رأس المال في القرن الحادي والعشرين

أثار كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين ضجة فكرية كبيرة وكتب عنه كثيرون خلال الأشهر الماضية، في أمهات الصحف والمجلات العالمية، فإذا كانت دعوات بعض المفكرين الاقتصاديين في السنوات الأخيرة تؤشر إلى أن ما يكتبه الاقتصاديون لأنفسهم، وأن التكميم والنمذجة والمعادلات والرموز التي يطرحونها في كتاباتهم لا تفهم إلا من قبل الاقتصادي المتخصص الذي كتبها نفسه، وإذا كان حديث الاقتصاد لا يفهم إلا من قبل الاقتصادي دون غيره من المختصين والمثقفين؛ عند ذاك تكون الدعوة إلى اجتماعية علم الاقتصاد أمراً يثير الاهتمام والنقاش، ويصبح حديث الاقتصاد واضحاً ومفهوماً من قبل الجميع، سواء الخاصة منهم أو العامة، وعندها يكون عرض كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» أمراً غاية في الأهمية، وإذا كان الاقتصاد بدءًا من آدم سميث ومــروراً بماركس وانتهاءً بجون كينز يقوم على المنطق والمحادثة والجدل فإن عرض هذا الكتاب يصبح أمراً ملحاً لاسيما أنّ أحد أهم استنتاجات الكاتب الذي نحن بصدد عرض كتابه اليوم يتمثل بانتماء الاقتصاد للعلوم الاجتماعية القائمة على المنطق والحديث، وعلى هذا الأساس سيركز العرض على جوانب مثيرة للجدل الفكري والثقافي، مبتعداً عن الجزئيات الاقتصادية التي قل من يفهمـــها من غير الاقتصاديين.
صدر الكتاب في عام 2013 من قبل الاقتصادي الفرنسي Thomas Piketty وصدر لأول مرة باللغة الإنجليزية في بداية عام 2014، وقسم الكتاب إلى أربعة أقسام وضم 16 فصلاً واستنتاجات، وذيّل بملاحظات وهوامش، ولقد كتب عنه كثيرون واعتبر بمنزلة ماركس حديث للقرن الحادي والعشرين، بعد مرور ما يقرب من قرن ونصف القرن على كتاب رأس المال لماركس الذي صدر بالألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وترجم بعد عقدين من صدوره إلى اللغة الإنجليزية.
يقول الكاتب: لقد كرست ما يقرب من 15 سنة من البحث والدراسة (1998 - 2013) لفهم الحركية التاريخية للدخل والثروة، ويفتتح الكاتب كتابه بكلمات مضمونها أن الامتيازات الاجتماعية تعتمد أساساً على المنافع المشتركة العامة، هذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من لائحة حقوق الإنسان في سنة 1789 ليدخل الكاتب بكلماته الأولى أن توزيع الثروة تعد أحد أهم القضايا المطروحة والجدليات المثيرة للنقاش، ويطرح السؤال: ماذا نعرف عن رأس المال؟ وهل حقاً حركية تراكم رأس المال تقود لتركز الثروة بأيدي القلة القليلة كما كان يعتقد كارل ماركس؟ وهل توازن القوى في النمو والمنافسة والتقدم التكنولوجي يقود في المراحل الأخيرة للتنمية ويقلل عدم المساواة والانسجام والتناغم بين طبقات المجتمع كما اعتقد الاقتصادي Simon Kuznets في القرن العشرين؟ وماذا نعرف حقيقة عن الدخل والثروة؟ وما الدروس المستقاة التي يمكن تبنيها اليوم وفي قرننا الحالي؟ لقد بدأ الكاتب بهذه التساؤلات وأردف قائلاً: هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذا الكتاب.
