى‭ ‬أصحاب‭ ‬الخليفة‭ ‬والولاة،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬آخر،‭ ‬‮«‬الأعوان‮»‬،‭ ‬و«المستشارين‮»‬‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تعرَّف‭ ‬حينئذ‭ ‬على‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الكاتب‭ (‬المقرب‭ ‬من‭ ‬الخليفة‭ ‬الأموي‭ ‬الأخير‭) ‬أستاذه‭ ‬وصديقه،‭ ‬وأخذ‭ ‬عنه‭ ‬اللغة‭ ‬السليمة،‭ ‬إلى‭ ‬التأثر‭ ‬بفكره‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وبالا‭ ‬على‭ ‬الاثنين‭.‬

ولعل‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬نسخة‭ ‬تجريبية‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ترجمتها‮»‬‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬غير‭ ‬محدد،‭ ‬إذ‭ ‬حوت‭ ‬الأولى‭ ‬أفكارًا‭ ‬تصادفت‭ ‬مع‭ ‬الثانية،‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬والمضمون،‭ ‬حيث‭ ‬الأطروحة‭ ‬الأساسية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭ ‬إلى‭ ‬العدل،‭ ‬والمؤثرات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرسالة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تشي‭ ‬بها‭ ‬الترجمة‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬لقادة‭ ‬المنصور‭ ‬والمؤتمرين‭ ‬بأمره،‭ ‬‮«‬كراكب‭ ‬الأسد‭ ‬الذي‭ ‬يوجل‭ ‬من‭ ‬يراه،‭ ‬والراكب‭ ‬أشد‭ ‬وجلاً‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مطابق‭ ‬لقول‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬‮«‬نهج‭ ‬البلاغة‮»‬‭: ‬‮«‬السلطان‭ ‬كراكب‭ ‬الأسد،‭ ‬يغبط‭ ‬بموضعه‭ ‬وهو‭ ‬أدرى‭ ‬بموقعه‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬السؤال‭ ‬المبكر‭ ‬الذي‭ ‬يدهمنا‭: ‬متى‭ ‬وضع‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬ترجمته‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة»؟‭ ‬وهل‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬العباسي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬عهد‭ ‬المنصور،‭ ‬متعمدا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬انتقاده‭ ‬لسياسات‭ ‬الأخير؟‭ ‬وفي‭ ‬الحالتين‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬منأى‭ ‬عن‭ ‬نهاية‭ ‬صاحبه‭ ‬العبقري‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬صاغه‭ ‬بخلفيته‭ ‬المعروفة،‭ ‬النازعة‭ ‬إلى‭ ‬العدالة،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬المنصور‭ ‬يختزل‭ ‬فيه‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحق‭ ‬الإلهي‮»‬،‭ ‬معبرا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬سلطان‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أرضه‮»‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬تباعدا‭ ‬في‭ ‬مفهومه‭ ‬لها،‭ ‬وبين‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬اصطبغت‭ ‬بها‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬الترميزية‭ ‬بين‭ ‬الفيلسوف‭ ‬بيدبا‭ ‬والملك‭ ‬دبشليم‭. ‬يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬موجها‭ ‬الكلام‭ ‬إلى‭ ‬تلاميذه‭ ‬‮«‬لست‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬نفوسكم‭ ‬وقت‭ ‬دخولي‭ ‬على‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬قلتم‭ ‬إن‭ ‬بيدبا‭ ‬قد‭ ‬ضاعت‭ ‬حكمته‭ ‬وبطلت‭ ‬فكرته،‭ ‬إذ‭ ‬عزم‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الجبار‭ ‬الطاغية‭. ‬فقد‭ ‬علمتم‭ ‬نتيجة‭ ‬رأيي‭ ‬وصحة‭ ‬فكري،‭ ‬وأني‭ ‬لم‭ ‬آته‭ ‬جهلا‭ ‬به‭ ‬لأني‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬من‭ ‬الحكماء‭ ‬قبلي‭ ‬تقول‭: ‬إن‭ ‬الملوك‭ ‬لها‭ ‬سكرة‭ ‬كسكرة‭ ‬الشراب‭... ‬فالملوك‭ ‬لا‭ ‬تفيق‭ ‬من‭ ‬السكرة‭ ‬إلا‭ ‬بمواعظ‭ ‬العلماء‭ ‬وأدب‭ ‬الحكماء‭.‬‭ ‬والواجب‭ ‬على‭ ‬الملوك‭ ‬أن‭ ‬يتعظوا‭ ‬بمواعظ‭ ‬العلماء‭. ‬والواجب‭ ‬على‭ ‬العلماء‭ ‬تقويم‭ ‬الملوك‭ ‬بألسنتها‭ ‬وتأديبها‭ ‬بحكمتها،‭ ‬وإظهار‭ ‬الحجة‭ ‬البينة‭ ‬اللازمة‭ ‬لهم‭ ‬ليرتدعوا‭ ‬عما‭ ‬هم‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الاعوجاج‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬العدل‭...‬‮»‬‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬أقانيم‭ ‬ثلاثة‭: ‬العلم‭ ‬والحكمة‭ ‬والعدل،‭ ‬فإذا‭ ‬اجتمعت‭ ‬لأحد‭ ‬من‭ ‬حاشية‭ ‬الحاكم‭ ‬صوَّب‭ ‬مساره‭. ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تزخر‭ ‬بها‭ ‬تراثيات‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬ما‭ ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ - ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفرضية‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬تداخل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الفارسي‭ ‬المقتبس‭ ‬عن‭ ‬الهندية،‭ ‬وبين‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬المكتوبة‭ ‬بلغتها؟‭ ‬وإلى‭ ‬التساؤل‭ ‬أيضا،‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬عينه،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬النص‭ ‬الأصلي‭ ‬في‭ ‬زمانه،‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الترجمة‭ ‬المتأثرة‭ ‬بأدبيات‭ ‬الإسلام،‭ ‬أو‭ ‬أضيفت‭ ‬إليه‭ ‬أفكار‭ ‬من‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أو‭ ‬استلت‭ ‬من‭ ‬روحها؟‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬ما‭ ‬يتسق‭ ‬تحديدًا‭ ‬مع‭ ‬سياقات‭ ‬في‭ ‬‮«‬نهج‭ ‬البلاغة‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التطابق‭ ‬حول‭ ‬ثلاثية‭ ‬العلم‭ ‬والحكمة‭ ‬والعدل‭: ‬‮«‬العامل‭ ‬بغير‭ ‬علم‭ ‬كسائر‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬طريق‮»‬،‭ ‬‮«‬خذ‭ ‬الحكمة‭ ‬أنَّى‭ ‬كانت،‭ ‬فإن‭ ‬الحكمة‭ ‬ضالة‭ ‬المؤمن‮»‬،‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الوالي‭ ‬إذا‭ ‬اختلف‭ ‬هواه‭ ‬منعه‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬العدل‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬فليكن‭ ‬أمر‭ ‬الناس‭ ‬عندك‭ ‬في‭ ‬الحق‭ ‬سواء‮»‬‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأركان‭ ‬ليست‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬الكتابين،‭ ‬فقد‭ ‬يضاف‭ ‬إليها‭ ‬العقل،‭ ‬ولكنها‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬والأخيرة‭ ‬تتفرع‭ ‬إلى‭ ‬أربعات‭ ‬متداخلة‭ ‬معًا‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬الإيمان‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬دعائم‭: ‬الصبر،‭ ‬اليقين،‭ ‬العدل‭ ‬والجهاد‮»‬،‭ ‬و«اليقين‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬شُعَب‭: ‬على‭ ‬تبصرة‭ ‬الفطنة‭ ‬وتأول‭ ‬الحكمة‭ ‬وموعظة‭ ‬العبرة‭ ‬وسنة‭ ‬الأولين‮»‬‭ ‬و«العدل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬شُعب‭: ‬على‭ ‬غائص‭ ‬الفهم‭ ‬وغور‭ ‬العلم‭ ‬وزهرة‭ ‬الحكم‭ ‬ورساخة‭ ‬الحلم‮»‬،‭ ‬والجهاد‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬شعب‭: ‬‮«‬على‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬والصدق‭ ‬في‭ ‬المواطن‭ ‬وشنآن‭ ‬الفاسقين‮»‬‭... ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة‭ ‬المسبوكة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬رباعيات‭ ‬الكفر‭ ‬والضلالة‭.‬

