صورة الطاغية في «مائة عام من العزلة»

صورة الطاغية في «مائة عام من العزلة»

حين جسّد ماركيز شخصية الطاغية في رواياته، استمد كثيراً من قسماتها من تاريخ أمريكا اللاتينية، التي عانت بعد استقلالها الهيمنة الإسبانية، حيث حكم الطغاة العسكريين، اللذين دمروا البلاد، وأشاعوا الفساد والتخلُّف، حتى وجدنا الجنرال أنطونيو دي سانتانا ديكتاتور المكسيك أقام جنازة هائلة لساقه التي فقدها، في ما يطلق عليه حرب الفطائر الحلوة، كما أن الجنرال غابرييل غارسيا مورينو الذي حكم الإكوادور لمدة ستة عشر عاما، كملك مطلق، ألبس جثمانه الزي العسكري الكامل، وغطي بالأوسمة، وتمّ السهر عليه في وضعية الجلوس فوق كرسي الرئاسة! أما الجنرال ماكسيميليانو هيرنالديز مارتينيز طاغية السلفادور الثيوصوفي الذي ذبح ثلاثين ألف فلاح في مجزرة وحشية، فقام باختراع بندول ساعة لاختبار وجود السم في طعامه! وكي يقضي على وباء الحمى القرمزية، غلّف مصابيح الشوارع بالورق الأحمر!

إذن عايش ماركيز تصرفات لامعقولية، عُرف بها طغاة أمريكا اللاتينية، مردها تضخم «الأنا» والدوران حول المجد الشخصي، ونفي إنسانية الآخر (الشعب، الأصدقاء والأعوان...)، فيحولهم إلى أدوات تعلي شأنه، وتدوس على كل القيم.
وقد لاحظ ماركيز حوادث تاريخية لافتة للنظر في قارته، فقد كان القتل السريع نصيب كل حاكم ديمقراطي مثل سلفادور الليندي، الذي طوّق وحيدا في قصره المحترق، وهو يقاتل جيشا بأكمله، كما أن حادثي طائرة مشبوهين لا يزالان بحاجة إلى تفسير، خطفا حياتي رئيس طيب القلب، وجنرال ديمقراطي حافظ على كرامة شعبه!   

