الشُّعراء الفُرسان وشعراءُ الحَربِ

الشُّعراء الفُرسان وشعراءُ الحَربِ

أُسِّسَت‭ ‬الصِّلات‭ ‬القبليَّة‭ ‬بين‭ ‬العَرَبِ‭ ‬على‭ ‬العداءِ‭ ‬والحروب‭ ‬المُتوالية‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬المُحالفةِ‭ ‬والنصرة،‭ ‬وقد‭ ‬اعتادَ‭ ‬المؤرِّخون‭ ‬أن‭ ‬يُسمّوا‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬وقَعَت‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬ساعدت‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحروب،‭ ‬فهم‭ ‬يتنازعون‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يُسيمونَ‭ ‬فيه‭ ‬أنعامهم‭ ‬وعلى‭ ‬النهل‭ ‬يروون‭ ‬به‭ ‬ظمأهم‭ ‬في‭ ‬بلادٍ‭ ‬شحيحةِ‭ ‬الكلأ‭ ‬ضنينةٍ‭ ‬بالماء‭ ‬لا‭ ‬ملكيَّة‭ ‬فيها‭ ‬لأحد‭.‬

كثيراً‭ ‬مَا‭ ‬كانت‭ ‬الحربُ‭ ‬تبدأ‭ ‬بتراعٍ‭ ‬بين‭ ‬الرّعاة‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬أو‭ ‬المَرعى‭ ‬فيشتركُ‭ ‬معهم‭ ‬ساداتهم‭ ‬وأقرباؤهم‭.‬

وقد‭ ‬تشتعلُ‭ ‬الحربُ‭ ‬على‭ ‬تنافسهم‭ ‬على‭ ‬شرف‭ ‬أو‭ ‬رياسة،‭ ‬وهم‭ ‬كَلِفُونَ‭ ‬على‭ ‬الشَّرفِ‭ ‬والرّياسة‭ ‬كما‭ ‬حَدَث‭ ‬مع‭ ‬هاشم‭ ‬وأميّة‭ ‬في‭ ‬مكّة،‭ ‬وبين‭ ‬عبسٍ‭ ‬وذُبيانَ‭ ‬من‭ ‬قيسٍ،‭ ‬وبكرٍ‭ ‬وتغلب‭.‬

وقد‭ ‬تقع‭ ‬الحرب‭ ‬نُصرَة‭ ‬لقريبٍ‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ظالِماً،‭ ‬وشعارهم‭ ‬‮«‬انْصُرْ‭ ‬أخاك‭ ‬ظالِماً‭ ‬أو‭ ‬مظلوماً‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬يتخلّى‭ ‬عن‭ ‬نُصرةِ‭ ‬أخيه‭ ‬يُعيَّر‭ ‬ويُعابُ،‭ ‬وربّما‭ ‬عيَّر‭ ‬الشَّاعِرُ‭ ‬قبيلتهُ‭ ‬كلّها‭ ‬جرّاء‭ ‬تخلّيها‭ ‬عنه‭... ‬قال‭ ‬قُريط‭ ‬بنُ‭ ‬أُنيف،‭ ‬وكان‭ ‬بعضُ‭ ‬بني‭ ‬شيبان‭ ‬أغاروا‭ ‬على‭ ‬إبِلِه‭ ‬فاستنجد‭ ‬قومهُ‭ ‬فلم‭ ‬يُنجدوه‭ ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬بني‭ ‬مازن‭ (‬مازن‭ ‬تميم‭) ‬فأنجدوه‭:‬

لَوْ‭ ‬كُنْتُ‭ ‬مِنْ‭ ‬مَازنٍ‭ ‬لم‭ ‬تَسْتَبِحْ‭ ‬إِبْلِي‭ ‬

بَنُو‭ ‬اللَّقِيطَةِ‭ ‬مِنْ‭ ‬ذُهْلِ‭ ‬بْنِ‭ ‬شَيْبانا

إذن‭ ‬لقام‭ ‬بنصري‭ ‬معشرٌ‭ ‬خشنٌ

عند‭ ‬الحفيظة‭ ‬إن‭ ‬ذو‭ ‬لوثةٍ‭ ‬لانا

قومٌ‭ ‬إذا‭ ‬الشَّرُّ‭ ‬أبدى‭ ‬ناجذيه‭ ‬لهم

طاروا‭ ‬إليه‭ ‬زرافاتٍ‭ ‬ووحدانا

لا‭ ‬يسألون‭ ‬أخاهم‭ ‬حينَ‭ ‬يندبهم‭ ‬

في‭ ‬النَّائبات‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قال‭ ‬برهانا

