إمارة سامي الشوّا الكمانيّة العربية

إمارة سامي الشوّا الكمانيّة العربية

اتسم عام 2015 في الأوساط الأكاديمية الموسيقية العربية بالاحتفال بـ«خمسينية سامي الشوا (1885-1965)» أمير الكمان ورائد النهضة العربية في الموسيقى العزفية المشرقية. وتخلل هذه الخمسينية تنظيم منتديين علميين موسيقيين ومسابقة سامي الشوا الدولية في ارتجال التقاسيم وحفلات موسيقية عدة، وإصدار مصنفات صوتية ومكتوبة عن سامي الشوا، وذلك من تنظيم الجامعة الأنطونية (لبنان)، بالتعاون مع المجمع العربي للموسيقى (التابع لجامعة الدول العربية) ومؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية وجامعة الروح القدس (لبنان) وبيت الموسيقى (التابع للنجدة الشعبية - لبنان). وحقاً يشكل سامي الشوا علامة فارقة في نمو الفن الموسيقي العزفي العربي التقليدي الإبداعي، في مطلع القرن العشرين، على أساس منهاج التجدد المتأصل، بقدر ما هو أيضاً أهم عازف عربي على آلة الكمان في القرن العشرين.

 

ليست صفة «أمير الكمان» مجرد لقب لفظي يكرم به سامي الشوا (1885-1965) من باب الإطراء، بل إنها تكتنز في باطنها دلالات عميقة جديرة بالتمحيص، تشكل مفتاحاً لفهم إرث ذلك الموسيقي العربي الكبير، ولتحديد الدور المحوري الذي اضطلع به في المسار الموسيقي للنهضة العربية. أما الدلالة الأولى لتلك الإمارة الكمانية، فهي تتمظهر في وجود سلالة شريفة حقيقية في المجال المذكور، إذ ترقى أصول الشوا الكمانية إلى حلب أواسط القرن الثامن عشر. آنذاك طوع عم جده أنطون الشوا آلة «الكمان الرومي» (الڤيولون)، وأدمجها في التقليد الموسيقي الحلبي. كذلك في عام 1867، أدخل أبوه أنطون الشوا الكمان الرومي المعرب إلى بلاط الخديو إسماعيل، وجعله في تخت التقليد الموسيقي المصري بدلاً من الرباب، وذلك في خضم الحركة التجددية النهضوية التي كان يقودها عبده الحمولي (1843-1901). وأنطون الشوا هو الكماني المرموق عينه الذي اجتهد في سبيل المزاوجة بين التقليدَين الموسيقيين الحلبي والمصري، وذلك انطلاقاً من حسه القومي العربي الذي أورثه إلى ابنه سامي، والذي تلخصه هذه الجملة الواردة في مذكرات الابن: «الوحدة في المشاعر بين العرب موجودة... وما أنا إلا معبر عنها بالموسيقى».
كذلك الأمر، عندما سأل الزعيم السياسي المصري مصطفى كامل، سامي الشوا، في مطلع شبابه إن كان يرى نفسه من الدخلاء (كونه شاميا يقيم في مصر)، أجابه في حدة: «لا يا باشا... لسنا من الدخلاء. ما نحن إلا فنانين عرب نكافح بموسيقانا من أجل رفعة العرب!». ويتبدى العنفوان عينه في مقولة أنطون الشوا مثنياً ابنه عن دراسة الكمان الغربي: «نحن عرب والموسيقى الإفرنجية لا تمثل حياتنا أو بيئتنا». كما نجد مصاديق ذلك الإباء عند الابن في تأكيده على الندية بين العازف والمطرب: «كنت أرتفع بصوت الكمان لأعبر بالنغم عن معاني الكلمات التي كان يغنيها الشيخ يوسف (المنيلاوي)». وينضوي في السياق عينه قيام ذلك الكماني المرموق بعزف أدوار شهيرة مثل «كادني الهوى» و«سلمت روحك» وتسجيلها. وبالفعل، فإن الكمان في تلك التسجيلات «يغني» حقاً، مرتجلاً فقرات «الهنك» التجاوبية من الأدوار، على نسق الشيخ يوسف المنيلاوي وعبدالحي حلمي، وعلى القدر عينه من الجودة، ما يشكل تجربة ملحوظة لم يتجرأ أحد من أترابه على خوضها من قبل. وقد وصلت به حمية العزفية تلك إلى حد تسجيل أغانٍ تقليدية (مثل رقص الفرفورة) يكرر فيها بعض المطربين مذهبها لمصاحبة ارتجالات أميرنا الكماني، وهو هكذا يفرض عرفاً تراتبياً متأصلاً في جوهر الموسيقى، يرجح الكفاءة الإبداعية على حساب الامتيازات الحنجرية.
