آكيمي نوجوشي: محطات المترو... منمنمات جديدة

آكيمي نوجوشي: محطات المترو... منمنمات جديدة

آكيمي نوجوشي، فنان تشكيلي من اليابان. في مدينة أوساكا اليابانية كانت البداية، وفي العاصمة الفرنسية باريس، كانت الانطلاقة، وبموسم مدينة أصيلة الثقافي، بالمملكة المغربية، كان اللقاء، مع أحد أعلام الفن التشكيلي المعاصرين. راقبتُ دقته وتفانيه، وهو ينقش حفرا صورته على سطح ملعقة شاي صغيرة، ستتحول بعد الطباعة إلى عمل فني جديد. تلك الصورة الدقيقة له تصورها ناظرا، ووراءه المرسم، إنه فنان مُجدِّد، يبتكر لوحات منمنمات جديدة.  لا يخرج آكيمي نوجوشي، إلا من عباءة الفن الياباني، حتى ولو رسم محطات مترو عواصم العالم كلها، حيث إن نقل هذه المشاهد هو عمله الأثير، لكنه دائمًا في اللوحة، يضعها طبقات فوق أخرى، شافَّاتٍ عما أدناها. 

 

- سألته أن يعود بالذاكرة إلى الوراء، وأن يختار نقطة انطلاق من مدينة أوساكا، ليصل بنا إلى باريس، حيث يعيش في مدينة الأنوار.
- في البداية، عندما كنت شابا، وأنا في سني الدراسة الأولى، تعلمتُ أشياء كثيرة غير محددة، ورسمت الكثير باستخدام الألوان والصبغات. كنت أرسم كل شيء، كل شيء كان يعجبني كنتُ أرسمه. وقد تعلمت تقنية الرسم الخاصة بي من والدي. في اليابان اشتغلت أكثر بالرسم، وخاصة باستخدام ألوان الأكواريل، بل وتعلمت فن النحت. 
بعد ذلك، دخلت مدرسة الفنون الجميلة في بلادي، ثم انتقلت إلى جامعة كيوطو في اليابان أيضا. وهي جامعة فنية متخصصة قضيت فيها مدة طويلة، أفادتني كثيرا، ثم سافرت إلى أوربا سنة 1973،  حيث قضيت 3 أشهر جوالا في العديد من البلدان الأوربية، وقد كانت تجربة مفيدة تختلف عما تعلمته في اليابان، واكتشفتُ آنذاك أن هناك فارقا بين ما ينتمي إلى التراث الشرقي وما ينتمي إلى التراث الغربي، كما أن هناك اختلافا كبيرًا بين التقنيات الغربية والشرقية.
- منذ 38 عاما قررت البقاء في باريس حيث كانت عاصمة الفن.. هذه الرحلة الطويلة كيف تصفها لنا في كلمات؟
- لماذا ذهبت إلى أوربا؟ لعل ذلك هو السؤال الذي كنتُ أبحث عن إجابته، هناك، تعرفت على لوحات تروتاميرا وكامخو، وكان يهمني كثيرا أن أتعرف على الأعمال الفنية ذات الأحجام الكبرى، وخصوصا أحجام جاسكو. كنت في ما قبل قد تعلمت الكثير من الأشياء النظرية، ولكن عندما زرت تلك المتاحف التي تعرض لوحات ذات أحجام كبرى تغيرت نظرتي بدرجة مطلقة.
بعد ذلك زرت الكثير من المتاحف الأوربية، وكانت تلك الزيارات  مفيدة جدا، حيث غيرت بشكل مطلق ما كنت أعرفه ـ كما أؤكد مكررا ـ عن الرسم في اليابان.  وكنت دائما أفضل مشاهدة اللوحات الجدارية الضخمة الحجم لأنها التي تعطيك صورة حقيقية عن العمل الفني.
وعن طريق الصدفة، عندما كنت في طريق عودتي إلى اليابان، وكنت أستقل المترو، شاهدت بإحدى محطات المترو لوحة إعلانية كبيرة، آنذاك، حين رأيت هذه اللوحة، تبين لي فعلا أهمية كبر حجم اللوحة فهي تعطيك فكرة حقيقية عن العمل سواء كنت قريبا منه أو بعيدا عنه. صحيح أنها لم تكن لوحة تشكيلية فنية ولكن مجرد لوحة إعلانية ومع ذلك فقد أثارت اهتمامي. وهو نفس ما رأيته في جاسكو وراستاميرا. 
إذن كانت محطة القطار تشبه متحفا، حيث إن من يسافر يرى هذه اللوحات وكأنها لوحات تشكيلية فنية، وعلى الرغم من أنها كانت لوحات إشهارية (إعلانية) فقد كانت تنطوي على أبعاد فنية. كأنها تحفة فنية يراها المواطن في حياته اليومية المعتادة. 