لكنّ‭ ‬قومي‭ ‬وإنْ‭ ‬كانوا‭ ‬ذوي‭ ‬عددٍ‭ ‬

ليسوا‭ ‬من‭ ‬الشَّرِّ‭ ‬في‭ ‬شيءٍ‭ ‬وإنْ‭ ‬هانا

كأنَّ‭ ‬ربّك‭ ‬لم‭ ‬يخلق‭ ‬لخشيتهِ

سواهم‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬النّاسِ‭ ‬إنسانا

يجزون‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬أهل‭ ‬الظلم‭ ‬مغفرةً‭ ‬

‭ ‬ومن‭ ‬إساءة‭ ‬أهل‭ ‬السّوء‭ ‬إحسانا

فليت‭ ‬لي‭ ‬بهم‭ ‬قوماً‭ ‬إذا‭ ‬ركبوا

شَنّوا‭ ‬الإغارة‭  ‬فرساناً‭ ‬وركبانا

‭***‬

ومن‭ ‬المُسلَّم‭ ‬به‭ ‬أنّ‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬المُثيرة‭ ‬للعواطِف‭ ‬فهي‭ ‬تُحرِّك‭ ‬الوجدان‭ ‬وتُلهبه‭ ‬بأحداثِها،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬تأثيرها‭ ‬بالشّخص‭ ‬العادي‭ ‬هكذا‭ ‬فما‭ ‬بالُ‭ ‬الشُّعراء‭ ‬وهم‭ ‬ذوو‭ ‬الإحساس‭ ‬المُرهف‭.‬

يقول‭ ‬ابنُ‭ ‬سلاّم‭: ‬وإنّما‭ ‬كان‭ ‬الشِّعر‭ ‬يكثُر‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بين‭ ‬الأحياء‭ ‬نحو‭ ‬حرب‭ ‬الأوسِ‭ ‬والخزرجِ،‭ ‬أو‭ ‬قوم‭ ‬يُغيرون‭ ‬ويُغارُ‭ ‬عليهم،‭ ‬والذي‭ ‬قلَّلَ‭ ‬شِعرَ‭ ‬قريش‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬فيهم‭ ‬ثائرٌ‭ ‬ولم‭ ‬يحاربوا،‭ ‬وذلك‭ ‬الذي‭ ‬قلَّلَ‭ ‬شِعرَ‭ ‬عُمان‭ ‬وشِعرَ‭ ‬الطَّائف‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬لكلّ‭ ‬قبيلة‭ ‬فرسانها‭ ‬الذين‭ ‬يتدربون‭ ‬على‭ ‬ركوب‭ ‬الخيلِ‭ ‬كثيراً‭ ‬فكانوا‭ ‬يقفزون‭ ‬عليها‭ ‬ويشهرون‭ ‬سيوفَهم‭ ‬ويلوّحون‭ ‬برماحِهم،‭ ‬وتلقانا‭ ‬أسماؤهم‭ ‬وخاصّةً‭ ‬في‭ ‬حروبهم‭ ‬الطويلة‭ ‬مثل‭ ‬حرب‭ ‬البسوس‭ ‬وفارسها‭ ‬المُهلهل‭ ‬التّغلبيّ،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬أشعَل‭ ‬نيرانه‭ ‬ثأراً‭ ‬لأخيهِ‭ ‬كُليب،‭ ‬ويقال‭  ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬أوّلُ‭ ‬مَنْ‭ ‬هَلْهَلَ‭ ‬الشِّعْرَ‭ ‬ولذلك‭ ‬سُمّي‭ ‬مُهلهلاً،‭ ‬وكان‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتغنَّى‭ ‬بالانتصارِ‭ ‬على‭ ‬بَكْرٍ‭ ‬قبيلةِ‭ ‬جسّاس،‭ ‬يقول‭:‬

