المخرج السينمائي قيس الزبيدي النقد في صورة ضوئية

المخرج السينمائي قيس الزبيدي  النقد في صورة ضوئية

شكّل قيس الزبيدي في فضاء الثقافة العربية الرصينة مصدراً مهماً في الحوار الإبداعي مع الآخر، من خلال «التأليف» و«الترجمة» و«الإخراج السينمائي»، واستكمل أدواته الاحترافية منذ ستينيات القرن الماضي، حين درس التصوير والمونتاج في ألمانيا، ولفت نظر السينمائيين هناك، ليرشحوا فيلمه عن حياة صياد على بحر البلطيق في مهرجان لايبزغ. أخرج للمؤسسة العامة للسينما في سورية، بعد مغادرته للعراق في الستينيات الأفلام:
- بعيداً عن الوطن – يازرلي (روائي طويل). 
- شهادة الأطفال الفلسطينيين زمن الحرب. 
- كابوس – ألوان (عن تجربة الرسام جبر علوان).

 

منهجية الزبيدي العلمية والإبداعية 
ربما يحيلنا كتاب «مونوغرافيات» في نظرية وتاريخ وصورة الفيلم إلى طبيعة التفكير المنهجي الذي امتاز به هذا الفنان، لأنه ينجذب إلى الدراسات التفصيلية في موضوع  واحد، قد يكون المسرح، أو السينما، أو التلفزيون، أو السرديات، وهو يفرع المناهج النقدية إلى شكلي وتاريخي وقومي وأيديولوجي... باعتبار المنهج هو الطريق الواضح لبلوغ المعرفة، أو البرهنة على الحقيقة، كما يؤطر ذلك ابن الرومي شعراً:
أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج
طريقان شتى: مستقيم وأعوج
كان منهج ديكارت يكرس قواعــده القائمة على «البداهة – التحليل – التركيب – الاستقراء» وبالتأكيد، أفاد الزبيدي من مناهج الحداثة، واللغة، والسرديات، والجماليات المعاصرة الخاصة باللغة السينمائية التجريبية العالمية.
السينما – مثلاً – ازدهرت بتوظيف «المونتاج»، لأنه يفتح آفاقاً تشكيلية لا حدود لها، وهو يفكك اللوحة، ويعيد إنتاجها. وحسب لوكاش، فإن الصورة الفوتوغرافية في السينما تعيد إنتاج الواقع، أما ميتز فرصد تحول الواقع إلى علامة ليجعل أدوين بورتر وهو مخرج أمريكي من المونتاج سرداً بصرياً في بناء قصة سينمائية عن طريق التتابع، والترتيب الزمني في فيلم «سرقة القطار الكبرى»، الذي اعتمد الأسلوب المسرحي، لالتزامه بموقع واحد، وزاوية ثابتة.
جريفث تجاوز المسرح في فيلمه الرائد «مولد أمة»، ففكرة المونــــتاج تتركــــب من جمع «لقطتين»، واللقطات عند جيل دولوز عامة كما وظـــــفها فيرتوف، وتعــــنى بصــــورة الإحســاس، أو «متوسطة» عند جريفث، تقــــدم صــــورة الفعل، أو «قريبة» عند دراير، تخص صورة العاطفة.
وصف جودار المونتاج بأنه الهمّ الجميل للسينما. إن علاقة المونتاج بـ «الميزانسين» مثل الإيقاع واللحن، فالفضاء الفني عبارة عن مكان، حركة، زمان، تنظم إيقاع الفيلم، وترتب استمراريته، وإذا كان الإخراج «نظرة»، فإن المونتاج خفقان قلب.
ابتكرت السينما تقنيات زمنية في التوازي، التزامن، التذكر، التوقع، التصور، وتمثلت قواعد السينما في تقنية اللقطة – اللقطة الكبيرة – المونتاج، يحدد بودوفكين المونتاج، بوصفه لغة يتحدث بها المخرج مخاطباً جمهوره، تمثل اللقطة، الكلمة، ومجموعة اللقطات تمثل الجملة.
يقول كريستيان ميتز: لم ترو لنا السينما قصصاً جميلة لأنها «لغة»! إنما لأنها «سردت» لنا قصصاً وحكايا، أصبحت كما اللغة في فنها الخاص. 