تمثّل جهد الكاتب في التحليل والمتابعة التاريخية للاقتصاديين منذ القرن الثامن عشر، ليضع سؤال التوزيع في قلب التحليل والنظرية الاقتصادية، واعتمد على مصدرين للمعلومات عما سماه بالحركية التاريخية، فمصادر تعاملت مع عدم المساواة في توزيع الدخل، ومصادر تعاملت مع توزيع الثروة وعلاقة الثروة بالدخل، ويسرد مدخله في العمل ويشير بوضوح إلى دقة بعض الاستنتاجات العلمية لدراسات اقتصادية إبان النصف الأول من القرن العشرين، طبقت على الولايات المتحدة الأمريكية واستندت عليها دراسات من تبعهم حتى اليوم، وهذا ما استند إليه الكاتب، حيث يقول: تلك قاعدة البيانات التي اعتمد عليها ثلاثون اقتصادياً والتي تعد الأكبر، هي التي اعتمدتُ عليها في هذا الكتاب في ما يخص عدم المساواة في توزيع الدخل. أما المصدر الثاني للمعلومات فيخص توزيع الثروة، والثروة هي التي تخلق الدخل، والأهم من هذا التمييز بين دخلين، الأول دخل العمل والثاني دخل رأس المال، ويطرح الكاتب النتائج الرئيسة التي بلغها من مصادر الرواية التاريخية، ومن أهمها ضرورة الحذر من الحتمية الاقتصادية التي تعود لعدم المساواة في الدخل والثروة، فتاريخ توزيع الثروة سببه دائماً العمق السياسي وليس الآلية الاقتصادية، وتقليل عدم المساواة في أوربا بين 1910 و1950 يرجع لسياسات الحرب وزيادة عدم المساواة بعد سنة 1980 التي مردها التغيرات السياسية التي حصلت خلال العقود التي سبقت ذلك، مما يؤشر إلى تاريخ عدم المساواة، ومن صاغ شكلها هم لاعبو السياسة والاقتصاد والاجتماع والقوة النسبية التي يتمتع بها كل فريق مقارنة بالآخر.
الاستنتاج الثاني الذي أطلق عليه الكاتب قلب هذا الكتاب هو حركية توزيع الثروة التي كشفت قوة آلية الدفع بالتناوب بين قوى التباين وقوى التقارب، فلا يمكن أن تكون عملية عدم الاستقرار وغياب حقوق الإنسان طبيعية أو تلقائية هي المهيمنة دوماً، بل إن هذه القوى الرئيسة لتحقيق ذلك لا بد أن تتبنى سياسات انتشار المعرفة والاستثمار في التعليم والتدريب والمهارة، وقوى العرض والطلب وانتقال رأس المال والعمل تصب دائماً باتجاه التقارب في توزيع الثروة، علماً بأنّ هذا القانون الاقتصادي قد يكون أقل تأثيراً من انتشار المعرفة والمهارة، وفي حقيقة الأمر هما المفتاح الرئيس لنمو الإنتاجية وتقليل عدم المساواة في الدول نفسها وفي ما بينها. وخير مثال على ذلك مجموعة الدول التي تقودها الصين والمتجهة نحو النمو والغنى.
ويطرح الكاتب أنّ القوة الرئيسة لميكانيكية التباين تتمثل بصيغة مفادها زيادة العائد على رأس المال على نسبة النمو في الاقتصاد، ويعلل ذلك بإثباتات من التاريخ الاقتصادي الحديث للدول المتقدمة، ولاسيما منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين ويخشى الكاتب عودتها في القرن الحادي والعشرين.
الاستنتاج الآخر الذي طرحه الكاتب بعد رحلة طويلة من العمل العلمي لكتابة هذا الكتاب تمثل في انتماء الاقتصاد للعلوم الاجتماعية وذلك المنهج الكمي الذي اعتمد طوال النصف الثاني من القرن العشرين، ويؤشر الكاتب إلى أفضلية القول «الاقتصاد السياسي» بدل القول «علم الاقتصاد»، على الرغم من أن المصطلح صيغة قديمة، ولكنه علم اجتماعي ومعياري بهدف أخلاقي... ببساطة إنه علم يهم كل الفئات الاجتماعية وكل الطبقات السياسية، ويعد مصدراً مثيراً للمناقشات والحوارات والجدليات بدل نماذج صماء تخفي كل تضاريس المحتوى والمضمون، والاستنتاج الأخير الذي بلغه الكاتب تمثل في قوله إنه ما دامت دخول فئات المجتمع المعاصر باقية خارج متناول التحقيق العلمي فليس هناك أمل بإنتاج تاريخ اقتصادي واجتماعي نافع، وهذا يمثل استنتاجاً يؤكد ما طرحه عدد من الاقتصاديين منذ منتصف القرن العشرين ومازال.