 

هل‭ ‬ترجمهُ‭ ‬أم‭ ‬ألفه؟‭ ‬أم‭ ‬صنفه؟

ويلفتنا‭ ‬أيضا،‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬تتشاكل‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬والدلالة،‭ ‬وحتى‭ ‬الصياغة‭ ‬في‭ ‬الكتابين،‭ ‬وهي‭ ‬إشكالية‭ ‬ليس‭ ‬سهلا‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬متاهتها،‭ ‬وما‭ ‬علينا‭ ‬سوى‭ ‬توسل‭ ‬فرضية‭ ‬التأثر‭ ‬والتأثير‭. ‬فأن‭ ‬يكون‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬قد‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬الهندي‭ - ‬الفارسي‭ - ‬العربي،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬منه،‭ ‬فهو‭ ‬أمر‭ ‬مستبعد‭ ‬تماما‭ ‬لعدم‭ ‬معرفته‭ ‬بلغتي‭ ‬الكتاب‭ ‬الأصل‭ ‬والترجمة‭ ‬والفارسية‭.‬

يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النهج‭ ‬يتسم‭ ‬بشمولية‭ ‬وتأصيل‭ ‬لأفكار‭ ‬قيمية‭ ‬تم‭ ‬توظيفها‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬دولة‭ ‬متكاملة‭ ‬في‭ ‬نظمها‭ ‬السياسية‭ ‬والحربية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية،‭ ‬فيما‭ ‬نظريات‭ ‬بيديا‭ (‬فيلسوف‭ ‬البراهمة‭) ‬كانت‭ ‬على‭ ‬عمقها،‭ ‬أكثر‭ ‬إحاطة‭ ‬بالمسائل‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬من‭ ‬وعظ‭ ‬وترشيد،‭ ‬لحمل‭ ‬ملك‭ ‬مستبد‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬العدل‭. ‬أما‭ ‬الافتراض‭ ‬الآخر،‭ ‬بأن‭ ‬مؤثرات‭ ‬واضحة‭ ‬للنهج‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬بلغت‭ ‬حد‭ ‬الاقتباس‭ ‬أحيانًا،‭ ‬فلا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دليل‭ ‬قطعي،‭ ‬ومن‭ ‬يوغل‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الأخير‭ ‬فلن‭ ‬يخفى‭ ‬عليه‭ ‬ذلك‭ ‬النفَس‭ ‬الإسلامي‭ ‬الواضح‭ ‬فيه،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الصياغة‭ ‬أو‭ ‬المفردات‭ ‬أو‭ ‬المصطلحات‭ ‬والدلالات،‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬قرأ‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬واكتنه‭ ‬بلاغته،‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬التصرف،‭ ‬وهو‭ ‬المتعمق‭ ‬في‭ ‬ثقافته‭ ‬الإسلامية‭ ‬والمتمكن‭ ‬من‭ ‬لغتها،‭ ‬إلى‭ ‬فصاحة‭ ‬راقية‭ ‬نجدها‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬الكبير‮»‬‭.‬

ولقد‭ ‬اعترف‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يلتزم‭ ‬حرفيا‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬لـ«كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬لما‭ ‬رأيت‭ ‬أهل‭ ‬فارس‭ ‬قد‭ ‬فسروا‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬الهندية‭ ‬إلى‭ ‬الفارسية،‭ ‬وألحقوا‭ ‬به‭ ‬بابا‭ ‬هو‭ ‬باب‭ ‬برزويه‭ ‬الطبيب،‭ ‬ولم‭ ‬يذكروا‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬ذكرنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬قراءته‭ ‬واقتباس‭ ‬علومه‭ ‬وفوائده،‭ ‬وضعنا‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬فتأمل‭ ‬ذلك‭ ‬ترشد‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬تعالى‮»‬‭.‬

 

