علي بن زياد الطرابلسي ودوره في نشر المذهب المالكي في القرن الثاني الهجري
منذ مؤلفاته السابقة التي جاوز عددها خمسة عشر كتاباً، والتي تُترجم لعديد من أعلام الثقافة في ليبيا من قدماء ومحدثين, أصبح القراء والنقاد اليوم يرون في الدكتور محمد مسعود جبران أحد أهم المؤرخين لتاريخ ليبيا الثقافي، وهذا كتاب جديد من كتبه الشائقة، أتحفنا به تحت عنوان «علي بن زياد الطرابلسي ودوره في نشر المذهب المالكي في القرن الثاني الهجري»، صدر عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس الغرب سنة 2010.
بهدوء العالِم وتواضعه، يذكر المؤلف في تقديمه سبب تأليف هذا الكتاب، فيقول: «ما رأيته من هذا التقصير الملحوظ في التعريف بعَلم رائد من أعلام طرابلس الغرب علي بن زياد، والتفريط الظاهر في حقه من طلابه ومعاصريه، وأيضاً من الباحثين الفضلاء الذين جاءوا بعدهم إلى عصرنا هذا».
يُعرِّف المؤلف بداية بشكل مختصر بالمترجَم، وينبه في اعتزاز إلى أن علي بن زياد هو من أكبر العلماء الذين تفخر بلادنا بإنجابهم، وتُباهي بدورهم في نشر الدين الإسلامي الحنيف، فهو من أوائل طلاب العلم من الغرب الإسلامي الذين ارتحلوا إلى المشرق لطلب العلم على يد كبار الأعلام، من أمثال الإمام مالك بن أنس، والإمام سفيان الثوري وسواهما، وعمل بعد ذلك على نشر المذهب المالكي في بلاد الغرب الإسلامي، وكان أول من أدخل موطأ مالك إلى تلك البقاع.
ورغم مكانة علي بن زياد الشامخة، ودوره المشهود في بلاد الغرب الإسلامي، فإنه لم يحظَ بمن يترجم له ترجمة وافية شاملة في القديم أو الحديث، ما خلا كتاب يتيم مفقود أشار إليه المؤلف من تصنيف أبي بكر التجيبي، وعلى غير ذلك لا نكاد نعثر إلا على تراجم مختصرة، لا تسعف الباحث في الكشف عن بواطن هذه الشخصية العلمية المرموقة.
الحياة الفكرية في طرابلس الإسلامية
يقدِّم المؤلف نبذة تاريخية عن مدينة طرابلس، مسقط رأس علي بن زياد، فيقول: وإن لفظ طرابلس يعني في التاريخ الإسلامي قصبة مدينة طرابلس الغرب عاصمة ليبيا، أما قبل الغزو الإيطالي سنة 1911، فقد اتسع مفهوم الاسم ليشمل عموم ليبيا.
وكان المؤرخون والجغرافيون المسلمون يميزون اسم طرابلس في الرسم والكتابة، بزيادة ألف فارقة (اطرابلس) تمييزاً لها عن شقيقتها في المشرق العربي، وتمكن جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص سنة 22 هـ / 642 م من فتحها، وقد وُلد علي بن زياد في هذه المدينة على الراجح في العقد الأول من القرن الثاني الهجري، وعاصر في حياته دولتين من دول الإسلام، الأولى كانت الدولة الأموية، وبعد أفولها قامت الدولة العباسية.
ولم تكن الحياة الفكرية في طرابلس الغرب أثناء القرن الثاني الهجري خاملة بأي حال من الأحوال، بل كانت تموج بالحياة وتنبض بالنشاط، فقد أرسل الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز عشرة علماء ليُفقِّهوا الناس في الدين، فأقاموا في طرابلس مدة من الزمن نشروا فيها المعارف والعلوم بين الناس، وكان لهم أثر كبير من بعدهم.
