ملف فهدُ العسكر: البائِسُ المُسْتَهامُ يَتَصَبَّبُ شِعْرًا

ملف فهدُ العسكر: البائِسُ المُسْتَهامُ يَتَصَبَّبُ شِعْرًا
        

يعتَصِرُ عُمْرَ الشِّعْرِ في عُمْرِهِ القَصِيرِ ويسْكُبُهُ في دَوّامَةِ اضطِرابِه

          لا أظُنُّني وقعتُ ـ أو سأقعُ ـ في حَيرَةٍ مثلَ التي عَانيتُها هذهِ المرّة. فلأوّلِ مرّةٍ أجِدُني في بحْرٍ بلا ضِفافٍ، لا أعرفُ من أينَ أبدأُ أو إلى أينَ أنتهي ! قدْ يكونُ للتوتّرِ النفسيِّ الذي أعيشُهُ منذُ بدايةِ أحداثِ ثورةِ الخامسِ والعشرينَ من يناير العظيمةِ أثرٌ في تعامُلي مع كلِّ شيءٍ حولي وليسَ الشعر فقط، ولكنّني ـ في الوقتِ نفسِه ـ لا يمكنني أن أتجاهلَ دهشتي الكبرى حينما وقعتْ عينايَ للمرّةِ الأولى على ما يشبِهُ الأعمالَ الكاملةَ لهذا الشاعرِ الفذّ الذي لم أكنْ ألمُّ من شعرهِ إلا ببعضِ نثارِ الإنترنت، ولم أكن أصبرُ على تلكَ القراءةِ الإلكترونيّةِ التي لا تناسبُ أمثالي من عُشّاقِ الكتبِ أو «القراءةِ الورقيّة».

          حياةٌ مُلبّدَةٌ باليأسِ والبؤسِ والشّكِّ والرفضِ والأسى وكلِّ ما في مُعْجَمِ الألمِ من ألِفِهِ إلى يائِه ! لم يكنِ الشعرُ فيها سوى مِرآةِ تلكَ الرّوحِ التي تتلظّى في نيرانِ هذه المعاني، وهو - الشعرُ - الملاذُ الوفيّ الوحيدُ الذي لم يخنِ الشاعرَ ولم يغدرْ بهِ في لحظةٍ ما.

          ذلكَ هو فهدُ العسكر، اضطرابٌ وقلقٌ وسخطٌ ومرارة، ودوائرُ متتابعةٌ متقاطعةٌ من صنوفِ الآلامِ والشجون، صبغتْهُ بالتحدّي، وملأت شعرَه بالشكوى حينًا، وبالاستسلامِ حينًا، وبالرفضِ والإصرارِ أحيانًا أخرى:

كُفّي الملامَ وعلّليني
                              فالشّكُّ أودى باليقينِ
وتناهبَتْ كَبِدي الشجونُ
                              فَمَنْ مُجيري من شجوني؟
وأمَضَّني الدّاءُ العياءُ
                              فَمَنْ مُغيثي، مَنْ مُعيني؟

          جاءتِ «الشكوى» لتحتلَّ مساحةً شاسعةً في أشعارِ فهد العسكر، وتكادُ تكونُ الخطّ الأساسيَّ في حياتِهِ وشعرِه، ولا يزاحِمُها سوى شعرِ الوجدانِ، وشعرِ الكأسِ، أو الخمرِ بشكلٍ صريح، وإن كان الديوانُ يدورُ في معظمِ الأغراضِ التقليديّةِ الموروثةِ، فإنَّ البطولةَ تكادُ تكونُ محسومةً لهذهِ الأغراضِ الثلاثة، تلكَ التي جاءت كنتائجَ مباشرةٍ للرفضِ والتمرّدِ على كلّ القيمِ السائدةِ في المجتمعِ وقتذاك، ذلكَ الرافضُ «المنبوذُ» ليس أمامَهُ سوى الشكوى من كلّ الأوضاعِ التي يتمرّدُ عليها، ومن رفضِ المجتمعِ لأفكارهِ وآرائِهِ، وعندما يتحوّلُ إلى طائرٍ طريدٍ على ضفافِ الخليجِ فهو بينَ خيارينِ لا ثالثَ لهما غير الانتحار: الكأس، أو القلب الذي يحنو عليهِ ويمتصُّ من أيّامِهِ الكئيبةِ الثقيلةِ بعضَ السّوادِ والقتامةِ بما يكفي لإعطائهِ أملاً أو دفعةً، وإن تكنْ صغيرة، باتجاهِ يومٍ جديد.

