كيف تعرف الكذَّاب؟

في البيت, في العمل, في الشارع، ونحن نبيع ونشتري وندرس ونستقبل الحافلة، في كل مكان وزمان نقابل من يكذب علينا، والأغراض كثيرة ومتنوعة. هناك من يلفّق الحكايات الوهمية ليستميلنا أو يجذب انتباه المجلس, والذي يختلق قصة لا يمكن نفيها للتنصُّل من واجب ثقيل على نفسه, والذي ينصب فخاً لسرقة بعض المال أو مكان في القلب! في كل الأحوال الكذبة موجودة وكذلك الكذّاب, والموضوع مزعج يوجب اتخاذ الحذر والحيطة.
لكن أغلبنا حسن النية لا يضع في باله عندما يخرج صباحاً من الدار أنه سيقع في الفخ, ونحن نعطي الأمان للأقرباء والأصدقاء والزملاء، فلا نتوقع كذبة عابرة, بيضاء أو ملونة أو ماكرة، ولا يمكن أن نحمل جهازاً لكشف الكذب معنا في كل حين. نحن أيضاً نكذب من دون أن نعي الأمر, يمر الموضوع ببساطة ونحن ندس تفصيلات غير حقيقية ربما بلا وعي منا، خصوصاً أنها غير ضارة أو لتحسين صورتنا كأننا نستعير العنوان الشهير «أنا لا أكذب ولكني أتجمَّل»!
لقد وجد روبرت فيلدمان, الباحث في جامعة ماساشوستس, أن أكثر من 75 شخصاً من مائة شاركوا في واحدة من دراساته كذبوا مرة واحدة على الأقل في لقاء مدته عشر دقائق, والغالبية منهم كذبوا من مرتين إلى ثلاث مرات. المرأة تكذب أكثر؟ لا, الحقيقة أنه لا خلاف بين عدد مرات الكذب عند كل من الذكر والأنثى, ولكن الاختلاف الفعلي يكمن في نوع الكذبة التي يحاول كل منهما تلفيقها. الولد/ الرجل يكذب ليلفت النظر ويثير الإعجاب (لقد كنت حاسماً مع مديري فتراجع عن موقفه، كنت نجم مباراة الشباب اليوم، إلخ). أما المرأة/ البنت، فتميل إلى الكذبة التي تجذب نحوها عطف الآخر وتجعله يشعر نحوها بشعور طيب, فهي بشكل غريزي لا تحب أن تترك انطباعاً سلبياً من خلال رأيها في الأشياء، فالفيلم الذي تشاهده وتكرهه هي تخبرك أنه ظريف, وأن هديتك المخيِّبة لآمالها جميلة, إنها تمقت الانتقاد العكسي, فتحاول حماية مشاعرك بكذبة بيضاء.
أنواع الكذب
الكذب أنواع وأصناف، وهو كذلك مسألة نسبية, بعضنا يراه جريمة خطيرة وذنباً لا يُغتفر، ويظل يؤنب نفسه طوال اليوم إذا اضطر أن يخبر مديره بأنه كان طريح الفراش (كذباً) فغاب عن العمل؛ وتجده يبادر بالاعتراف في النهاية أو تركبه الهموم. البعض الآخر يتنفس الكذب مع الهواء, فهو يرى أن قول الحقائق موضوع يجافي الحكمة، ومن الفطنة أن يحتفظ لنفسه فقط بالأمور الواقعية, ويصبح الأمر عادة في ما بعد. هناك أكاذيب المجاملات... عندما تسألك زوجتك عن رشاقتها في الفستان الجديد فهي في ذلك تدفعك لإطرائها وليس لإبداء رأيك الحقيقي, فإذا قلت الصدق بحسن نية فأنت في مشكلة كبيرة! لينكولن ما كان يستطيع التحدث بالكذب بينما مكيافيلي يراه وسيلة شرعية للإنسان لتحقيق غاياته من الدنيا. رجل الأعمال انتهازي للفرص، والسياسي لو نطق بالصدق ضاع, وهذا وذاك وغيرهما يلجأون للكذب كأحد مبادئ الحياة، ولا يشعرون بأن في ذلك ما يشين على الإطلاق, خاصة هؤلاء الذين يمتلكون قدرة كبيرة على التعبير واستخدام المفردات المناسبة في المواقف المختلفة, وهؤلاء, للمفارقة, نجدهم يكتسبون شهرة واسعة وشعبية جارفة, فهم لا يخبرونك أبداً بعيوبك، وكذباتهم المتملقة الجميلة تُسعد الجميع، وبالتالي ترتفع مكانتهم في كل موضع. والحديث عن الموظف الذي يترقى وينال العلاوات بسبب حلاوة لسانه ونفاقه لرؤسائه لم يأتِ من فراغ ولا يخلو من صحة كذلك! بعض الأفراد يجدون الأمر حتمياً, فمندوب المبيعات لو لم يكتسب بعض التعبيرات الكاذبة لخُرب بيته.
