المؤثرات الإسلامية في «كليلة ودمنة»... تطابقات مع «النهج»
قال الأديب المشتهر لابنه اليافع (كبير المحامين ونقيبهم في ما بعد): «لن تصبح مثقفا مرموقا، إلا إذا قرأت ثلاثة: «القرآن الكريم ونهج البلاغة وكليلة ودمنة»... صرّح لي الابن بذلك، وكنت أنوه بسعة معرفته وعمق خطابه وصفاء بيانه، وهو يناقش مسألة في التاريخ.
وإذ نشأت في بيئة أتاحت لي تعرّف «الكتاب» و«النهج»، فقد لفتني إدراج الكتاب الثالث بينهما، وكان لايزال في الذاكرة البعيدة مجرد أقاصيص حاكتها الخرافة من قديم الأزمنة، على نحو ما ذهب إليه الشاعر الفرنسي «لافونتين» في الزمن الحديث، فاستفزني كلام المحامي الكبير للعودة إليه، مستبرئا الدلالات في ما خص الفكر السياسي، مترعًا بالبلاغة الخلابة في أسلوب عبدالله بن المقفع، مترجم الكتاب من «الفارسية» إلى «العربية». وقد وصف في مقدمة نسخة صدرت حديثا، أنه «فارسي الأصل، كان اسمه، قبل إسلامه، روزبه بن داذويه، فلما أسلم سمي عبدالله وكني بأبي محمد.. ويعود لقبه (ابن المقفع)، إلى أن أباه داذويه كان متوليًا خراج فارس من قبل الحجاج، فأخذ بعض أموال السلطان، فضربه الحجاج على يديه فتقفعتا، فلُقِّب بالمقفع».
وفي هذا النص غير الموثق والمغفل كاتبه، وقع الأخير في مغالطتين: الأولى أن مصطلح «السلطان» لم يكن متداولاً حينذاك، وأول استخدام له ظهر - فعليا على الأقل - في عهد السلاجقة. والثانية، أن في انتداب داذويه عاملا على الخراج في تلك الفترة، ما يريب في صحته، إذا توقفنا عند المسافة التي تفصل بين الأب والابن، فضلا عن المعلومة المضطربة، بصدد قدم عهد الأسرة في الإسلام، ما يجعل تعيين داذويه في هذا المنصب، لا يتسم بالواقعية، ولاسيما أن الحجاج عرف عنه تعصبه ضد الفرس، الذين استبعدوا عن الجيش والإدارة حتى قيام الخلافة العباسية. وكان أول من شغل منصبا في هذا الإطار، خالد بن برمك على عهد المنصور، متزامنًا ذلك مع ظهور ابن المقفع، حين اتهم الأخير بالزندقة، وانتهى أمره إلى القتل، ربما بتوجيه من الخليفة، ولم يكن في سلوكه أو كتاباته حينذاك، ما يشير إلى صحة التهمة، ما يرجح أن قتله تم لأسباب سياسية لها علاقة بثورة عبدالله عبد علي (عم المنصور) في الشام، وكان هذا قد لجأ بعد فشله إلى البصرة، حيث تولى أمرها، حينئذ، أخوه سليمان الذي رفض تسليمه، إلا بعد أمان يبقي على حياته. وقيل إن ابن المقفع صاغ الوثيقة، ولكن المنصور نكث العهد بقتل عمه، من دون أن ينجو الثاني من المصير عينه، وفق رواية البلاذري في «أنسابه».