توارد‭ ‬الخواطر

ونمضي‭ ‬في‭ ‬التساؤل‭ ‬لنقول‭: ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬توارد‭ ‬الخواطر‭ ‬في‭ ‬الكتابين؟‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬يشكل‭ ‬سابقة‭ ‬نادرة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬بهذه‭ ‬الكثرة‭ ‬من‭ ‬الأفكار،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬افتراضه‭... ‬وإذا‭ ‬استبعدنا‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬واضع‭ ‬الكتاب،‭ ‬فإنه‭ ‬غير‭ ‬مستبعد‭ ‬تأثره‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬قرأه‭ ‬واقتبس‭ ‬منه،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬حالة‭ ‬الفقر‭ ‬منسوبا‭ ‬لبيدبا‭: ‬‮«‬وجدت‭ ‬الفقر‭ ‬رأس‭ ‬كل‭ ‬بلاء،‭ ‬وجالبا‭ ‬لصاحبه‭ ‬كل‭ ‬مقت‭. ‬ووجدت‭ ‬الرجل‭ ‬إذا‭ ‬افتقر‭ ‬اتهمه‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬مؤتمنا،‭ ‬وأساء‭ ‬به‭ ‬الظن‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يظن‭ ‬به‭ ‬حسنا،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خلة‭ ‬هي‭ ‬للغني‭ ‬مدح،‭ ‬إلا‭ ‬وهي‭ ‬للفقير‭ ‬ذم‭...‬‮»‬‭. ‬ولعل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬تشخيص‭ ‬لحالة‭ ‬الفقير،‭ ‬بتحميله‭ ‬وزر‭ ‬فقره‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬شرا‭ ‬عليه،‭ ‬مستطردا‭ ‬بيدبا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬المبالغة،‭ ‬ولم‭ ‬يرتق‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬مختزلا‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬كلمات‭ (‬الفقر‭ ‬الموت‭ ‬الأكبر‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬خمس‭ (‬الفقر‭ ‬يُخرس‭ ‬الفطِن‭ ‬عن‭ ‬حجته‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يقارب‭ ‬توصيف‭ ‬بيدبا‭ ‬الذي‭ ‬يحط‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الفقير‭ ‬وينال‭ ‬من‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يقصد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأساس‭.‬

وليس‭ ‬ثمة‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬ماجت‭ ‬في‭ ‬وعيه‭  ‬ثقافة‭ ‬المرحلة،‭ ‬مطلعا‭ ‬على‭ ‬مصنفات‭ ‬عدة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬متأثرا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬‮«‬الترجمة‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬المفردات‭ ‬والمصطلحات،‭ ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬الحمد‭ ‬لله،‭ ‬نور‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى،‭ ‬حاز‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬ثواب‭ ‬الصالحين،‭ ‬فإني‭ ‬قد‭ ‬وثقت‭ ‬بنعمة‭ ‬الله‭ ‬وإحسانه،‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلا‭ ‬بالله‭ ‬العلي‭ ‬العظيم،‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العبارة‭ ‬المفعمة‭ ‬بالخطاب‭ ‬الإسلامي‭: ‬‮«‬لا‭ ‬خير‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬العمل،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬الورع،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الصدقة‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬النية‮»‬،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬اكتنهه‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬زمانه‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مألوفا‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬نسب‭ ‬له‭ ‬الكتاب‭. ‬ومن‭ ‬وحي‭ ‬فرضية‭ ‬أخرى،‭ ‬ربما‭ ‬تعمد‭ ‬المترجم‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الإضافات‭ ‬محاباة‭ ‬للخليفة‭ ‬المنصور‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬الأخذ‭ ‬بالظنة،‭ ‬وتهمة‭ ‬‮«‬الزندقة‮»‬‭ ‬جاهزة‭ ‬لتنال‭ ‬ممن‭ ‬يشتبه‭ ‬فيه‭ ‬معارضة‭ ‬النظام‭. ‬وفي‭ ‬النتيجة‭ ‬ليس‭ ‬علينا‭ ‬المضي‭ ‬في‭ ‬الفرضيات،‭ ‬لأننا‭ ‬أمام‭ ‬نص‭ ‬مكتوب‭ ‬يحتم‭ ‬الالتزام‭ ‬به،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬المؤثر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬الترجمة،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬الاقتباسات‭ ‬عن‭ ‬نهج‭ ‬البلاغة،‭ ‬لنخلص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬المشتهر‭ ‬علما‭ ‬وفصاحة،‭ ‬قاده‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعدل‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬أو‭ ‬يضيف‭ ‬عليه‭ ‬مما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الأصل‭.‬

وإذا‭ ‬مضينا‭ ‬في‭ ‬المقارنة،‭ ‬يستوقفنا‭ ‬مفهوم‭ ‬بيدبا‭ ‬للعلم،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬إنما‭ ‬صاحب‭ ‬العلم‭ ‬يقوم‭ ‬بالعمل‭ ‬لينتفع‭ ‬به،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يستعمل‭ ‬ما‭ ‬يعلم‭ ‬فليس‭ ‬يسمى‭ ‬عالمًا‮»‬‭... ‬يقابله‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬رُبّ‭ ‬عالم‭ ‬قد‭ ‬قتله‭ ‬جهله،‭ ‬وعلمه‭ ‬معه‭ ‬لا‭ ‬ينفعه‮»‬‭. ‬وليس‭ ‬خافيا‭ ‬المستوى‭ ‬البلاغي‭ ‬لمصلحة‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬وربما‭ ‬يسوّغ‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الترجمة‭ ‬قد‭ ‬تضعف‭ ‬المعنى‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬البلاغة‭ ‬ما‭ ‬يجيدها‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭.‬

ولكن‭ ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يفاجئنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬اختزال‭ ‬بيدبا‭ ‬العلم‭ - ‬أو‭ ‬يكاد‭ - ‬في‭ ‬ذات‭ ‬صاحبه‭: ‬‮«‬على‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬بنفسه‭ ‬فيؤدبها‭ ‬بعلمه،‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬غايته‭ ‬اقتناءه‭ ‬العلم‭ ‬لمعاونة‭ ‬غيره‭ ‬ونفعه‭ ‬به‭ ‬وحرمان‭ ‬نفسه‭ ‬منه‮»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستدرك‭ ‬مضيفًا‭ ‬المقولة‭ ‬السابقة،‭ ‬بما‭ ‬يتعدى‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬النفع‭ ‬العام‭.‬