كشف الكذب
على أننا لسنا بصدد مناقشة الكذب من وجهته الدينية الأخلاقية ولا المجتمعية السلوكية. هذا الكلام موجَّه الآن إلى الطيبين النبلاء حسني النية منا, الذين لا يكذبون ويمقتون الكذب, لكنهم كذلك يكرهون أن يكذب عليهم الناس. والخبر السار لهؤلاء هو أن 90 في المائة من الكذب تصاحبه علامات دالة عليه وتفضح صاحبه أمام العيون المدربة الواعية. وليس الأمر ككشف الأمهات لكذب أبنائهن كما لو كن يقرأن أفكارهم, بل على العكس, فإن قربك من شخص ما يجعلك تخلق عاطفة قوية نحوه تؤثر في مهارتك التحليلية لكشفه إذا كذب عليك, وفي كل الأحوال تنتابنا أحياناً رغبة في تجاهل الحقيقة, كالزوجة التي لا تريد أن تُصدم في سر سهرات زوجها بالخارج, والشعوب التي تصفق بحماس للقائد الهتلري, وتغاضي الأب عن حقيقة أن ابنه يدخن سراً لأنه لا يرغب في التعامل مع هذه المسألة!
ولكن إذا أردت حقاً أن تكشف الكذاب، فما أهم العلامات التي يجب أن تبحث عنها؟!
لغة الجسد؛ فعن طريقها تستدل عما إذا كان الكذاب في حالة ارتباك, يحرك يده بعصبية ويضطرب عند الكلام. عندما يكذب أحدهم يراوده الشعور بالذنب فتجده يداعب شعره أو أرنبة أنفه أو يفرك يديه أو يحك رأسه. وإذا سيطر الكذاب على النصف العلوي من جسمه بالتحكُّم في حركات يديه ورأسه, فهو في الغالب لا ينتبه إلى حركة الساقين والقدمين بعد تركيز كل جهده للتحكم في تعبيرات وجهه ويديه. من الحركات المعبرة عن الكذب؛ مس الشفة بالأنامل كمن يهم بتغطية فمه حتى لا تفوح رائحة الكذبة! وهو بشكل غريزي يعمل على تغطية مصدر الخداع في جسده, ويتراوح الأمر ما بين تغطية الفم بشكل كامل بالكف أو بشكل جزئي بالتربيت بالأصابع على الشفتين, وحتى إسناد الذقن على قبضة اليد كأنه يريح فكّه من عناء الاحتيال. وعن طريق لمس أحد الأصابع جانب الفم لإخفاء ارتعاشة الشفة, ووضع إحدى اليدين على الفم, وكلها تلعب على وتر رغبة المجرم الحارقة التي لا يمكنه منعها للعودة إلى مسرح الجريمة. والأنف مثل الفم, كلنا نذكر قصة الأطفال الشهيرة عن الدمية الخشبية التي يستطيل أنفها كلما كذبت, ومنها جاء المصطلح «متلازمة بنوكيو». أثناء محاكمة كلينتون كان يلمس أنفه مرة كل ثلاث دقائق عندما كان يكذب بشأن علاقته بمونيكا. وقد أشار آلان هيرس إلى أن الناس عندما يكونون في حالة كذب, تتدفق الدماء في أنوفهم بغزارة, ما يدفع شعوراً معيناً يتم التخفيف من حدته عن طريق لمس أو حك الأنف. يرى البعض أن هذا الرأي ظالم, فالمرء عند السؤال قد ينتابه القلق ويهرش أنفه بعفوية, وقد تكون إحدى الحركات المميزة لبعض الأفراد. وفي المجتمع الأمريكي مثلاً يعتبر حك الأنف حركة معبرة عن الرفض, وأن محدثك شخص غير مقبول؛ فهو ببساطة أحد أشكال الاستياء اللاواعي.
