الشُّعراء الفُرسان وشعراءُ الحَربِ
أُسِّسَت الصِّلات القبليَّة بين العَرَبِ على العداءِ والحروب المُتوالية أو على المُحالفةِ والنصرة، وقد اعتادَ المؤرِّخون أن يُسمّوا الحروب التي وقَعَت بين العرب «الأيام»، وقد ساعدت البيئة الاجتماعية على هذه الحروب، فهم يتنازعون على ما يُسيمونَ فيه أنعامهم وعلى النهل يروون به ظمأهم في بلادٍ شحيحةِ الكلأ ضنينةٍ بالماء لا ملكيَّة فيها لأحد.
كثيراً مَا كانت الحربُ تبدأ بتراعٍ بين الرّعاة على الماء أو المَرعى فيشتركُ معهم ساداتهم وأقرباؤهم.
وقد تشتعلُ الحربُ على تنافسهم على شرف أو رياسة، وهم كَلِفُونَ على الشَّرفِ والرّياسة كما حَدَث مع هاشم وأميّة في مكّة، وبين عبسٍ وذُبيانَ من قيسٍ، وبكرٍ وتغلب.
وقد تقع الحرب نُصرَة لقريبٍ وإن كان ظالِماً، وشعارهم «انْصُرْ أخاك ظالِماً أو مظلوماً»، والذي يتخلّى عن نُصرةِ أخيه يُعيَّر ويُعابُ، وربّما عيَّر الشَّاعِرُ قبيلتهُ كلّها جرّاء تخلّيها عنه... قال قُريط بنُ أُنيف، وكان بعضُ بني شيبان أغاروا على إبِلِه فاستنجد قومهُ فلم يُنجدوه فلجأ إلى بني مازن (مازن تميم) فأنجدوه:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبْلِي
بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبانا
إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ
عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشَّرُّ أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهم حينَ يندبهم
في النَّائبات على ما قال برهانا
لكنّ قومي وإنْ كانوا ذوي عددٍ
ليسوا من الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
كأنَّ ربّك لم يخلق لخشيتهِ
سواهم من جميع النّاسِ إنسانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
ومن إساءة أهل السّوء إحسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
شَنّوا الإغارة فرساناً وركبانا
***
ومن المُسلَّم به أنّ الحرب من العوامل المُثيرة للعواطِف فهي تُحرِّك الوجدان وتُلهبه بأحداثِها، فإذا كان تأثيرها بالشّخص العادي هكذا فما بالُ الشُّعراء وهم ذوو الإحساس المُرهف.
يقول ابنُ سلاّم: وإنّما كان الشِّعر يكثُر في الحروب التي تقوم بين الأحياء نحو حرب الأوسِ والخزرجِ، أو قوم يُغيرون ويُغارُ عليهم، والذي قلَّلَ شِعرَ قريش أنّه لم يكنْ فيهم ثائرٌ ولم يحاربوا، وذلك الذي قلَّلَ شِعرَ عُمان وشِعرَ الطَّائف.