ومما يؤسف له أن المراجع والمصادر لم تحفظ لنا ملامح الحركة الفكرية التي كانت في طرابلس أثناء القرن الأول والثاني للهجرة، مثلما نجده في باقي الأمصار كتونس ومصر وسواهما، إلا أن ذلك لا يطمس الحقيقة الساطعة من أن طرابلس كانت موطناً للكثير من الأعلام الكبار الذين نفاخر بهم، ومنهم من ارتحل في طلب العلم لتوثيق سنده العلمي بأعلام أصحاب المذاهب الفقهية الإسلامية، فقد رحل الفقيه الإباضي أبو درار إسماعيل بن درار من بلدة غدامس ضمن وفد علمي إلى مدينة البصرة في القرن الثاني الهجري، وتوجَّه أيضاً عالمٌ آخر معاصر لعلي بن زياد هو الفقيه محمد بن معاوية الطرابلسي لأخذ العلم عن الإمام مالك، وكان من رواة الموطأ، وقد ضاع موطأه هو الآخر مع الأسف.
علي بـن زيـاد
هو علي بن زياد، وكنيته أبو الحسن، وُلد في العقد الأول من القرن الثاني الهجري في مدينة طرابلس الغرب، وقد استهجن الكاتب بعض المحاولات المستميتة من عديد من المؤرخين والباحثين لنسبة ابن زياد إلى تونس، وذلك لهجرته إليها ووفاته فيها، ويوثِّق المؤلف أن أول من ادعى ذلك كان أبو العرب أحمد بن تميم القيرواني التونسي المتوفى سنة 333هـ / 944م، حيث قال في التعريف به «أبو الحسن علي بن زياد من أهل تونس»! وقد حذا حذوه من جاء بعده من مؤرخين بهذه النسبة الخاطئة إلى تونس، ونسوا طرابلس الغرب مسقط رأسه الحقيقي، في حين نسبه بعض المؤرخين المنصفين إلى بلده الأصلي طرابلس، مثل القاضي عياض في كتابه «ترتيب المدارك» فقال: «ولد بطرابلس، ثم انتقل إلى تونس فسكنها».
حياته في طرابلس
تعُود جذور أسرة علي بن زياد إلى أصل فارسي، جاء جده ضمن الجيش الإسلامي الذي فتح طرابلس، وتَعَلَّم على مشايخها القرآن الكريم والفقه والتفسير وسواها من العلوم، ولم يرحل إلى تونس في طفولته المبكرة كما ادّعى البعض, بل كان تعليمه الأول في بلده، ومما يؤيد ذلك بقاء أسرته في طرابلس إلى القرن الثامن الهجري، عندما زار الرحالة التونسي أبو محمد التجاني المدينة، وذكر شاعراً اسمه أحمد بن يحيى، وقال إنه من أسرة ابن أخي علي بن زياد، ويرجح المؤلف أن رحيل الفقيه ابن زياد إلى تونس ربما كان بعد أن بلغ من العمر عشرين عاماً أو أكثر, وهي السن التي تُمكنه من الاعتماد على نفسه وتحمُّل مشاق السفر، عندها نزل تونس وأخذ العلم عن مشايخها وعلمائها، ثم عاد مرة أخرى إلى طرابلس سنة 129 هـ تقريباً.
رحلته إلى المشرق
بعد عودته من تونس، بقي علي بن زياد مدة من الزمن في طرابلس، ثم قرر أداء فريضة الحج وإكمال تعليمه على يد كبار علماء المشرق، فنزل أولاً بمصر, وأخذ عن الليث بن سعد وابن لهيعة، وكلنا يعلم علو منزلة هذين العلمين آنذاك في مصر والعالم الإسلامي, ولم يحدد المؤلف المدة التي قضاها مترجَمنا في مصر لطلب العلم، ثم توجه بعدها إلى أرض الحجاز لأداء مناسك الحج ومقابلة العلماء والفقهاء والأخذ عنهم، فقد عُرف عن فقهاء الغرب الإسلامي أنهم كانوا السباقين في الاتصال بعلماء المدينة المنورة وإمامها مالك بن أنس، وفي المدينة المنورة كان علي بن زياد من أصحاب الإمام مالك ومن الطبقة الأولى من حاملي العلم عنه.