ويتابع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬‮«‬ولو‭ ‬أن‭ ‬عالمًا‭ ‬بطريق‭ ‬مخوف‭ ‬ثم‭ ‬سلكه‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬به‭ ‬سمي‭ ‬جاهلاً‮»‬‭. ‬خلافا‭ ‬لذلك،‭ ‬كان‭ ‬الإمام‭ ‬أكثر‭ ‬عمقا‭ ‬في‭ ‬قولته‭: ‬‮«‬العامل‭ ‬بالعلم‭ ‬كسائر‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الواضح‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬مُتّسع،‭ ‬منظومة‭ ‬العلم‭ ‬وتشديد‭ ‬عليها،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أساسيات‭ ‬نظرية‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬،‭ ‬فلا‭ ‬يستقيم‭ ‬أمر‭ ‬الحاكم‭ ‬إلا‭ ‬بالعلم،‭ ‬ولا‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬يستأثر‭ ‬به‭ ‬صاحبه،‭ ‬وإنما‭ ‬عليه‭ ‬توظيفه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يفيد‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويؤهلهم‭ ‬لممارسة‭ ‬دور‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬ففي‭ ‬وصية‭ ‬لعامل‭ ‬مكة‭ ‬قثم‭ ‬بن‭ ‬العباس‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬أقم‭ ‬للناس‭ ‬الحج‭ ‬وذكِّرهم‭ ‬بأيام‭ ‬الله،‭ ‬واجلس‭ ‬لهم‭ ‬العصرين،‭ ‬فافتِ‭ ‬المستفتي‭ ‬وعلِّم‭ ‬الجاهل‭ ‬وذاكر‭ ‬العالم‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬لا‭ ‬تستوي‭ ‬المقارنة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬لاختلاف‭ ‬المنهج،‭ ‬بين‭ ‬اتجاه‭ ‬يظهر‭ ‬العلماء‭ ‬شريحة‭ ‬قد‭ ‬تختزن‭ ‬علمها‭ ‬في‭ ‬الصدور،‭ ‬وبين‭ ‬اتجاه‭ ‬يعبِّر‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬يتوسل‭ ‬تثقيف‭ ‬الرعية‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬حقوقها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬رهينة‭ ‬للجهل‭ ‬المقترن‭ ‬بالظلم‭.‬

 

المفارقة‭ ‬والصَّدى

ولعل‭ ‬المفارقة،‭ ‬أن‭ ‬بيدبا‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬وسيلة‭ ‬تثقيفية‭ ‬للملوك،‭ ‬تأخذ‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬إشاعة‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬الرعية،‭ ‬بينما‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬شرط‭ ‬محوري‭ ‬لوظيفة‭ ‬الحاكم،‭ ‬منه‭ ‬تنبثق‭ ‬شرعيته،‭ ‬داعية‭ ‬للحق‭ ‬والعدالة،‭ ‬ومحصنا‭ ‬نظامه‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد‭ ‬والانحراف‭ ‬وهو‭ - ‬أي‭ ‬العلم‭ - ‬نبراس‭ ‬‮«‬الطريق‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬يحيد‭ ‬عنه،‭ ‬‮«‬فمن‭ ‬عَلِم‭ ‬غور‭ ‬العلم‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬شرائع‭ ‬الحكم‮»‬،‭ ‬وفاق‭ ‬قول‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬محذرا‭ ‬العلماء‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تجعلوا‭ ‬علمكم‭ ‬جهلا‭ ‬ويقينكم‭ ‬شكا،‭ ‬إذا‭ ‬علمتم‭ ‬فاعملوا‭ ‬وإذا‭ ‬تيقنتم‭ ‬فأقدموا‮»‬‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬معي‭ ‬لبصيرتي‭ ‬ما‭ ‬لبّست‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬ولا‭ ‬لُبِّس‭ ‬عليّ‮»‬‭.‬

وتتصادى‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬مع‭ ‬نمط‭ ‬مماثل‭ ‬لبيدبا‭ ‬إذ‭ ‬قال‭: ‬‮«‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬فمعي‭ ‬عقلي،‭ ‬فلا‭ ‬يفزعني‭ ‬أمري‭ ‬ولا‭ ‬يهولني‭ ‬شأني،‭ ‬ولا‭ ‬يلحقني‭ ‬الدهش،‭ ‬ولا‭ ‬يذهب‭ ‬قلبي‭ ‬شعاعا‭ (‬خوفا‭). ‬فالعاقل‭ ‬لا‭ ‬يفرق‭ ‬عند‭ ‬سداد‭ ‬رأيه‭ ‬ولا‭ ‬يعزب‭ (‬لا‭ ‬يغيب‭) ‬عنه‭ ‬ذهنه‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال،‭ ‬وإنما‭ ‬العقل‭ ‬شبيه‭ ‬بالبحر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬غوره‭...‬‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬البدهي‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬نقطة‭ ‬الضوء،‭ ‬وبه‭ ‬يمتاز‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬المخلوقات،‭ ‬جامعا‭ ‬إليه‭ ‬الحكمة‭ ‬والعفة‭ ‬والعدل،‭ ‬مما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الملوك‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬أمورهم،‭ ‬وفاقا‭ ‬لمفهوم‭ ‬بيدبا،‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬يضيف‭: ‬‮«‬استعمل‭ ‬العقل‭ ‬فأبصر‭ ‬العاقبة،‭ ‬فأْمَنِ‭ ‬الندامة‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يقدم‭ ‬عليه‭ ‬الحكمة،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬آخر،‭ ‬مفصلا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬عناوين‭:‬

1‭ - ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬والرويَّة،‭ ‬داخلة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الحكمة‭.‬

2‭ - ‬الحِلم‭ ‬والصبر‭ ‬والوفاء‭ ‬داخلة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬العقل‭.‬

3‭ - ‬الحياء‭ ‬والكرم‭ ‬والصيانة‭ ‬والأنفة‭ ‬داخلة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬العفة‭.‬

