جورجي زيدان... أو المناهض للتحيزات

جورجي زيدان... أو المناهض  للتحيزات

إذا وقعت على هذ المقال في يوم 21 يوليو، فأنت على موعد مع الذكرى المائة لوفاة جورجي زيدان، وهو واحد ممن تطل الحروف الغربية من صدر اسمهم، بينما في القلب عروبة قد لا يحملها العربي القديم. هكذا يبدو الناظر لظاهر بعض الأسماء من مثل، إدوارد سعيد وألفريد فرج، وجورجي زيدان، الذي تحل الذكرى المئوية لرحيله (14 ديسمبر 1861 -21 يوليو 1914). 

في ذكرى وفاته، لا مانع من أن نشاركه بهجة الحياة، إذ ندين له بالكثير، ومن يقول إن إصدارات جورجي زيدان تجري في دمه فهو لا يبالغ، فمن لم يتفرج على «ميكي» أو «سمير» صغيرا، وأهمل التعرف على مجلة «المصور»، فلابد أنه قرأ إصدارات «الهلال»، مجلة أو كتبا أو روايات. والمرأة التي فارقت «الكواكب» ربما اختارت «حواء». من لم يستفد بـ «الهلال» استفاد بغيره، تعددت الأسباب، وابن الشام واحد.
 قد يجادل أحدهم فينظر لنقطة ضعف هنا، أو زلة صغيرة هناك، فيستنكف أن يعترف بفضل الرجل... اربت على كتفه، وقل له كلمة فولتير الخالدة «كثيرا ما رأيت عصفورا يطير وراء نسر، وفي اعتقاده أن النسر يفر منه».
 تحتفظ ذاكرة الأدب بكثير من النماذج التي أسست لغيرها من البلدان، فعلها يعقوب صنوع ومارون النقاش حين أسسا النموذج المسرحي الغربي في مصر، ولعل عبقرية جورجي زيدان الأساسية كانت في قدرته على تجاوز - وربما مخاصمة- تحيزاته لرموز دينه، فيؤسس مجلته «الهلال»، ويحافظ ابنه «إيميل» على العهد القديم، فلا يغير اسمها بعد أن آلت إليه، يستدعي ذهنك اللواء فؤاد عزيز غالي أحد قادة حرب أكتوبر...  هل اشترك معهم في صيحة «الله أكبر»؟. أسس جورجي زيدان «الهلال» في العام 1892، وهو في الواحدة والثلاثين من عمره، وذلك أيام كانت الدنيا تنضج الناس على عجل وبإتقان شديد وكان للشباب نصيب.
 يخاصم تعليمه، وحبه للثقافة الإنجليزية، حتى عمل مترجما بقلم المخابرات البريطاني، وزار إنجلترا (1886)، وعاد ليعمل بإدارة «المقتطف»، ثم ما لبث أن هجرها للتأليف الحر. ولكنك تجد محبة التراث العربي تستغرقه، وذلك بالرغم من الثقافة الإنجليزية، فيكتب عن المتنبي والآمدي وابن خلدون أكثر مما يكتب عن شكسبير، ويهتم بالتاريخ العربي برغم إتقانه للألمانية والفرنسية والسريانية، فضلاً عن الإنجليزية. وألّف عشرين رواية تستعرض التاريخ الإسلامي والعربي، في مختلف أطواره، بعيدا عن غيرها من الثقافات، فرأى بعضهم في ذلك التوجه إغارة على المفهوم العربي وتشويها له حتى كتب د.محمد السيد الوكيل «نبش الهذيان من تاريخ جورجي زيدان». صحيح أننا يمكن أن نتوقف أمام بعض مواطن الخلاف في رصده التاريخي، ومن قال إن التاريخ بريء أو يخلو من «وجهة النظر». التاريخ (historty) حكاية (story) يبدو فيها موقف المؤرخ أساسيا في الاعتبار، فيثبت ويتجاوز، ويغض الطرف ويؤكد، ويمجد ويستبعد، ولكن جورجي زيدان لم يكن مؤرخا، وفي رواياته التي تدور حول شخصية تاريخية لا يطالبه الجنس الذي يكتب تحته بالالتزام الحرفي ووضع الخيال في أحذية البنات اليابانيين قديما.

