«أستراليا والعرب»... استكشاف تاريخي مبكّر وانحياز كامل لإسرائيل

من القضايا التي تحتاج إلى إضاءةٍ، العلاقات بين العرب وأستراليا، فهذه الدولة التي تمثل مكوّناً رئيساً من العالم الأنجلوساكسوني، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، ترتبط بعلاقات تاريخية مع إسرائيل منذ تأسيسها، وكانت لها مشاركة دبلوماسية فعّالة في إنشائها عبر الأمم المتحدة، وتتبنّى سياساتها مطلقاً في تجاهل تام للحقوق العربية في فلسطين. الكتاب صادر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة، للكاتب الفلسطيني علي القزق (مواليد 1947)، الذي نشأ كلاجئ في سورية، وهاجر إلى أستراليا في عام 1970، ومثّل فلسطين هناك بين عامي 1980 و2006. وهو بالتالي على معرفة بخبايا السياسة الأسترالية الدولية.
يبدأ الكتابتبمقدمةٍ وأربعة فصول، تتوزّع بين الخلفية التاريخية، والعلاقات الأسترالية- العربية، والجالية اليهودية واللوبي الإسرائيلي في أستراليا، والجاليات العربية. هذه القارة البعيدة جغرافياً عن الشرق الأوسط كانت حاضرةً في قضاياه على الدوام، وقد شاركتْ بحماسة في الحروب الحديثة، من الحرب العالمية الأولى إلى حربَي الخليج الأولى والثانية. ومع ذلك تبقى تفاصيل سياستها العربية مجهولةً لكثيرين، خصوصاً مع افتقار المكتبة العربية للدراسات في هذا المجال. وقد ذُهل الكاتب حين سمع مسؤولاً عربياً يشيد بمواقف أستراليا االتي لم تتخذ مواقف معادية للعربب، فما كان من أحد الأكاديميين الأستراليين إلا أن يهمس في أذن المؤلف، قائلاً: اعلى الحكومة الأسترالية أن تمنحه وسام طمس التاريخ!ب.
على أن المواقف المنحازة لم يمضِ عليها طويل زمن، بل مازالت ميداناً لتنافس الساسة الأستراليين، في الحكومة أو المعارضة، لاتخاذ مواقف مؤيدة بالمطلق للموقف الإسرائيلي، والاستخفاف بالعرب برغم ما تربطها بهم من مصالح تجارية كبيرة.
اكتشاف أستراليا والشعب الأصلي
تعود أصول سكان أستراليا الأصليين إلى جنوب شرق آسيا، إذ استوطنوها قبل 60 إلى 70 ألف سنة، حيث عاشوا حياةً بسيطةً قبل أن يصل إليها الغربيون قبل أكثر من قرنين.
ويشير المؤلف إلى أن العرب اكتشفوها قبل الإنجليز بنحو 550 عاماً، فأقدم الخرائط التي تشير إلى وجودها هي خرائط عربية وصينية، وأسموها االأرض الجنوبيةب. كما كان البحّارة وصيادو السمك الإندونيسيون يزورونها ويتواصلون مع شعبها الأصلي بحكم القرب الجغرافي، وأقاموا علاقات تجارية معهم وتزوّجوا منهم.
أما أول من وصل إليها من الأوربيين فهم البرتغاليون ثم الإسبان فالهولنديون الذين أطلقوا عليها اهولندا الجديدةب عام 1606، لكنهم جميعاً لم يستقروا فيها، حتى حطّ البريطاني جيمس كوك رحاله على سواحلها عام 1770 فسحرته بجمالها وهدوئها.
وفي عام 1788 وصلت أول دفعةٍ من المستوطنين، وعددهم 1500، معظمهم من السجناء والمجرمين الذين نفتهم حكومة لندن للتخلّص منهم، وليمهّدوا الأرض لاستقبال دفعاتٍ جديدةً، حيث أقاموا أول مستوطناتهم (سيدني)، على حساب السكان الأصليين، الذين تعرّضوا للخطف والاستعباد والاغتصاب والقتل، ليس بالرصاص بل حتّى بالدقيق المسموم، فضلاً عمّا نقلوه إليهم من جراثيم وأمراض معدية لم يكونوا يمتلكون مناعةً ضدها. وهكذا انقرض 70 إلى 90 في المائة من مجموع 750 ألفاً، فلم يبق بعد 150 عاماً سوى 76 ألفاً. ولم يتم الاعتراف بهم رسمياً كمواطنين إلا في عام 1967.