4‭ - ‬الصدق‭ ‬والإحسان‭ ‬والمراقبة‭ (‬مخافة‭ ‬الله‭) ‬وحسن‭ ‬الخلق‭ ‬داخلة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬العدل‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬فيختلف‭ ‬الترتيب،‭ ‬إذ‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬الموجّه،‭ ‬والمرجعية‭: ‬‮«‬لا‭ ‬حال‭ ‬أعود‭ (‬أنفع‭) ‬من‭ ‬العقل،‭ ‬ولا‭ ‬وحدة‭ ‬أوحش‭ ‬من‭ ‬العُجب،‭ ‬ولا‭ ‬عقل‭ ‬كالتدبير،‭ ‬ولا‭ ‬كرم‭ ‬كالتقوى،‭ ‬ولا‭ ‬قرين‭ ‬كحسن‭ ‬الخلق،‭ ‬ولا‭ ‬ميراث‭ ‬كالأدب،‭ ‬ولا‭ ‬قائد‭ ‬كالتوفيق‭ ‬ولا‭ ‬تجارة‭ ‬كالعمل‭ ‬الصالح،‭ ‬ولا‭ ‬ربح‭ ‬كالثواب،‭ ‬ولا‭ ‬ورع‭ ‬كالوقوف‭ ‬عند‭ ‬الشبهة،‭ ‬ولا‭ ‬زهد‭ ‬كالزاهد‭ ‬في‭ ‬الحرام،‭ ‬ولا‭ ‬علم‭ ‬كالتفكر،‭ ‬ولا‭ ‬عبادة‭ ‬كأداء‭ ‬الفرائض،‭ ‬ولا‭ ‬إيمان‭ ‬كالحياء‭ ‬والصبر،‭ ‬ولا‭ ‬حسَب‭ ‬كالتواضع،‭ ‬ولا‭ ‬شرف‭ ‬كالعلم،‭ ‬ولا‭ ‬عز‭ ‬كالحلم،‭ ‬ولا‭ ‬مظاهرة‭ ‬أوثق‭ ‬من‭ ‬المشاورة‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬أن‭ ‬بيدبا‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بعد‭ ‬الحكمة‭ ‬والعفة‭ ‬والعقل‭ ‬لم‭ ‬يخض‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬موضوعه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬استبطن،‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬محور‭ ‬الكتاب،‭ ‬الموجّه‭ ‬إلى‭ ‬ملك‭ ‬منفرد‭ ‬في‭ ‬أمره،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنا‭ ‬مواجهته‭ ‬بالنصيحة‭ ‬المباشرة‭. ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬المبدعة،‭ ‬في‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الأسطورة‭ ‬التي‭ ‬أَنِس‭ ‬إليها‭ ‬الملك‭ ‬واستبد‭ ‬به‭ ‬شغف‭ ‬السماع،‭ ‬واصطفقت‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬مغازي‭ ‬القصص‭ ‬والحوارات‭ ‬الشائقة‭ ‬في‭ ‬انسيابها‭ ‬المتواصل‭.‬‭.. ‬والعبرة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬المقصد‭ ‬والرجاء‭.‬

وخلافا‭ ‬لذلك،‭ ‬تجرأ‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬فطرق‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعة‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬فمن‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ (‬المنصور‭) ‬أكرمك‭ ‬الله،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬العدل‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬تقوى‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬وإنزال‭ ‬الأمور‭ ‬منازلها‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬العدل‭ ‬جوهر‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬انبثقت‭ ‬أفكاره‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬مهرتها‭ ‬المعاناة،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬غاصت‭ ‬فيه‭ ‬دولة‭ ‬الإسلام‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬‮«‬الفتن‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬ممكنا‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاجها‭ ‬إلا‭ ‬بالعدل‭ ‬وإسقاط‭ ‬الجور‭ ‬عن‭ ‬الرعية،‭ ‬فلا‭ ‬تجنح‭ ‬إلى‭ ‬الانحراف‭ ‬أو‭ ‬تنقاد‭ ‬إلى‭ ‬العصبيات،‭ ‬فإلى‭ ‬دورة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬محورها‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬الاستئثار‭ ‬بها،‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬قول‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬أكثر‭ ‬مصارع‭ ‬العقول‭ ‬تحت‭ ‬بروق‭ ‬المطامع‮»‬‭. ‬وثمة‭ ‬ما‭ ‬استفاض‭ ‬به‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬العدل،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬العدل‭ ‬والجور،‭ ‬فيأتي‭ ‬الجواب‭: ‬‮«‬العدل‭ ‬يضع‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬مواضعها،‭ ‬والجور‭ ‬يخرجها‭ ‬من‭ ‬جهتها،‭ ‬والعدل‭ ‬سائس‭ ‬عام،‭ ‬والجور‭ ‬عارض‭ ‬خاص،‭ ‬فالعدل‭ ‬أشرفهما‭ ‬وأفضلهما‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬يسبر‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬تطالعه‭ ‬مقولات‭ ‬غامرة‭ ‬بهذه‭ ‬الموضوعة،‭ ‬ما‭ ‬يتجلى‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬وصية‭ ‬لأحد‭ ‬العمال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أفضل‭ ‬قرة‭ ‬عين‭ ‬الولاة،‭ ‬استقامة‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬وظهور‭ ‬مودة‭ ‬الرعية‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬كان‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالقضاء،‭ ‬وصاحب‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬مارسه‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر،‭ ‬وكان‭ ‬قاطعا‭ ‬في‭ ‬أحكامه،‭ ‬مشددا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬إلى‭ ‬عماله،‭ ‬ومنهم‭ ‬الأشتر،‭ ‬متوجها‭ ‬إليه‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬اختر‭ ‬للحكم‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬أفضل‭ ‬رعيتك‭ ‬في‭ ‬نفسك،‭ ‬ممكن‭ ‬لا‭ ‬تضيق‭ ‬به‭ ‬الأمور،‭ ‬ولا‭ ‬تمحكه‭ ‬الخصوم،‭ ‬ولا‭ ‬يتمادى‭ ‬في‭ ‬الزلّة،‭ ‬ولا‭ ‬يحصر‭ ‬في‭ ‬الفيء‭ ‬إلى‭ ‬الحق‭ ‬إذا‭ ‬عرفه،‭ ‬ولا‭ ‬تشرف‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬طمع‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬بأدنى‭ ‬فهم‭ ‬دون‭ ‬أقصاه‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬المطابقات،‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬تحذير‭ ‬الحاكم‭ ‬من‭ ‬الحواشي،‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬أعوان‭ ‬مخلصون‭ ‬له‭ ‬يمدونه‭ ‬بالنصيحة‭ ‬صافية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شائبة،‭ ‬أو‭ ‬متزلفون‭ ‬يمالئونه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبدر‭ ‬منه،‭ ‬سليما‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬سقيمًا،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يستمع‭ ‬لهؤلاء‭ ‬وأولئك‭ ‬متفردا‭ ‬في‭ ‬رأيه‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نبّه‭ ‬إليه‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬في‭ ‬‮«‬رسالته‮»‬‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬ومما‭ ‬يذكر‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬أمر‭ ‬أصحابه،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬أمر‭  ‬الوالي‭ ‬بالتشبت‭ ‬والتخير،‭ ‬أمر‭ ‬أصحابه‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬فياؤه‭ ‬وزينة‭ ‬مجلسه‭ ‬وألسنة‭ ‬رعيته،‭ ‬والأعوان‭ ‬على‭ ‬رأيه‭ ‬ومواضع‭ ‬كرامته‭ ‬والخاصة‭ ‬من‭ ‬عامته‭...‬‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭ ‬بيدبا‭: ‬‮«‬اعلم‭ ‬أيها‭ ‬الملك‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يقبل‭ ‬من‭ ‬نصائحه‭ ‬ما‭ ‬يثقل‭ ‬عليه‭ ‬مما‭ ‬ينصحون‭ ‬له،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬غبّ‭ (‬عاقبة‭) ‬رأيه‭... ‬وحق‭ ‬على‭ ‬مؤازر‭ ‬السلطان‭ ‬أن‭ ‬يبالغ‭ ‬في‭ ‬التحضيض‭ (‬الحث‭) ‬له‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬به‭ ‬سلطانه‭ ‬قوة‭ ‬ويزينه،‭ ‬والكف‭ ‬عما‭ ‬يضره‭ ‬ويشينه،‭ ‬وخير‭ ‬الإخوان‭ ‬والأعوان‭ ‬أقلهم‭ ‬مداهنة‭ ‬في‭ ‬النصيحة‭. ‬وخير‭ ‬الكلام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬أفواه‭ ‬الأخيار،‭ ‬وأفضل‭ ‬الملوك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يخالطه‭ ‬بطر،‭ ‬ولا‭ ‬يستكبر‭ ‬عن‭ ‬قبول‭ ‬النصيحة،‭ ‬وخير‭ ‬الأخلاق‭ ‬أعونها‭ ‬على‭ ‬الورع‮»‬‭.‬