          وإذا كانَ فهد العسكر من ذوي العُمرِ القصيرِ في كتابِ الشعرِ العربيِّ، فإنني أراهُ قد اعتصرَ عمرَ هذا الشعرِ العربيِّ في عُمرهِ القصيرِ هذا ثمّ سكبَهُ في دوّامةِ اضطرابِهِ وقلقِه، فجاءَ ديوانُهُ حافلاً بأطيافِ شعراء العربيّةِ من العصرِ الجاهليِّ إلى اللحظةِ التي فارقَ فيها الحياةَ في منتصفِ أغسطس عام 1951م، إنّ القارئَ العاديَّ (أو العام) للشعرِ العربيّ لَيَلْمَحُ بسهولةٍ أطيافَ طَرَفَة بنِ العبدِ وعنترة بن شدّاد وزُهير بن أبي سُلمى، ثمّ عمر بن أبي ربيعة وجرير وبشّار بن بُرد وأبي نُوَاس، فالمتنبّي وأبي فراسٍ الحمداني، إلى ابن زيدون ومُجاوريهِ من أهلِ الأندلس، وصولاً إلى شعراء النصفِ الأوّلِ من القرنِ العشرين إذ تلوحُ أطيافُ أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وبشارة الخوري وأبي القاسمِ الشّابي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وأحمد فتحي، وهذا دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الشاعرَ كانَ وفيًّا لتاريخِ إبداعِه، وكانَ نهِمًا واسعَ الاطلاعِ سريعَ الحفظِ، ما جعلَ أصداءَ هؤلاءِ وأطيافهم تملأُ وجدانَهُ وخيالَهُ وتنسكبُ ـ بلا وعيٍ ـ في فضاءِ أشعارِه، وكأنّهُ النحلَةُ التي تقضي عُمرَها في ارتشافِ رحيقِ الورودِ والأزهارِ ثمّ تسكُبُهُ عسلاً صافيًا في كؤوسِ الأبد.

          وأمّا دوّامةُ «قلقِهِ واضطرابِهِ» فقد أخرجتْهُ كثيرًا من عُمقِ التوهّجِ الشعريِّ في أعلى درجاتِهِ ليقعَ فريسةً للاستطرادِ السّاذجِ الذي يحوّلُ القصيدةَ إلى ما أسمّيه «المقالَ الموزون» (راجع ما كتبناهُ عن أحمد شوقي وكامل الشنّاوي في أعدادٍ سابقةٍ من «العربي»)، بل نجدُ بعضَ الإسهابِ لدى فهد العسكر يأخذُنا من دوّامتِهِ المضطربةِ إلى دوّامةِ الأسئلةِ التي تفقسُ علاماتِ استفهامٍ تتكاثرُ بسرعةِ المتواليةِ الهندسيّةِ عندما نجدُ بيتًا غيرَ مسبوقٍ في الشعرِ العربيِّ كلّهِ فيما قبل فهد، يتلوّى ويئنُّ تحتَ وطأةِ ما حولَهُ مِنْ «كلام» وصفهُ شاعرُ النيلِ حافظ إبراهيم ذات نقدٍ للشاعرِ أحمد رامي في بداياتِهِ بأنّهُ مجرّدُ كلامٍ: «يشبِهُ» السلامُ عليكم «التي يستطيعُ أيُّ عابرِ سبيلٍ أنْ يقولَها»! فوقَ ذلكَ فإنَّ الاستطرادَ كثيرًا قادَ الشاعرَ إلى الزّللِ في قواعدِ اللغةِ، وأعني بها النحوَ والصّرفَ في مواضعَ لا تبرّرُها الضرورةُ الشعريّةُ ولا تجيزُها، وربّما كانَ الاضطرابُ النفسيُّ الذي عاشَهُ الشاعرُ، أو عاشَ فيه، مُبرِّرًا كافيًا لنلتمسَ لهُ الأعذارَ، بل لنشكرَهُ على ما تركَهُ لنا من «جيّدِ الشّعر» في عُمرٍ قصيرٍ وظروفٍ قاسيةٍ لو مرَّ بها آخرونَ لما استطاعوا التنفّسَ أو التثاؤب.