ابن المقفع في رواية الجهشياري
ويبدو أن إسلام ابن المقفع كان سابقًا بسنوات قليلة على العهد العباسي، إذا توقفنا عند رواية الجهشياري (الوزراء، الكتاب)، بأنه عمل كاتبا لوالي نيسابور (126هـ/ 748م)، منتصرًا لوالٍ ضد آخر، قبل أن يتحول إلى كرمان، ثم إلى البصرة، ربما بعد سقوط خلافة بني أمية، ساعيا إلى دور في إطار العهد الجديد. فالتحق بعيسى بن علي العباسي، حيث وجد مناخا موائما أتاح له امتلاك ناصية اللغة العربية، ولاسيما أن البصرة كانت مشتهرة بعلومها. كما تفتحت فيها مواهبه الأدبية، مستبطنا في الوقت عينه، نزوعا إلى السياسة، إذ لم يكف عن التصريح بأفكار في موضوعة العدالة، تتضمن إرشادات ونصائح ترمز إلى نقد الحكم الفردي، ما تجلى حينذاك، أو بعده، في «رسالة الصحابة». ولم يكن قصده من هؤلاء، سوى أصحاب الخليفة والولاة، أو بتعبير آخر، «الأعوان»، و«المستشارين». وربما كان قد تعرَّف حينئذ على عبدالحميد الكاتب (المقرب من الخليفة الأموي الأخير) أستاذه وصديقه، وأخذ عنه اللغة السليمة، إلى التأثر بفكره السياسي الذي كان وبالا على الاثنين.
ولعل «رسالة الصحابة» كانت نسخة تجريبية لـ «كليلة ودمنة»، أو «ترجمتها» في وقت غير محدد، إذ حوت الأولى أفكارًا تصادفت مع الثانية، في المنهج والمضمون، حيث الأطروحة الأساسية تكمن في الدعوة غير المباشرة إلى العدل، والمؤثرات الإسلامية، وإن بدت مباشرة في «الرسالة»، فقد كانت تشي بها الترجمة بصورة أو بأخرى. ومن ذلك على سبيل المثال ما جاء فيها من وصف لقادة المنصور والمؤتمرين بأمره، «كراكب الأسد الذي يوجل من يراه، والراكب أشد وجلاً»، وهو مطابق لقول بهذا المعنى في «نهج البلاغة»: «السلطان كراكب الأسد، يغبط بموضعه وهو أدرى بموقعه».
ولعل السؤال المبكر الذي يدهمنا: متى وضع ابن المقفع ترجمته لـ «كليلة ودمنة»؟ وهل كانت في وقت سابق على الحكم العباسي، أو في بدايات عهد المنصور، متعمدا ذلك في انتقاده لسياسات الأخير؟ وفي الحالتين قد لا يكون الكتاب في منأى عن نهاية صاحبه العبقري الذي ربما صاغه بخلفيته المعروفة، النازعة إلى العدالة، في وقت كان المنصور يختزل فيه السلطة في ذاته، مستمدة من «الحق الإلهي»، معبرا عن ذلك بقوله: «أنا سلطان الله في أرضه»، وبالتالي فإن ثمة تباعدا في مفهومه لها، وبين تلك التي اصطبغت بها الترجمة في الحوارات الترميزية بين الفيلسوف بيدبا والملك دبشليم. يقول الفيلسوف موجها الكلام إلى تلاميذه «لست أشك في أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي على الملك أن قلتم إن بيدبا قد ضاعت حكمته وبطلت فكرته، إذ عزم على الدخول على هذا الجبار الطاغية. فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري، وأني لم آته جهلا به لأني كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول: إن الملوك لها سكرة كسكرة الشراب... فالملوك لا تفيق من السكرة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء. والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء. والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها وتأديبها بحكمتها، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل...».