وثمة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يشر‭ ‬إليه‭ ‬بيدبا،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الخراج‮»‬،‭ ‬إشكالية‭ ‬مركبة‭ ‬تتصل‭ ‬بمالية‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬تداركه‭ ‬ببعد‭ ‬نظر‭ ‬يحاكي‭ ‬مفهومه‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهـــج‮»‬‭. ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬الصحابة‭ - ‬والكلام‭ ‬دائما‭ ‬موجه‭ ‬إلى‭ ‬المنصور‭ - ‬‮«‬فلو‭ ‬أن‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬أعمل‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬التوظيف‭ ‬على‭ ‬الرساتيق‭ ‬والقرى‭ ‬والأرضين،‭ ‬وظائف‭ ‬معلومة،‭ ‬وتدوين‭ ‬الدواوين‭ ‬بذلك،‭ ‬ولا‭ ‬يجتهد‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬إلا‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬فضلها‭ ‬ونفعها،‭ ‬لرجونا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬صلاح‭ ‬للرعية‭ ‬وعمارة‭ ‬للأرض‮»‬‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخفى‭ ‬اقتباس‭ ‬العبارة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬لاحقا،‭ ‬عن‭ ‬قول‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬‮«‬نهج‭ ‬البلاغة‮»‬‭.‬

ولطالما‭ ‬رافق‭ ‬جباية‭ ‬الخراج‭ ‬تعسف‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الولاة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬للخليفة‭ ‬الأموي‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬لانعكاساتها‭ ‬الخطرة‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬المجتمع‭ ‬وانصهاره‭. ‬ومن‭ ‬قبل‭ ‬حذّر‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشدي‭ ‬الرابع‭ (‬علي‭) ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬نتائجها‭ ‬السلبية،‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬له‭ ‬لأحد‭ ‬عماله‭: ‬‮«‬ليكن‭ ‬نظرك‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الأرض‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬نظرك‭ ‬في‭ ‬استجلاب‭ ‬الخراج‮»‬‭. ‬فهذه‭ ‬الضريبة‭ - ‬وغيرها‭ - ‬لم‭ ‬تفرض‭ ‬اعتباطا،‭ ‬أو‭ ‬للتسيد‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬المفتوحة،‭ ‬وإنما‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬توثيق‭ ‬الصلة‭ ‬معهم،‭ ‬واحتضانهم‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬آمنوا‭ ‬به‭ ‬سقطت‭ ‬تلقائيا‭ ‬عنهم‭. ‬وعلى‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬الاعتناء‭ ‬بهم،‭ ‬فلا‭ ‬تتقاعس‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬بحاجة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬حيوية،‭ ‬كشق‭ ‬الطرق‭ ‬وحفر‭ ‬القنوات‭ ‬وتحسين‭ ‬حياتهم‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬الخليفة‭ ‬بدقة‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬من‭ ‬طلب‭ ‬الخراج‭ ‬بغير‭ ‬عمارة‭ ‬أخرب‭ ‬البلاد‮»‬‭.‬

