المدرس... بين العنف المدرسي والتحولات المجتمعية!

بعدما كان المدرس النبراس المنير وحامل الرسالة السامية، وقطب الرحى في منظومة الحياة المجتمعية برمتها، أضحى في الفترة الأخيرة أيقونة للتهكم والاستهزاء والسخرية، بل والتعنيف، سواء كان مادياً أو رمزياً.
وبالرغم من أن أحد المربين قد أشار إلى أهمية المدرسة ومن ضمنها المدرس إلى جانب المؤسسات الأخرى في البناء الحضاري والتنموي بقوله: «هناك خمس مؤسسات رئيسة تتولى أمر الحضارة، هي: البيت، المدرسة، الدولة، مؤسسة الدين، مؤسسة العمل»، فإن أطرافاً متعددة ساهمت في محاولة تخريبها من خلال آليات الهدم المختلفة بالرغم من محاولات البناء المتكررة! ورحم الله الشاعر إذ يقول:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟!
العنف: سلوك عدواني هدَّام للأخلاق والقيم الفاضلة، تتضافر عوامل متشابكة في إنتاجه، منها ما هو اقتصادي، وسياسي، واجتماعي، وثقافي، وتعليمي، وهي عوامل تمثل سيفا ذا حدين، سلباً أو إيجاباً.
ولعل من أهم الأدوات التي تنخر جسد المنظومة التعليمية، وتشجع على استفحال ظاهرة العنف المدرسي إن لم يتم توظيفها واستغلالها وتكوينها وتربيتها لخدمة أهداف الأمة المجتمعية، ما يلي:
- الإعلام: وقد كان المفكر اليهودي محقاً عندما قال: «في عهد «المركانتيلية», من يملك الذهب يملك العالم، وحالياً من يملك الإعلام يملك العالم»؛ إذ تعمل بعض المؤسسات الإعلامية على تشويه صورة المدرس من خلال عرض مسلسلات هزلية، تستهدف كيانه وقيمته الاجتماعية وهيبته، فيصبح مادة دسمة للسخرية من قبل المتعلمين!
وكلنا يستحضر البرنامج التلفزيوني الوثائقي «الوجه الآخر» حول العنف المدرسي، الذي قدمته القناة الثانية المغربية، وأظهرت فيه المدرس في وضعية محرجة؛ حيث بدا أستاذ التربية الإسلامية في وضعية مماثلة ومتساوية بل مهينة له مع تلميذته، بعد أن منح لها نقطة صفر في المراقبة المستمرة، فاتهمته بالتحرش الجنسي، فتم عرضه على اللجنة التأديبية للتأكد من ذلك... وهذا يدفع تلميذات أخريات من هذا الصنف - طبعاً - إلى ارتكاب الحماقة نفسها في حالة سوء تفاهمها مع المدرس، وهذا غيض من فيض!
- المواقع الإلكترونية: بالرغم من الطفرة النوعية التي حققتها الثورة التكنولوجية، فإن اتجاهات المتعلمين أخذت مساراً منحرفاً، شوه مظهرهم الخلقي، إذ باتوا يوظفون مثلاً المواقع الاجتماعية مثل «فيسبوك» للاتفاق على طريقة الغش في الامتحانات، كما نجد فيديوهات حول العنف المدرسي على الشبكة العنكبوتية ترشد المتعلمين الذين يرتادونها بعيداً عن واجباتهم المدرسية إلى تصيُّد ما يمكن أن يربك هدوء الصف أثناء الحصة الدراسية، كإرشاد باقي المتعلمين إلى تنفيذ التصرفات البهلوانية، أو إحداث الضجيج، أو كتابة العبارات المسيئة للمدرس في السبورة أو جدران القاعة الدراسية، أو تعمد حك النباتات ذات الرائحة الكريهة.
- الأسرة: إذ تمثل الأسرة «أول محيط اجتماعي يتعلم فيه الطفل الأنماط التي ستشكل السمات الأساسية لشخصيته، ففيه يكتسب بذور الحب والكراهية والتعاون والتنافس والنزوع نحو التسلط والخنوع، كما تتكون النماذج الأولى لأهم الاتجاهات التي تحدد شخصيته مستقبلاً، أي شخصيته وهو مراهق ثم شخصيته وهو راشد»، من دون أن ننسى الدور الهدَّام للتفكك الأسري الذي يساهم في انحراف أفرادها.
كما أن الحرمان العاطفي من أخطر أساليب التنشئة الأسرية الخاطئة، ويرى بعض العلماء أن من أهم أسباب عصبية الأبناء وقلقهم النفسي والشعور بالعداوة والعزلة حرمانهم من الدفء العاطفي وعدم إشباعهم حاجات الحب.
كما نجد فئة من الآباء وأولياء الأمور يدفعون أبناءهم إلى ارتكاب أشكال العنف؛ وهذا يذكرني بحالة فريدة من نوعها: في أيام الامتحانات الوطنية للبكالوريا في المغرب، قدم أب أحد التلاميذ يهدد الأستاذ المراقب بدعوى أنه لم يترك ابنه يغش في الامتحان!
