رأس المال في القرن الحادي والعشرين

رأس المال في القرن الحادي والعشرين

أثار‭ ‬كتاب‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬ضجة‭ ‬فكرية‭ ‬كبيرة‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬كثيرون‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬الماضية،‭ ‬في‭ ‬أمهات‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬العالمية،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬دعوات‭ ‬بعض‭ ‬المفكرين‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬تؤشر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬الاقتصاديون‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬وأن‭ ‬التكميم‭ ‬والنمذجة‭ ‬والمعادلات‭ ‬والرموز‭ ‬التي‭ ‬يطرحونها‭ ‬في‭ ‬كتاباتهم‭ ‬لا‭ ‬تفهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتخصص‭ ‬الذي‭ ‬كتبها‭ ‬نفسه،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬حديث‭ ‬الاقتصاد‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المختصين‭ ‬والمثقفين؛‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬تكون‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬اجتماعية‭ ‬علم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أمراً‭ ‬يثير‭ ‬الاهتمام‭ ‬والنقاش،‭ ‬ويصبح‭ ‬حديث‭ ‬الاقتصاد‭ ‬واضحاً‭ ‬ومفهوماً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجميع،‭ ‬سواء‭ ‬الخاصة‭ ‬منهم‭ ‬أو‭ ‬العامة،‭ ‬وعندها‭ ‬يكون‭ ‬عرض‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‮»‬‭ ‬أمراً‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬آدم‭ ‬سميث‭ ‬ومــروراً‭ ‬بماركس‭ ‬وانتهاءً‭ ‬بجون‭ ‬كينز‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬المنطق‭ ‬والمحادثة‭ ‬والجدل‭ ‬فإن‭ ‬عرض‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يصبح‭ ‬أمراً‭ ‬ملحاً‭ ‬لاسيما‭ ‬أنّ‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬استنتاجات‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬عرض‭ ‬كتابه‭ ‬اليوم‭ ‬يتمثل‭ ‬بانتماء‭ ‬الاقتصاد‭ ‬للعلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬المنطق‭ ‬والحديث،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬سيركز‭ ‬العرض‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬مبتعداً‭ ‬عن‭ ‬الجزئيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬قل‭ ‬من‭ ‬يفهمـــها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الاقتصاديين‭.   

صدر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الفرنسي‭ ‬Thomas‭ ‬Piketty‭ ‬وصدر‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬وقسم‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أقسام‭ ‬وضم‭ ‬16‭ ‬فصلاً‭ ‬واستنتاجات،‭ ‬وذيّل‭ ‬بملاحظات‭ ‬وهوامش،‭ ‬ولقد‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬كثيرون‭ ‬واعتبر‭ ‬بمنزلة‭ ‬ماركس‭ ‬حديث‭ ‬للقرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬لماركس‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بالألمانية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وترجم‭ ‬بعد‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬صدوره‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬

يقول‭ ‬الكاتب‭: ‬لقد‭ ‬كرست‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬والدراسة‭ (‬1998‭ - ‬2013‭) ‬لفهم‭ ‬الحركية‭ ‬التاريخية‭ ‬للدخل‭ ‬والثروة،‭ ‬ويفتتح‭ ‬الكاتب‭ ‬كتابه‭ ‬بكلمات‭ ‬مضمونها‭ ‬أن‭ ‬الامتيازات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تعتمد‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬المنافع‭ ‬المشتركة‭ ‬العامة،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نصت‭ ‬عليه‭ ‬الفقرة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬لائحة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1789‭ ‬ليدخل‭ ‬الكاتب‭ ‬بكلماته‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬تعد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬والجدليات‭ ‬المثيرة‭ ‬للنقاش،‭ ‬ويطرح‭ ‬السؤال‭: ‬ماذا‭ ‬نعرف‭ ‬عن‭ ‬رأس‭ ‬المال؟‭ ‬وهل‭ ‬حقاً‭ ‬حركية‭ ‬تراكم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬تقود‭ ‬لتركز‭ ‬الثروة‭ ‬بأيدي‭ ‬القلة‭ ‬القليلة‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬كارل‭ ‬ماركس؟‭ ‬وهل‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬والمنافسة‭ ‬والتقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬يقود‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الأخيرة‭ ‬للتنمية‭ ‬ويقلل‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬والانسجام‭ ‬والتناغم‭ ‬بين‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬كما‭ ‬اعتقد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬Simon‭ ‬Kuznets‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين؟‭ ‬وماذا‭ ‬نعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬عن‭ ‬الدخل‭ ‬والثروة؟‭ ‬وما‭ ‬الدروس‭ ‬المستقاة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬تبنيها‭ ‬اليوم‭ ‬وفي‭ ‬قرننا‭ ‬الحالي؟‭ ‬لقد‭ ‬بدأ‭ ‬الكاتب‭ ‬بهذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬وأردف‭ ‬قائلاً‭: ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬سأحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.‬