وَأَنّي‭ ‬قَد‭ ‬تَرَكتُ‭ ‬بِوارِدَاتٍ‭ ‬

بُجَيراً‭ ‬في‭ ‬دَمٍ‭ ‬مِثل‭ ‬العَبير

وهَمّامَ‭ ‬بنَ‭ ‬مُرَّةَ‭ ‬قَد‭ ‬تَرَكنا

عَلَيهِ‭ ‬القُشعُمانِ‭ ‬مِنَ‭ ‬النُسورِ

وصبَّحنَا‭ ‬الوُخُوم‭ ‬بيومِ‭ ‬سوءٍ‭ ‬

يُدافعنَ‭ ‬الأسِنَّةَ‭ ‬بالنُجُورِ

 

ومن‭ ‬فرسانهم‭ ‬المشهورين‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬الطّفيل‭ ‬فارسُ‭ ‬بني‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬صعصعة‭ ‬أولى‭ ‬عشائر‭ ‬هوازن‭ ‬وأشدّها‭ ‬بأساً،‭ ‬ولِعامِر‭ ‬ديوانٌ‭ ‬نَشَرَهُ‭ (‬لايل‭) ‬وهو‭ ‬فيه‭ ‬دائم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬فروسيته‭ ‬وحُسن‭ ‬بلائه‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬قومه‭ ‬مع‭ ‬ذبيان‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الرّقم‭ ‬ويوم‭ ‬ساحوق،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬العرب،‭ ‬وقد‭ ‬أظهرَ‭ ‬بطولةً‭ ‬فائِقَةً‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬فيف،‭ ‬يَقولُ‭:‬

لَقَد‭ ‬عَلِمَت‭ ‬عُليا‭ ‬هَوازِنَ‭ ‬أَنَّني‭ ‬

أنا‭ ‬الفارِسُ‭ ‬الحامي‭ ‬حَقيقَةَ‭ ‬جَعفَرِ

وقد‭ ‬عَلِمَ‭ ‬المَزنوقُ‭ ‬أَنَّي‭ ‬أَكُرُّهُ

عَشِيَّةَ‭ ‬فيفِ‭ ‬الرِّيحِ‭ ‬كَرَّ‭ ‬المُشَهَّرِ

إذا‭ ‬ازوَرَّ‭ ‬من‭ ‬وَقعِ‭ ‬الرِّماحِ‭ ‬زَجَرتُهُ

وقُلتُ‭ ‬لهُ‭ ‬ارجِع‭ ‬مُقبِلاً‭ ‬غيرَ‭ ‬مُدبِرِ

وأَنبَأتُهُ‭ ‬أنَّ‭ ‬الفِرارَ‭ ‬خَزايَةٌ

على‭ ‬المَرءِ‭ ‬ما‭ ‬لَم‭ ‬يُبلِ‭ ‬عُذراً‭ ‬فَيُعذَرِ

ألَستَ‭ ‬تَرى‭ ‬أرماحَهُم‭ ‬فيَّ‭ ‬شُرَّعاً

وأَنتَ‭ ‬حِصانٌ‭ ‬ماجِدُ‭ ‬العِرقِ‭ ‬فَاصبِرِ؟

وَقَد‭ ‬عَلِموا‭ ‬أَنّي‭ ‬أَكُرُّ‭ ‬عَلَيهِمِ

عَشِيَّةَ‭ ‬فَيفِ‭ ‬الرّيحِ‭ ‬كَرَّ‭ ‬المُدَوَّرِ

وَما‭ ‬رِمتُ‭ ‬حَتّى‭ ‬بَلَّ‭ ‬صّدري‭ ‬وَنَحرَهُ

نَجيعٌ‭ ‬كَهُدَّابِ‭ ‬الدِمَقسِ‭ ‬المُسَيَّرِ

 