العين تصدق
ومن أشهر حركات كشف الكذب؛ حركة العين. الكذاب عادة ما يجد عسراً في النظر بشكل مباشر في عين من يكذب عليه لهذا فهو يشرد ببصره بعيداً, خاصة في حالات الكذب المرتجل وليد اللحظة, وقد يكون التركيز الشديد بالنظر في عين الضحية أيضاً علامة على الكذب، لأن الكذاب يعرف أن هروب النظرة علامة مميزة للأشخاص الذين لا نثق بهم, لذلك فهو يعمد إلى خلق تواصل بالنظرات لترسيخ فكرة سريعة عن أمانته وصدقه ونزاهته. الخبراء لا يهتمون بالنظرة الدرامية تلك, بل يركز رجال التحقيق الجنائي مثلاً في الحركات اللاإرادية للمتهم, ويعتبرون أن الطرف السريع بالعين حركة دالة على الكذب ولا يمكن التحكم فيها ببساطة. يزداد معدل الطرف بالعين عندما ننفعل وتتسارع التخيلات في الجزء الابتكاري بالدماغ, والذي يقول الصدق يكون أهدأ بالاً، لأن خواطره تجنح للبحث في ركن الذاكرة, أما الكذب فيفتح باب الخيال لاختراع حكاية ملفقة. المعدل الطبيعي لارتداد الطرف هو 21 مرة في الدقيقة, وهذا المعدل قد يزداد من أربع إلى خمس مرات عندما نشعر بأننا في حالة توتر؛ وفي وضع الكذب يصاب المرء بحالة عصبية داخلية وتتسارع عمليات التفكير في عقله بحثاً عن إجابات منطقية. في حالة الكذب يلجأ الشخص الكذاب إلى عملية مزدوجة لإخفاء أمرين: الحقيقة, وأي مشاعر تدل على إخفاء الحقيقة. والمهمة الثنائية صعبة في ظل المشاعر السلبية التي تنتابه مثل القلق من الانكشاف والخوف من العقاب والشعور بالذنب, لهذا يعمل العقل اللاواعي على مقاومة طوفان المشاعر السلبية ذلك بشعور عكسي عجيب يتمثل في الاستمتاع بخداع الغير, بل والغوص في الكذبة لدرجة تصديقها ولو مؤقتاً, أو ترسيخها لتصبح ذاكرة مزيفة تتداخل فعلاً مع التجارب الحقيقية للكذاب، وهو ما أطلق عليه «نشوة الخداع»، فالكذب البسيط غير المؤذي للآخرين يمر أحياناً بسلام, أما الكذبة الكبيرة التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فتجعل الكذاب يغوص في رمال متحركة من المشاعر السلبية لا يمكن أن يسمح لها بالظهور على السطح وإلا فُضح, لهذا تجده في حالة شبه هستيرية من حركات اليد وإخفاء الوجه بالكفين والالتفات بالرأس بعيداً وارتداء قناع الوجه المحايد الهادئ ورسم ابتسامة تخفي كل شيء, كمن يحفر حفرة شديدة العمق ويغطيها بأغصان زاهية! وتشتهر هذه الابتسامات الملفقة بعلامة «سرعة التجميع» فهي تُرسم بسهولة وسرعة أكبر من الضحكة الخارجة من القلب صدقاً, لكنها تتفكك بشكل أسرع كذلك! النصف السفلي من الوجه هو مكان الابتسامة المصطنعة، وبعد زوالها لا تترك أثراً في عضلات الوجه والوجنتين وجانبي الفم كما تفعل الابتسامة الصادقة التي تنطلق بشكل لاإرادي وليست بالتحكم النابع من مراكز التفكير في المخ, كما أن الابتسامة المزيفة تظهر على جانب واحد من الوجه كابتسامة التهكم, والصادقة تكون متماثلة الجانبين, والمشكلة هي أننا نستجيب للابتسامة بسرعة ولا ندقق في صحتها ودوافعها.