وقد كان لكلّ قبيلة فرسانها الذين يتدربون على ركوب الخيلِ كثيراً فكانوا يقفزون عليها ويشهرون سيوفَهم ويلوّحون برماحِهم، وتلقانا أسماؤهم وخاصّةً في حروبهم الطويلة مثل حرب البسوس وفارسها المُهلهل التّغلبيّ، وهو الذي أشعَل نيرانه ثأراً لأخيهِ كُليب، ويقال إنه هو أوّلُ مَنْ هَلْهَلَ الشِّعْرَ ولذلك سُمّي مُهلهلاً، وكان كثيراً ما يتغنَّى بالانتصارِ على بَكْرٍ قبيلةِ جسّاس، يقول:
وَأَنّي قَد تَرَكتُ بِوارِدَاتٍ
بُجَيراً في دَمٍ مِثل العَبير
وهَمّامَ بنَ مُرَّةَ قَد تَرَكنا
عَلَيهِ القُشعُمانِ مِنَ النُسورِ
وصبَّحنَا الوُخُوم بيومِ سوءٍ
يُدافعنَ الأسِنَّةَ بالنُجُورِ
ومن فرسانهم المشهورين عامر بن الطّفيل فارسُ بني عامر بن صعصعة أولى عشائر هوازن وأشدّها بأساً، ولِعامِر ديوانٌ نَشَرَهُ (لايل) وهو فيه دائم الحديث عن فروسيته وحُسن بلائه في حروب قومه مع ذبيان في يوم الرّقم ويوم ساحوق، وغيرها من أيام العرب، وقد أظهرَ بطولةً فائِقَةً في يوم فيف، يَقولُ:
لَقَد عَلِمَت عُليا هَوازِنَ أَنَّني
أنا الفارِسُ الحامي حَقيقَةَ جَعفَرِ
وقد عَلِمَ المَزنوقُ أَنَّي أَكُرُّهُ
عَشِيَّةَ فيفِ الرِّيحِ كَرَّ المُشَهَّرِ
إذا ازوَرَّ من وَقعِ الرِّماحِ زَجَرتُهُ
وقُلتُ لهُ ارجِع مُقبِلاً غيرَ مُدبِرِ
وأَنبَأتُهُ أنَّ الفِرارَ خَزايَةٌ
على المَرءِ ما لَم يُبلِ عُذراً فَيُعذَرِ
ألَستَ تَرى أرماحَهُم فيَّ شُرَّعاً
وأَنتَ حِصانٌ ماجِدُ العِرقِ فَاصبِرِ؟
وَقَد عَلِموا أَنّي أَكُرُّ عَلَيهِمِ
عَشِيَّةَ فَيفِ الرّيحِ كَرَّ المُدَوَّرِ
وَما رِمتُ حَتّى بَلَّ صّدري وَنَحرَهُ
نَجيعٌ كَهُدَّابِ الدِمَقسِ المُسَيَّرِ
ويصوِّر لنا اقتحامَه الحروبَ، وكيفَ أنَّه لا يتخلّى عن بسالتهِ الحربيَّة، حتى يحمي عشيرتَه وضعفاءَها، وإنَّه لا يزال يردُّ فرسَه المزنوق إلى الحربِ كلّما خَرَجَ منها، وإنْ مالَ أو انحرفَ عنها دَفَعَه فيها دفعاً، أمّا الفرارُ وعاره فدونه الموت، ويدعو فرسَه إلى التأسّي بهِ، فالرِّماحُ تنوشُهُ من كلِّ جانبٍ وهو يهجمُ على أعدائِهِ غير مُبالٍ، ويدعو فرسَه إلى الصّبرِ مَعه، حتى ينالا شرفَ النَّصر جميعاً، ويلمعُ أمام عينيه يومَ فَيف الرّيح ومَا أظهَرَ بها من شجاعةٍ، فهو لم يبرحْ موقعه مِنَ القتالِ، حتى غَرِقَ نحره وصدرَ فرسه، ولا نُبالِغُ إنْ قلنا إنَّ أهمَّ فارسٍ احتفظت به ذاكِرةُ العربِ للأجيالِ التَّالية إلى يومنا الحاضِرِ هو عنترةُ بن شدَّاد العبسيّ، أمّا أمُّه فهي حبشيَّة، اسمُها زبيبة، وقد وَرِثَ منها سوادَه، لذلك يُعَدُّ من أغربةِ العَرَبِ، كما ورثَ عنها تشقّق شفتيه، لذلك كان يُلقَّب بعنترة الفلحاء، وكانت عادةُ الجاهليين إن استولدوا الإماء أن يسترقّوا أبناءهنَّ ولا يُلحقونهم بأنسابهم إلاّ إنْ أظهروا شجاعةً ونجابةً، ومن ثمّ لم يعترف شدَّاد بعنترةَ ابناً لهُ إلاّ بعد ما أبدى من الشّجاعةِ ما أبدى في حربِ داحس والغبراء، وقد ظلَّ يذكرُ هذا الجرحَ الذي أصابه في الصَّميم، لذَلِكَ يقولُ:
إنّي اِمرُؤٌ مِن خَيرِ عَبسٍ مَنصِباً
