ملف الإنشاد الديني: ليلة من ليالي الشيخ ياسين التهامي

ملف الإنشاد الديني: ليلة من ليالي الشيخ ياسين التهامي
        

          في الساعة السادسة مساء يرتدي ياسين التهامي بحرص جلابية فخمة وشالًا وعمامة بيضاء ناصعة- يتم الآن تقليد هذا الزي المهني المميز من قبل أغلب المنشدين في الصعيد - ممسكا بمسبحة في إحدى يديه. فهو يسافر وفرقته من أجل إحياء إحدى الليالي في قرية صغيرة بجوار طنطا في الدلتا، حيث يقدم عرضا سنويًا في مولد الشيخ عمر طه النائب السابق في الطريقة الرفاعية الصوفية. هناك يقوم باستقبال الشيخ ياسين بعض أعضاء عائلة الشيخ عمر الذين يمولون الليلة ومئات الآخرين من معجبينه الذين يهرعون لاستقباله.

          يترجل من سيارته ويخترق الحشود الكثيفة مصافحا البعض ومبادلا معجبيه التحية. يتجه ببطء إلى منزل أحد أصحاب الدعوة حيث يتم تقديم العشاء لجميع من سيحضر.

مسرح الإنشاد

          تقع الساحة التي سيؤدي فيها بجوار ضريح الشيخ عمر حيث يتم تحديدها بوضوح بواسطة الأضواء والألوان. يحيط بالساحة من ثلاث جهات صوان كبير ملون بتصميمات هندسية إسلامية، يبقى مفتوحا كي يستوعب الجماهير التي تتدفق. وأمام الجانب الخلفي من الصوان هناك مسرح خشبي مغطى بالسجاد حيث سيجلس الموسيقيون أو يقفون في شبه دائرة حول المنشد. أمام المسرح هناك مساحة ضيقة مفروشة بالسجاد حيث يتم الذكر- في هذه الحالة هو تلاوة منغمة لأسماء الله الحسنى مصحوبة بالالتفاتات والانحناءات. توضع سماعات ضخمة فوق حوامل على أطراف منطقة العرض ويعلق على الصوان والبنايات المجاورة له آلاف المصابيح الصغيرة الملونة بالإضافة إلى أضواء كبيرة ساطعة. لقد تكفّل الممولون بدفع أتعاب الشيخ وبمقابل تأجير المعدات ولكن العرض مفتوح للجميع مجانا.

          بدأ تجمع الناس طوال المساء وسيتعدى عددهم في النهاية عدة آلاف بما في ذلك العديد من الأطفال ومئات السيدات الذين يملأون الشرفات والأسطح. في هذه الساحة ستجد جميع الطرق الصوفية الأساسية ممثلة هنا، غير أن نسبة كبيرة من الحضور ليسوا أعضاء فاعلين في أية طريقة صوفية وإن كان أغلبهم ينتمون بشكل غير رسمي لنسق المعتقدات والممارسات الصوفية. لقد جاءوا بسبب حبهم واحترامهم للشيخ عمر راغبين في نيل البركة والتقرّب إلى الله عبر الانشاد والذكر. كما قدم آخرون من مسافات بعيدة بهدف أساس وهو سماع الشيخ ياسين التهامي كما أن هناك آخرين راغبون فقط في الانضمام إلى الاحتفال. في حوالي الساعة الحادية عشر مساء يتجه الشيخ ياسين الى الصوان ويصعد الى المسرح ليختبر الميكروفون ويشرف على الوضع النهائي للسماعات. لقد أسس ياسين لمستوى جديد من الفنية فيما يتعلق بجودة وتوازن نظام الصوت. وسوف يستمر طوال الليل في تعديل «الميكسر» أو جهاز توزيع الصوت من أجل الحصول على أنقى صوت ممكن.