علامات الكذب في لغة الجسد
وغير لغة الجسد, تظهر علامات الكذب من اللغة التي يستخدمها الكذاب الذي يحوم غالباً حول موضوع السؤال ولا يدخل فيه بشكل مباشر, فإذا جاء الجواب وجدته قصيراً غير محدد ومحاط بالشروحات والتفسيرات, ويلجأ الكذاب إلى التركيز حول العناوين الكبيرة والخطوط العريضة للموضوع ولا يحب الاقتراب من التفاصيل, فالذي يكذب بخصوص قيمة الثوب الذي يرتديه ويبالغ فيها قد لا يذكر لك المكان الذي اشتراه منه، ويضيف معلومات أخرى غير حقيقية مثل مواقف من ابتكاره حدثت في المحل لتمويه الموضوع الأصلي. الكذاب يلجأ إلى استخدام أساليب النفي لا الإثبات, لقد صرح الرئيس الأمريكي نيكسون بعد فضيحة ووترجيت: «لست شخصاً محتالا», ولم يقل: «إنني رجل شريف»! وهو ما نطلق عليه «نظام اللف والدوران» ويشتهر به رجال السياسة والسلك الدبلوماسي, فالجمل الخبرية التقريرية كالمستند المثبت، أما العبارات البادئة بأداة النفي فتحتمل تأويلات عدة: أنا لست كذا/ أنا لم أفعل كذا تحديداً، لكن (كذا) هذا قد يكون أي شيء في طيف واسع بين البراءة والشر! أيضاً يحب الكذاب أن يستهل كلامه بعبارة إبراء للذمة مثل: «أعرف أنك لن تصدق حرفاً مما سوف أقصه عليك لكن...»، «أقسم بشرفي أن...»، «دعني أؤكد لك...» كأنه يمهّد الشخص الآخر ليثق به ثقة عمياء عندما يرد عليه: «لا تقسم بالله عليك - عيب يا رجل أنت لا تقول غير الصدق»، وهكذا فأنت لا يمكن أن تشك به. الشخص الذي يتفوه بالأكاذيب أبطأ حديثاً، لأن عقله يحتاج إلى لحظات قبل ترتيب الكلام الملفق والفصل بين الحقيقة والخيال ثم ابتكار وسيلة لبث المصداقية في ما يقول, ولذلك يتدرّب أصحاب الادعاءات الكاذبة على الحديث بشكل أسرع ليكون الكذب أكثر إتقاناً, ومن هنا يمكن القول «كذب مرتّب أنجح من صدق مشتت»، فمن الغريب أن الصادق المرتبك لأي سبب, بفعل حياء طبيعي مثلاً, يوحي للمستمع بأنه كذّاب وشاهد زور! عادة ما تكون طبقة الصوت منخفضة عند كذب الحديث, ويظهر ذلك بشكل أوضح في حالة الكذب المُحضّر مسبقاً, أما الأكاذيب العفوية غير المقصودة والتي تنشأ بغتة بدافع الحرج أو المفاجأة، فتكون طبيعية وبالتالي تصبح مهمة اكتشافها أكثر عسراً.
على أنه, ومع معرفتك بعلامات الشخص المخادع, عليك أن تتحلى بأكبر قدر من الفطنة حتى لا تخلط بين العلامات العفوية التلقائية والحركات الشخصية والسلوكيات الطارئة التي تدل على أن صاحبها يتعرض لصراع عقلي جديد وانفعالات قوية, كما تجب مقارنة التصرّفات التي يقوم بها الشخص المشكوك في أمره بتلك التي تبدر منه عندما يقول الأشياء التي نعرف تماماً أنها حقيقية, وأن تركّز أكثر على ما يقوله وترابط تعبيراته والطريقة التي يتحدّث بها أكثر من تركيزك على أفعاله وحركاته التي قد تكون مرتبطة بجلسته أو بالمكان أو أي مؤثر خارجي، وأن تمنح نفسك مزية الشك في الشك, فحكمك على شخص أو كلام ليس نهائياً بل هو مؤشر لتكتشف المزيد ولتعرف في أي وجهة تتحرك, أما إذا وضعت حكماً دامغاً نهائياً يوصم محدثك بالكذب, فقد تكون أنت من يكذب على نفسه! ■