وقد عاش سامي الشوا منذ نعومة أظفاره تلك الوحدة المبدئية القائمة عند العرب في ما بينهم، مسيحيين ومسلمين، شواماً ومصريين، مطربين وعازفين. وهو ما جعله، وعوضاً عن أن يواكب أباه خطواته الأولى في تعلم العزف على الكمان، يبدأ في سنته السابعة يتدرب وحده، وقد بدأ ذلك من خلال ترديده عزفاً على الكمان للأذان الذي كان يلقيه شيخ من على مئذنة مسجد الحي. وأما هذا الاستهواء الذي عاشه ذلك الطفل المسيحي حيال نغم التلاوة المرنمة التجويدية الإسلامية، المفعم في ملئه الترنمي اللحني لمقاطع الكلام، فهو لم يفارق أمير الكمان على مدى الحياة. بل نجد أثره يبدأ مع تسجيل سامي الشوا للأذان عزفاً على الكمان، ولا ينتهي مع تسجيل قصيدة «يا نسيم الصبا» المرسلة، الذي جمع بين إمام المنشدين المسلمين، الشيخ علي محمود، وبينه، بصفته إمام العازفين العرب. وفي هذا التسجيل، يرد الشوا على كل جملة يرنمها الشيخ (من دون أي مصاحبة عزفية)، وذلك من خلال بلورته على الفور لترجمة عزفية لها، تشكل صدى للحن تم تجريده من الكلام.

دور ريادي
وفي الواقع، اضطلع سامي الشوا بدور ريادي في نمو الموسيقى العزفية العربية بشكل مستقل عن الغناء. وقد أخذ هذا النمو شكل ترجمة عزفية لصدى نهضة التقليد الغنائي المشرقي، وذلك من ضمن تيار النهضة الثقافية العربية الذاتية (من داخل المنظومة التقليدية)، الذي نشأ رداً على متطلبات العصر. وكما صنع عبده الحمولي في حقل الغناء، كذلك فعل سامي الشوا في حقل العزف، فعمل على تنشيط اللسان المقامي القديم المشترك للشرق الموسيقي. وقد أخذت تلك الحركة الإصلاحية شكل التلفيق بين أربع لهجات مشتقة عن ذلك اللسان المقامي، وهي: التقليد الغنائي الحلبي للموشح وللقصيدة المرسلة، والتقليد العربي المشترك للإنشاد الديني الإسلامي، توشيحاً وترنيماً للقصيدة الصوفية، والتقليد الغنائي الشعبي المصري للدور والموال في صيغهما البدائية التكرارية، والتقليد الموسيقي العثماني في شكليه العزفيين البشرف والسماعي.
ولا يعني مصطلح الموشح في هذا السياق القالب الأدبي الأندلسي المعروف، لكنه يدل على قالب غنائي نشأ في حلب خلال القرن السابع عشر، وهو غناء ملحن وموقع دورياً مبني على أبيات شعرية وعلى الشكل الموسيقي أ أ ب أ (دور أول ودور ثان، خانة، قفلة).