أخذ علي بن زياد عن شيخه الإمام مالك أصول مذهبه وعلم الحديث والفقه، كما ذكر المؤلف أن ابن زياد أخذ عن شيخه أيضاً رواية القرآن الكريم التي كانت سائدة آنذاك في المدينة المنورة، والتي تُعرف اليوم برواية ورش، فالإمام مالك أخذها عن الشيخ نافع، كما أخذها أيضاً الإمام ورش الذي كــان معاصراً له عن نافع، وقــام بنشرها في بلاد الغرب الإسلامي بعد عودته، لا سيما وطنه طرابلس ودار هجرته تونس، ومازالت هذه الرواية شائعة في تلك المنطقة إلى يومنا هذا، ولكن كثيرين نسوا دور علي بن زياد في ذلك، بعدها قصد ابن زياد العراق الذي كان موطن العلماء والفقهاء، وتتلمذ هناك على الإمام سفيان الثوري إمام المدرسة المالكية في العراق, ويُعد ابن زياد أيضاً أول من أدخل علم سفيان الثوري إلى الغرب الإسلامي أيضاً.
هجرته إلى تونس ونشاطه فيها
بعد أن أمضى علي بن زياد مدة طويلة لم يحددها المؤلف في المشرق العربي، عاد إلى بلده طرابلس الغرب، يحمل بين جنبيه علماً غزيراً ليفيد به أبناء بلده بما فتح الله عليه، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فقد اجتمعت الظروف السيئة التي كانت تمر بها البلاد ضد رغبة ابن زياد في الاستقرار والتعليم في طرابلس، فثورة البربر كانت قد امتدت ذيولها إلى هناك, وظَهر المذهب الإباضي بقوة مما ضيق على غيره من المذاهب الفقهية الأخرى، كل ذلك أجبر ابن زياد على الهجرة إلى تونس لتكون دار مقامه إلى وفاته.
توجَّه ابن زياد إلى مدينة القيروان أولاً، حيث كانت منارة للعلم، وبدأ يُعلم في مساجدها العريقة، ثم انتقل ليستقر في مدينة تونس في زمن لم يحدده المؤلف بدقة، وتفرغ لنشر العلم في مساجدها مثل مسجد الزيتونة، ومما يُذكر هنا أن علي بن زياد كان من أوائل العلماء الذين نهضوا للتدريس والإقراء في هذا المسجد العريق، فكثر حوله التلاميذ وطلاب العلم، وكان له الفضل في تأسيس المدرسة التونسية في الفقه المالكي، ولا ريب في ذلك، فهو يعد أول من أدخل موطأ الإمام مالك وكتاب «الجامع» لسفيان الثوري إلى الغرب الإسلامي، ويَذكر المؤلف من بين أبرز تلاميذ ابن زياد في جامع الزيتونة أسد بن الفرات والبهلول بن راشد وسحنون بن سعيد وسواهم.
عاش مترجمنا في مهجره التونسي حياة زهد وتقشف، بعيداً عن الحكام والأمراء، ورفض منصب القضاء بعد أن عُرض عليه، وآثر مهنة التدريس والتعليم، وعمل على تصنيف وتبويب كتاب «الموطأ» المنسوب إليه كما سمعه من الإمام مالك, وقام أيضاً بتدريس كتاب «الجامع» للإمام سفيان الثوري، وألَّف كتاباً سماه «خير من زنته».
لقد صمتت في ما يبدو - كما يقول المؤلف - المراجع والمصادر عن التطرق إلى الحياة الاجتماعية لهذه الشخصية العلمية الفذة، فلم يفصح أحد عن ظروفه، هل كان قد تزوج في طرابلس أو تونس؟ أم أنه مات عَزباً؟ وهل خلّف بعد وفاته أولاداً وأحفاداً؟ وما مصيرهم؟ وفي أواخر حياته عاشت تونس وطرابلس الغرب فترة قلقة أثناء نهاية الدولة العباسية وشهدتا ظروفاً عصيبة، اضطرب فيها حبل الأمن، وكثر فيها الولاة، إلى أن انهار حكم العباسيين وقامت الدولة الأغلبية سنة 184 هـ، بعد وفاته بعام واحد فقط.