كانت عندي تقنيات فنية كثيرة  تعلمتها، وقد سألت نفسي؛ كيف يمكن أن أرسم لوحة كبيرة في محطة للمترو؟ وفي هذه اللحظة بالذات قررت التخلي عن كل التقنيات التي تعلمتها في السابق وأن أتعلم فن الحفر (الجرافيك). لقد عرفت حينئذ أن تقنية الحفر هي التي يمكن أن تساعدني على إنتاج لوحات من هذا الحجم حتى في محطات للركاب. 
كنت قد عدت إلى اليابان، ولكن في العام 1976 عاودت السفر إلى أوربا. وقد بدأت منذ ذلك التاريخ تعلم تقنيات فن الحفر. وكانت أول لوحة بفن الحفر أرسمها في إحدى محطات المترو سنة 1984. كنت سعيدا بتلك التجربة، وشيئا فشيئا بعد ذلك بدأت أرسم في العديد من المحطات. وقد بلغ عدد محطات المترو التي رسمتها أكثر من 100 محطة، بين اليابان وأوربا. 
- معرضك (مترو باريس) يمثل تقنية جديدة وأنا أريد أن تبوح بأسرارها لنا.
- إن تقنية الحفر التي تعلمتها ليست تقنية متميزة أو مختلفة، إنها تقنية بسيطة جدا، ليست بها أي تعقيدات، وهي تقنية ليست لها علاقة بالصباغة العادية، بل مباشرة وقديمة، ويمكن تنفيذها بأي أداة، كسكين الحفر مثلا، وتسمى بالطريقة السوداء. وهذه الطريقة تؤدى بأي أداة حادة، وبسيطة توجد بين أيدينا.
وأعطيك مثالا: 
فبالآلة الحادة وحدها يمكن أن ننتج عملا مهما. إن سنتيمترا مربعا واحدا نحفره يمكن أن يستغرق مني أكثر من 3 ساعات. وإذا كانت اللوحة التي أريد أن أشتغل عليها أكبر، ففي هذه الحالة يمكن أن نقضي بين شهرين وثلاثة أشهر فقط في الضرب بآلة حادة دقيقة، على مساحة كبيرة من أجل الحصول على نقاط سوداء، وهذا هو سر تسميتها بالتقنية السوداء. لأننا عندما نضرب بآلة حادة فإننا نترك نقاطا سوداء على سطوح اللوحة المعدنية. 
ثم نأخذ بعد ذلك سكين الحفر، لنستخدمه في تشكيل صورة انطلاقا من هذه النقاط السوداء. وبطريقة بطيئة جدا، حتى أن عملا واحدا يمكن أن يستغرق منا أكثر من خمسة أو ستة شهور!  
وعلى الرغم من طول هذه العملية فإنني أحب كثيرا هذه التقنية وأعشقها. وفي محترفي بمدينة باريس الفرنسية يحدث أحيانا أن أشتغل على ثلاثة أعمال في الوقت نفسه، أبدأ عملا ثم أتركه للعمل على لوحة أخرى ثم أعود إلى العمل الأول وهكذا. وفي هذه الحالة لا أعمل اليوم كله، فالمسألة تكون صعبة. بل أعمل ساعات، ثم أستريح، أو أخرج، ثم أعود إلى أن يكتمل العمل بكل رويَّة، وأنا لا أتسرع في إنتاج مثل هذه الأعمال. أحيانا أشتغل 10 دقائق ثم أستريح 15 دقيقة. 
- حين وصلتم إلى باريس بدأت رحلتكم مع الجوائز، وأعتقد أن إحداها كانت جائزة من بينالي القاهرة.
- كنت سعيدا عندما حصلت على الجائزة، إن أعمالي الفنية هي التي تستحق الجوائز وليس أنا. كل شيء أضعه في لوحاتي. وأنا سعيد بهذه الجائزة التي حصلت عليها في مصر.
- أعتقد أن ذلك كان في 2003.
- نعم، ففي سنة 2003 وجهت لي دعوة من بينالي القاهرة الدولي، لكنني لم أذهب لأن ذلك تزامن مع معرض لي في تلك الفترة، وأشعر بالأسف لأنني لم أتمكن من الذهاب. ومازلت أنوي الذهاب إلى مصر، لأتعرف على تاريخ الأهرام وأبي الهول، فأنا فنان وأحس بعظمة هذه الآثار.
