حسني محمد البناني (1912م – 1988م) فنـان أحـبّ الطبيعـة

حسني محمد البناني (1912م – 1988م) فنـان أحـبّ الطبيعـة

عندما فكرت أن أكتب عن الأستاذ الذي تأثرت به كثيراً وشدتني صفاته وقدراته الفنية العالية للسير خلف خطاه، متتبعاً رؤيته، مقتبساً شخصيته الفنية، فضلت أن أستأذن ابنه الفنان د. سامح حسني البناني بما أريد إنجازه، فوجدت فيه جزءاً كبيراً من شخصية والده وكرمه وتواضعه وإخلاصه في سرد المعلومة، فلم يحجب عني أي معلومة أو صورة للوحة من أعمال والده.


كانت رحلتي في عالم د.حسني البناني الفنية جميلة لا وصف لها، وزاد هذا الجمال الفني ما لقيته من ترابط أسري متماسك بين أفراد أسرة البناني، ابتداء بالفنان د.سامح وشقيقته أسمهان البناني وحفيدته د.عايدة محمد يحيى، ود.محمد يحيى صهره وزوج ابنته أسمهان الذي يحتفظ في منزله بمجموعة كبيرة من أعمال د. حسني البناني، وكذلك من أعمال جد زوجته الفنان يوسف كامل، فأصبح منزله في مصر الجديدة أشبه بمتحف يحتوي على أروع الأعمال للعملاقين في المدرسة التأثيرية العربية من دون منازع، يوسف كامل وحسني البناني، الذي بد'أ مشواره الفني الأول فيما عرف بداية بمدرسة الفنون الجميلة العليا (كلية الفنون الجميلة حالياً)، وقد عرف عن هذه الكلية أنها مدرسة المرفهين وأبناء الأثرياء والأغنياء لما يلزم هذه المدرسة من مصاريف تزيد على باقي المدارس والكليات، فيتحمل المنتسبون لهذه الكلية إلى يومنا هذا أعباء مصاريف التعليم فيها بصبر وتجلد لا يستمر فيه إلا من أحبها وأحب موهبته وأخلص لها برغبة ذاتية واندفاع شخصي.
والأستاذ الدكتور أحد هؤلاء المحبين المخلصين لموهبته وفنه النابع من ذاته من دون أي مؤثر غير إحساسه وشعوره الأصيل الذي تميز به، كما عُرفت عنه الدقة المتناهية التي تتجلى في أعماله وتصويره المفصل لأدق التفاصيل المبسطة في رسمه للمناظر الطبيعية من البيئة المصرية الجميلة التي آمن بأنها أجمل من تلك اللوحات، التي تأتي من أوربا لتقتنى وتعلق في بيوت وقصور الأغنياء من الشعب المصري في تلك الفترة التي كان أثرياء مصر يتسابقون على اقتناء الأعمال الفنية والتحف من دول أوربا العريقة فنياً وثقافياً، فالفنان حسني البناني الذي غاص في أعماق المدرسة التأثيرية المبسطة وعشقها بسبب قربه من الفنان الرائد يوسف كامل (جده لأمه) وتقارب أسلوبيهما مع منهجيهما بالعمل الفني معاً، وبفارق بسيط يميزهما عن بعضهما، فاللوحة عند البناني لا تعتمد على الهندسة البصرية بشكل رئيس، فلا يعيرها كل اهتمامه ويحاول دائماً أن يقلل ويبسط من تلك التعقيدات الهندسية الفوتوغرافية والحذلقة منها، لتصبح اللوحة صاخبة بتأثير الضوء ومساقط الظل الجاذب للمتذوقين.
وهذه هي المدرسة الحديثة من التأثيرية الضوئية التي مزجت بين التصرف الأكاديمي العلمي والبراعة الفنية البسيطة السهلة التي تجسم العنصر بتناسق نسبي بين كل مفردات اللوحة مع مساقط الضوء والظل على عموم الأشكال في اللوحة، مع عدم التركيز بالهندسة الفوتوغرافية التكوينية، مما يذيب ويقلل سيطرة الكتلة أمام قوة لمساته اللونية الفنية الجريئة والحرة والسريعة في أغلب أعماله إن لم يكن كلها، بهذا الشكل استطاع د.حسني البناني أن يرتقي بالمدرسة التأثيرية القديمة إلى عالم تأثيري جديد يضم الكم الكبير من الألوان المستحدثة المتجانسة في نسيجها اللوني وتشكيلها الهندسي المبسط، فتعرف أن اللوحة هذه من أعمال الفنان حسن البناني لتناسق النسب بين عناصرها المدمجة والمذابة لونياً بشكل مبسط يجسم الكتلة بعين الفنان ولا يصورها بتقنية إلا له.
كما أن الفنان البناني اكتسب مهارته في إنشاء مدرسته الخاصة المميزة لشخصه من حبه للمناظر الطبيعية في الريف المصري وقرى المطرية وأحياء القاهرة التي كان دائماً ما يأخذ تلامذته إليها ويجد في المساحة الفسيحة لتلك المناظر بين الحقول والأشجار والمساكن ضالته، فيبتهج بألوان الأشجار ومفردات الطبيعة المصرية الغنية بالألوان وتعدد مفرداتها، وينتعش بشمس مصر المضيئة التي تغني الضوء الساقط على الكتلة ومساقط الظل الناتج عن ذلك الضوء.