اليوم، يبلغ تعداد أستراليا 22 مليوناً، ومساحتها 7.6 ملايين كيلومتر مربع، وهي سادس أكبر دولة مساحةً وتسيطر على قارةٍ بأكملها، وتتبع التاج البريطاني. وتصل أراضيها شبكة مواصلات ضخمة، ويربطها 281 مطاراً، عشرة منها دولية. 54 في المائة من أراضيها مراعٍ طبيعية، و19 في المائة غابات، وتزخر بثروات معدنية هائلة. أما الثروة البشرية فتعود أصولها إلى 200 دولة، نصفهم مؤهلون جامعياً ومهنياً، في ظلّ نظام تعليمي متطور.
السياسة الأسترالية والعلاقات مع العرب
ترتبط أستراليا بتحالف أمني استراتيجي مع الولايات المتحدة يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب ارتباطها مع جذرها الأول: أوربا. كما تلعب دوراً قيادياً في محيطها الآسيوي والباسيفيكي، اقتصادياً وسياسياً. وإلى جانب ثقلها في تصدير الفحم والحديد والألمنيوم واللحوم والقمح،تتسعى إلى المنافسة في السلع الجديدة: الخدمات التحويلية المتقدمة والتقانة والأجهزة الطبية والحاسوب والاتصالات والطيران.
وشركاؤها الرئيسيون الصين واليابان والهند والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، فيما تتطلع إلى توسيع علاقاتها مع أميركا الجنوبية وإفريقيا والشرق الأوسط.
تومن المؤسف أن يبدأ أول احتكاكٍ مع العرب عبر إرسال قوة عسكرية في حملة السودان، لدعم اللورد البريطاني كيتشنر ضد الثورة المهدية عام 1885، حيث اعتبرتها احرباً مقدسةب. ثم شاركت في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى وقاتلت ضد العثمانيين في سورية والأردن، ودخل 17 ألفاً من قواتها مع قوات الجنرال اللنبي إلى فلسطين. وشاركت مرةً أخرى في الحرب الثانية بالقتال في مصر وفلسطين وسورية ولبنان وليبيا. وكانت هذه القوات مشرّبةً بالأفكار العنصرية المعادية للعرب، ودعمت أستراليا إنشاء الكيان الصهيوني، وكانت أول بلدٍ يصوّت على قرار تقسيم فلسطين.
في أزمة السويس عام 1956، كانت أستراليا من الدول القليلة التي أيّدت العدوان الثلاثي على مصر، وصوّتت على رفض القرار الأمريكي بانسحاب الدول المعتدية، فطرد عبدالناصر سفيرها، وأعلنت الدول العربية مقاطعة الألعاب الأولمبية التي استضافتها نهاية ذلك العام. أما في حرب عام 1967، فأعلنت تضامنها التام مع اإسرائيلب، وفي حرب عام 1973، صرّح أحد سياسييها بأنه الو كان رئيس حكومة إسرائيل لألقى القنبلة الذرية على العرب!ب، وفي الثمانينيات، كانت أستراليا من أوائل من دعا وسعى لإلغاء القرار الأممي الذي يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. وفي عام 2004، عارضت القرار الأممي الذي يطالب بإزالة جدار الفصل العنصري.
يأتي هذا الموقف المتصلب والمعادي للحقوق العربية، برغم أن الجالية العربية والإسلامية تشكّل 3 في المــــائة مــن السكان، فيما يشكل اليهود 0.5 في المائة فقط، لكنهم يتمتّعون بالترابط وحسن التنظيم والعمل الجاد لنصرة قضاياهم، بينما يعاني العرب التشرذم والتشتت.