إن هذا النص يرتكز على أقانيم ثلاثة: العلم والحكمة والعدل، فإذا اجتمعت لأحد من حاشية الحاكم صوَّب مساره. وهي ما تزخر بها تراثيات الإسلام في الفكر السياسي، ما يدعونا إلى التساؤل - من باب الفرضية على الأقل - إذا كان ثمة تداخل أو أكثر من ذلك، بين النص الفارسي المقتبس عن الهندية، وبين النصوص العربية أو المكتوبة بلغتها؟ وإلى التساؤل أيضا، من المنظور عينه، إذا كان النص الأصلي في زمانه، هو ذاته ما بعد الترجمة المتأثرة بأدبيات الإسلام، أو أضيفت إليه أفكار من الأخيرة، أو استلت من روحها؟ ومن ذلك - على سبيل المثال - ما يتسق تحديدًا مع سياقات في «نهج البلاغة»، إلى حد التطابق حول ثلاثية العلم والحكمة والعدل: «العامل بغير علم كسائر في غير طريق»، «خذ الحكمة أنَّى كانت، فإن الحكمة ضالة المؤمن»، «إن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرًا من العدل»، أو «فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء».
بيد أن هذه الأركان ليست ثابتة في الكتابين، فقد يضاف إليها العقل، ولكنها غالبا ما تقوم على أربعة في «النهج»، والأخيرة تتفرع إلى أربعات متداخلة معًا مثل: «الإيمان على أربع دعائم: الصبر، اليقين، العدل والجهاد»، و«اليقين على أربع شُعَب: على تبصرة الفطنة وتأول الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين» و«العدل منها على أربع شُعب: على غائص الفهم وغور العلم وزهرة الحكم ورساخة الحلم»، والجهاد على أربع شعب: «على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين»... إلى آخر هذه المنظومة المسبوكة حتى في رباعيات الكفر والضلالة.
هل ترجمهُ أم ألفه؟ أم صنفه؟
ويلفتنا أيضا، أن كثيرًا من الأفكار تتشاكل في المعنى والدلالة، وحتى الصياغة في الكتابين، وهي إشكالية ليس سهلا الدخول في متاهتها، وما علينا سوى توسل فرضية التأثر والتأثير. فأن يكون صاحب «النهج» قد اطلع على الكتاب الهندي - الفارسي - العربي، أو على بعض منه، فهو أمر مستبعد تماما لعدم معرفته بلغتي الكتاب الأصل والترجمة والفارسية.
يضاف إلى ذلك أن النهج يتسم بشمولية وتأصيل لأفكار قيمية تم توظيفها في مشروع دولة متكاملة في نظمها السياسية والحربية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فيما نظريات بيديا (فيلسوف البراهمة) كانت على عمقها، أكثر إحاطة بالمسائل الأخلاقية، من وعظ وترشيد، لحمل ملك مستبد على إقامة العدل. أما الافتراض الآخر، بأن مؤثرات واضحة للنهج في «كليلة ودمنة»، ربما بلغت حد الاقتباس أحيانًا، فلا يحتاج إلى دليل قطعي، ومن يوغل في الكتاب الأخير فلن يخفى عليه ذلك النفَس الإسلامي الواضح فيه، سواء في الصياغة أو المفردات أو المصطلحات والدلالات، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن ابن المقفع قرأ «النهج» واكتنه بلاغته، في ترجمة قد لا تخلو من التصرف، وهو المتعمق في ثقافته الإسلامية والمتمكن من لغتها، إلى فصاحة راقية نجدها خصوصًا في كتابه «الأدب الكبير».
ولقد اعترف ابن المقفع، بأنه لم يلتزم حرفيا في ترجمته لـ«كليلة ودمنة»، ما يبدو في قوله: «لما رأيت أهل فارس قد فسروا هذا الكتاب من الهندية إلى الفارسية، وألحقوا به بابا هو باب برزويه الطبيب، ولم يذكروا فيه ما ذكرنا في هذا الباب لمن أراد قراءته واقتباس علومه وفوائده، وضعنا له هذا الباب، فتأمل ذلك ترشد إن شاء الله تعالى».