وتلامذة الفنان د.حسنــي البناني اكتسبوا حب الطبيعة منه وتعلقوا بأسلوبه التأثيري الدامج بين التبــــسيط والتركـــيز على روح الحداثة والتطوير بروية متقــدمة، وتعلموا منه الكرم الفني وعدم البخل على اللوحة بالألوان، فكثيراً ما كان يردد أن الفنان الـــــمبدع هــــو الذي لا يبخل علـــــى لوحـــــته بالألــــوان ويشــــــبعها لونياً بشكل مدروس ومطــــــلوب دقيـــق، فالإســــراف غير المجدي كذلك يعتبر عند البناني منقصة لقيمة اللوحة، بمعنى أنه كان يفضل اختيار اللون بفلسفة بصرية خاصــــة تختلف مع المنظور الواقعي، ولكنها لا تبتعد عن الحقيقة المرئية لأبجديات هندســــة المنظــــور الفطري العام للوحة التي تصور مساكن الريف المصري أو زقاقاً أو بيتاً أو جامعاً في آخر الطــــريق تعلو مئـــــذنته كأنها تقول وتعلن بكل بساطة «هنا القاهرة».
هكذا ميَّز الفنان حسني البناني نفسه ووثق أعماله بطابع شرقي فريد يشهد له بالمهارة والإبداع كيف لا وهو من الجيل الثاني المُتتلمذ على يد الرعيل الأول من الفنانين الكبار في مصر ممن صقلوا مواهبهم بأوربا فسقوا الجيل الذي جاء من بعدهم أمثال د. حسني البناني وعبدالعزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحسين بيكار والسجيني - رحمهم الله - وغيرهم كثير ممن استفادوا من جيل الرواد، أمثال د. أحمد صبري ويوسف كامل وغيرهما من الرعيل العظيم الذي أسس المدرسة الفنية الحديثة في مصر والوطن العربي فتوسعت دائرة المستفيدين من علومهم حتى وصلت إلى تلامذة تلاميذهم من الفنانين المبدعين في باقي أرجاء الوطن العربي، ونتشرف في الكويت بأن تكون لدينا مجموعة ممن وضعوا أسس الحركة التشكيلية في الكويت، تتلمذ البعض أو الأغلب على يد الفنان د.حسني البناني، فكانوا استمراراً لتلك المنابع الأصيلة في الفن التشكيلي، وكان من الرعيل الأول من الطلبة الكويتييــــن الذين ذهبوا لتلقي العلوم الفنية في القاهرة، وكان لهم شرف التتلمذ على يد د.حسني البناني في الستينيات من القرن الماضي، الفنان عيسى صقر والفنان عبد الله القصار - رحمهما الله - والفنان محمود الرضوان والفنان سامي محمد الذي تتلمذ أكثر على يد السجيني إلا أنه عاصر وشاهد وعرف البناني، والفنان عبدالله سالم والفنان مساعد فهد والفنان المرحوم عبدالعزيز الحشاش، وأذكر أيضاً الأخت الفنانة موضي الحجي والفنان صالح العجيل ممن حملوا على أكتافهم عبء الحركة التشكيلية الكويتية وتأسيس الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية عام 1968، ونشر الثقافة الفنية في الكويت ولأن الفنان د.حسني البناني كان مخلصاً مُجداً في تلقيه العلوم الفنية من أساتذة كبار استطاع بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة التي كانت تسمى مدرسة الفنون الجميلة أن يحصل منها على الدبلوم عام 1937، وفي العام نفسه حصل على الشهادة المؤهلة للتدريس، ومن ثم سافر إلى إيطاليا ليحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1940، مما أهّله وميّزه عن سواه في حمل مسؤولية التدريس بكلية الفنون الجميلة عام 1951، وتدرج في معبد التعليم بهذه الكلية إلى أن أصبح رئيس قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالزمالك.
الفنان د.حسني البناني كان على درجة من المقدرة الفائقة في العطاء التعليمي ومهارة الاكتساب والتطوير الفني، لدرجة أنه استخدم اللون الأسود في أغلب أعماله التأثيرية بمهارة ودقة وضرورة أساسية، من دون حذر أو خوف، في الوقت الذي كان أغلب أساتذة الفن التأثيري في فرنسا وأوربا يتحاشون استخدام هذا اللون لصعوبة دمجه وإذابته مع تناسق النسيج اللوني للوحة التي يرسمها، فتظهر أحياناً كثيرة شاذة تشوه اللوحة، لكن الفنان الكبير عرف مقدرته على تحديه للصعاب وإصراره على إخضاع المستحيل.
وكان مما يميزه - رحمه الله - أنه كان بعد أن يختم عمله ويختار النوع الجيد من الأطر (أو البراويز) المناسب والمتناسق مع موضوع وألوان اللوحة، حيث كان يعتمد على الإطار كمسوق أساسي للوحة المرسومة، وكثيراً ما كان - رحمه الله - يختار الإطار بدقة أكثرة من أي شيء آخر، ويصبُّ جل اهتمامه على إنهاء عمله الفني بإطارات ذات مستوى راق وجميل منتخب انتخاباً مميزاً.
رحـــم اللــــه أستـــــاذنا الكبير حسني البناني بما وهبنا من علمه وأعماله التي كانـــــت ولازالــــــت مدرســة تدرَّس وعلماً تنتفع به الأجيال ■