شَطرِي وَأَحمي سائِري بِالمُنصُلِ
وإذا الكَتيبَةُ أَحجَمَت وتَلاحَظَت
أُلفيتُ خَيراً مِن مُعَمٍّ مُخوَلِ
وواضحٌ أنّه يُشيرُ إلى كرمِ أصلِهِ الأبويّ، أمّا شطرُه الثَّاني مِن جهة أمِّه فتنوبُ عنه شجاعتُه ونجابتُه حتى غدا في القبيلةِ وخيراً منَ الذي أعمامه وأخواله من سادات القبيلةِ، ويُصوِّر لنا في هذه القصيدةِ نفسها شجاعتَه تصويراً بَارِزَاً، فيقولُ:
بَكَرَت تُخَوِّفني الحُتوفَ كَأَنَّني
أَصبَحتُ عَن غَرَضِ الحُتوفِ بِمَعزِلِ
فَأَجَبتُها إِنَّ المَنِيَّةَ مَنهَلٌ
لا بُدَّ أَن أُسقى بِكَأسِ المَنهَلِ
فَاِقِني حَياءَكِ لا أَبالَكِ وَاِعلَمي
أَنّي اِمرُؤٌ سَأَموتُ إِن لَم أُقتَلِ
إنَّ المَنيَّةَ لَو تُمَثَّلُ مُثِّلَت
مِثلي إِذا نَزَلوا بِضَنكِ المَنزِلِ
والخَيلُ ساهِمَةُ الوُجوهِ كَأَنَّما
تُسقى فوارِسُها نقيعَ الحَنظَلِ
***
وهو لا يستمعُ لصاحبَتِهِ التي تخوّفه مِنَ المنيِّةِ، وهو يصمّ أذنيهِ عن كلامِها، فالمنيَّةُ بحسبِ رأيِهِ شيءٌ حتميٌّ لا بُدَّ أن يلاقيه، ولتكن ساعةُ الملاقاة مُشَرِّفَةً، وهو يناضِلُ لأجلِ قومه مُدافعاً عن نسائهم وأطفالهم، ولا يلبث إحساسه بالبطولة أن يتضخَّمَ في نفسِهِ، فهو يتصوَّرُ المنيةَ لو خُلِقَت في مثالٍ لكانت على مثلِ صورتِهِ، وهو يقتحمُ صفوفَهم والفرسانُ كالحةٌ وجوههم كأنَّما يشربون نقيعَ الحنظلِ.
ولا بُدَّ أنْ نُلاحِظَ بصورةٍ عامَّةٍ أنَّ الفروسيَّةَ بعثتْ في نفوسِ أصحابها ضربَاً منَ التَّسامي والإحساس بالمروءة الكاذبة فإذا هم يتغنّون دَائِماً بمجموعةٍ مِنَ الفَضائِلِ والخِصَال الحميدةِ، فيقولُ عنترة في معلَّقته مُخاطباً ابنةَ عمّه عبلة:
أَثني عَلَيَّ بِما عَلِمتِ فَإنَّني
سَمحٌ مُخالَقَتي إِذا لَم أُظلَمِ
وإِذا ظُلِمتُ فَإِنَّ ظُلمِي باسِلٌ
مُرٌّ مَذاقَتَهُ كَطَعمِ العَلقَمِ
فَإِذا شَرِبتُ فَإِنَّني مُستَهلِكٌ
مالي وَعِرضي وافِرق لَم يُكلَمِ
ويتحدَّثُ إليها عن بطولتِهِ وفروسيَّته في الطَّعنِ والنَّزعِ، وصِراعِ الأقرانِ وكيفَ ينصبُّ عليهم كالقضَاءِ النَّازِلِ، أو كشواظٍ مِنَ النّارِ، ولا يلبثُ أنْ يعودَ إلى الفَخْرِ بنفسه وشرفِ طِباعِهِ، فيقول:
هَلاَّ سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ
إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي
وَمُدَجَّجٍ كَرِهَ الكُماةُ نِزالَهُ
لا مُمعِنٍ هَرَباً وَلا مُستَسلِمِ
جادَت لَهُ كَفّي بِعاجِلِ طَعنَةٍ
بِمُثَقَّفٍ صَدقِ الكُعوبِ مُقَوَّمِ
فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ
لَيسَ الكَريمُ على القَنا بِمُحَرَّمِ
ويقولُ في مَوضِعٍ آخرَ:
وأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي
حتّى يُواري جارَتي مأواها
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ
لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
وعنترة بهذا كلِّه يصوِّر لنا المروءَةَ الجاهليَّة فقد تكاملتِ الفروسيَّةُ عندَه فلم تَعُد تقتَصِر على الحروبِ، بل أصبحت فروسيَّةً خُلُقيَّةً ساميةً.