توارد الخواطر
ونمضي في التساؤل لنقول: هل نحن أمام حالة من توارد الخواطر في الكتابين؟ فإن كان ذلك، فهو يشكل سابقة نادرة، ولاسيما بهذه الكثرة من الأفكار، وبالتالي لا يصح افتراضه... وإذا استبعدنا احتمال أن يكون ابن المقفع واضع الكتاب، فإنه غير مستبعد تأثره بـ «النهج» الذي قرأه واقتبس منه، على نحو ما نراه في توصيف حالة الفقر منسوبا لبيدبا: «وجدت الفقر رأس كل بلاء، وجالبا لصاحبه كل مقت. ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن من كان يظن به حسنا، وليس من خلة هي للغني مدح، إلا وهي للفقير ذم...». ولعل في ما سلف تشخيص لحالة الفقير، بتحميله وزر فقره الذي يصبح شرا عليه، مستطردا بيدبا في ذلك حتى المبالغة، ولم يرتق بالتالي إلى مستوى ما جاء في «النهج»، مختزلا في ثلاث كلمات (الفقر الموت الأكبر)، أو في خمس (الفقر يُخرس الفطِن عن حجته)، مما لا يقارب توصيف بيدبا الذي يحط من شأن الفقير وينال من إنسانيته، وإن لم يقصد ذلك في الأساس.
وليس ثمة شك في أن ابن المقفع ماجت في وعيه ثقافة المرحلة، مطلعا على مصنفات عدة، بما فيها «النهج»، متأثرا بها في ثنايا «الترجمة»، ليس في المضمون فحسب، بل في المفردات والمصطلحات، ومنها على سبيل المثال: الحمد لله، نور الله تعالى، إن الله تبارك وتعالى، حاز في الآخرة ثواب الصالحين، فإني قد وثقت بنعمة الله وإحسانه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إلى تلك العبارة المفعمة بالخطاب الإسلامي: «لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية»، وغير ذلك مما اكتنهه ابن المقفع في زمانه ولم يكن مألوفا في الزمن الذي نسب له الكتاب. ومن وحي فرضية أخرى، ربما تعمد المترجم اللجوء إلى هذه الإضافات محاباة للخليفة المنصور الذي عرف عنه الأخذ بالظنة، وتهمة «الزندقة» جاهزة لتنال ممن يشتبه فيه معارضة النظام. وفي النتيجة ليس علينا المضي في الفرضيات، لأننا أمام نص مكتوب يحتم الالتزام به، ولكن من دون إغفال المؤثر الإسلامي الواضح في ثنايا الترجمة، أو ربما الاقتباسات عن نهج البلاغة، لنخلص إلى أن ابن المقفع المشتهر علما وفصاحة، قاده ذلك إلى أن يعدل في النص أو يضيف عليه مما لم يكن في الأصل.
وإذا مضينا في المقارنة، يستوقفنا مفهوم بيدبا للعلم، وخصوصًا في قوله: «إنما صاحب العلم يقوم بالعمل لينتفع به، وإن لم يستعمل ما يعلم فليس يسمى عالمًا»... يقابله في «النهج»: «رُبّ عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه». وليس خافيا المستوى البلاغي لمصلحة «النهج»، وربما يسوّغ ذلك أن الترجمة قد تضعف المعنى أحيانًا، وإن كانت البلاغة ما يجيدها ابن المقفع.
ولكن ثمة ما يفاجئنا في هذا السياق، اختزال بيدبا العلم - أو يكاد - في ذات صاحبه: «على العالم أن يبدأ بنفسه فيؤدبها بعلمه، ولا تكون غايته اقتناءه العلم لمعاونة غيره ونفعه به وحرمان نفسه منه»، قبل أن يستدرك مضيفًا المقولة السابقة، بما يتعدى الخاص إلى النفع العام.
ويتابع في هذا السياق «ولو أن عالمًا بطريق مخوف ثم سلكه على علم به سمي جاهلاً». خلافا لذلك، كان الإمام أكثر عمقا في قولته: «العامل بالعلم كسائر على الطريق الواضح».