بنية المسلسل التلفزيوني 
يأخذنا الزبيدي في كتابه «بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني نحو درامية جديدة»  إلى ما يسمى «أوبرا الصابون»، وهو مسلسل نهاري لا نهائي، فنهايته مؤجلة، وأحداثه فوّارة تنشطها لعبة إنتاجية تجارية مربحة عالمياً، توظف من خلال وسيلة هي «حبس الأنفاس» الدرامية، لجذب المتفرج، لأن جوهر السرد يتسبب في خلق حب استطلاع جامح، كما يثبت ذلك جوته.
وقد انتبه أسامة أنور عكاشة إلى استلهام تقنية «ألف ليلة وليلة» في صياغة «شكل» المسلسل، مثل عناصر السرد الخاصة بالارتداد، التداخل، الرؤية من الخلف، الرؤية المصاحبة، المنولوج الداخلي، التغذية السردية، والأشعار... بين ضمير المتكلم، والمخاطب، والغائب.
تبدأ شهرزاد حكايتها بعبارة: بلغني، وكليلة ودمنة بـ: زعموا، والمقامة بـ: حدثنا. 
وهذه الاستهلالات تهدف إلى إثارة انتباه المتلقي.
يتكون المسلسل من سلسلة وحدات زمنية، بحلقات متتابعة منفردة لها خواصـــها وتركيبها.
تتتابع فـــي المسلســــل قصص فرعيــــة، ضمـــــن حكاية عامة (إطارية) ويعــــتمد عــــلى مجـــموعة شخصيات ثابتة، تتعرض إلى مواقف مختلفة في أماكن محددة، في زمن يومي متدفق.
اختص المسلسل الأمريكي بقواعد سردية تحركها حالات من التوتر والفضــول والمــــفاجأة.
في حين يكون هاجس المسلسل الإنجليزي التزامن الدائري والانشداد إلى المستقبل، وتبقى كل حكاية مستقلة منفردة.
إن قواعد التلفزيون باختصار هي: نظرة – كلام – منظر.

بنية السلسلة التلفزيونية
تستند «السلسلة» إلى شخصية مركزية، أو أكثر، حيث تظهر شخصيات جديدة باستمرار، بحبكات قصصية، تنتهي كل واحدة منها في حلقة واحدة في الغالب.
وهي تنتهي لتذكّرنا بالبداية، لأن مجموع قصصها منغلق، ويسير بشكل خطي.
حتى إن التلفزيون نفسه هو مسلســــل متعاقب واحد يتكون من «سلاسل» برامجية متنوعة.
هذا الجهاز يؤلف طائــــفة تلفزيــــــونية، تتــــابع برامجه اليومية وتوقــــت حتـــى ساعة النوم عليها! ويؤلف خــــيال هذا المجتمع الاتصالي الكامل علاقات ممتدة في شبكة فضائية.
تعتبر الحلقة الدرامية جــــزءاً مستقلاً من ناحية، لكنهــا مـــن ناحــــية ثانــيـــة بنية ثنائية، جزء درامي مغلق، يتزامن مع كل درامي مفتوح.
يقول فلليني إن الصورة في التلفزيون إيضاحية تابعة للكلام، وتكون في السينما تعبيرية.
أما عن الفيلم الوثائقي، فإنه يتفرّع عند بيل نيكولس إلى  شاعري، تشاركي، انعكاسي، أدائي.
تختلف بنية المسلسل عن بنية السلسلة في مستويات عدة، منها: نمط الحكاية (ملحمية درامية) وزمنها، وزمن السرد، والحوار وبنية النص (الفني والواقعي)، وطبيعة بنية السرد (صوري، كلامي، موسيقي)، ونص الإخراج (لقطات، مشاهد، مقاطع، تقطيع) سيناريو، ديكوباج (صوري). 

الزمان والمكان في السينما
اللغة الفنية إذن هي لغة ثانية، هي نظام تمنذج ثانوي، بعد النظام الأول (اللغة المنطوقة).
الفكر حسب جان كوهين لا يوجد من دون لغة، واللغة ليست لباساً للفكر، إنما هي ذاتها الجسد نفسه، ومن هذا المنظور يكون «الصوت» هو الوعي ذاته.
ونظام الأدب لدى تودوروف يوظف «اللغة» بوصفها المادة الخام، وينقلها من رمزيتها الأولى.
الفيلم معني بالصور التي تمنذج لغتها من خلال التعبير نفسه ولا تسبقه. 
يقنن جيرار جينيت حركات السرد بالحذف لمراحل من القصة، والاستراحة (بالوصف)، والمشهد (تزامن السرد مع القصة)، والمجمل (سنة تختزل بجملة).
تتفرع أنواع السرد إلى صوري، كلامي، موسيقي.
 ويعني «ديكوباج» متخيلاً سينمائياً يتفوق على الواقعي، لأنه سرد فني إخراجي، أما «الميزانسين»، المأخوذ من المسرح، فتجده واقعياً متفوقاً على المتخيل.
يبين أوليفر شتورز أن: «كل ما يختلف في التمثيلية التلفزيونية عن المسرح يأتيها من السينما، وكل ما يختلف عنها في السينما يأتيها تحديداً من المسرح».
كان أزنشتين قد اشتــــق مصطلح  «الميزانكادر» الذي يخص العملية التي تحول الميزانسين المسرحي من حركة تعبيرية متصلة ومستمرة إلى ميزانسين سينمائي مجزأ الحركة، ليتحول فيه الزمن الواقعي إلى فني.
فالميزانسين ينظم الصور في المكان، وبذلك يخضع الزمان لهذا المكان.
بخلاف المونتـــاج الـــــذي ينـــظم الـــصــــور فـــــي الزمان، فهنا يخضع المكان لسطوة الزمان.