نظرته إلى التاريخ
 يعيد - أحيانا - المفهوم القديم للأدب، حين كان معرفا بوصفه «الأخذ من كل علم بطرف»، فاحتل التاريخ مكانة أثيرة لديه، فألف فيه «تاريخ الماسونية العام» و«تاريخ مصر الحديث» و«التاريخ العام»، وكانت رواياته التاريخية مثل «المملوك الشارد، عذراء قريش، فتاة غسان» وغيرها فرعاً من اهتمامه بالتاريخ. ويبحث الشامي المولد في أصول عبقرية الجزيرة العربية، وبلاد الرافدين ومصر أكبر من اهتمامه بحضارة الفينيقيين. يمر على كل محطات الثقافة العربية مستوعبا ومفسرا ومضيفا، فيشبه بذلك القطار الذي كان يربط الشام بالجزيرة العربية في ذلك العصر، حاملا الحجيج وصفاء قلوبهم وملابسهم وأحلامهم بحياة تبدأ بصفحة جديدة - مخاصمة من نوع آخر- ربما يبدو فيها الماضي بطلا مهجورا.
 وعلى خلفية هذه الموسوعية، وأمام حيثيات العصر وملابساته، يبدو عسيرا أن تطالبه بنظرية متماسكة أو رؤية غير متشظية، والحق أن جورحي زيدان لم تكن له نظرية متماسكة في النقد الأدبي، وإنما هي نظرات صاغها وحاول بلورتها، شأن المؤسسين دائماً. وقد توسع جورحي زيدان في اهتماماته، فكان منها الرواية المسرح والتمثيل والشعر، وحاول غرس الرواية التاريخية، فأعاد صياغة التاريخ العربي بشكل الروايات، وهو علم رائد في هذا المجال. 
 خاصم المستقر والمألوف، وحاول نقل العقل العربي خطوة أخرى، فانجرف – بعد اليازحي– في مسألة الانتحال، ومال إلى أن كثيراً من الشعر الجاهلي موضوع بعد الإسلام، سابقاً طه حسين في الرأي ذاته، وربما تأثر بآراء المستشرقين الذين صرح بمؤلفات بعضهم، مثل ماكس سفلسون عن شعر طرفة. ربما تحسبه قد تدخل في ما لا يعنيه، حين خاصم المجتمع القابع وراء «الجبة» و«القفطان»، فدعا- باعتدال- إلى تبسيط علوم الصرف والنحو والبديع، وكذلك الاهتمام بترجمة العلوم الحديثة في هذه المرحلة، لأنها لديهم أوفر مادة وأدق مما نكتبه.