وفي «النهج» مُتّسع، منظومة العلم وتشديد عليها، وهي من أساسيات نظرية «الدولة»، فلا يستقيم أمر الحاكم إلا بالعلم، ولا يصح أن يستأثر به صاحبه، وإنما عليه توظيفه في ما يفيد الآخرين، ويؤهلهم لممارسة دور فاعل في المجتمع. ففي وصية لعامل مكة قثم بن العباس جاء فيها: «أقم للناس الحج وذكِّرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فافتِ المستفتي وعلِّم الجاهل وذاكر العالم». وهكذا لا تستوي المقارنة في هذا الباب، لاختلاف المنهج، بين اتجاه يظهر العلماء شريحة قد تختزن علمها في الصدور، وبين اتجاه يعبِّر عن خطاب يتوسل تثقيف الرعية في ضوء حقوقها الإنسانية، حتى لا تبقى رهينة للجهل المقترن بالظلم.
المفارقة والصَّدى
ولعل المفارقة، أن بيدبا رأى أن العلم وسيلة تثقيفية للملوك، تأخذ بهم إلى إشاعة العدل في الرعية، بينما العلم في «النهج»، شرط محوري لوظيفة الحاكم، منه تنبثق شرعيته، داعية للحق والعدالة، ومحصنا نظامه من الظلم والفساد والانحراف وهو - أي العلم - نبراس «الطريق» الذي يسير فيه ولا يحيد عنه، «فمن عَلِم غور العلم صدر عن شرائع الحكم»، وفاق قول آخر في «النهج»، محذرا العلماء: «لا تجعلوا علمكم جهلا ويقينكم شكا، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا». يضاف إلى ذلك هذا القول «إن معي لبصيرتي ما لبّست على نفسي ولا لُبِّس عليّ».
وتتصادى هذه العبارة مع نمط مماثل لبيدبا إذ قال: «وبعد ذلك فمعي عقلي، فلا يفزعني أمري ولا يهولني شأني، ولا يلحقني الدهش، ولا يذهب قلبي شعاعا (خوفا). فالعاقل لا يفرق عند سداد رأيه ولا يعزب (لا يغيب) عنه ذهنه على أي حال، وإنما العقل شبيه بالبحر الذي لا يدرك غوره...».
ومن البدهي أن العقل هو نقطة الضوء، وبه يمتاز الإنسان عن سائر المخلوقات، جامعا إليه الحكمة والعفة والعدل، مما يحتاج إليه الملوك في تدبير أمورهم، وفاقا لمفهوم بيدبا، وفي مكان آخر يضيف: «استعمل العقل فأبصر العاقبة، فأْمَنِ الندامة»، إلا أنه يقدم عليه الحكمة، في سياق آخر، مفصلا ذلك في أربعة عناوين:
1 - العلم والأدب والرويَّة، داخلة في باب الحكمة.
2 - الحِلم والصبر والوفاء داخلة في باب العقل.
3 - الحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة.
4 - الصدق والإحسان والمراقبة (مخافة الله) وحسن الخلق داخلة في باب العدل.
أما في «النهج»، فيختلف الترتيب، إذ العقل هو الموجّه، والمرجعية: «لا حال أعود (أنفع) من العقل، ولا وحدة أوحش من العُجب، ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميراث كالأدب، ولا قائد كالتوفيق ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كالثواب، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزاهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسَب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا عز كالحلم، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة».
ولعل ما يلفت أن بيدبا الذي وضع العدل في المرتبة الأخيرة بعد الحكمة والعفة والعقل لم يخض مباشرة في موضوعه، إلا أنه استبطن، الدلالة التي هي محور الكتاب، الموجّه إلى ملك منفرد في أمره، ولم يكن ممكنا مواجهته بالنصيحة المباشرة. فكانت تلك الفكرة المبدعة، في اللجوء إلى الأسطورة التي أَنِس إليها الملك واستبد به شغف السماع، واصطفقت في نفسه مغازي القصص والحوارات الشائقة في انسيابها المتواصل... والعبرة في النهاية هي المقصد والرجاء.