‭ ‬تمثّل‭ ‬جهد‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬والمتابعة‭ ‬التاريخية‭ ‬للاقتصاديين‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬ليضع‭ ‬سؤال‭ ‬التوزيع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬التحليل‭ ‬والنظرية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬واعتمد‭ ‬على‭ ‬مصدرين‭ ‬للمعلومات‭ ‬عما‭ ‬سماه‭ ‬بالحركية‭ ‬التاريخية،‭ ‬فمصادر‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الدخل،‭ ‬ومصادر‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬وعلاقة‭ ‬الثروة‭ ‬بالدخل،‭ ‬ويسرد‭ ‬مدخله‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬ويشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬دقة‭ ‬بعض‭ ‬الاستنتاجات‭ ‬العلمية‭ ‬لدراسات‭ ‬اقتصادية‭ ‬إبان‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬طبقت‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬واستندت‭ ‬عليها‭ ‬دراسات‭ ‬من‭ ‬تبعهم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬استند‭ ‬إليه‭ ‬الكاتب،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬تلك‭ ‬قاعدة‭ ‬البيانات‭ ‬التي‭ ‬اعتمد‭ ‬عليها‭ ‬ثلاثون‭ ‬اقتصادياً‭ ‬والتي‭ ‬تعد‭ ‬الأكبر،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬اعتمدتُ‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الدخل‭. ‬أما‭ ‬المصدر‭ ‬الثاني‭ ‬للمعلومات‭ ‬فيخص‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة،‭ ‬والثروة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تخلق‭ ‬الدخل،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬دخلين،‭ ‬الأول‭ ‬دخل‭ ‬العمل‭ ‬والثاني‭ ‬دخل‭ ‬رأس‭ ‬المال،‭ ‬ويطرح‭ ‬الكاتب‭ ‬النتائج‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬بلغها‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬ومن‭ ‬أهمها‭ ‬ضرورة‭ ‬الحذر‭ ‬من‭ ‬الحتمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬لعدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الدخل‭ ‬والثروة،‭ ‬فتاريخ‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬سببه‭ ‬دائماً‭ ‬العمق‭ ‬السياسي‭ ‬وليس‭ ‬الآلية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وتقليل‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بين‭ ‬1910‭ ‬و1950‭ ‬يرجع‭ ‬لسياسات‭ ‬الحرب‭ ‬وزيادة‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬1980‭ ‬التي‭ ‬مردها‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬ذلك،‭ ‬مما‭ ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬عدم‭ ‬المساواة،‭ ‬ومن‭ ‬صاغ‭ ‬شكلها‭ ‬هم‭ ‬لاعبو‭ ‬السياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والاجتماع‭ ‬والقوة‭ ‬النسبية‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬فريق‭ ‬مقارنة‭ ‬بالآخر‭. ‬