بنية الفكرة الأساسية في الفنون 
طالب دزيغا فيرتوف كاتب السيناريو بأن يتقن الدلالات الجرافيكية للحركة.
 وفي كتابه «عين السينما» أكد فن تنظيم الحركات الضرورية للأشياء في الفراغ، باستعمال منظومة إيقاعية مطابقة لخواص المواد، وللإيقاع الداخلي، لأن فن السينما يقوم على تخيّل حركات أشياء في المكان (الفضاء)، سواء كانت إيحائية، أو تعيينية حرفية، تضمها علاقات الاختيار والتركيب.
ذلك لأن فن السينما يبدأ عادة من لقطة تأسيسية عامة للمشهد، تعطي لمحة عامة عن المكان والشخصيات والمواقف.
يحيلنا قيس الزبيدي بمنهجيته السليمة وثقافته العامة والتخصصيـــة إلـــى «جــــيل دولوز» الذي رأى أن المونتاج يمكن حصره في الآتي:
أولاً: مونتــــاج عضوي (تجريبي) في أمريكا.
ثانياً: مونتاج جدلي (مادي) في روسيا.
ثالثاً: مونتاج كمي (نفسي) في فرنسا.
رابعاً: مونتاج تكــثـــيـــفــي (روحي) في ألمانيا.
تبقى الصورة متعلقة بمظهـــرية الشيء، تخلق لدينا رؤية للشيء وليست مجرد تعرّف عليه.
يقول دراير المخرج الدنماركي إن الفيلم مثل الهندسة، لا يقلد الطبيعة، إنما ينتج  بقوة الخيال الإنساني.
ومن الطرائف التي يذكرنا بــها قيس الزبيدي حــــول مفــهـــوم «الصراع» الذي يجـــده بين هشــــت وهـــو كـــاتـــب سيناريو، أنه هراش بين كلبين، للاستحواذ عــــلى العظــــمة! فمــــن يحصل على العظمة هو الــــذي ينـــهي الصـــراع!
أو ما قاله تاركوفسكي عن «المونتاج» من أنه حياكة الزمن، أو نحته!
وإن «صفير» قاطرة يخلق في تصورنا محطة قطار كاملة، أو إن «الفكرة» مثل دودة تصبح فراشة، أو بذرة تصبح شجرة.
وتأتي كلمة برخت «أنا أفكر برؤوس الآخرين، والآخرون يفكرون برأسي» لتحيلنا إلى الجهد الخلاق الذي بذله حين جمع بين الكلمة، والموسيقى والصورة، ليثير عقلية المتلقي الاجتماعي، وهو في مسرحهِ الملحمي التجريبي هذا لا يرمي إلى إلغاء الدراما، قدر طموحهِ إلى صياغة جديدة لها، تلزم نفسها بتنشيط فعل التلقي التفاعلي الخلاق، بصورة جديدة لم تعهدها الدراما التقليدية، حتى إن برخت قد اتفق كما يذكر الزيدي مع الكاتب دوبلن الذي ميز العمل الدرامي من الملحمي بقوله: «في الملحمي يمكن للمرء على نحو ما أن يقص الأجزاء المنفردة بمقص، لكنها تبقى مع ذلك قادرة وحدها على الحياة». 
يبقى النسق الثقافي المضــمر في جهود قيس الزبيدي موحياً بحرصه عـــلى إيصال فكرة انهيار القيم البرجــــوازيــــة الأخلاقية، حين تتخلف عن الضرورة الإنسانية، كما عالجها كبار المخرجين العالميين في عديد من أفلامهم.
 وعند قراءتهِ للغة الأفلام السينمائية يؤكد مصادر موثوقة، ومراجع رصينة، ليتناول من خلالها الوظائف الخاصة ببنية الفيلم، بقدرة تأويلية خاصة، وممارسة فنية مبدعة، ليثري حساسية المتلقي، ويرفد ذائقيته الجمالية، بكل ما يخص جمالية الصورة على مستوى الظاهر المتقن، في البنية السطحية، أو على مستوى المجاز الفكري المبطن، في البنية التحتية وما تحتويه من عوالم افتراضــــية، ساحــــرة ومبهجـــة، وهو الرهان الحقيقي للسينما الرصينة ■