محمد مُستجاب في ذكرى رحيله التاسعة
تسعة أعوام مرّت لم تشرب بها «واحة العربي» مطرك يا مستجاب... لكن اسمك مازال ينبض بحفر قلمك الساخر الجميل في قلب «العربي»!
موسوعة قريبة انسيابية نابضة كنت، تمنح الكلمة مدلولات لانهائية الأبعاد تفتح لنا بها أبواب المعاجم، ونشرات الأخبار، وبطون الكتب، وبريق المعاني، سحر النكتة، ودمعة المفارقة، بورتريهات النفس وبانورامات الحياة، تثري مفرداتنا وتُغني ثقافتنا بخفة ورشاقة، تمنحنا كنزًا ثقافيًا ومنظورًا فكريًا جديدًا دون أن نشعر... هكذا بينما نحن نقف للراحة في «الواحة»، فإذ بنا نحصل على وجبة غنية لها مذاق عصيّ على النسيان!
رحلتَ... لكن غُرابك مازال ينبش في ذاكرتنا كلما صادَفـنا موقفًا شبيهًا بما لمست يومًا، وكلما قرأنا لك وأعدنا القراءة، راح هذا الغراب يسخر من فهمنا الأول للفكرة، ويفتح حُفرًا في وديان نفوسنا أكثر عمقًا وأكثر لسعًا، وكلما قرأناك أكثر، فهمنا أنفسنا أكثر، وتوحّدنا مع سخرية الحياة أكثر، نمتزج بين ضحكنا حتى البكاء وبكائنا حتى الضحك، يُذهلنا حضورك رغم الغياب وأنت الذي قلت مرة: كلاهما يسبب الذهول: عدم الفهم، أو الفهم الأعمق!
لا نريد أن نفهم مذاق معلبات الحياة إذا كنت استطعت أن تعجن بؤسنا وتُنضج منه رغيفًا شهيًا يساعدنا على الابتسام، ويرسم في حساباتنا احتمالات أخرى للمعاني، نستطيع فيها السخرية من عيوبنا بما قدمته لقارئك من نقد لمشاهد الحياة على طبق من متعة مثيرة! كما أننا مدينون لك بما قلّبت علينا من مواجع وبما جعلَـتنا نعالج من جروح كنا نعتقد أنها برئت فاكتشفنا بك أنها متقرّحة تحتاج أن تُضمدها بما أتيتَ به من شاش الهزل!
لقد جعلتنا نرى أبعادًا كثيرة ونتذوق نكهات عديدة لأشياء كانت عادية باهتة في حياتنا، فأعدت صياغة المفاهيم الصمّاء وجعلتها تصغي بذكاء لكل إحساس قد يمر بها...! كنت ذكيًا جدًا، لذا كانت قراءتنا لك حمّالة أوجه، لا نستطيع معها الجزم لأي وجهيّ العملة كنت تنظر، أحالمًا كنت ساعتئذٍ أم لاذعًا؟ لكننا نجزم أن العملة التي كنت تلعب بها هي عملة نادرة نظيفة تشتري جوهر الأشياء وتجرّد المسائل من قشورها، ولا ترضى بأقل من الحقيقة، بشيء يشبه ما كنت تريد أن تقول لما كتبت: الظلام لا يبدأ في المساء إنه يبدأ في القلب!
أتعلم يا مستجاب!
أنا لم ألتق بك إلا في «واحة العربي» وفي أجواء القصص، لكني كنتُ في كلّ صحوة أخشى رقابة عينيك ونوافذ نقدك، أخشى أن يكون لعينيك صفة اختراق مساحات الوطن العربي، كما كان لكلمتك وقلبك هذه الصفة حين قلت مرة إن قلبك صار فندقًا من كثرة العابرين فيه! لذا كنت أزيد سرعة بديهتي ورشاقة قلمي كلّما تذكرت قلمك وكلما وصلتُ إلى واحتك وكلما لسعتني الحياة من حيث لا أدري...! كيف لا، وأنت من قلت مرة: أنا مدين بالشكر لبعض الأصدقاء الأوفياء فاقدي الحرارة في الكتابة لأنهم يسلمونني بسرعة مذهلة للنوم!
لذا أمام رحيل غُرابك لم أجد غير أن أبثّك إيماني بأن الرّحيل لا يعني أنك لست في مكان ما منا، فقد زرعت فينا أن: «كل شيء قابل لأن يستمر ثمنه في الغلو ما دام قادرًا على إشاعة البهجة فينا»... والبهجة مازالت تتأجج كلّما مرّ ذكرك!
لذا نقول اليوم... في ذكرى رحيلك التاسعة: «إننا حزينون لفراقك حزنًا يميل إلى الممازحة، فكلما ذكرناك نتذكّر البشارة في مطلع «قيام وانهيار آل مستجاب»، ويكون لك ولد ذكر من صلبك، تضيع عينه اليمنى جهلًا واليسرى ثقافة، يدهمكم بقصصه القصيرة حتى يقضي نحبه مجللًا بآيات الفخار في العراء على قارعة الوطن»!.