والمطابقات‭ ‬ما‭ ‬برحت‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الكتابين،‭ ‬فلم‭ ‬تحصر‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬السياسي‭ ‬التنظيري‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬والتوجيه‭ ‬الترميزي‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬تندرج‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬صفات‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويكره‭ ‬منها‭... ‬فالهذر،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬سوأة،‭ ‬والكتمان‭ ‬فضيلة،‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭. ‬يقول‭ ‬بيدبا‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أحمد‭ ‬الناس‭ ‬عاقبة‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬أكتمهم‭ ‬للسر‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬الزم‭ ‬السكوت،‭ ‬فإن‭ ‬فيه‭ ‬السلام،‭ ‬وتجنب‭ ‬الكلام‭ ‬الفارغ‭ ‬فإن‭ ‬عاقبته‭ ‬الندامة‮»‬‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬الفكرة‭ ‬تأخذ‭ ‬بعدا‭ ‬بلاغيا‭ ‬أكثر‭ ‬شفافية،‭ ‬معبرا‭ ‬عنها‭ ‬بعدة‭ ‬مقولات‭ ‬منها‭: ‬‮«‬الكلام‭ ‬في‭ ‬وثاقك‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتكلم‭ ‬به،‭ ‬فإذا‭ ‬تكلمت‭ ‬به‭ ‬صرت‭ ‬في‭ ‬وثاقه‮»‬‭. ‬ومنها‭ ‬أيضا‭: ‬‮«‬لا‭  ‬تقل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تعلم،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تعلم‮»‬،‭ ‬كذلك‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬تم‭ ‬العقل‭ ‬نقص‭ ‬الكلام‮»‬،‭ ‬و«صدر‭ ‬العاقل‭ ‬صندوق‭ ‬سره‮»‬‭... ‬إلخ‭.‬

ومن‭ ‬أعظم‭ ‬المثالب‭ ‬البخل،‭ ‬وهو‭ ‬الأكثر‭ ‬مقتا‭ ‬في‭ ‬الرجل،‭ ‬وقد‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬جملة‭ ‬توصيفات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السبيل‭: ‬‮«‬البخيل‭ ‬جامع‭ ‬لمساوئ‭ ‬العيوب‮»‬،‭ ‬ليصبح‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الأدنى‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬البخل‭ ‬ما‭ ‬يتعدى‭ ‬الوضاعة‭ ‬إلى‭ ‬العار‭. ‬ولكن‭ ‬أبلغ‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭: ‬‮«‬عجبتُ‭ ‬للبخيل‭ ‬كيف‭ ‬يستعجل‭ ‬الفقر‭ ‬الذي‭ ‬منه‭ ‬هرب،‭ ‬ويفوته‭ ‬الغنى‭ ‬الذي‭ ‬إياه‭ ‬طلب،‭ ‬فيعيش‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬عيش‭ ‬الفقراء‭ ‬ويحاسب‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬حساب‭ ‬الأغنياء‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬يقصر‭ ‬بيدبا‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬الصورة‭ ‬البشعة‭ ‬للبخلاء،‭ ‬وقد‭ ‬آثر‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬غالبًا‭ ‬أن‭ ‬يستبدل‭ ‬بالمفردة‭ ‬الأخيرة‭ ‬الأشحاء،‭ ‬حاملا‭ ‬عليهم‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬حدة‭ ‬عن‭ ‬المواقف‭ ‬السالفة،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬الموت‭ ‬أهون‭ ‬من‭ ‬الحاجة‭ ‬التي‭ ‬تحوج‭ ‬صاحبها‭ ‬إلى‭ ‬المسألة‭ (‬الطلب‭)‬،‭ ‬ولاسيما‭ ‬مسألة‭ ‬الأشحاء‭ ‬اللئام،‭ ‬فإن‭ ‬الكريم‭ ‬لو‭ ‬كلِّف‭ ‬أن‭ ‬يُدخل‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الأفعى،‭ ‬فيخرج‭ ‬منه‭ ‬سما‭ ‬فيبتلعه،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬أهون‭ ‬عليه‭ ‬وأحب‭ ‬من‭ ‬مسألة‭ ‬البخيل‭ ‬اللئيم‮»‬‭.‬

والمودة‭ ‬أيضا‭ ‬تتوارد‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬تكاد،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭: ‬‮«‬آفة‭ ‬المودة‭ ‬النميمة‮»‬،‭ ‬يقابلها‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬الغيبة‭ ‬جهد‭ ‬العاجز‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬قول‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭: ‬‮«‬رجال‭ ‬السوء‭ ‬والمصاحبة‭ ‬لهم‭ ‬كراكب‭ ‬البحر،‭ ‬إن‭ ‬سلم‭ ‬من‭ ‬الغرق‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬المخاوف‮»‬‭. ‬فيما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ - ‬ودائما‭ - ‬الاختصار‭ ‬سمة‭ ‬القول‭: ‬‮«‬حسد‭ ‬الصديق‭ ‬من‭ ‬سقم‭ ‬المودة‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬المقارنات‭ ‬في‭ ‬دلالاتها‭ ‬الحكمية‭.‬

 

الاستبداد‭ ‬بين‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬و«نهج‭ ‬البلاغة‮»‬

لن‭ ‬نذهب‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬سلف‭ ‬في‭ ‬المقارنات‭ ‬بين‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬و«نهج‭ ‬البلاغة‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقع‭ ‬في‭ ‬تكرار‭ ‬غير‭ ‬مستحب،‭ ‬ولكن‭ ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يستوقف‭ ‬بعد،‭ ‬ويعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬حلقة‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬أعني‭ ‬بذلك‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتفرد‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ - ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬أو‭ ‬العاديين‭ ‬من‭ ‬الناس‭ - ‬وكلاهما‭ ‬من‭ ‬مساوئ‭ ‬الخصال‭ ‬وعنت‭ ‬السلوك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نقرأه‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬بيدبا‭: ‬‮«‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬المنفرد‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬حيث‭ ‬كان،‭ ‬فهو‭ ‬ضائع‭ ‬لا‭ ‬ناصر‭ ‬له،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬صدر‭ ‬العاقل‭ ‬قد‭ ‬يبلغ‭ ‬بحيلته‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يبلغ‭ ‬بالخيل‭ ‬والجنود‮»‬‭. ‬كما‭ ‬نقرأه‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬من‭ ‬إبداعات‭ ‬ما‭ ‬احتواه‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭: ‬‮«‬من‭ ‬استبد‭ ‬برأيه‭ ‬هلك،‭ ‬ومن‭ ‬شاور‭ ‬الرجال‭ ‬شاركهم‭ ‬في‭ ‬عقولهم‮»‬‭.‬