الجالية اليهودية
وصل أول يهودي إلى أستراليا عام 1816، وبلغ عددهم بعد ستين عاماً 1000 مستوطن من مجموع 150 ألفاً، وتضاعف عددهم بعد اكتشاف الذهب عام 1850. وهكذا امتلكوا مساحات كبيرة من الأراضي الممنوحة لتشجيع الاستيطان، واستطاعوا تأسيس المتاجر والمصانع بفضل ما يملكونه من مهارات في التجارة والحرف وصناعة المجوهرات. ويصل عددهم حالياً إلى 120 ألفاً، ويعيشون في المدن الرئيسة.
وبرغم انقسامهم الاثني واللغوي والديني والسياسي، فإنهم يجمعهم التعصب للفكرة الصهيونية، ويملكون نفوذاً كبيراً، بسبب التعبئة العالية في صفوفهم، وقوة التنظيم والتضامن والعمل الجماعي.
ففي ولاية فيكتوريا وحدها، يوجد 116 جمعية ومنظمة ونادياً يهودياً، تغطي معظم مناحي الحياة. بل إن بعض المؤسسات قديمة الجذور، فـاالفيدرالية الصهيونية الأستراليةب أُسست عام 1927، واالمجلس التنفيذي لليهود الأستراليينب أُسس عام 1945، فضلاً عن منظمات الشبيبة والطلبة والنساء، وبعضها ينفذ مشاريع في إسرائيل، وينظّم الرحلات ويجمع التبرعات لدعمها.
الجاليات العربية والإسلامية
يستشهد المؤلف على اكتشاف العرب للقارة الأسترالية قبل الأوربيين بخمسة قرون، بما تظهره بعض الخرائط القديمة لمحمد الخوارزمي وأبي إسحاق الفارسي، التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وتظهر خليج كاب يورك وسواحل شمال أستراليا. بل إن مهاجرين وصلوا إلى أستراليا مبكّراً، من عُمان وأفغانستان ومصر وإيران وتركيا، للعمل هناك في المهن الشاقة، كالعمل بالبحر وقيادة قوافل الجمال في الصحارى، وبذلك ربطوا أنحاء القارة، ونقلوا البضائع بين أرجائها المتباعدة قبل وصول العربات الميكانيكية في الثلاثينيات. وقد ذابوا في الخليط الأسترالي بعدما حُرّفت أسماؤهم لأخرى مسيحية.
يبلغ تعداد المسلمين في أستراليا اليوم 340 ألفاً حسب الإحصاءات الرسمية 2006، بينما يرجّح الكاتب أن يكون عددهم ضعف ذلك، ومعظمهم من لبنان ومصر وتركيا وإيران وإندونيسيا وباكستان. ويشكل حملة الشهادات العليا نسبةً كبيرةً من المسلمين، ومعظمهم من الطبقة الوسطى، ويمثل الإسلام ثاني أكبر ديانة بعد المسيحية.
لقد ظلّ عدد العرب قليلاً في أستراليا، حتى أواخر الخمسينيات. وكانت الحروب عاملاً رئيساً لدفعهم إلى تلك البلاد البعيدة، بدءًا بحرب 1967، والحرب الأهلية في لبنان 1975، والاجتياح الإسرائيلي في 1982، واجتياح صدام حسين للكويت في عام 1990، وحربَي العراق في عامي 1991 و2003. وكل أزمةٍ كانت تدفع بموجةٍ جديدةٍ من المهاجرين، حتى أصبحت االعربيةب خامس لغةٍ في أستراليا.
هذا الوجود العربي الإسلامي، يواجه نزعةً عنصريةً، يشارك فيها ساسة وإعلاميون وكتّاب أستراليون وإسرائيليون، فضلاً عن بعض المنشقين المسلمين من العرب وسواهم، ممن استقطبتهم القوى الصهيونية واليمينية المتطرفة. وهو ما يسهم في تكريس عزلة هؤلاء المهاجرين فيعيشون في جزر منفصلة عن محيطهم الأسترالي، فيما يعيش الجيل الجديد الذي وُلد في أستراليا حالة شبه انفصام بين عالم البيت والمحيط الواسع، ويمر بفترة انتقالية من حالة الغرباء إلى استكشاف ما تتيحه حالة المواطنة من حقوق وآفاق .