حقيقة قضية هاري كيبر
بعد سنوات من هيمنة الرواية الذهنية والنفسية تعود رواية «حقيقة قضية هاري كيبر»، لتثبت من جديد أن الرواية البوليسية ذات مذاق نادر وأخّاذ لا يضاهيها فيه نوع آخر وخاصة إذا كانت مكتوبة بعناية ودقة، وأنها في هذه الحالة قادرة على العودة إلى اعتلاء عرش السوق الأدبي.
حققت الرواية نجاحاً منقطع النظير على المستويين النقدي والتجاري حال ظهورها، فهي لم تتوقف عند تصدر قوائم البست سيللر بل نالت أرفع جائزتين في فرنسا، وهما جونكور وجائزة الأكاديمية الفرنسية.
كاتب الرواية هو جويل ديكر، شاب سويسري يكتب بالفرنسية، ولد في جنيف في عام 1985 وأسس مجلة تهتم بالطبيعة وهو في عمر العاشرة، ثم نال جائزة أفضل رئيس تحرير للمرة الأولى وهو في عمر الثامنة عشرة. كتب روايته الأولى «الأيام الأخيرة لأبانا» في عام 2010 والتي حققت نجاحاً متوسطاً ونال عنها جائزة في سويسرا هي جائزة كتّاب جنيف. ولفتت الأنظار إليه ككاتب واعد يبزغ في الأفق الأدبي، ولكن لم يتوقع أحد أن يقفز جويل ديكر درجات السلم بهذه السرعة ليصل إلى قمته مع روايته الثانية.
نادراً ما يحدث ولكنه قد يحدث مع ذلك! فمهما كانت نوعية القارئ أو مرحلته العمرية لا يمكن إلا أن يلاحظ جرعة التدفق المنسابة بين صفحات الرواية وسطورها، وكأن روح الكاتب الشابة تطغى على عدد الصفحات الضخم الذي قد يبني تصوراً مسبقاً ببعض المط أو التطويل في الأحداث، إلا أنه مع بعض التقدم في صفحات الرواية نتأكد من خطأ الحكم المسبق. كذلك لا نستطيع القول إن كون الرواية بوليسية قد حد من عمق الأحداث والتفاصيل، بل على العكس يغوص ديكر في أغوار نفوس شخوصه وأبطاله بسلاسة وحنكة مستخرجاً جواهر التناقضات الإنسانية، التي قد تدفع بكاتب مشهور وأستاذ جامعي محترم من زملائه وطلابه إلى السقوط في موقف قدري يقلب حياته رأساً على عقب.
تبدأ الرواية ببلاغ عن اختفاء نولا كيلرجان ذات الخمسة عشر عاماً في نهاية شهر أغسطس من عام 1975 بشكل غامض في مدينة أورورا بولاية نيو هامبشاير. رأت سيدة عجوز الفتاة وهي تدخل إلى الغابة المحيطة بالمدينة ويتبعها رجل لم تتبين ملامحه ثم ماتت تلك السيدة بعد أن أبلغت عما رأته بخمس عشرة دقيقة، ثم قيدت القضية ضد مجهول لضعف الأدلة.
تنتقل أحداث الرواية إلى عام 2008 في مدينة نيويورك، حيث ماركوس جولدمان الكاتب الشاب الذي عرفت روايته الأولى نجاحاً كبيراً، لكنه نجاح زائل مع ذلك! إذ يطالبه الناشر برواية جديدة ويهدده بملاحقة قضائية إذا لم يسلم الكتاب الجديد في الموعد المحدد. يعاني ماركوس من توقف الإلهام وعدم القدرة على الكتابة، فيذهب إلى نيو هامبشاير، بحثاً عن جو ملائم للكتابة، عند صديقه القديم وأستاذه في الجامعة هاري كيبر، وهو كاتب هو الآخر، وأشهر مؤلفاته كتاب «أصول الشر» الذي لاقى نجاحاً كبيراً وكان قد كتبه في أورورا. لم يستطع ماركوس الكتابة هناك مع ذلك وعاد إلى نيويورك بصفحات بيضاء. بعد عودته ببضعة أيام يتلقى مكالمة تليفونية تقلب حياته؛ تم القبض على هاري كيبر بعد أن عثر البوليس على جثة نولا كيلرجان في حديقة منزله ومعها مخطوطة روايته «أصول الشر» التي حققت أعلى المبيعات. وبدافع من قناعته ببراءة صديقه يعود ماركوس إلى المدينة الصغيرة ليبحث في ما حدث منذ ثلاثة وثلاثين عاماً على أرض تلك المدينة الهادئة التي قد تكون مثيرة أكثر مما نظن بها.
رواية بوليسية بلا شك ولكنها رواية نفسية أيضاً تعكس الانتكاسات اللاهثة والمرحة في آن، ورواية أخلاقية تتعرض جيداً لحقيقة الواقع الحالي لعمق المجتمع الأمريكي الذي يتخفّى جيداً ويتطور بشكل محيّر وراء القناع الذي يرسمه ماكييرات الطليعة الأمريكية.