وليس‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يدع‭ ‬سانحة‭ ‬تمر‭ ‬ولا‭ ‬يسارع‭ ‬إلى‭ ‬الإفادة‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يقول‭: ‬الفرصة‭ ‬تأتي‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭. ‬وقد‭ ‬تواردت‭ ‬بمستوى‭ ‬رفيع‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬في‭ ‬قولين‭ ‬متماثلين‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭: ‬‮«‬إضاعة‭ ‬الفرصة‭ ‬غصة‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬النهج‮»‬،‭ ‬و«مثل‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يطلب‭ ‬حاجة‭ ‬فإذا‭ ‬ظفر‭ ‬بها‭ ‬أضاعها‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬الخاتمة،‭ ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬التخاطر‮»‬‭ - ‬إن‭ ‬صح‭ ‬في‭ ‬الكتابين‭ - ‬مثيرًا‭ ‬للغرابة،‭ ‬ويشكل‭ ‬فرادة‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬الإسلام‭ ‬الأول،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التفاوت‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬والغرض،‭ ‬بين‭ ‬كتاب‭ ‬راسخ‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬ويدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الترشيد‭ ‬والنصح‭ ‬لملك‭ ‬مستبد،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬في‭ ‬النتيجة‭ ‬مدى‭ ‬صحة‭ ‬وجوده‭ ‬أو‭ ‬وقعه‭ ‬عليه،‭ ‬وآخر‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬لدولة‭ ‬عــــادلة‭ ‬لم‭ ‬تقم‭ ‬عـــلى‭ ‬الأرض‭ ‬فنُظّر‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أطــــروحات‭ ‬شـــمولية‭ ‬لزمن‭ ‬قد‭ ‬يأتي‭ ‬بعد‭ ‬حقبة‭ ‬أو‭ ‬أحقاب‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬المقارنة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التطابق‭ ‬أحيانا،‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬رصد‭ ‬المقولات‭ ‬المتشابهة،‭ ‬فلا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬توارد‭ ‬الخواطر‭ ‬أمر‭ ‬سائغ،‭ ‬ويمكن‭ ‬حدوثه‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭. ‬فـ‭ ‬‮«‬النهج‮»‬‭ ‬كان‭ ‬سابقًا‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬وهذا‭ ‬بدوره‭ - ‬إذا‭ ‬صح‭ ‬أن‭ ‬عمله‭ ‬مجرد‭ ‬ترجمة‭ - ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفرضية‭ ‬فقط،‭ ‬أنه‭ ‬مصنف‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬شهره‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اشتهار‭ ‬بيدبا‭ ‬به‭.‬

وفي‭ ‬النتيجة،‭ ‬ليست‭ ‬لدينا‭ ‬أجوبة‭ ‬حاسمة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬التصدي‭ ‬لإشكاليات‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭... ‬فالأسئلة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬بصيرة‭ ‬منها‭. ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬مثقفا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬واسع‭ ‬العلم،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬اختلجت‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬انقلابية‭ ‬التاريخ‮»‬‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سقوط‭ ‬خلافة‭ ‬وقيام‭ ‬أخرى‭. ‬والمنصور‭ ‬حينئذ‭ (‬المؤسس‭ ‬الفعلي‭ ‬للخلافة‭ ‬الجديدة‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬حاكما،‭ ‬قويا،‭ ‬ذا‭ ‬بأس،‭ ‬يتفحص‭ ‬الشوارد‭ ‬قبل‭ ‬وقوعها،‭ ‬ولا‭ ‬يحرجه‭ ‬عقاب‭ ‬المشتبهين‭ ‬بالقتل،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬رجالات‭ ‬من‭ ‬صانعي‭ ‬النصر‭. ‬وابن‭ ‬المقفع،‭ ‬شخصية‭ ‬بارزة،‭ ‬ليس‭ ‬الأدب‭ ‬ما‭ ‬تفرغ‭ ‬له،‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬السياسة‭ ‬ما‭ ‬يرمقها‭ ‬ويتوق‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬فيها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خافيا‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬وعيونه‭.‬

ونفترض‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬المقفع،‭ ‬كان‭ ‬يشوبه‭ ‬ريب‭ ‬من‭ ‬المنصور،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬ماضيه‭ ‬غير‭ ‬البعيد،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حاضره‭ ‬المشوش،‭ ‬انتابته‭ ‬الهواجس‭ ‬المقلقة‭. ‬ولعله‭ - ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ - ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬تحسين‭ ‬صورته‭. ‬وإظهار‭ ‬ولائه‭ ‬المطلق‭ ‬للخليفة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الصحابة‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬تبطن‭ ‬أفكارا‭ ‬تحذِّر‭ ‬بطريقة‭ ‬مفعمة‭ ‬بالكياسة‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭! ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬أيهما‭ ‬أسبق‭ ‬إلى‭ ‬الظهور‭ ‬‮«‬الرسالة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الترجمة‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأولى‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬له‭ ‬تقربا‭ ‬من‭ ‬الخليفة،‭ ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الثانية‮»‬‭ ‬الأقل‭ ‬جهرا‭ ‬بالموقف‭ ‬السياسي‭ ‬المباشر‭. ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬يلتبس‭ ‬علينا‭ ‬الأمر،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬النسخة‭ ‬الفارسية‭ ‬كاملة،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬التواتر‭ ‬وصلت‭ ‬إليه،‭ ‬مما‭ ‬يفسر‭ - ‬إذا‭ ‬استبعدنا‭ ‬كليا‭ ‬نسبتها‭ ‬إليه‭ - ‬المؤثرات‭ ‬الإسلامية‭ ‬المفعمة‭ ‬بها،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬أو‭ ‬الأسلوب،‭ ‬إلى‭ ‬المفردات‭ ‬والمصطلحات‭. ‬وتبقى‭ ‬فرضية‭ ‬وسطية‭ ‬ومنطقية‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬ترجمة‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دقيقة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تصرف‭ ‬بها،‭ ‬لتوائم‭ ‬مناخ‭ ‬المرحلة،‭ ‬فتبدو‭ ‬كأنها‭ ‬من‭ ‬نتاجه‭ .