ويصوِّر‭ ‬لنا‭ ‬اقتحامَه‭ ‬الحروبَ،‭ ‬وكيفَ‭ ‬أنَّه‭ ‬لا‭ ‬يتخلّى‭ ‬عن‭ ‬بسالتهِ‭ ‬الحربيَّة،‭ ‬حتى‭ ‬يحمي‭ ‬عشيرتَه‭ ‬وضعفاءَها،‭ ‬وإنَّه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يردُّ‭ ‬فرسَه‭ ‬المزنوق‭ ‬إلى‭ ‬الحربِ‭ ‬كلّما‭ ‬خَرَجَ‭ ‬منها،‭ ‬وإنْ‭ ‬مالَ‭ ‬أو‭ ‬انحرفَ‭ ‬عنها‭ ‬دَفَعَه‭ ‬فيها‭ ‬دفعاً،‭ ‬أمّا‭ ‬الفرارُ‭ ‬وعاره‭ ‬فدونه‭ ‬الموت،‭ ‬ويدعو‭ ‬فرسَه‭ ‬إلى‭ ‬التأسّي‭ ‬بهِ،‭ ‬فالرِّماحُ‭ ‬تنوشُهُ‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬جانبٍ‭ ‬وهو‭ ‬يهجمُ‭ ‬على‭ ‬أعدائِهِ‭ ‬غير‭ ‬مُبالٍ،‭ ‬ويدعو‭ ‬فرسَه‭ ‬إلى‭ ‬الصّبرِ‭ ‬مَعه،‭ ‬حتى‭ ‬ينالا‭ ‬شرفَ‭ ‬النَّصر‭ ‬جميعاً،‭ ‬ويلمعُ‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬يومَ‭ ‬فَيف‭ ‬الرّيح‭ ‬ومَا‭ ‬أظهَرَ‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬شجاعةٍ،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يبرحْ‭ ‬موقعه‭ ‬مِنَ‭ ‬القتالِ،‭ ‬حتى‭ ‬غَرِقَ‭ ‬نحره‭ ‬وصدرَ‭ ‬فرسه،‭ ‬ولا‭ ‬نُبالِغُ‭ ‬إنْ‭ ‬قلنا‭ ‬إنَّ‭ ‬أهمَّ‭ ‬فارسٍ‭ ‬احتفظت‭ ‬به‭ ‬ذاكِرةُ‭ ‬العربِ‭ ‬للأجيالِ‭ ‬التَّالية‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬الحاضِرِ‭ ‬هو‭ ‬عنترةُ‭ ‬بن‭ ‬شدَّاد‭ ‬العبسيّ،‭ ‬أمّا‭ ‬أمُّه‭ ‬فهي‭ ‬حبشيَّة،‭ ‬اسمُها‭ ‬زبيبة،‭ ‬وقد‭ ‬وَرِثَ‭ ‬منها‭ ‬سوادَه،‭ ‬لذلك‭ ‬يُعَدُّ‭ ‬من‭ ‬أغربةِ‭ ‬العَرَبِ،‭ ‬كما‭ ‬ورثَ‭ ‬عنها‭ ‬تشقّق‭ ‬شفتيه،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬يُلقَّب‭ ‬بعنترة‭ ‬الفلحاء،‭ ‬وكانت‭ ‬عادةُ‭ ‬الجاهليين‭ ‬إن‭ ‬استولدوا‭ ‬الإماء‭ ‬أن‭ ‬يسترقّوا‭ ‬أبناءهنَّ‭ ‬ولا‭ ‬يُلحقونهم‭ ‬بأنسابهم‭ ‬إلاّ‭ ‬إنْ‭ ‬أظهروا‭ ‬شجاعةً‭ ‬ونجابةً،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬لم‭ ‬يعترف‭ ‬شدَّاد‭ ‬بعنترةَ‭ ‬ابناً‭ ‬لهُ‭ ‬إلاّ‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬أبدى‭ ‬من‭ ‬الشّجاعةِ‭ ‬ما‭ ‬أبدى‭ ‬في‭ ‬حربِ‭ ‬داحس‭ ‬والغبراء،‭ ‬وقد‭ ‬ظلَّ‭ ‬يذكرُ‭ ‬هذا‭ ‬الجرحَ‭ ‬الذي‭ ‬أصابه‭ ‬في‭ ‬الصَّميم،‭ ‬لذَلِكَ‭ ‬يقولُ‭:‬