أنا أسعى دائما إلى التعرف على تعبيرات ورموز أخرى. هذه أمور مهمة بالنسبة لي. فأنا أقوم بأعمال خاصة بي، ولكن لكي أقوم بتلك الأعمال بشكل أفضل فأنا بحاجة إلى الآخرين، مثلما أنا بحاجة إلى مناخات أخرى. وفي  محترفي بمدينة باريس، أحصل على الكثير من الكتب التي تضم رسومات لأبي الهول وللأهرامات المصرية مثلا. وقد قرأت الكثير عن هذه الآثار، وفي ذهني الكثير حولها، حتى أنني  أحلم بأن أدخل إلى قلب الأهرام.  ومازال عندي أمل أن أزور مصر وأن أدخل إلى قلب الأهرام. فأنا أرغب دائما في التعرف على الآخر، وعلى الحضارات الأخرى.  من أجل تطوير تجربتي.
- منذ قرن كانت باريس عاصمة للفن في العالم كله... من رحمها تنطلق تيارات الفن ومدارسه وتجــاربه وأعلامـــه، كــــيف تراها اليوم؟
- أعتقد أن باريس هي مركز أوربا. لماذا أقطن في باريس؟ لأنها مدينة مهمة جدا. أنا لا أهتم بكل ما لدى باريس ولكنني أحب أن أعيش فيها. خذ مثلا إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، إنها بمنزلة الضواحي بالنسبة لباريس. إن كل شيء يدخل إلى باريس، ولهذا أحبها. 
الروافد جميعها تصب في باريس. ورغم أنني ياباني، وغريب عن مدينة باريس، فمع ذلك أعرف الكثير من الأمكنة والفضاءات في هذه المدينة. أنا أقطن باريس من أجل عملي. 
- بعد معرضك «مترو باريس» ما مشروعك القادم؟
- عندي الكثير من المشروعات منها على سبيل المثال رسم 360 محطة مترو في باريس، فحلمي أن أشتغل فيها جميعا. أنجزت مائة محطة، حتى الآن، أعتقد أنني لم أتمكن من العمل في جميع المحطات الباريسية. وخلال الـ 25 سنة مقبلة يمكن أن أرسم 100 محطة أخرى. وهناك الكثير من المشروعات الأخرى، فأنا أتمنى أن أشتغل في مترو مدينة نيويورك الأمريكية ومترو موسكو الروسي ومحطات المترو اليابانية. إذا توافر لي الوقت، فأنا في ربع قرن أنجزت مائة محطة.  
- ونحن نجتمع الآن في مدينة أصيلة .. أنت تزورها للمرة الثانية . 
- كانت المرة الأولى التي أزور فيها المغرب في العام 2007. أقمت معرضا آنذاك. وقد شاهد معرضي في باريس الدبلوماسي محمد بن عيسى مؤسس موسم أصيلة الثقافي، ودعاني للمشاركة هذا العام. شيء مهم أن يعمل الفنان وسط المحترفات الدولية مع آخرين. وأنا تعلمت من الفنانين أشياء كثيرة، وهناك مجموعة من الفنانين المغاربة الذين يعملون معي. هذا الأمر مختلف عما لدي في محترفي الباريسي, حيث أكون وحدي. 
- تجربة فنان ياباني في زيارات عربية، وفضاءات عربية، كيف ترى هذا الحوار بينك وبين الثقافة العربية؟
- لا أعرف الكثير عن العرب، فأنا لا أتحدث اللغة العربية ولا أعرفها، ولا أستطيع أن أعطي حكما تقييميا، إنها مسألة صعبة بالنسبة لي. حتى في باريس لا أعيش سوى مع الفرنسيين.
لكن دعني أقول لك إننا في اليابان مختلفون، لدينا هناك عقلية الساموراي، وثقافة تختلف كليا عن الثقافة الفرنسية، وعلى الرغم من أن اليابان بلد متحرر، فهو مع ذلك ـ مقارنة بفرنسا ـ بلد محافظ، ويقوم على كثير من الأخلاقيات. أعتقد أن هذه الخاصية تشبه حالة العرب والمسلمين، الأمر الذي يختلف كثيرا عن أوربا، وما يوجد فيها. لديكـــــم أمور أخلاقـــية كـــــثيــرة مــــثل اليابان، وإذا كنت أعــــيش صعوبات كثيرة مع الفرنسيين، فمعكم أنتم، العرب والمسلمين، لا أجد صعوبة، لأنها العقلية نفسها التي تشبهنا كما أعتقد. وأنا لا أجد صعوبة في التعامل مع الأشخاص المتحدرين من بلدان عربية إسلامية، وأتواصل معهم بسهولة، بينما أجد صعوبة مع الإسبان والفرنسيين، وهذه مسألة مهمة، ودقيقة، لأن الحس الأخلاقي الذي أتوفر عليه هو نفسه ما لدى العرب والمسلمين. خذ مثالا شهر رمضان عندكم، يشكل نوعًا من الاهتمام بالأخلاق والحرص عليها، وأعتقد أن هذا أمر مهم كثيرا، مثلما أعتقد أنه قريب من تقاليدنا اليابانية.