النثر أدنى من الشعر
 خاصم تحيزه لاهتماماته بالرواية والمسرح، فاحتل النثر لديه مرتبة أدنى من مرتبة الشعر، على الرغم من وقوفه على التطورات المختلفة التي مر بها الكتاب، ولكن الشعر أثير لديه، فاهتم بالمتنبي وابن الفارض وكتب – في الهلال- كثيرا عن النابغة والمعري وأبي نواس وامرئ القيس، أما حديثه عن «أبي العتاهية»، ونظراته الزاهدة، فقد كان- حقا- مفارقا للمتوقع. كما دعا إلى تجديد الشعر، والخروج على أغراضه القديمة، وصياغته العتيقة، والتحرر من القافية، بوصفها رمزاً للموروث، كما تابع الجديد من الشعر وأفرد له صفحات من «الهلال»، ولعلّ دعوة زيدان مع غيره «من أمثال نجيب الحداد» فتحت الباب أمام الشعر الحر. كما كان كلامه عن تجديد الأغراض، والبعد عن القديم منها بداية لانتقاد شعر المناسبات والبناء الكلاسيكي للقصيدة (هل سبق العقاد في ذلك؟). كما دعا إلى وحدة القصيدة لا وحدة البيت الأثيرة لدى القدماء. وكان يرى أن الأدب العربي يفتقر إلى نقد الأحوال الاجتماعية والسياسية، وهو ما يغزر في الآداب الأجنبية، وقد تأثر بآراء روحي الخالدي في ذلك, التي نشرها في كتابه «عن الأدب عند الإفرنج والعرب».
خاصم ريادته للرواية، فاهتم بالمسرح، وتحدث باقتضاب عن نشاط جمعيات التمثيل، وكذلك عن فوائد «التشخيص»، ووجوب احترام الممثل، وأرّخ للمسرح، وتلمّس بعض ظواهر التمثيل القديمة لدينا، وكان تأريخه للمسرح رائداً. وتابع جورحي زيدان المسرحيات الشعرية التي كانت في مهدها في ذلك الوقت، فكتب عن «المروءة والوفاء» لخليل اليازحي، ولم يتعد اهتمامه بالمسرح الشعر حد الاحتفاء بظهور فن جديد، دون أن تكون له لمعات نقدية فيه.

تحولات نحو الرواية
 ويبدو موقفه من الرواية دراميا بامتياز، إذ يتردد بين الإعراض عنها، واتهامها بالتفاهة والعبث في بداية مشواره، ثم التوقف في منطقة وسطى، ثم الإغراق في التحمس لها حتى صارت «الحماة» فتاة أحلام، لا يتوانى عن إرضاء طموحاتها الوليدة، وسرعان ما وجد حل «العقدة» في التوفيق بين الرواية والتاريخ الذي أُغرم به، على نحو راعى فيه الدقة التاريخية في أغلب الأحيان، ومضيفا فنيات لابد منها، وقصص حب تجذب المتلقي. ولع زيدان بالتجديد كان عاملا حاسماً في تراجعه عن معاداة الرواية في بداية الأمر، حين كان يرى فيها ضربا من العبث، ثم ما لبث أن تراجع بعد ذلك، ورأى في الالتزام التاريخي أساساً لجودة العمل، وفي هذا ملمح من تأثره بكلاسيكية التراث، تماماً كما كان للجانب الأخلاقي اعتباره في تقويم الشعر لديه. هل كان جورحي زيدان، في تراجعه ذلك - أو قل مراجعاته - قائدا للمجددين المتراجعين، كالعقاد الذي قلب موازين الشعر ثم تراجع تجديده أمام الشعر الحر، أو الرائعة نازك الملائكة التي قلبت موازين الشعر العربي، ثم خاصمت قصيدة النثر؟
 قصة جورحي زيدان مع الرواية متشابكة للغاية، فقد عاداها في البداية، ورأى فيها ضرباً من العبث، غير أنه تراجع كي يستزرع جنس الرواية التاريخية، فتكون نبت أفكاره، كما تابع الروايات بنقد حرص فيه على قياس الالتزام التاريخي من عدمه، فضلاً عن الاهتمام بالحبكة الفنية، وضرورة مراعاة ذوق القارئ في اختيار الموضوعات، فضلاً عن معالجتها في دعوة خفية إلى الواقعية في زي أخلاقي. وإذا كانت مجهوداته مشهودة فربما ذلك لأن حسابات الفترة لم تكن تعبأ إلا بكونه «عربياً»، وفقط. لم يُؤثر عنه طرق ضعيف أو شديد على باب أحد من ذوي السلطة في ذلك الوقت البهي. بهاء الزمان الذي يستمد نبعه - أحيانا- من اتساق المثقف مع ذاته ورسالته. الرهان على المجتمع أولى، فهل تعود الأمور، وبخاصة بعد الحراك المشهود إلى نُبل وتجرد جورجي وأمثاله؟!.