شيخ الأزهر محمد الخضر حسين
نشأ الشيخ محمد الخضر حسين طالباً للعلم، فحفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء، منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، الذي كان يرعاه ويهتم به. ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس ودرس في جامع الزيتونة، وهناك درس على يد خاله ودرس كذلك على يد مشايخ آخرين من أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب، الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، ودرس على يديه «صحيح البخاري».
والحديث عن الشيخ محمد الخضر حسين يطول في مجال الدعوة الإسلامية، حيث إنه في عام 1903 عاد إلى الجزائر وطنه بعد غياب سنوات عنها ليكون قاضياً فيها، ولم يكن يرغب في هذا المنصب أسوة بكثير من علماء المسلمين الذين يتحاشون مجلس القضاء لما فيه، مكرهاً من قبل عمه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وبقي في هذا المنصب شهوراً قليلة ثم استقال وعاد إلى تونس، حيث عاود التدريس في جامع الزيتونة. وانضم إلى الجمعية الزيتونية التي يرأسها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهي خاصة بمشايخ جامع الزيتونة، وأقام بها خزانة كتب، ثم عمل بالتدريس في مدرسة الصادقية، فكانت الثانوية الوحيدة في تونس. واستمر في عمله إلى أن ضُيّق عليه فخرج من تونس إلى الشام. بعدها غادرها إلى إسطنبول ليزور خاله محمد المكي بن عزوز الذي اتخذها موطناً له، والذي لم يلقه منذ 15 سنة، وبقي معه شهرين ثم ارتحل عائداً إلى تونس. وظل فيها أسابيع قليلة ثم خرج منها إلى غير رجعة لما ضيق عليه «الاستخراب» الفرنسي، وكان ذلك في ديسمبر 1912، فوصل إلى دمشق ثم غادرها إلى الحجاز بواسطة السكة الحديد لأداء فريضة الحج.
في الزيتونة
تعلَّم في «الزيتونة» وعلَّم فيها مكان أحد الأساتذة الذين تركوا بصمة واضحة المعالم في التمسك بأخلاق الدين الإسلامي قولاً وفعلاً، حيث تخرج في الزيتونة عام 1898م وبدأ مسيرة حياته العملية، حيث عاد إليها متطوعاً للتدريس، وكان أصغر المدرسين والمعلمين سناً في ذلك الوقت. وفي عام 1914 أنشأ مجلة خاصة به تعنى بالثقافة الإسلامية والدعوة وأطلق عليها اسم «السعادة العظمى». وهي أول مجلة عربية في تونس في ذلك الوقت، وكانت تصدر مرتين في الشهر الميلادي، في أول الشهر ومنتصفه، وقد صدر من هذه المجلة 21 عدداً، ثم توقفت عن الصدور، ربما لأسباب مادية أو ربما لأنها كانت تتسم بالنقد الهادف والتفكير الجيد.
واستمر في التدريس بالزيتونة فترة ليست بالقصيرة، ثم ارتحل عنها قاصداً الشام وتحديداً سورية لوجود أقارب له من تونس، وهم ثلاثة إخوة أدباء فضلاء استقروا في الشام، وكان منهم شقيقه زين العابدين، العالم الذي كان يلقي الدروس في الجامع الأموي، فأراد الشيخ الخضر زيارتهم فغادر تونس إلى الشام ووصل إليها عن طريق البحر سنة 1912 ماراً بمالطا ثم الإسكندرية ثم القاهرة، وألقى بها درساً بالأزهر بعد أن مر على بعض المدن المصرية، ومكث في القاهرة فترة قصيرة، حيث ألقى خطبة في الأزهر الشريف نالت الكثير من الإعجاب والتقدير، ثم ترك القاهرة إلى بورسعيد ثم يافا في فلسطين وحيفا، وفي كل مدينة من المدن كان يزور الأدباء والعلماء ليطلع على كتبهم، ثم دخل الشام واستُقبل اســتقبالاً حافلاً وألقى دروساً في الجامع الأموي في الحديث، نظراً لمكانته العلمية وغيرته على دينه ولغته، حيث عُرف عنه أنه محب للغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، التي تنسجم مع مدرسته في الفقه، وكونه رجلاً متفقهاً في الدين. مكث في سورية وقتاً ثم رحل إلى بيروت.