الطاغية أوريليانو
لن يستغرب متلقي رواية «مائة عام من العزلة» حين يجد العقيد أوريليانو بطل اثنتين وثلاثين انتفاضة مسلحة، قد رُقي إلى مرتبة قائد عام للقوات الثورية، وامتدت سلطته على كل البلاد، تبدو روعة هذه الشخصية في دقة رسمها، بطريقة مدهشة، إذ نجده يحمل في أعماقه جملة صفات متناقضة (شاعر، عسكري، متنبئ، دموي...).
بلغ الطاغية أعلى درجة التوحش حين قتل مؤيديه، بل همّ بقتل أعز أصدقائه، لهذا بدت السلطة برودة تجتاح روح المرء وجسده، فتعزله عن نبض الحياة الإنسانية وحرارتها، وبذلك تجمّد الزمن، وغلّف جليد السلطة قلبه، ما يعني قتلا لإنسانية الإنسان، فقد استيقظ أوريليانو في الليلة التي أُعلن فيها قائدا عاما مرتجفا طالبا دثارا، «فقد اجتاحه برد داخلي حتى العظام، يعذبه، والشمس طالعة، منعه النوم عدة أشهر، حتى ائتلف معه وتعوّد عليه، وأخذت نشوة السلطة تفسدها أحداث مرة، وبحث عن دواء للبرد فما وجد إلا إعدام الضابط الفتى الذي اقترح اغتيال اللواء فارغاس».
نعايش في هذه الرواية الدمار الروحي الذي وصل إليه الطغاة، حتى باتوا يرون في الدم دواء منقذا لهم من برودة السلطة، التي غمرتهم، وبذلك تتيح لنا الرواية التغلغل إلى أعماق الطاغية المشوّهة (السادية) التي ترى لذتها في تعذيب الآخرين، بل تجد خلاصها في قتلهم، وبذلك تصل الدرك الأسفل من الوحشية، عندئذ يتبدى لنا الخلل النفسي الذي يعانيه الطاغية قرينا للخلل في القيم الإنسانية والمثل العليا، إذ يمارس الموت باسم الحرية، ويطبق كل ما هو نقيض للمبادئ المدعاة التي حارب من أجلها!! فنجد حزب المحافظين الذي يمثل الجمود والموت يقاتل تحت لواء حزب الأحرار الذي يمثل الحرية والتجدّد!
  لا تبدو شخصية الطاغية وحدها مسؤولة عن وحشيتها، فقد أحاطت بها حاشية تعزّز طغيانها، إذ تنفذ أوامرها قبل أن تصدرها، بل قبل أن تتصورها، وتشتط أكثر منها، فقد باتت صورة عنها، تعلم ما تكنّ في نفسها من عدوان ورغبة، فتتوحد بها، حتى أنها تتسلم زمام المبادرة في القتل والفساد، كي ترضيها، فتبدو أكثر جرأة منها في الشرّ.
المدهش في هذه الرواية أن الكاتب بدا معنيا بتصوير آلية تحوّل الإنسان العادي إلى طاغية، فقد ثار أوريليانو في البداية ضد الظلم والخداع، الذي يمارسه حزب المحافظين، لكنه يجد نفسه يقع في متاهتهم، فقد أضلّته السلطة المفاجئة، حتى أفقدته توازنه، فصار يغضب من سكان القرى المغلوبة المحبين له متذكرا نفاقهم، فقد سبق لهم أن أحبوا أعداءه قبل أن يأتي إليهم!
إن أخطر ما يمثله الطغاة هو تأثر الأجيال بهم! فقد يجسدون مثلا أعلى لهم! إذ حاول الفتيان تقمّص شخصية أوريليانو حتى باتوا ينظرون بعينيه ويتكلمون بصوته، ويردون التحية بطريقته الحذرة نفسها، فأحس بأنه موزع بينهم عبر نسخ عدة، كل ذلك لم ينفِ عنه إحساس العزلة، فغلّفته الوحدة أكثر من أي وقت مضى! ربما بسبب إحساسه بأن الزيف والنفاق والشكليات تجسد ما هو طارئ آني، ولإحساسه بأن قانون الزمن لن يعفي أحدا من النهاية الحتمية التي تنتظر كل إنسان حاكما أو محكوما!
وعلى نقيض الصورة النمطية للطغاة، كان يصادق من يختلف معه في الرأي، مادام لا ينتقده شخصيا، لكنه يتصرف مثل غيره، فتعود صورته إلى نمطيتها، حين يتعرض للنقد على يد أصدقائه المخلصين! فحين يقول له صديقه العقيد ماركيز «انتبه إلى قلبك يا أوريليانو، أنت تتعفن دون أن تعلم»، يستفزّ، فيودعه في السجن ويحكم عليه بالإعدام، ناسفا تاريخا طويلا من الصداقة والود، عندئذ تتدخل أمه أورسولا وتنقذه!   
وكذلك حكم أوريليانو بالإعدام على صديقه اللواء مونكادا الذي يكره الحرب، وتجرأ وواجهه بالنقد، وبيّن أن سبب انهياره الخلقي، وتحوّله إلى طاغية هو بيئته العسكرية، فقد عاشر العسكريين فترة طويلة رغم كراهيته لهم، وحين انتهت الحرب تطبّع بطباعهم، وصاروا يجسدون مثله الأعلى، في حين أعلن مونكادا احتقاره لهذا المثل! وقد ارتفعت نبرة نقده، حتى إنه يحذره من أنه لو استمر في طغيانه فلن يصبح أعتى الطغاة فقط، بل سينتهي به الأمر إلى أن يدوس أقدس القيم المتمثلة بأمه أورسولا، فيعدمها كي يريح ضميره!        
إن كل التصرفات الهمجية صفات مكتسبة من بيئته العسكرية، لهذا لن تجلب له الراحة، فقد اكتشف عقم القضية التي خاض الحروب من أجلها، إذ كان يقاتل بدافع الغرور لا من أجل قضية سامية أو مبدأ يؤمن به، كما فعل صديقه العقيد ماركيز في دفاعه عن حزب الأحرار وإخلاصه له!
أما أورسولا، فقد ردت قسوته إلى افتقاده الحب، فهو لم يحبّ أحدا في حياته، لأنه عاجز عن فعل ذلك، لهذا كانت قضيته تمجيد ذاته، فلم يعرف سوى التضخم والغرور!
يلتفت الكاتب إلى البعد الإنساني الذي نظن أن الطاغية غريب عنه! فيكتشف المتلقي أن أوريليانو يشكل نقيضا لصورة الطاغية التقليدي! إذ كان يمتاز بحساسية الشعراء، كتب دواوين عدة، ولم يستكتب أحدا من الأدباء على عادة الطغاة! وفي اللحظة التي حكم عليه فيها بالإعدام يقرر إعدام أشعاره معه! فقد أدرك مدى التناقض بين حياته العسكرية وحياته الشعرية، وأنه عاش عزلة نفسية، حتى إنه لم ينسجم مع ذاته، لهذا قرر التخلص من أي أثر يدل عليه! 
منح ماركيز الطاغية سمات استثنائية غرائبية، إذ بكى في بطن أمه، وجاء إلى الدنيا مفتوح العينين، وفي الثالثة من عمره يتنبأ لأمه بسقوط القدر! وحين يعود من القتال يخبر أمه بتفاصيل حدثت للأسرة أثناء غيابه، يتنبأ بساعة موته ومحاولات اغتياله، وقد أنقذته إحدى النبوءات من الإعدام، فحين سئل عن طلبه الأخير، أعرب عن رغبته في أن يعدم في قريته (ماكوندو)، حيث يتم إنقاذه أمام منصة الإعدام على يد أخيه جوزيه بفضل تنبؤ روبيكا بمكان الإعدام! 
على الرغم من أن حياته العسكرية اتسمت بالوحشية، فإن التجارب القاسية (اقترابه من الموت، مآسي الحرب، الإحساس بالعبثية...) وموهبته الشعرية منحتا شخصيته بعدا إنسانيا، إذ حافظ في داخله على بصيص إحساس ظلّ يقض مضجعه، حتى دفعه إلى أن يفر من وحشته وإحساسه بالبرد المزمن الذي عشّش في روحه وجسده، فلجأ إلى قريته ماكوندو لعله يستمد من حرارة ذكرياته القديمة فيها ما ينقذه!
لهذا كله لن نستغرب أن يخالف المألوف فيرفض بعض المظاهر التي يحتفي بها الطغاة عادة، حتى إنه لم يسمح بأخذ أي صورة له، ويرفض الاستمرار في الحرب الأهلية، بعد أن آمن بعبثيتها، كما لم يقبل راتبا تقاعديا مدى الحياة من الدولة، فعاش أيام شيخوخته من دخل السمكات الصغيرة الذهبية التي كان يصنعها في مشغله! والتي باتت رمزا لشخصيته!