وخلافا لذلك، تجرأ ابن المقفع فطرق هذه الموضوعة مباشرة في «رسالة الصحابة» قائلا: «فمن يرغب في ما ها هنا يا أمير المؤمنين (المنصور) أكرمك الله، إلا أن يصير العدل كله إلى تقوى الله عز وجل، وإنزال الأمور منازلها».
وفي الجانب الآخر، كان العدل جوهر المقال في «النهج» الذي انبثقت أفكاره من تجربة مهرتها المعاناة، في وقت غاصت فيه دولة الإسلام بكل أنواع «الفتن»، وليس ممكنا إعادة إنتاجها إلا بالعدل وإسقاط الجور عن الرعية، فلا تجنح إلى الانحراف أو تنقاد إلى العصبيات، فإلى دورة جديدة من الحرب، محورها السلطة أو الاستئثار بها، استنادا إلى قول في «النهج»: «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع». وثمة ما استفاض به الأخير في أطروحة العدل، ومن ذلك المقارنة بين العدل والجور، فيأتي الجواب: «العدل يضع الأمور في مواضعها، والجور يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجور عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما».
ومن يسبر «النهج» تطالعه مقولات غامرة بهذه الموضوعة، ما يتجلى على سبيل المثال في وصية لأحد العمال: «إن أفضل قرة عين الولاة، استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية». ومن هذا المنظور كان الاهتمام بالقضاء، وصاحب «النهج» مارسه على عهد الخليفة عمر، وكان قاطعا في أحكامه، مشددا على ذلك في كتبه إلى عماله، ومنهم الأشتر، متوجها إليه بالقول: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممكن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه».
وفي سياق المطابقات، نتوقف عند تحذير الحاكم من الحواشي، التي منها أعوان مخلصون له يمدونه بالنصيحة صافية من أي شائبة، أو متزلفون يمالئونه في كل ما يبدر منه، سليما كان أو سقيمًا، أو لا يستمع لهؤلاء وأولئك متفردا في رأيه. هذا ما نبّه إليه ابن المقفع في «رسالته» قائلا: «ومما يذكر به أن أمير المؤمنين أمر أصحابه، فإن من أولى أمر الوالي بالتشبت والتخير، أمر أصحابه الذين هم فياؤه وزينة مجلسه وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه ومواضع كرامته والخاصة من عامته...». وفي ذلك يقول بيدبا: «اعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نصائحه ما يثقل عليه مما ينصحون له، لم يجد غبّ (عاقبة) رأيه... وحق على مؤازر السلطان أن يبالغ في التحضيض (الحث) له على ما يزيد به سلطانه قوة ويزينه، والكف عما يضره ويشينه، وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة. وخير الكلام ما كان على أفواه الأخيار، وأفضل الملوك من لا يخالطه بطر، ولا يستكبر عن قبول النصيحة، وخير الأخلاق أعونها على الورع».
وثمة ما لم يشر إليه بيدبا، وهو «الخراج»، إشكالية مركبة تتصل بمالية «الدولة»، إلا أن ابن المقفع تداركه ببعد نظر يحاكي مفهومه في «النهـــج». فقد جاء في رسالة الصحابة - والكلام دائما موجه إلى المنصور - «فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين، وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها، لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض». من دون أن يخفى اقتباس العبارة الأخيرة، كما سنرى لاحقا، عن قول بهذا المعنى في «نهج البلاغة».
ولطالما رافق جباية الخراج تعسف من بعض الولاة، حتى أن هذه المسألة كانت في صميم الحركة الإصلاحية للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، لانعكاساتها الخطرة على بنية المجتمع وانصهاره. ومن قبل حذّر الخليفة الراشدي الرابع (علي) رضي الله عنه من نتائجها السلبية، ما يبدو في قول له لأحد عماله: «ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج». فهذه الضريبة - وغيرها - لم تفرض اعتباطا، أو للتسيد على أهل البلاد المفتوحة، وإنما هدفت إلى توثيق الصلة معهم، واحتضانهم في الإسلام، حتى إذا آمنوا به سقطت تلقائيا عنهم. وعلى «الدولة» في المقابل الاعتناء بهم، فلا تتقاعس عن تقديم ما هم بحاجة إليه من مشاريع حيوية، كشق الطرق وحفر القنوات وتحسين حياتهم الاقتصادية وما إلى ذلك، وهو ما عبّر عنه الخليفة بدقة في «النهج»: «من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد».