أما أسلوب تلك الفقرات، فينضوي تحت مثلث جمالي للأنساق الموسيقية يحيل إلى شعائرية دينية شبيهة بتلك التي نظر لها فريدريش نيتشه في ولادة التراجيديا (1872)، مبيناً مفاعيل قوتين أساسيتين في تكوين الفنون في الحضارة الإغريقية، هما القوة الأپولونية (نسبة إلى أپولون)، والقوة الذيونيسية (نسبة إلى باخوس/ذيونيسوس).  ويمكن وصف النسق الأول بالإبراهيمي والتجويدي، فجوهره تبليغي مستمد من أديان الكتب السماوية، ما يجعله يُخضع الإيقاع الموسيقي لوزن الكلام التجويدي. أما النسق الثاني، فهو ذيونيسي الهوى، يتمحور على المجاوبة، أي التداول بين لازمة جماعية وفقرات فردية، في تركيز شديد على النغم والإيقاع المبني على ميزان الحركة الطقسية و/أو الراقصة. وفي الحالات القصوى، يؤول سماع تلك المجاوبة إلى دخول السامع في حال من النشوة الجماعية التشاركية، كما في الأسرار التدربية القديمة، المقترنة برمزية زراعية (دورة الحياة والموت والقيامة)، وفي امتداداتها المتأخرة، ما يجعل هذا النسق يتصف بالسراني. أما النسق الثالث، فهو أپولوني الوجهة (ذات الرمزية الرعوية). وهو يتمحور على النشيد ذي اللحن المتردد من بيت (أو جمع من الأبيات) إلى آخر، فيجعل شيئاً من التوازن بين الكلام الشعري والحركة والنغم.

أمير الكمان
ولتلك الأنساق دور أساسي في تحديد ملامح الوصلة، أي الشكل العام للحفلة الموسيقية في مدرسة النهضة المشرقية العربية. وفي الواقع، تتولد الوصلة من أحد المقامات السبع الأساسية في التقليد المذكور (أي أمهات المقامات: الراست والبياتي والسيكاه والحجاز والصبا والجهاركاه/البلدي والعشاق/البوسليك). وهي تتنامى على ثلاثة أطوار أو مراحل متوالية، يقترن كل طور منها بأحد الأنساق الجمالية الموسيقية المذكورة آنفاً، متبعين المسار الجدلي المعهود: الطرح/نقض الطرح/المحصلة. ويختص الطور الأول (الطرح) بالمقدمات الملحنة الثابتة على موازين دورية، العزفية (دولاب، استهلال، بشرف، سماعي)، والغنائية (موشح)، وهو يقترن بالنسق الأپولوني الإنشادي.
أما الطور الثاني (نقض الطرح)، فيقترن بالنسق الإبراهيمي، وهو يتماهى مع التلاوة المرنمة لموال (نظم زجلي) أو لقصيدة مرسلة. وفي مطلع عصر التسجيلات الصوتية، تنامى شكل التقسيم العزفي العربي المستقل انطلاقاً من الاستهلال التقسيمي للموال أو للقصيدة ومن الترجمة العزفية للتلاوة المرنمة. وهو يتبع لحنياً «سير» المقام، أي مجرى عمله، في حين يعكس إيقاعه وزن ألفاظ لسان الضاد، وذلك عملاً بمفاعيل التجويد اللفظي. لكن النسق السراني يتدخل في تشكيل الجمل التقسيمية من خلال ملء مقاطع الكلام المرنم بالنغمات العديدة في ما يسمى بالترنم. وبالتالي، فإن التقسيم عند سامي الشوا يتماهى مع تجويد ترنمي يقوم به العازف على أساس نص افتراضي محجوب يجري فيه أمير الكمان تأويلاً موسيقياً. ويتجلى هذا النص السري من خلال نطق النغمات بالقوس، وكأنما اليد اليسرى تُظهر حروف علة ذلك النص وحركاته، في حين يتولى القوس لفظ حروف الهجاء، حتى ولو أخذ القوس أحياناً بحجبها مبحوحاً، أو أخذت اليد اليسرى بتهجئة الكلام من دون الاستعانة باليد اليمنى، عملاً بتقنية البصم المستعارة من طرائق العزف على العود.