إنّي‭ ‬اِمرُؤٌ‭ ‬مِن‭ ‬خَيرِ‭ ‬عَبسٍ‭ ‬مَنصِباً

شَطرِي‭ ‬وَأَحمي‭ ‬سائِري‭ ‬بِالمُنصُلِ

وإذا‭ ‬الكَتيبَةُ‭ ‬أَحجَمَت‭ ‬وتَلاحَظَت

أُلفيتُ‭ ‬خَيراً‭ ‬مِن‭ ‬مُعَمٍّ‭ ‬مُخوَلِ

 

وواضحٌ‭ ‬أنّه‭ ‬يُشيرُ‭ ‬إلى‭ ‬كرمِ‭ ‬أصلِهِ‭ ‬الأبويّ،‭ ‬أمّا‭ ‬شطرُه‭ ‬الثَّاني‭ ‬مِن‭ ‬جهة‭ ‬أمِّه‭ ‬فتنوبُ‭ ‬عنه‭ ‬شجاعتُه‭ ‬ونجابتُه‭ ‬حتى‭ ‬غدا‭ ‬في‭ ‬القبيلةِ‭ ‬وخيراً‭ ‬منَ‭ ‬الذي‭ ‬أعمامه‭ ‬وأخواله‭ ‬من‭ ‬سادات‭ ‬القبيلةِ،‭ ‬ويُصوِّر‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدةِ‭ ‬نفسها‭ ‬شجاعتَه‭ ‬تصويراً‭ ‬بَارِزَاً،‭ ‬فيقولُ‭: ‬

بَكَرَت‭ ‬تُخَوِّفني‭ ‬الحُتوفَ‭ ‬كَأَنَّني‭ ‬

أَصبَحتُ‭ ‬عَن‭ ‬غَرَضِ‭ ‬الحُتوفِ‭ ‬بِمَعزِلِ‭ ‬

فَأَجَبتُها‭ ‬إِنَّ‭ ‬المَنِيَّةَ‭ ‬مَنهَلٌ‭ ‬

لا‭ ‬بُدَّ‭ ‬أَن‭ ‬أُسقى‭ ‬بِكَأسِ‭ ‬المَنهَلِ

فَاِقِني‭ ‬حَياءَكِ‭ ‬لا‭ ‬أَبالَكِ‭ ‬وَاِعلَمي

أَنّي‭ ‬اِمرُؤٌ‭ ‬سَأَموتُ‭ ‬إِن‭ ‬لَم‭ ‬أُقتَلِ

إنَّ‭ ‬المَنيَّةَ‭ ‬لَو‭ ‬تُمَثَّلُ‭ ‬مُثِّلَت

مِثلي‭ ‬إِذا‭ ‬نَزَلوا‭ ‬بِضَنكِ‭ ‬المَنزِلِ

والخَيلُ‭ ‬ساهِمَةُ‭ ‬الوُجوهِ‭ ‬كَأَنَّما‭ ‬

تُسقى‭ ‬فوارِسُها‭ ‬نقيعَ‭ ‬الحَنظَلِ

 