والمطابقات ما برحت كثيرة في الكتابين، فلم تحصر في الجانب السياسي التنظيري في «النهج» والتوجيه الترميزي في «كليلة ودمنة»، وإنما تندرج أيضا في المسائل الأخلاقية والاجتماعية، إلى ما يؤثر في صفات الإنسان، ويكره منها... فالهذر، على سبيل المثال، سوأة، والكتمان فضيلة، هنا وهناك. يقول بيدبا: «إن أحمد الناس عاقبة في الدنيا أكتمهم للسر»، كما يقول في موضع آخر: «الزم السكوت، فإن فيه السلام، وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته الندامة».
أما في «النهج»، فإن الفكرة تأخذ بعدا بلاغيا أكثر شفافية، معبرا عنها بعدة مقولات منها: «الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه». ومنها أيضا: «لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم»، كذلك: «إذا تم العقل نقص الكلام»، و«صدر العاقل صندوق سره»... إلخ.
ومن أعظم المثالب البخل، وهو الأكثر مقتا في الرجل، وقد وردت في «النهج» جملة توصيفات في هذا السبيل: «البخيل جامع لمساوئ العيوب»، ليصبح في المرتبة الأدنى في المجتمع، إلى حد يرى في البخل ما يتعدى الوضاعة إلى العار. ولكن أبلغ ما عبّر عنه في هذا السياق: «عجبتُ للبخيل كيف يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء».
ولم يقصر بيدبا في إبراز الصورة البشعة للبخلاء، وقد آثر ابن المقفع غالبًا أن يستبدل بالمفردة الأخيرة الأشحاء، حاملا عليهم بما لا يقل حدة عن المواقف السالفة، إذ يقول: «الموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة (الطلب)، ولاسيما مسألة الأشحاء اللئام، فإن الكريم لو كلِّف أن يُدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سما فيبتلعه، كان ذلك أهون عليه وأحب من مسألة البخيل اللئيم».
والمودة أيضا تتوارد في المعنى ذاته أو تكاد، ومثال ذلك ما جاء في «كليلة ودمنة»: «آفة المودة النميمة»، يقابلها في «النهج»: «الغيبة جهد العاجز»، وفي قول آخر في الكتاب الأول: «رجال السوء والمصاحبة لهم كراكب البحر، إن سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف». فيما نرى في الثاني - ودائما - الاختصار سمة القول: «حسد الصديق من سقم المودة»، إلى آخر هذه المقارنات في دلالاتها الحكمية.
الاستبداد بين «كليلة ودمنة» و«نهج البلاغة»
لن نذهب أبعد مما سلف في المقارنات بين «كليلة ودمنة» و«نهج البلاغة»، حتى لا نقع في تكرار غير مستحب، ولكن ثمة ما يستوقف بعد، ويعيدنا إلى حلقة الفكر السياسي، أعني بذلك الاستبداد والتفرد في الرأي - سواء كان ذلك من الملوك أو العاديين من الناس - وكلاهما من مساوئ الخصال وعنت السلوك، وهو ما نقرأه في قول بيدبا: «الوحيد في نفسه، المنفرد في رأيه حيث كان، فهو ضائع لا ناصر له، على أن صدر العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود». كما نقرأه في المقابل في قول من إبداعات ما احتواه «النهج»: «من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم».