وما يُلفت النظر أن أمير الكمان، بالإضافة إلى إبداعه في التقاسيم المُرسلة، أي غير الموقعة دورياً، أجاد إلى أبعد حد في ارتجاله التقاسيم الموقعة دورياً. ويتميز هذا النوع من التقاسيم بأنه يعتمد على «مزَن» (ميزان) هو كناية عن حركة لحنية موجزة مبنية على الضرب الإيقاعي المعتمَد، إذ يعزف أعضاء التخت هذا «المزَن» تكراراً بالتزامن مع ارتجال الجُمَل التقسيمية. وتُبين هذه اللازمة الصغرى المتكررة نغمة القرار في سياق الميزان القرعي، وهو عادة ضرب «البمب» وأحياناً ضرب الأقصاق (ذو الميزان الأعرج). ومن خلال استخدام تلك الوحدات اللحنية الموقعة المتكررة، يضع هذا القالب العزفي نفسه تحت سلطان النسق الجمالي السراني. وبالفعل، فإن هذا التزامن بين ترداد المزَن من التخت وارتجال التقسيم من العازف المفرد يُشبه وضعية حلقة الذكر الصوفي، التي يتزامن فيها توقيع الذكر الإلهي مكرراً من الجماعة مع الترنيم المرتجَل للقصيدة من شيخ الحلقة. وتشكل البنية المقامية الأساسية للمزَن وبنيتها الإيقاعية القاعدة التوليدية الخلفية التي ينطلق منها «شيخ التخت الكماني» لتركيب نصه الموسيقي المرتجَل. وهو ما يصنعه في خاتمة الفقرات التجاوبية الغنائية من طور الوصلة الثالث، من صنفَي الدور والقصيدة على الوحدة، أي إنه - من خلال قفله التقسيمي على البمب - يطبع ختمه السراني على تسجيلات المطربين.
كذلك يشكل هذا الختم القاعدة التوليدية الخلفية لمجمل الفقرات العزفية المبنية على المخطط التجاوبي. وهي حال التحميلة والتقسيم/الرقص، وهما الشكلان من الارتجال الحواري اللذان ابتكرهما و/أو نماهما سامي الشوا من خلال تحويله فقرات من التراث الموسيقي الريفي المصري والشامي إلى لازمات ومزنات الارتجال العزفي المتقَن، وقد أوجد على هذا الأساس إرثه الخاص. ويتنامى هذا الأثر البلدي في عمل أميرنا المشرقي إلى حد أنه في تسجيلات متعددة يتولى دور عازف المزمار في الثقافات الريفية الزراعية القديمة. وهو يذهب إلى تغيير وضعية أوتار كمانه للاقتداء بصوت المزمار والمجوز، وذلك إحياء لمزمار آسيا الصغرى القديمة. هكذا، وخلف صفة أمير القوس، يتلألأ دور شيخ الطريقة، وبالفعل، فإن التوق إلى التكاثر النغمي غير المتناهي في الملء الترنمي لنبضات التجويد العزفي الصوتية يوافق مفهوم التمدد الروحاني، وهو مصداق للانشداد الوجودي للإنسان نحو الله. وهكذا ينضوي الرقص الملائكي عند سامي الشوا، تحت راية تلك الجمالية. وكأنما الترنمات التي تؤتي بها يد الكماني اليُسرى، حينما ترمي بنفسها في هاوية نبضات القوس، ترتقي سلم المقامات والأحوال نحو اللانهاية، لكن من غير وصول ■