‭***‬

وهو‭ ‬لا‭ ‬يستمعُ‭ ‬لصاحبَتِهِ‭ ‬التي‭ ‬تخوّفه‭ ‬مِنَ‭ ‬المنيِّةِ،‭ ‬وهو‭ ‬يصمّ‭ ‬أذنيهِ‭ ‬عن‭ ‬كلامِها،‭ ‬فالمنيَّةُ‭ ‬بحسبِ‭ ‬رأيِهِ‭ ‬شيءٌ‭ ‬حتميٌّ‭ ‬لا‭ ‬بُدَّ‭ ‬أن‭ ‬يلاقيه،‭ ‬ولتكن‭ ‬ساعةُ‭ ‬الملاقاة‭ ‬مُشَرِّفَةً،‭ ‬وهو‭ ‬يناضِلُ‭ ‬لأجلِ‭ ‬قومه‭ ‬مُدافعاً‭ ‬عن‭ ‬نسائهم‭ ‬وأطفالهم،‭ ‬ولا‭ ‬يلبث‭ ‬إحساسه‭ ‬بالبطولة‭ ‬أن‭ ‬يتضخَّمَ‭ ‬في‭ ‬نفسِهِ،‭ ‬فهو‭ ‬يتصوَّرُ‭ ‬المنيةَ‭ ‬لو‭ ‬خُلِقَت‭ ‬في‭ ‬مثالٍ‭ ‬لكانت‭ ‬على‭ ‬مثلِ‭ ‬صورتِهِ،‭ ‬وهو‭ ‬يقتحمُ‭ ‬صفوفَهم‭ ‬والفرسانُ‭ ‬كالحةٌ‭ ‬وجوههم‭ ‬كأنَّما‭ ‬يشربون‭ ‬نقيعَ‭ ‬الحنظلِ‭.‬

ولا‭ ‬بُدَّ‭ ‬أنْ‭ ‬نُلاحِظَ‭ ‬بصورةٍ‭ ‬عامَّةٍ‭ ‬أنَّ‭ ‬الفروسيَّةَ‭ ‬بعثتْ‭ ‬في‭ ‬نفوسِ‭ ‬أصحابها‭ ‬ضربَاً‭ ‬منَ‭ ‬التَّسامي‭ ‬والإحساس‭ ‬بالمروءة‭ ‬الكاذبة‭ ‬فإذا‭ ‬هم‭ ‬يتغنّون‭ ‬دَائِماً‭ ‬بمجموعةٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬الفَضائِلِ‭ ‬والخِصَال‭ ‬الحميدةِ،‭ ‬فيقولُ‭ ‬عنترة‭ ‬في‭ ‬معلَّقته‭ ‬مُخاطباً‭ ‬ابنةَ‭ ‬عمّه‭ ‬عبلة‭:‬

أَثني‭ ‬عَلَيَّ‭ ‬بِما‭ ‬عَلِمتِ‭ ‬فَإنَّني‭ ‬

سَمحٌ‭ ‬مُخالَقَتي‭ ‬إِذا‭ ‬لَم‭ ‬أُظلَمِ

وإِذا‭ ‬ظُلِمتُ‭ ‬فَإِنَّ‭ ‬ظُلمِي‭ ‬باسِلٌ

مُرٌّ‭ ‬مَذاقَتَهُ‭ ‬كَطَعمِ‭ ‬العَلقَمِ

فَإِذا‭ ‬شَرِبتُ‭ ‬فَإِنَّني‭ ‬مُستَهلِكٌ

مالي‭ ‬وَعِرضي‭ ‬وافِرق‭ ‬لَم‭ ‬يُكلَمِ

 

ويتحدَّثُ‭ ‬إليها‭ ‬عن‭ ‬بطولتِهِ‭ ‬وفروسيَّته‭ ‬في‭ ‬الطَّعنِ‭ ‬والنَّزعِ،‭ ‬وصِراعِ‭ ‬الأقرانِ‭ ‬وكيفَ‭ ‬ينصبُّ‭ ‬عليهم‭ ‬كالقضَاءِ‭ ‬النَّازِلِ،‭ ‬أو‭ ‬كشواظٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬النّارِ،‭ ‬ولا‭ ‬يلبثُ‭ ‬أنْ‭ ‬يعودَ‭ ‬إلى‭ ‬الفَخْرِ‭ ‬بنفسه‭ ‬وشرفِ‭ ‬طِباعِهِ،‭ ‬فيقول‭:‬