رواية شيّقة مليئة بالأحداث والتشويق والدعابة والتأمل، فبالتوازي مع الحبكة تضم الرواية إحدى وثلاثين نصيحة لكتابة رواية من هاري كيبر للكاتب الشاب ماركوس وكيف يرى الكاتب منتجه الأدبي، يقول كيبر في إحدى نصائحه: «إن الكلمات ملك لكل الناس، حتى اللحظة التي تثبت فيها أنك امتلكتها، حينها يمكن أن تُعرف بالكاتب، وقد يحاول البعض إقناعك بأن الكتاب هو علاقة مع الكلمات، ولكن ذلك خطأ! فهو علاقة بالناس». تسير الأحداث بين رواية ما يجري في اللحظة الراهنة واستدعاء أحداث ماضية، سواء على مستوى جريمة القتل وعلاقة المتهم بالقتل بالمجني عليها، أو على مستوى رعاية هاري كيبر لتلميذه ماركوس.
وجّهت للكاتب انتقادات كثيرة في فرنسا وسويسرا، متعلقة باختيار الولايات المتحدة الأمريكية كمسرح لأحداث الرواية، حتى إن بعض النقاد ذهبوا لقول إنهم شعروا بأنهم يقرأون ترجمة فرنسية لرواية أمريكية. ورداً على ذلك علق الكاتب: «لم أكتب رواية أمريكية ولكنني اخترت ديكور المجتمع الأمريكي لأحداث روايتي. وإذا كنت قد اخترت أن تدور أحداث الرواية في الهند مثلاً، ألم يكن ليقول النقاد: كم هو شيق هذا الانفتاح على العالم البعيد! ولكن حين يتعلق الأمر بأمريكا يصبح مريباً... لم أستطع بسهولة اختيار مسرح آخر لأحداث روايتي، فبهذا الاختيار أضع مسافة 6000 كيلومتر بيني وبين روايتي».
لم يرغب ديكر في كتابة روايته على طريقة المستشرقين بالنسبة لنا أو على طريقة «السائح»، وهو ما دفعه لغزل نسيج شخصياته بهذه الدرجة من «الأمركة» واستعراض طبيعة المجتمع الأمريكي والعلاقات بين أفراده، وهو ما لم يكن صعباً بالنسبة له، فقد حظي بفرصة قضاء إجازات الأسرة على الشواطئ الأمريكية منذ طفولته. ولكنه يكون في قمة سعادته حين يعلن أن روايته هي رواية «تَعَلّم» في المقام الأول، أو على الأقل هكذا يراها. «كنت متردداً حتى اللحظة الأخيرة في ما إذا كنت أضيف نصائح الكتابة لهاري كيبر أم لا. وكنت أخشى من أن يقول لي أحدهم: تعلم من أنت؟ ولكن كان لابد من الذهاب لأبعد مدى في شخصية الكاتب الستّيني؛ فما نسمعه في الرواية هو نصائح هاري كيبر وليس جويل ديكر. والغريب هو أن الكثير من الناس كانوا يأتون إلي، بعد قراءتهم للرواية، ويسألونني عما إذا كان باستطاعتهم إنتاج رواية جيدة إذا ما اتّبعوا نصائح هاري كيبر».
لم يحلم أبداً أن يحقق هذا النجاح الذي يقترب به من الحياة التي حلم بها ماركوس بطل روايته، وعن موضوع روايته وعلاقته بالمجتمع الأمريكي يقول الكاتب: «يتكلم كتابي عن الشهرة ولكنه ليس عرضاً لها وإنما خيال بها! وبالمناسبة فإن هناك أمرين يتعلقان بالنجاح ويثيران إعجابي في أمريكا؛ الأول هو أن نجاح الكتاب يعد علامة جيدة بالنسبة له، والأمر معكوس في فرنسا. فإذا حقق الكتاب أرقام مبيعات مرتفعة فذلك يعني أنه كتاب سيئ، وهو أمر شديد الغرابة! فما يهمني في فكرة أن كتاباً بِيع كثيراً هو أن ذلك يعني أنه قرئ من شرائح مختلفة من القرّاء. والأمر الثاني، أننا نجد في أمريكا ثقافة الإخفاق، وهي مختلفة كثيراً! فالعقلية الأمريكية الشمالية مقتنعة بأن في حقيقة الأمر لا يمكن أن ننجح من دون أن نفشل مرات عدة أولاً. وأنه إذا أخطأنا، فما من مشكلة».
وكما هي الحال مع شخصية روايته ماركوس جولدمان، فالوسط الثقافي والقراء ينتظرون بشغف رواية ديكر المقبلة وهو ما يعيه ويفطنه «لابد أن أنجح في خفض توتري الداخلي، لأنه إذا زاد فسيصبح جحيماً، وإذا فكرت فيه كثيراً فسوف أتحجّر في مكاني. الأهم في مهنة الكتابة هو الاستمتاع، ونجاح الكتاب من عدمه ليس من اختصاصي، بل يتوقف على عوامل عدة! إذن فالتحدي بالنسبة لي هو أن أبقى هادئاً ومستمتعاً بالكتابة» >