الطاغية أركاديو
نجد بعض أقرباء الطاغية يستغلون هذه القرابة، مثل أخيه جوزيه الذي يستولي على أراضي الفلاحين ظلما وعدوانا، ويزوّر سندات الملكية!
وحين اضطر أوريليانو  للرحيل عن ماكوندو ترك ابنه أركاديو ليحكمها! فتبدى لنا طاغية من نوع آخر، أكثر جنونا واستبدادا من أبيه، ربما بسبب فارق السن والتجربة! إذ أظهر منذ تسلمه للسلطة ميلا عارما للمراسيم، التي لم يأبه لها والده، حتى إنه فرض على كل رجل ربط ساعده بشريط أحمر (شعار الأحرار)، مما عزّز مظاهر استبداد الرأي في حزبه، حتى إنه لجأ إلى فرض شعاره بقوة السلاح!
عمل على قتل كل المخالفين في الرأي أو حبسهم، وهذا ما لم يقم به والده، فحبس رجل الدين الأب نيكاتور في البيت الكهنوتي تحت طائلة الإعدام إذا خرج منه، ومنعه من خدمة الصلاة وقرع الأجراس إلا إذا كانت الغاية منها الاحتفال بانتصارات الأحرار، وقد وصل به الأمر إلى جر موسكوته (حمى أوريليانو) إلى منصة الإعدام بصفته ممثلا للمحافظين، فأنقذته أورسولا (حامية القيم) وضربت الطاغية أركاديو بالسوط، فتصاغر وانطوى على نفسه!
تتسع صورة الطاغية لتتجاوز القائد العام للقوات المسلحة وأقرباءه إلى كل من كان يعمل تحت إمرته، فقد وجدنا المحافظ الجديد في ماكوندو يصدر أوامر استبدادية بأن تطلى كل البيوت بالأزرق بمناسبة عيد الاستقلال!
وبذلك حاول ماركيز رسم صورة الطاغية في رواية «مائة عام من العزلة» عبر جيلين الأب (أوريليانو) وابنه (أركاديو) الذي بدت صورته أكثر نمطية، فكانت أكثر استبدادا من صورة أبيه، ليعزّز في مخيلة المتلقي صورة بشعة للطغاة !!.