هَلاَّ‭ ‬سَأَلتِ‭ ‬الخَيلَ‭ ‬يا‭ ‬اِبنَةَ‭ ‬مالِكٍ‭ ‬

إِن‭ ‬كُنتِ‭ ‬جاهِلَةً‭ ‬بِما‭ ‬لَم‭ ‬تَعلَمي

وَمُدَجَّجٍ‭ ‬كَرِهَ‭ ‬الكُماةُ‭ ‬نِزالَهُ‭ ‬

لا‭ ‬مُمعِنٍ‭ ‬هَرَباً‭ ‬وَلا‭ ‬مُستَسلِمِ‭ ‬

جادَت‭ ‬لَهُ‭ ‬كَفّي‭ ‬بِعاجِلِ‭ ‬طَعنَةٍ‭ ‬

بِمُثَقَّفٍ‭ ‬صَدقِ‭ ‬الكُعوبِ‭ ‬مُقَوَّمِ

فَشَكَكتُ‭ ‬بِالرُمحِ‭ ‬الأَصَمِّ‭ ‬ثِيابَهُ

لَيسَ‭ ‬الكَريمُ‭ ‬على‭ ‬القَنا‭ ‬بِمُحَرَّمِ

ويقولُ‭ ‬في‭ ‬مَوضِعٍ‭ ‬آخرَ‭:‬

وأَغَضُّ‭ ‬طَرفي‭ ‬ما‭ ‬بَدَت‭ ‬لي‭ ‬جارَتي

حتّى‭ ‬يُواري‭ ‬جارَتي‭ ‬مأواها‭ ‬

إِنّي‭ ‬اِمرُؤٌ‭ ‬سَمحُ‭ ‬الخَليقَةِ‭ ‬ماجِدٌ

لا‭ ‬أُتبِعُ‭ ‬النَفسَ‭ ‬اللَجوجَ‭ ‬هَواها‭ ‬

 

وعنترة‭ ‬بهذا‭ ‬كلِّه‭ ‬يصوِّر‭ ‬لنا‭ ‬المروءَةَ‭ ‬الجاهليَّة‭ ‬فقد‭ ‬تكاملتِ‭ ‬الفروسيَّةُ‭ ‬عندَه‭ ‬فلم‭ ‬تَعُد‭ ‬تقتَصِر‭ ‬على‭ ‬الحروبِ،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬فروسيَّةً‭ ‬خُلُقيَّةً‭ ‬ساميةً‭.‬

وكذلِكَ‭ ‬يتحدّث‭ ‬عمرو‭ ‬بنُ‭ ‬كلثوم‭ ‬عن‭ ‬شجاعتِهِ‭ ‬فيقولُ‭ ‬في‭ ‬معلَّقتِهِ‭ ‬الشَّهيرة‭:‬

أبا‭ ‬هِندٍ‭ ‬فَلا‭ ‬تَعَجَل‭ ‬عَلَينا‭ ‬

وَأَنظِرنا‭ ‬نُخَبِّركَ‭ ‬اليَقينا‭ ‬

وأَيَامٍ‭ ‬لنا‭ ‬غُرٍّ‭ ‬طِوالٍ‭ ‬

عَصَينا‭ ‬المَلكَ‭ ‬فيها‭ ‬أَن‭ ‬نَدينا

وَأَنزَلنا‭ ‬البُيوتَ‭ ‬بِذي‭ ‬طُلوحٍ

إلى‭ ‬الشَّاماتِ‭ ‬تَنفي‭ ‬الموعِدينا

الحروبُ‭ ‬في‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجاهليّ

لقد‭ ‬وصفَ‭ ‬الشُّعراء‭ ‬الحربَ‭ ‬بأَنّها‭ ‬شرٌّ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬لا‭ ‬ينعبُ‭ ‬به‭ ‬إلاَّ‭ ‬طيرُ‭ ‬الشُّؤمِ،‭ ‬ساحاتُها‭ ‬خَطيرةٌ،‭ ‬وهولها‭ ‬شديدٌ،‭ ‬طعمُها‭ ‬مرٌّ،‭ ‬وفزعُها‭ ‬عظيمٌ،‭ ‬يقولُ‭ ‬زهير‭: ‬