شخصيته
كان - رحمه الله - ورعاً زاهداً في السلطة والمناصب، ومن القصص التي أوردها المؤلف وتفصح عن مدى ورعه وزهده أن أمير إفريقية (تونس) روْح بن حاتم بعث في طلب علي بن زياد ليوليه القضاء، فقدِم عليه، وبعد فترة خرج من عند الأمير وجبينه يتفصَّد عرقاً، فسأله أصحابه ماذا حصل؟ فأجابهم بأنه عزم على ألا يبيت ليلته هناك حتى لا يطلبه الأمير ثانيةً، وانطلق ابن زياد على حماره وحده تلك الليلة لا يلوي على شيء. وقد أثنى على علمه وزهده عديد من العلماء، قدماء ومحدثين، مثل الإمام شمس الدين الذهبي، الذي قال فيه: «كان إماماً ثقة متعبداً، بارعاً في العلم» وقال البلخي: «لم يكن في عصر علي ابن زياد أفقه منه ولا أورع» ولهذا حُق له أن يكون العمدة والمرجع في بلاد الغرب الإسلامي إبان القرن الثاني الهجري، حتى قيل إن أهل القيروان، وهي منارة من منارات العلم وقتذاك، كانوا إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى علي بن زياد ليقطع لهم في الأمر, ولذلك استحق عن جدارة لقب شيخ المغرب كما ينعته البعض.
دوره في نشر المذهب المالكي
خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لدور علي بن زياد في تأصيل المذهب المالكي ونشره، ويقصد بالتأصيل هنا أخذه الموطأ عن الإمام مالك، كما سمع منه فتاويه وأقواله، وعاد برواية الموطأ مكتوباً وعمل على نشره في موطنه طرابلس الغرب، ثم في مهجره تونس، فنُسب إليه وعُرف بموطأ ابن زياد، ويفيدنا المؤلف أن موطأ ابن زياد قد ضاع ولم تبق منه إلا قطعة واحدة محفوظة في مكتبة القيروان، وقد عمل على تحقيقها ونشرها العلامة محمد الشاذلي النيفر، رحمه الله، تحت عنوان «قطعة من موطأ ابن زياد» وتعد هذه القطعة النفيسة من موطأ ابن زياد أعتق كتاب وصلنا من تراث القيروان، وهو بذلك يكون أقدم مخطوط ليبي موجود بمكتبات تونس.
تـلاميذه
بهذا المستوى الراقي من البحث العلمي والتقصي يتابع الدكتور جبران الحديث عن تلاميذ ابن زياد، فمن بين إحدى السبل التي انتهجها هذا الإمام في تأصيل المذهب المالكي ونشره في بلاد الغرب الإسلامي، عمله على تنشئة وصقل كوكبة من صفوة الطلاب النجباء الذين أخذوا عنه العلم ونقلوا عنه رواياته وفتاويه، ومن أشهر هؤلاء الطلاب يذكر مؤلف الكتاب أسد بن الفرات الذي أصبح أحد الفقهاء البارزين، صاحب كتاب «الأسدية» في الفقه المالكي، وهو من فتح جزيرة صقلية بتكليف من الأمير زيــادة الله بن الأغلب سنة 212 هـ 827 م، والبهلول بن راشد الذي كان من أكبر فقهاء القيروان، ويعد من أوائل تلاميذ ابن زياد، وعُرف البهلول أيضاً بالزهد والتقوى.
ويذكر المؤلف أيضاً من بين تلاميذ علي بن زياد الفقيه التونسي المشهور سحنون بن سعيد، الفقيه القاضي، وهو من أعظم الفقهاء المالكية في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ولد بمدينة القيروان سنة 116 هـ، وهو مؤلف كتاب «المدونة» المرجع الأخير للفقه المالكي، أو كما وصفه البعض بأنه أهم كتاب في الفقه المالكي بعد الموطأ، وكان سحنون شديد الفخر بمعلمه ابن زياد ويُكثر من الثناء عليه، وذكر المؤلف عديداً من تلاميذ ابن زياد الذين أخذوا عنه العلم والفقه وحملوا مشعل التعليم من بعده وعملوا على نشر المذهب المالكي في ربوع الغرب الإسلامي، وتثبيت أركانه لحفظ المنطقة من مذاهب الزيغ والضلال.
هذا باختصار أهم ما ورد في هذا الكتاب الشائق من محاور وموضوعات، وحسب المؤلف في كتابه هذا أنه صحح خطأً وقع فيه معظم من ترجم لعلي بن زياد الطرابلسي من متأخرين ومتقدمين، من أنه تونسي الأرومة، فجاء الدكتور جبران ببراعته المعروفة في البحث العلمي والتقصي فساق البراهين العديدة على أنه طرابلسي المولد والمنشأ، وأعاد بذلك الحق إلى نصابه ■