«شهيقٌ وزفير»

          في مقدّمةِ قصائدِ الألمِ المعبّرةِ عن الشاعرِ، تأتي «شهيقٌ وزفير» التي نظمها الشاعرُ عامِ 1946م، إنّها قصيدةُ الصرخاتِ المُتتاليةِ القادمةِ من أعماقِ الفوَران، فورانِ رُوحٍ فاضَ بها الكيلُ من كلِّ شيءٍ.. الأهلِ، والجيرانِ، والوطنِ بأكملِهِ من ناسِهِ ومفكّريهِ وإدارييه / الحكومة، ويتخطّى ذلكَ إلى الضَّجرِ من «الغُزاةِ المقنّعينَ» الذين أتوا إلى البلادِ من أجلِ العملِ، ولكنّهم ـ في حقيقةِ الأمرِ ـ يتسللونَ رويدًا رويدًا ليلتهموا خيراتِ الوطنِ، ليُصبحَ الوطنُ فردوسَ هؤلاءِ الدّخلاءِ، بينما يظلُّ كالسجنِ لأبنائِه!

          وربّما نالت هذهِ القصيدةُ نوعًا ما من الشهرةِ بعدَ أن اجتزأَ الفنّان شادي الخليج بعضًا من أبياتها وغنّاها بعنوان «كُفّي الملام»، انطلاقًا من الاستهلالِ الذي أوردناهُ قبلَ قليل. الصرخاتُ ـ في البدايةِ ـ يطلقُها فهد العسكر في وجهِ أمّهِ الحانيةِ التي كانت الوحيدةَ بين الأهلِ التي تحنو عليهِ وتسألُ عنه بعد أن لفظهُ الجميعُ تهرّبًا من تبعاتِ شعرهِ الذي رماهُ الكثيرون بالتطرّفِ والخروجِ على قيمِ الدينِ والمجتمعِ والوطن، واعتبروا مجرّدَ التقرّبِ منهُ عارًا وجريمة، لم يبقَ من هؤلاءِ سوى هذه الأمّ التي غلبتها مشاعرُ الأمومةِ وجعلت ابنَها يظلُّ طفلا في عينيها بعيدًا عن أشعارِهِ وأفكارِهِ وموقفِ المجتمعِ منها ومِنه، ذلكَ المجتمعُ الذي جعلَ من جنازةِ فهدِ العسكر الصورةَ العصريّةَ لجنازةِ بشّار بن بُرد إذ لم يشارِكْ في أيٍّ منهما أكثرُ من حاملي النعش! انظرْ إلى الاستعطافِ والالتماسِ لترى الحسرةَ والمرارةَ في سباقٍ أبديٍّ بينَ ثنايا الرّوحِ والكلمات:

أمّاهُ قد غلبَ الأسى
                              كُفّي الملامَ وعَلّليني
اللهَ يا أمّاهُ فيَّ
                              ترفّقي لا تَعذُليني
أرهقتِ روحي بالعتابِ
                              فأمسكيهِ أو ذريني
أنا شاعرٌ، أنا بائسٌ
                              أنا مُستهامٌ فاعذُريني
أنا من حنيني في جحيمٍ
                              آهِ من حرِّ الحنينِ
أنا تائهٌ في غيهبٍ
                              شبحُ الرّدى فيهِ قريني
ضاقتْ بيَ الدّنيا دعيني
                              أندُبِ الماضي دعيني
وأنا السجينُ بعقرِ داري
                              فاسمعي شكوى السجينِ
بهُزالِ جسمي، باصفراري
                              بالتجعُّدِ، بالغُضونِ