الاستنتاج‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الكاتب‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬حركية‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬التي‭ ‬كشفت‭ ‬قوة‭ ‬آلية‭ ‬الدفع‭ ‬بالتناوب‭ ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬التباين‭ ‬وقوى‭ ‬التقارب،‭  ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عملية‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬وغياب‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬طبيعية‭ ‬أو‭ ‬تلقائية‭ ‬هي‭ ‬المهيمنة‭ ‬دوماً،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬الرئيسة‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬سياسات‭ ‬انتشار‭ ‬المعرفة‭ ‬والاستثمار‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والتدريب‭ ‬والمهارة،‭ ‬وقوى‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭ ‬وانتقال‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬والعمل‭ ‬تصب‭ ‬دائماً‭ ‬باتجاه‭ ‬التقارب‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة،‭ ‬علماً‭ ‬بأنّ‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أقل‭ ‬تأثيراً‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬المعرفة‭ ‬والمهارة،‭ ‬وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هما‭ ‬المفتاح‭ ‬الرئيس‭ ‬لنمو‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وتقليل‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬نفسها‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬بينها‭. ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مجموعة‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تقودها‭ ‬الصين‭ ‬والمتجهة‭ ‬نحو‭ ‬النمو‭ ‬والغنى‭.‬

ويطرح‭ ‬الكاتب‭ ‬أنّ‭ ‬القوة‭ ‬الرئيسة‭ ‬لميكانيكية‭ ‬التباين‭ ‬تتمثل‭ ‬بصيغة‭ ‬مفادها‭ ‬زيادة‭ ‬العائد‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ويعلل‭ ‬ذلك‭ ‬بإثباتات‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الحديث‭ ‬للدول‭ ‬المتقدمة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وحتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ويخشى‭ ‬الكاتب‭ ‬عودتها‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

الاستنتاج‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬طرحه‭ ‬الكاتب‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬العلمي‭ ‬لكتابة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬انتماء‭ ‬الاقتصاد‭ ‬للعلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وذلك‭ ‬المنهج‭ ‬الكمي‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬طوال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ويؤشر‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬أفضلية‭ ‬القول‭ ‬‮«‬الاقتصاد‭ ‬السياسي‮»‬‭ ‬بدل‭ ‬القول‭ ‬‮«‬علم‭ ‬الاقتصاد‮»‬،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المصطلح‭ ‬صيغة‭ ‬قديمة،‭ ‬ولكنه‭ ‬علم‭ ‬اجتماعي‭ ‬ومعياري‭ ‬بهدف‭ ‬أخلاقي‭... ‬ببساطة‭ ‬إنه‭ ‬علم‭ ‬يهم‭ ‬كل‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وكل‭ ‬الطبقات‭ ‬السياسية،‭ ‬ويعد‭ ‬مصدراً‭ ‬مثيراً‭ ‬للمناقشات‭ ‬والحوارات‭ ‬والجدليات‭ ‬بدل‭ ‬نماذج‭ ‬صماء‭ ‬تخفي‭ ‬كل‭ ‬تضاريس‭ ‬المحتوى‭ ‬والمضمون،‭ ‬والاستنتاج‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬بلغه‭ ‬الكاتب‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬إنه‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬دخول‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭ ‬المعاصر‭ ‬باقية‭ ‬خارج‭ ‬متناول‭ ‬التحقيق‭ ‬العلمي‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬أمل‭ ‬بإنتاج‭ ‬تاريخ‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي‭ ‬نافع،‭ ‬وهذا‭ ‬يمثل‭ ‬استنتاجاً‭ ‬يؤكد‭ ‬ما‭ ‬طرحه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ومازال‭.  