- الشارع: إن الشارع بطبيعته، وتبعاً لتصور المجتمع له، هو مكان عمومي، وبالتالي فقد يكون أحياناً مجلبة لكل رذيلة على النشء، في ظل التزايد المهول لأوكار السلوكيات المنحرفة والمقاهي التي تأوي المنحرفين، وفي المقابل، عدم ارتياد الأماكن التي تساعدهم على تطوير ملكاتهم المعرفية، (دورالقرآن، معاهد، جمعيات تقوم بأنشطة تربوية...)، ولعل المثال الناجح في المغرب هذه السنة التلميذ المغربي أنوار العبادي، الذي حصل على المعدل الأول على الصعيد الوطني؛ فهو يمثل النموذج في الأخلاق التي تربى عليها في المسجد ودور القرآن التي تشجعه على طلب العلم، ويستفيد من أجوائهما حسن استغلال الوقت في ما ينفع في الدنيا والآخرة.
- المدرس نفسه: المدرس قد يسهم في دفع بعض المتعلمين إلى ارتكاب بعض الحماقات نتيجة سوء تصرفه وتعامله مع تلاميذه، وهذا ما أكده ماسلو (Maslow) بقوله: إن الإحباط الناشئ من التهديد واستخدام كلمات التحقير أمام زملاء الطفل والاستهزاء بقدراته يؤثر تأثيراً كبيراً في سلوكه.
- المتعلم الفاشل: نتيجة عجزه وتهاونه في مساره الدراسي، يضطر إلى التشويش على زملائه، بل قد يجر معه فئة أخرى من التلاميذ إلى تكوين تحالف تلاميذي، يعكرون من خلاله صفو جوّ الدراسة.
- الخريطة المدرسية: سعياً من وزارة التربية والتعليم إلى الحد من تكرار وانقطاع التلاميذ عن الدراسة، تقوم بالانتقال الميكانيكي للمتعلمين رغم عدم حصولهم على المعدل الذي يمكنهم من الانتقال إلى المستوى الدراسي الموالي، من دون تمكنهم من الكفايات الأساسية، أما الفئة الثانية، فيتعلق الأمر بالمطرودين الذين يتم إرجاعهم عن طريق ما يسمى بطلب الاستعطاف، رغم أن الغالبية الساحقة منهم - الشاذ لا يقاس عليه- من المستبعد أن يسايروا أقرانهم في الدراسة، فيلتجئون إلى تعنيف زملائهم وأساتذتهم درءاً وتغطية لمركب النقص والضعف الدراسي الذي يعانون من دون أن تفكر الوزارة الوصية في تسجيلهم في مراكز التكوين والتأهيل الأخرى - إيماناً بما يسمى بنظرية الذكاءات المتعددة - نعم كم من فاشل في الدراسة لكنه بارع في مجالات مهنية أخرى.
- غياب قانون رادع للتلاميذ: إذ يتم في بعض الأحيان توقيف المتعلم لمدة أسبوع - هذا قبل صدور المذكرة القاضية بعدم توقيف المتعلم نهائيا!! - نتيجة ارتكابه العنف تجاه المدرس أو المتعلم، وفي أقصى الحالات يتم نقله من مؤسسة تربوية إلى أخرى من دون أن يتم اتخاذ قرارات زجرية ليكون عِبرة لباقي المتعلمين في أفق الحد من هذه الأزمة القيمية التي باتت تنخر مؤسساتنا التعليمية.
وكلنا - نحن المغاربة - يتذكر حالة أستاذ الفلسفة في مدينة وجدة في الجهة الشرقية للمغرب، الذي تعرض للضرب من طرف أحد المتعلمين، لكن المحكمة حكمت للمتعلم بالبراءة، فانهارت نفسية الأستاذ واضطر إلى الاستقالة. وهذا بلا شك شكل من أشكال تشجيع المتعلمين على ارتكاب الحماقة نفسها!!
- محيط المؤسسة التعليمية: عوضاً عن أن تنفتح المؤسسة التعليمية على مراكز علمية وتربوية يستفيد منها المتعلم، نجد العكس؛ حيث صارت الفضاءات المحيطة بالمدارس مراكز للانحراف وانتشار عادة التدخين وتعاطي المخدرات، ولعب القمار، وتنظيم ليالي الموسيقى والرقص الماجن، وإقامة العلاقات المتسيبة.
وخلاصة القول: يتفق التربويون على أن المدرس هو أحد العوامل الرئيسة المؤثرة في سلوك التلاميذ وشخصياتهم إن لم يكن أهمها، وأنه جزء لا يتجزأ من البيئة المدرسية، ومن دونه لا يمكن تحقيق مواقف تعليمية جديدة. لكن لا يمكن تحقيق ذلك ما لم تُعد له كرامته التي سُلبت منه من الأدوات والأجهزة والمؤسسات السابقة.
كما أنه لا يمكن أن تعود له قيمته الاجتماعية إلا بتضافر مجهودات الأستاذ والأطر الإدارية والتلاميذ وأولياء الأمور وباقي المؤسسات الأخرى في تقويم السلوكيات السلبية التي تظهر على التلميذ، كالعنف، وذلك عن طريق رصد مسبباتها والعمل على الحد منها أو التخفيف، على الأقل، من تأثيرها ■