          وبعدَ صرخاتِهِ المتتابعةِ والالتماسِ من الأمّ أن «تكفّ الملام»، يلتفتُ ليتحدّثَ عن الوطنِ بضميرِ الغائبِ قبلَ أنْ يلتفتَ ويخاطبَهُ بضميرِ الحاضرِ أي «كاف المُخاطَب»، وكأنّه ـ لشدّةِ غضبِهِ ورفضِهِ ـ يتكلّمُ بظهرِه ثمّ يستديرُ بتجهّمِهِ وعُبوسِهِ، إنّهُ يحتجُّ على كلّ المتناقضاتِ التي تطرّزُ الوجودَ من حوله، ولا يلوذُ - مثل غيره - بالصمتِ والتغاضي المزمنِ المألوفِ من أولئكَ الذينَ يؤثرونَ السلامةَ، أو يجعلونَ أقلامَهم وألسنتَهم أدواتٍ لتزيينِ الخرابِ وتجميلِ القُبحِ وتغييبِ وعيِ المجتمعِ وإغراقِهِ من أجلِ منافعَ شخصيّةٍ ولو كانَ فيها ضياعُ المستقبلِ على الأمّةِ كلّها:

وطني، وما أقسى الحياةَ
                              بِهِ على الحُرِّ الأمينِ
وألذُّ بينَ ربوعِهِ
                              من عيشتي كأسُ المنونِ
قد كُنتَ فردوسَ الدّخيلِ
                              وجنّةَ النذلِ الخؤونِ
لَهَفي على الأحرارِ فيكَ
                              وهم بأعماقِ السجونِ
ودموعُهم مُهَجٌ وأكبادٌ
                              تَرَقْرَقُ في العيونِ
..........
وطني، وأدتُ بِكَ الشّبابَ
                              وكلَّ ما ملكتْ يميني
وقبرتُ فيكَ مواهبي
                              واستنزفتْ غُلَلِي شؤوني
ودفنتُ شتّى الذكرياتِ
                              بغَورِ خافقيَ الطّعينِ
وكسرتُ كأسيَ بعدَما
                              ذابتْ بأحشائي لحوني
وسكبتُها شعرًا رَثَيْتُ
                              بِهِ مُنى الرُّوحِ الحزينِ

          وبعدَ أنْ يفرغَ فهد من هذهِ «المقدّمة» ينصرفُ إلى «جلدِ» الذينَ ناصبوهُ العداءَ و«ضايقوهُ» ورموه بما ليس فيه، وهُنا، سأضطرُّ إلى أنْ أوردَ المقطعَ كاملا، فهو أحدُ النماذجِ على الاستطرادِ الذي يجنحُ بالشاعرِ إلى المُباشرةِ والتقريريّةِ وينزلُ به «من أفقِ الشعرِ إلى أرضِ النثر» العادي «الخالي من الدّسَم»:

وطني، وما ساءتْ بِغَيرِ
                              بَنيكَ، يا وطني، ظنوني
أنا لم أجدْ فيهم خَدينا
                              آهِ مَنْ لي بالخَدينِ
وا ضَيعةَ الأملِ الشريدِ
                              وخَيبَةَ القلبِ الحنونِ
رقصوا على نَوحي
                              وإعوالي، وأطربَهم أنيني
وتحاملوا ظلمًا وعُدوانًا
                              عليَّ وأرهقوني
فَعَرَفْتُهُمْ، ونبَذْتُهم،
                              لكنّهم لم يعرفوني
وهُناكَ منهم معشرٌ
                              أُفٍّ لهم، كم ضايقوني
هذا رماني بالشّذوذِ
                              وذا رماني بالجنونِ
وهُناكَ منهم مَنْ رَماني
                              بالخلاعةِ والمُجونِ
وتَطاوَلَ المتَعَصِّبونَ،
                              وما كَفَرْتُ، وكفَّروني
وأنا الأبيُّ النّفْسِ
                              ذو الوجدانِ والشّرفِ المَصونِ
اللهُ يشهَدُ لي وما
                              أنا بالذّليلِ المُسْتَكِينِ
لا دَرَّ درُّهُمُ فلو
                              حُزْتُ النَّضارَ لألَّهوني
أو بِعْتُ وجداني
                              بأسواقِ النّفاقِ لأكرموني
أو رُحتُ أحرقُ في
                              الدّواوينِ البَخورَ لأنصفوني
فَعَرَفْتُ ذنبي، أنَّ كبشي
                              ليسَ بالكبْشِ السَّمِينِ
يا قومُ كُفُّوا، دينُكُمْ
                              لَكُمُ، ولي يا قومُ ديني