في وصف الفرقة الشعبية

          يأخذ الموسيقيون الآن مواقعهم. تتكون الفرقة من كمانجة وعود وطبلة ورقيّن. أحد أهم التحديثات التي أتى بها ياسين كانت صُنع شعبية للآلات غير الايقاعية بين الجمهور الصوفي وقد أصبحت فرقته أقرب إلى التخت المعروف في الموسيقى. يرتل الشيخ ياسين بعض الآيات القرآنية قبل أن يبدأ ويعقب ذلك بدعاء من الطريقة الرفاعية. ومع أن الليلة مفتوحة لجميع الطرق الصوفية إلا أن هذه الليلة يميل ياسين الى النصوص الرفاعية في مجاملة للشيخ عمر وعائلته. كما أن هذه القراءات تبارك الليلة وتلهم المؤدي. ينتهي ياسين بعد عشرين دقيقة ويأخذ استراحة.

          إن الشيخ ياسين هو ملك الليلة ويسيطر بحرص على الموسيقى والذكر. بإشارة منه يتصل عازفا الكمان والعود بنظام الصوت ويبدآن في ضبط آلاتهم متحركين بلا منطق محدد إلى مقدمة يرتكزان فيها على المقام الذي اختاره ياسين للافتتاحية اللحنية بتقاسيم قصيرة من آلاتهم بينما يقوم المُستفتٍح بتنظيم من يودون القيام بالذكرفي صفوف طويلة متقابلة وموازية للمسرح. يبدأ ياسين الذّكر بهمهمة بطيئة ومنغمة «الله.... الله» ويتابع المُستفتِح إيقاع ياسين بأن يتمايل بجسمه مصفقاً بيديه محددا للآخرين الإيقاع الذي سيتبعونه. وبإشارة من ياسين تدخل آلات الإيقاع وتبدأ الوصلة الأولى. يبدأ ياسين بنص أوليّ ثابت «يا أعظم المرسلين» ومديح نبوي. يعلو الإيقاع بسرعة ليصل إلى مقطع المدَد الذي يطلب فيه ياسين البركة من عائلة الرسول والأولياء ثم أول ثلاثة أبيات من القصيدة الأولى مختتما بـ «قفلة» شعرية منغمة. يتبع ذلك ثلاث تصاعدات مماثلة في الشكل: بعد تقاسيم بطيئة الإيقاع ينشد ياسين بضعة أبيات شعرية ثم يتوقف ويعيدها بشكل ارتجاليّ لعدة دقائق حتى ينتهي بـ «القفلة». قد يتبع ذلك مقطع موسيقي كثيرا ما يكون مستعارا من أغاني أم كلثوم ويضيف ياسين أحيانا آهات ارتجالية منوعا على نغمة الآه. ويتم التبادل بين الانشاد والعزف عدة مرات بينما الإيقاع يعلو ويتسارع منتقلا بين الواحدة والمقسوم والبامب وتتغير الأساليب اللحنية من الغير ايقاعية الى الإيقاعي المختصر ثم أخيرا القفلة والتصاعد والتراكم في المدد. ويزداد الأداء التصاعدي نفسه في الطول والتعقيد. ويتخلل العرض كله ألحان صوتية مرتجلة من مجموعة من العبارات الأرشيفية والتناغمات الصوتية الإيقاعية وغير الإيقاعية المناسبة لمختلف أشكال ومزاجات الشعر. العديد من تلك العبارات ابتكرها ياسين ولكن تقليدها يتم الآن على نطاق واسع.