وما‭ ‬الحربُ‭ ‬إلاَّ‭ ‬ما‭ ‬عَلِمتُم‭ ‬وَذُقتُمُ‭ ‬

وما‭ ‬هُوَ‭ ‬عَنها‭ ‬بِالحَديثِ‭ ‬المُرَجَّمِ

مَتى‭ ‬تَبعَثوها‭ ‬تَبعَثوها‭ ‬ذَميمَةً‭ ‬

وَتَضرَ‭ ‬إذا‭ ‬ضَرَّيتُموها‭ ‬فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ‭ ‬عَركَ‭ ‬الرَّحى‭ ‬بِثِفالِها

وَتَلقَح‭ ‬كِشافاً‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تَحمِل‭ ‬فَتُتئِمِ

 

‭***‬

إنَّ‭ ‬الحربَ‭ ‬هي‭ ‬المصيبةُ‭ ‬والمشكلةُ‭ ‬الكُبرى،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬وجدتُهُ‭ ‬وإيَّاكم‭ ‬منَ‭ ‬المُعاناة‭ ‬المباشرةِ‭ ‬مِنَ‭ ‬الحربِ،‭ ‬وليسَت‭ ‬أحاديثَ‭ ‬منقولةً‭ ‬أو‭ ‬أموراً‭ ‬متكهّنةً،‭ ‬وهذا‭ ‬دليلٌ‭ ‬على‭ ‬أنَّ‭ ‬الشَّاعِرَ‭ ‬قد‭ ‬عَانى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحربِ،‭ ‬ولم‭ ‬يَعُدْ‭ ‬يُطيقُ‭ ‬الاستمرار‭ ‬بها‭.‬

وإنّ‭ ‬الحربَ‭ ‬دائِماً‭ ‬وأبداً‭ ‬سيّئة‭ ‬العواقِبِ‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الطَّرفين،‭ ‬فكلٌّ‭ ‬سيخسرُ‭ ‬أبناءه،‭  ‬أيضاً‭ ‬كالنَّار‭ ‬متى‭ ‬أوقدتموها‭ ‬وهيَّجتموها‭ ‬هاجت‭ ‬واستَعَرت،‭ ‬وما‭ ‬عادَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الممكنِ‭ ‬إيقافها،‭ ‬والشَّاعِرُ‭ ‬يرمي‭ ‬من‭ ‬وراءِ‭ ‬هذه‭ ‬الكلماتِ‭ ‬إلى‭ ‬إقناعِ‭ ‬النَّاس‭ ‬بواجِبِ‭ ‬المحافظةِ‭ ‬على‭ ‬السَّلام‭ ‬وتجنُّب‭ ‬المشاحنات،‭ ‬فعواقبُ‭ ‬الحربِ‭ ‬وَخيمَةٌ‭.‬

يريدُ‭ ‬الشّاعِر‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬يبرزَ‭ ‬الخطورةَ‭ ‬على‭ ‬الصَّعيدين‭ ‬المادِّيّ‭ ‬والنَّفسيّ،‭ ‬فالحربُ‭ ‬على‭ ‬الصَّعيد‭ ‬المادِّي‭ ‬كالرّحى‭ ‬تطحنُ‭ ‬النَّاس‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬القمحِ‭ ‬وتُزهِقُ‭ ‬الأرواح،‭ ‬وعلى‭ ‬الصَّعيد‭ ‬المعنويّ‭ ‬تولِّدُ‭ ‬البغضاءَ‭ ‬والمشاحناتِ‭ ‬بين‭ ‬القبائِلِ‭.‬

وقالَ‭ ‬أبو‭ ‬القيسِ‭ ‬الأسلت‭:‬

قالَت‭ ‬وَلَم‭ ‬تَقصِد‭ ‬لِقيلِ‭ ‬الخَنا

مَهلاً‭ ‬فَقَد‭ ‬أَبلَغتَ‭ ‬إسماعي

أنكَرتِهِ‭ ‬حينَ‭ ‬تَوَسَّمتِهِ‭ ‬

والحَربُ‭ ‬غولٌ‭ ‬ذاتُ‭ ‬أَوجاعِ‭ ‬

مَنْ‭ ‬يَذُقِ‭ ‬الحَربَ‭ ‬يَجِد‭ ‬طَعمَها

مُرّاً‭ ‬وَتَحبِسهُ‭ ‬بجَعجاعِ‭