وليس على المرء أن يدع سانحة تمر ولا يسارع إلى الإفادة منها، فقد لا تتكرر في ما بعد، وبعضهم يقول: الفرصة تأتي مرة واحدة فقط. وقد تواردت بمستوى رفيع من التعبير في قولين متماثلين إلى حد كبير: «إضاعة الفرصة غصة» في «النهج»، و«مثل الرجل الذي يطلب حاجة فإذا ظفر بها أضاعها» في «كليلة ودمنة».
وعلى سبيل الخاتمة، فقد بدا هذا «التخاطر» - إن صح في الكتابين - مثيرًا للغرابة، ويشكل فرادة غير مألوفة في أدبيات الإسلام الأول، على الرغم من التفاوت في الرؤية والغرض، بين كتاب راسخ في الزمن ويدور في فلك الترشيد والنصح لملك مستبد، لا نعرف في النتيجة مدى صحة وجوده أو وقعه عليه، وآخر عبارة عن مشروع لدولة عــــادلة لم تقم عـــلى الأرض فنُظّر لها في أطــــروحات شـــمولية لزمن قد يأتي بعد حقبة أو أحقاب.
وإذا كانت المقارنة إلى حد التطابق أحيانا، قد أخذت بنا إلى رصد المقولات المتشابهة، فلا يعني ذلك أن توارد الخواطر أمر سائغ، ويمكن حدوثه بهذا الحجم. فـ «النهج» كان سابقًا بأكثر من قرن على ابن المقفع، وهذا بدوره - إذا صح أن عمله مجرد ترجمة - ربما لم يكن من باب الفرضية فقط، أنه مصنف الكتاب الذي شهره أكثر من اشتهار بيدبا به.
وفي النتيجة، ليست لدينا أجوبة حاسمة، وخصوصا في معرض التصدي لإشكاليات من هذا النوع... فالأسئلة غالبا ما تكون أكثر بصيرة منها. فقد عاش ابن المقفع، مثقفا كبيرًا، واسع العلم، في وقت اختلجت فيه «انقلابية التاريخ» ما بين سقوط خلافة وقيام أخرى. والمنصور حينئذ (المؤسس الفعلي للخلافة الجديدة)، كان حاكما، قويا، ذا بأس، يتفحص الشوارد قبل وقوعها، ولا يحرجه عقاب المشتبهين بالقتل، بمن فيهم رجالات من صانعي النصر. وابن المقفع، شخصية بارزة، ليس الأدب ما تفرغ له، وإنما كانت السياسة ما يرمقها ويتوق إلى موقع فيها، وبالتالي لم يكن خافيا على الخليفة وعيونه.
ونفترض أن ابن المقفع، كان يشوبه ريب من المنصور، فهو في ماضيه غير البعيد، كما في حاضره المشوش، انتابته الهواجس المقلقة. ولعله - نعود إلى التساؤل - عمد إلى تحسين صورته. وإظهار ولائه المطلق للخليفة، من خلال «رسالة الصحابة»، وإن كانت هذه تبطن أفكارا تحذِّر بطريقة مفعمة بالكياسة من الاستبداد! ولا ندري أيهما أسبق إلى الظهور «الرسالة» أو «الترجمة»، ولكن يبدو أن «الأولى» لم تحقق له تقربا من الخليفة، فلجأ إلى «الثانية» الأقل جهرا بالموقف السياسي المباشر. ومرة أخرى يلتبس علينا الأمر، إذا كانت النسخة الفارسية كاملة، أو عبر التواتر وصلت إليه، مما يفسر - إذا استبعدنا كليا نسبتها إليه - المؤثرات الإسلامية المفعمة بها، سواء في المضمون أو الأسلوب، إلى المفردات والمصطلحات. وتبقى فرضية وسطية ومنطقية في آن، هي أن ترجمة ابن المقفع لـ «كليلة ودمنة»، لم تكن دقيقة، بقدر ما تصرف بها، لتوائم مناخ المرحلة، فتبدو كأنها من نتاجه .