سطوة المقامات

          يمكن وضع النص نفسه على أي عدد من الألحان. لا توجد أغاني بالمعنى المفهوم. ينشد ياسين المقامات بسطوة. هو رائع في تنغيماته وينتقل بين نغمة وأخرى بمهارة ليغير من المزاج الذي يصنعه. إن طريقته الفريدة في أداء النصوص تتميز بنطق واضح ودقيق وتقديم بطيء للنص. يتم تكرار الأبيات بأشكال موسيقية مختلفة. بنهاية الأمسية يكون المستمع المنتبه (حتى الأمي) قد حفظ عددا كبيرا من الأبيات الشعرية. ويستمد الشيخ ياسين أعماله من مصادر عديدة للشعر الصوفي أبرزها عمر ابن الفارض. من المعتاد أن تتضمن ليلة ياسين قصيدة رئيسية او أكثر مع مقاطع أقصر من قصائد أخرى من هنا وهناك. منذ بدأ عمله ميز ياسين نفسه عن سابقيه بغناء القصائد العربية الكلاسيكية فقط والتركيزعلى أكثرها تعقيداً وتجريداً. لغتها الرمزية المشبعة بالغموض تتناول الحب والاشتياق والوحدة وتتحدى فهم المستمع بالرغم من وضوح نُطق ياسين وإخلاصه للنص. هو في هذه الليلة يستمد عمله من قصيدة منسوبة لأحمد الرفاعي يتأمل فيها التوحد الصوفي، فينشد «فصرت أنا الداعي ومني الإجابة» ويفهم كل مستمع حسب حالته الروحية. القليلون يفهمون المعنى الكامل بالعقل ولكن الجميع يحسون بالكلمات على المستوى العاطفي. الشيخ ياسين يقول إنه يجب أن يتعايش مع النص كي يتعلمه وينشده. خلال أدائه تتحدث الكلمات عبر حالته الداخلية. يأتي صوته الغني المعبر من القلب مشعلا الشجن في مستمعيه الذين يستجيبون بإماءات وحركات وصيحات خاصة عند القفلة «ما يأتي من القلب يصل إلى القلب» هكذا يقولون. ويسترشد ياسين برد فعلهم في اختياراته الموسيقية والشعرية رافعا الطرب إلى قمته. ومع تسارع الإيقاع يتحول الذكر إلى شكل أكثر فردية، ويصبح أكثر نشوة. ويتم التعبير عن ردود الفعل العاطفية بحرية عبر الإيماءات والأصوات.

الجمهور.. علاقة خاصة مع الذكر

          ذِكر الأولياء الذين يرتبط البعض معهم بعلاقة شخصية يرسل موجات من الحماس عبر الجمهور. قد يدخل المشاركون في حال يكون من دلائلها الخارجية حركات عفوية أو تشنجات، سكون في الحركة، انهيار، إغماء، والترجمة التي قد تجعل المرء يبدأ فعلياً في التحدث بلغات غريبة. ولا تمارس الأغلبية الذِّكر ولكنهم ببساطة يشاهدون ويسمعون متمايلين مع الموسيقى ومصفقين وملوحين بأيديهم في نشوة عند القفلة صائحين «الله». الكثيرون يحملون مسجّلاتهم عاليا أمام السماعات للحصول على أفضل التسجيلات الممكنة. سيتم لاحقا نسخ تلك التسجيلات وتوزيعها على المعجبين في جميع أنحاء مصر.

ختام

          بعد أربعة تصاعدات تنتهي الوصلة الأولى وتأخذ الفرقة استراحة. من يودون تحية الشيخ ياسين يقتربون من المسرح. يعتبر البعض أنه يملك القدرة على منح البركة لأنه مُنشد مُلهم ووالده كان من الأولياء. ويمطره آخرون بالحب بحماس كما يحدث عادة مع المغنين المشهورين. أما هو فيستقبل الجميع بهدوء فهو منشد شهير من ناحية، وأحد الأولياء من الناحية الأخرى. في الوصلة الثانية ينشد الشيخ ياسين بشكل غير إيقاعي وبصحبة الآلات النغمية فقط. يجلس الجميع بهدوء مركزين على انشاد الشعر.

          يختم فقرة وتتصاعد الصيحات المعجبة من الجمهور. وتصنع التقاسيم الطويلة والآهات مخرجا من توتر الشعر وتعطي مسحة من التأمل للوصلة. الوصلة الثالثة نسخة أقصر من الأولى مكونة من تصاعدين فقط. التصاعد الأخير والأطول يؤدي للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم. بعد أن تتوقف الإيقاعات يدعو الشيخ ياسين لقراءة الفاتحة وتنتهي الليلة.

 

 

   
 




الشيخ ياسين التهامي





الشيخ ياسين مع فرقته الموسيقية





الشيخ ياسين التهامي يتجلى في أداء أحد المقاطع الشعرية





الشيخ ياسين التهامي (إلى اليمين) في فترة استراحة بين فقرات إحدى الليالي