إن‭ ‬قراءة‭ ‬المقدمة‭ ‬والاستنتاجات‭ ‬تمثل‭ ‬فهماً‭ ‬مبدئياً‭ ‬لما‭ ‬أراد‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يطرحه‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬كتابه‭ ‬الأربعة‭ ‬وعبر‭ ‬فصوله‭ ‬الستة‭ ‬عشر،‭ ‬فتحدث‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ‬والثروة‭  ‬وكيفية‭ ‬التوزيع‭ ‬العالمي‭ ‬للدخل‭ ‬والثروة‭ ‬والإنتاج،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية‭ ‬للمضمون‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬توضيحه،‭ ‬وأعطى‭ ‬الكاتب‭ ‬تحليلاً‭ ‬لنمو‭ ‬السكان‭ ‬ونمو‭ ‬الإنتاج‭ ‬وكيفية‭ ‬تطور‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية؛‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬عرض‭ ‬وعبر‭ ‬أربعة‭ ‬فصول‭ ‬حركية‭ ‬نسبة‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬إلى‭ ‬الدخل،‭ ‬وطرح‭ ‬مسألة‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬قدم‭ ‬أيضاً‭ ‬لألمانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وحلل‭ ‬المدى‭ ‬الجغرافي‭ ‬الممتد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الكوكب،‭ ‬وبحث‭ ‬عن‭ ‬الدروس‭ ‬والمضامين‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬وراء‭ ‬ذلك،‭ ‬وجاء‭ ‬القسم‭ ‬الثالث‭ ‬بعنوان‭ ‬هيكل‭ ‬اللامساواة‭ ‬ليغطي‭ ‬ستة‭ ‬فصول‭ ‬تناولت‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬توزيع‭ ‬دخل‭ ‬العمل‭ ‬ودخل‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬مساواة‭ ‬وتحليل‭ ‬الحركية‭ ‬التاريخية‭ ‬لهذه‭ ‬اللامساواة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬ودراسة‭ ‬تغيير‭ ‬الثروة‭ ‬الموروثة‭ ‬في‭ ‬الأجل‭ ‬الطويل‭  ‬وتوقعات‭ ‬التوزيعات‭ ‬العالمية‭ ‬للثروة‭ ‬للعقود‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬وجاء‭ ‬القسم‭ ‬الرابع‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬فصول‭ ‬وتحت‭ ‬عنوان‭ ‬تضبيط‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسة‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬واقترح‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭  ‬في‭ ‬الضريبة‭ ‬التصاعدية‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬المستند‭ ‬إلى‭ ‬التجربة‭ ‬السابقة‭ ‬وتوصيف‭ ‬الشروط‭ ‬اللازمة‭ ‬وكيفية‭ ‬تراكم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬بعد‭ ‬تدهور‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الطبيعي‭.‬ويختتم‭ ‬بكلمة‭ ‬أخيرة‭ ‬بالقول‭ ‬إني‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬بشكل‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬من‭ ‬2063‭- ‬2113‭ ‬فظاهرة‭ ‬الدخل‭ ‬ورأس‭ ‬المال‭ ‬سياسية‭ ‬فوضوية‭ ‬لا‭ ‬تنبؤية‭ ‬علمية،‭ ‬فكيف‭ ‬سيتعامل‭ ‬التاريخ‭ ‬معها؟‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬اللامساواة‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أنواع‭ ‬السياسات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬ستعتمد‭ ‬في‭ ‬القياس‭ ‬والتحويل،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬توقع‭ ‬المستقبل‭ ‬البعيد،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التاريخ‭ ‬سيكون‭ ‬مفيداً‭ ‬ومساهماً‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬

وأخيراً‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬ما‭ ‬طرحه‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬أمراً‭ ‬قد‭ ‬يوجد‭ ‬له‭ ‬صدى‭ ‬في‭ ‬القريب‭ ‬العاجل‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المآخذ‭ ‬التي‭ ‬تطرح‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬البيانات‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬واعتماد‭ ‬التحليل‭ ‬الوصفي‭ ‬المعمق‭ ‬المفهوم،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬القياسات‭ ‬الكمية‭ ‬التي‭ ‬ترهق‭ ‬القارئ‭ ‬وتبعده‭ ‬عن‭ ‬مضمون‭ ‬العمل،‭ ‬إذ‭ ‬استطاع‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يجذب‭ ‬القارئ‭ ‬عبر‭ ‬منهجية‭ ‬شيقة‭ ‬اعتمدت‭ ‬الكلمة‭ ‬والشكل‭ ‬والبساطة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬بدا‭ ‬الكتاب‭ ‬مشوقاً‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقرأه‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬وغيرهم‭,‬‭ ‬وهذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تحولاً‭ ‬منهجياً‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬ونزولهم‭ ‬للتفاعل‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الشائكة‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يتعاملوا‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬الطابق‭ ‬العاشر‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬بروجهم‭ ‬العالية‭ ‬‭.