وكذلِكَ يتحدّث عمرو بنُ كلثوم عن شجاعتِهِ فيقولُ في معلَّقتِهِ الشَّهيرة:
أبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَينا
وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا
وأَيَامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ
عَصَينا المَلكَ فيها أَن نَدينا
وَأَنزَلنا البُيوتَ بِذي طُلوحٍ
إلى الشَّاماتِ تَنفي الموعِدينا
الحروبُ في الشِّعر الجاهليّ
لقد وصفَ الشُّعراء الحربَ بأَنّها شرٌّ كبيرٌ لا ينعبُ به إلاَّ طيرُ الشُّؤمِ، ساحاتُها خَطيرةٌ، وهولها شديدٌ، طعمُها مرٌّ، وفزعُها عظيمٌ، يقولُ زهير:
وما الحربُ إلاَّ ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَّحى بِثِفالِها
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
***
إنَّ الحربَ هي المصيبةُ والمشكلةُ الكُبرى، هذا ما وجدتُهُ وإيَّاكم منَ المُعاناة المباشرةِ مِنَ الحربِ، وليسَت أحاديثَ منقولةً أو أموراً متكهّنةً، وهذا دليلٌ على أنَّ الشَّاعِرَ قد عَانى من هذه الحربِ، ولم يَعُدْ يُطيقُ الاستمرار بها.
وإنّ الحربَ دائِماً وأبداً سيّئة العواقِبِ بالنسبة إلى الطَّرفين، فكلٌّ سيخسرُ أبناءه، أيضاً كالنَّار متى أوقدتموها وهيَّجتموها هاجت واستَعَرت، وما عادَ مِنَ الممكنِ إيقافها، والشَّاعِرُ يرمي من وراءِ هذه الكلماتِ إلى إقناعِ النَّاس بواجِبِ المحافظةِ على السَّلام وتجنُّب المشاحنات، فعواقبُ الحربِ وَخيمَةٌ.
يريدُ الشّاعِر هنا أن يبرزَ الخطورةَ على الصَّعيدين المادِّيّ والنَّفسيّ، فالحربُ على الصَّعيد المادِّي كالرّحى تطحنُ النَّاس بدلاً من القمحِ وتُزهِقُ الأرواح، وعلى الصَّعيد المعنويّ تولِّدُ البغضاءَ والمشاحناتِ بين القبائِلِ.
وقالَ أبو القيسِ الأسلت:
قالَت وَلَم تَقصِد لِقيلِ الخَنا
مَهلاً فَقَد أَبلَغتَ إسماعي
أنكَرتِهِ حينَ تَوَسَّمتِهِ
والحَربُ غولٌ ذاتُ أَوجاعِ
مَنْ يَذُقِ الحَربَ يَجِد طَعمَها
مُرّاً وَتَحبِسهُ بجَعجاعِ ■