          وفي نهايةِ هذهِ القصيدةِ الطويلةِ يلتقطُ الشاعرُ أنفاسَهُ على صدرِ الحبيبةِ محاولا التماسَ الأمان لديها، وهي ـ هنا، وفي قصائدَ أخرى ـ ليلى، ربّةُ الطهر والعفافِ والشرفِ والعقلِ الرّزين (في ثنايا القصائدِ سنجدُ ميّ وهندا وابنةَ الجار، بالإضافةِ إلى ليلى)، ويخاطبها بأداةِ نداءٍ محذوفةٍ مُضيفًا إيّاها إلى ضميرِ المتكلّمِ فتبدو لصيقةً بروحه:

ليلايَ، يا حُلْمَ الفؤادِ
                              الحُلوَ، يا دُنيا الفنونِ
يا ربّةَ الشرفِ الرّفيعِ
                              البِكرِ، والخُلُقِ الرّصينِ

          ..................... إلخ، ويظلُّ منطلقًا في عدةِ أبياتِ على هذا النسقِ من البساطةِ والسهولةِ، إلى أنْ يأتينا ببيتٍ هو «بيتُ القصيد» أو هو «المانشيت» الرئيسُ لسيرةِ هذا الشاعرِ المارّ على الدنيا كشهابٍ أو كما يقولُ هو:

لِمَ لا وعُمْرُ فتاكِ
                              أطوَلُ منْهُ عُمْرُ الياسمينِ

          وكأنّهُ بالفعلِ كانَ يرى نهايتَهُ رأيَ العينِ ويمشي مُتأبّطًا موتَهُ عن قناعةٍ ورضا.

«أنا والليل»

          أمّا إذا أردنا أن نطيرَ مع فهد العسكر، ففي قصيدته البديعة «أنا والليل» التي تمثّلُ إحدى العلاماتِ الناتئةِ في ديوانِهِ، وتكادُ تكونُ «بطاقته الشخصيّة» ففيها الشعرُ، وفيها الخمرُ، وفيها الشكوى، وفيها الحبيبةُ - ليلى أيضًا - وفيها براعةُ استهلالٍ تُشبِهُ مرورَ قوسِ الكمانِ على شغافِ قلبٍ ذهبيٍّ ينبضُ أضواء، ويمطرُ أنينا:

صَهَرْتُ في قَدَحِ الصَّهْباءِ أحزاني
                              وصُغْتُ مِنْ ذَوْبِها شِعري وألحاني
وبتُّ في غَلَسِ الظّلماءِ أُرْسِلُها
                              من غَورِ رُوحي، ومن أعماقِ وجداني
يا ليلُ ضاقتْ بشكوايَ الصدورُ، وما
                              ضاقتْ بِغِلٍّ وأحقادٍ وأضغانِ
فجِئتُ أشكو إليكَ المُرْجِفينَ وهُمْ،
                              لا درَّ دَرُّهُمُ، أسبابُ خذلاني
.......
ورُحتُ أستعرِضُ الماضي فأطربني
                              بها، ومن ثَمَّ أشجاني وأبكاني
حتّى سكبتُ على ذكراهُ أغنيةً
                              من وحيِ بؤسي، ومن إلهامِ حرماني

          وتتجلَّى العاطفةُ عندما يلتفتُ بالخطابِ إلى «أهلِ ليلى»، بالرّغمِ من تزاحُمِ أصواتِ الشعراءِ القدماءِ إلا أنّه يأخذُنا معهُ ونحنُ مُستسلمونَ تماما:

يا أهلَ ليلايَ، مُذْ شطَّ المزارُ بكم
                              لا الحيُّ حيِّي، ولا الجيرانِ جيراني
كلا ولا الرّوحُ رُوحي مُذْ هَفَتْ وصبَتْ
                              لساكني الحيِّ من غِيدٍ ومُردانِ
نَزَحْتُمُ وضبابُ الشّكِّ خيّمَ في
                              آفاقِ نفسي وكم بالكُفرِ أغراني
لولا بقيّةُ إيمانٍ ترفُّ منى
                              قلبي على ضوئها في ليلِ أحزاني
يا ساكني القصرِ دامَ السّعدُ مُبْتَسِمًا
                              لكم، ودُمْتُمْ، ودامَ النّحْسُ للشّاني
إنْ يجحدِ القومُ والأوطانُ فضْلَكُمُ
                              لا القومُ قومي، ولا الأوطانُ أوطاني

          وهو، وإن كانَ حانقًا غاضبًا متمرّدًا دائمَ الرفضِ والشكوى، فإنَّ ديوانَهُ يمثّلُ سبيكَةً شعريّةً فريدةً لم تنلْ ما يليقُ بها باعتبارها «فنّا وإبداعًا» بعيدًا عن تصنيفها وحبسها في خانةِ «الأفكار»، فما تحملُهُ القصائدُ مِنْ فِكرِ الشاعرِ لا ينبغي أن يُصادرَ حقّهُ في التعاملِ معه كإبداع، فما قاله عمر بن أبي ربيعة في الغزل، وما قالَهُ أبو نُوَاسٍ في الخمرِ لم يقفْ حائلا دونَ شعرهما والناس، وللشاعرِ - فهد العسكر - لمحاتٌ عروبيّةٌ قوميّةٌ تناطحُ مثيلاتها عند كبار الشعراء - عمرًا وعطاءً - ولهُ ألعابٌ شعريّةٌ على قصائدَ شهيرةٍ للمتنبّي وأحمد شوقي من تخميسٍ وتشطيرٍ تحتاجُ - وحدها - إلى وقفةٍ طويلة، وله في الوصفِ والرثاءِ ما يستحقُّ الالتفاتَ والوقوفَ عندهُ، وما وقفتُنا هذهِ إلا التفاتةٌ من عابرِ سبيلٍ على ناصيةِ أحدِ شوارِعِ فهد العسكر، ويبقى الأملُ في أنْ تأتي الأيّامُ بما يكشفُ عن أشعارٍ أخرى لهذا المغرّدِ الفذّ الحزينِ تكونُ قد أفلتت من كمينِ المحرقةِ وحطّتْ في مأمنٍ ما إلى حين، ولعلَّ يدًا أمينةً تمتدُّ إلى ما توافرَ من شعرِهِ لتعيدَ ضبطَهُ وتدقيقَهُ وتنقيتَهُ، ولعلَّ عيونَ الباحثينَ وأهلِ الدراساتِ الأكاديميّةِ العليا تتعامَى عن بعضِ ما تراهُ شطَطًا، وتلتفتُ إلى الشعرِ من حيثُ هو شعر أو لا شعر، لتعطي الرجلَ حقّهُ وهو بينَ يديِّ اللهِ بعد أن تآزرتْ كلُّ القوى لتسلبَهُ إيّاهُ حيًّا، وإنْ كانَ حقُّ الأجيالِ في تراثِ أمّتهم أولى بالحمايةِ وأجدر.
---------------------------
* شاعر وكاتب من مصر.

----------------------------------

كُلُّ حيٍّ كِتابهُ معلومُ
                              لا شقَاءٌ، وَلا نَعيمٌ يَدومُ
يُحسَدُ المَرْءُ في النّعيمِ صَباحاً،
                              ثمَّ يُمسي وعيشهُ مذمومُ
وَإذا ما الفَقِيرُ قَنّعَهُ اللّـ
                              ـهُ، فسِيّانِ بُؤسُهُ وَالنّعِيمُ
من أرادَ الغِنَى فلا يسأل النَّا
                              سَ، فإنّ السّؤالَ ذُلّ وَلُومُ

أبوالعتاهية

 

 

 

بشير عيَّاد*