من البلقان إلى ألمانيا
وبعد مغادرته دمشق زار ألبانيا وبلاد البلقان، ثم ذهب إلى الأستانة، ثم وصل إلى دمشق واستقرّ بها في حي الميدان ببيت إخوته الثلاثة الذين سبقوه إلى هناك، ودرس في دمشق المدرسة السلطانية، واستمر في ذلك حتى سجنه جمال باشا السفاح والي الشام العثماني سنة 1916، متهماً إياه بالتآمر على السلطة الحاكمة، وبقي في السجن 6 أشهر وقيل أكثر من ذلك. فلما خرج منه عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية والجامع الأموي. ثم طلبته وزارة الحربية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى لصياغة الرسائل العربية، فغادر دمشق إلى إسطنبول ومن هناك أرسلته الدولة العثمانية إلى ألمانيا مع مجموعة من المشايخ في مهمة سياسية تتمثل في تحريض المغاربة هناك ضد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا وضد الإيطاليين في ليبيا.
فبقي 9 أشهر، تعلَّم فيها اللغة الألمانية واطلع على عادات المجتمع الألماني، ثم عاد إلى إسطنبول فبقي فيها قليلاً، ثم عاد إلى برلين ليقيم فيها 7 أشهر، وشارك أثناء ذلك في كتابة تقرير مفصَّل عن مطالب الشعبين الجزائري والتونسي، وقد رفع هذا التقرير إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا سنة 1917، وأنشأ هناك مسجداً للجنود المسلمين في برلين وألقى فيه محاضرة عن الحرية، ولم يأكل في فترة إقامته في ألمانيا اللحم، لأن الألمان لا يذبحون وفق الشريعة الإسلامية. وقد أعجب بحب الألمان للعمل وإقبالهم عليه حتى العجائز منهم. ولما سقطت إسطنبول في أيدي الخلفاء غادر هامبورج عائداً إلى إسطنبول بباخرة أقلّته ومَن معه من العثمانيين، ومنها عاد إلى دمشق التي كانت قد خضعت للحكم العربي بعد زوال الحكم العثماني بقيادة فيصل بن شريف حسين. وفي دمشق انضم إلى المجمع العلمي العربي عضواً عاملاً، وعندما استقر في مصر بقي عضواً مراسلاً للمجمع. ولما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين في عام 1920 ما وسعه المقام فيها، وذلك لأن الفرنسيين حكموا عليه بالإعدام غيابياً في تونس لاتهامه بالمشاركة في تحريض المغاربة في ألمانيا وتركيا على الثورة ضد الفرنسيين في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر.
وبقي في مصر إلى نهاية حياته وعمل في مصر مصححاً في دار الكتب المصرية بشفاعة أحمد تيمور باشا. وفي القاهرة أنشأ جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية التي تهتم بالمقاربة من الناحيتين الاجتماعية والثقافية وذلك سنة 1924.
دفاعاً عن أفريقيا الشمالية
يذكر أنه بعد عشرين سنة ألَّف جمعية جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية، وفي تلك المدة أسقط كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية ومن ثم طلع الناس إلى بلد آخر ليكون مهداً للخلافة، فاتجهت الأنظار إلى مصر. وخلال هذه الفترة ألّف الشيخ كتابه المشهور «نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم» رداً على الشيخ علي عبدالرزاق وفحوى كتابه الذي أساء إلى الفكر الإسلامي، وبعد أن رد عليه شيخنا نال به حظوة عند الملك فؤاد الأول، وجمع من العلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين، وعظمت به شهرته وطار به صيته. وقد أهدى الكتاب لخزانة الملك فؤاد الأول، حيث حمل على عاتقه الدفاع عن أصول الفكر والدين الإسلامي واللغة العربية، إذ رد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي بكتاب يحمل عنوان «نقد كتاب الشعر الجاهلي» الذي كان باعتراف طه حسين من أهم الردود عليه وأشدها حجة عن كتابه السابق الذكر.
وفي سنة 1928 شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين ووضع لائحتها مع محب الدين الخطيب، وكذلك أنشأ جمعية الهداية الإسلامية مع الشيخ محمد مصطفى المراغي في السنة نفسها.
ولما رأى الشيخ التفسخ الخلقي آخذاً في الانتشار بين كثير من شباب مصر آنذاك، وكان من أهداف الجمعية محاربة الفساد والإلحاد والتعريف بالإسلام والسعي إلى تمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية، والسعي لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، أصدر مجلة الهداية الإسلامية كما ذكرنا لتكون لسان حال الجمعية، وكان الشيخ محمد الخضر حسين رئيساً لها. وفتحت منها الجمعية فروعاً في مصر وسورية والعراق، وقد توقف صدور المجلة أثناء الحرب العالمية الثانية 1945 ■