إن قراءة المقدمة والاستنتاجات تمثل فهماً مبدئياً لما أراد الكاتب أن يطرحه في أقسام كتابه الأربعة وعبر فصوله الستة عشر، فتحدث في القسم الأول عن الدخل القومي والثروة وكيفية التوزيع العالمي للدخل والثروة والإنتاج، وهو أمر غاية في الأهمية للمضمون الذي يسعى الكاتب إلى توضيحه، وأعطى الكاتب تحليلاً لنمو السكان ونمو الإنتاج وكيفية تطور هذه المفاهيم منذ الثورة الصناعية؛ أما القسم الثاني فقد عرض وعبر أربعة فصول حركية نسبة رأس المال إلى الدخل، وطرح مسألة التحولات في رأس المال منذ القرن الثامن عشر في بريطانيا وفرنسا، ومن ثم قدم أيضاً لألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلل المدى الجغرافي الممتد على كل الكوكب، وبحث عن الدروس والمضامين التي تقف وراء ذلك، وجاء القسم الثالث بعنوان هيكل اللامساواة ليغطي ستة فصول تناولت ما حققه توزيع دخل العمل ودخل رأس المال من عدم مساواة وتحليل الحركية التاريخية لهذه اللامساواة في عدد من الدول ودراسة تغيير الثروة الموروثة في الأجل الطويل وتوقعات التوزيعات العالمية للثروة للعقود القادمة من القرن الحادي والعشرين، وجاء القسم الرابع في أربعة فصول وتحت عنوان تضبيط رأس المال في القرن الحادي والعشرين من خلال دراسة الواقع الاجتماعي، واقترح إعادة التفكير في الضريبة التصاعدية على رأس المال المستند إلى التجربة السابقة وتوصيف الشروط اللازمة وكيفية تراكم رأس المال العام بعد تدهور رأس المال الطبيعي.ويختتم بكلمة أخيرة بالقول إني لا أمتلك القدرة على التنبؤ بشكل رأس المال في السنوات من 2063- 2113 فظاهرة الدخل ورأس المال سياسية فوضوية لا تنبؤية علمية، فكيف سيتعامل التاريخ معها؟ مما لا شك فيه أنّ هذا يعتمد على نظرة المجتمع إلى اللامساواة وما هي أنواع السياسات والمؤسسات التي ستعتمد في القياس والتحويل، فلا يمكن توقع المستقبل البعيد، بل إن التاريخ سيكون مفيداً ومساهماً في رسم الطريق على الأقل.
وأخيراً فقد يكون ما طرحه الكاتب في كتابه أمراً قد يوجد له صدى في القريب العاجل على الرغم من المآخذ التي تطرح في طبيعة البيانات التي استخدمها واعتماد التحليل الوصفي المعمق المفهوم، بعيداً عن القياسات الكمية التي ترهق القارئ وتبعده عن مضمون العمل، إذ استطاع الكاتب أن يجذب القارئ عبر منهجية شيقة اعتمدت الكلمة والشكل والبساطة، ومن هنا بدا الكتاب مشوقاً يمكن أن يقرأه الجميع من الاقتصاديين وغيرهم, وهذا يمكن أن يكون تحولاً منهجياً لدى بعض الاقتصاديين ونزولهم للتفاعل مع القضايا الاقتصادية الشائكة في أرض الواقع، لا أن يتعاملوا معها من الطابق العاشر أو من بروجهم العالية .