الحروب ... الإرهاب وحركات التمرد منظور نفسي واجتماعي من داخل العالم الإسلامي

الحروب ...  الإرهاب وحركات التمرد  منظور نفسي واجتماعي  من داخل العالم الإسلامي

المؤلفة أنيزة نياز هي إحدى الشخصيات العلمية البارزة عالميأ في حقل الطب والعلاج النفسي، عدا عن كونها أستاذة وباحثة أكاديمية ورئيسة مركز أبحاث الأزمات في جامعة كراتشي في باكستان، تترأس قسم الصحة النفسية للمرأه في الاتحاد العالمي للطب النفسي، ولها العديد من المؤلفات، وخصوصا في الصحة النفسية للمرأة، والصدمات المرافقة للحروب والعنف والكوارث الطبيعية، وأشرفت على إنشاء وإدارة مراكز وجمعيات إنسانية لهذا الغرض. كما تتم استضافتها كمحاضرة رئيسة في العديد من المؤتمرات العالمية في الطب النفسي.

يأتي كتابها هذا الصادر عن دار نشر جامعة أكسفورد البريطانية عام 2011, بطبعة أنيقة تضم 363 صفحة كعصارة فكرية مركزة وشجاعة لموضوع شائك ومتشابك، ألا وهو سيكولوجية الصراعات وحركات التمرد المسلحة، آخذة بعين الاعتبار التحليل العلمي والموضوعي لنشوء ظاهرة الإرهاب كأداة ضغط سياسية وأسباب امتداده وهيمنته. تقدم الكاتبة توليفة من التاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع داخل دراسة نفسية مستفيضة بأسلوب علمي سلس للصراعات التي ابتلي بها العالم الإسلامي بالدرجة الأولى، ليتحول فيها المسلمون من ضحايا إلى مدانين بوصمة العنف والإرهاب، وليتم الاحتراب بالنيابة عن مصالح وصراعات الدول الكبرى، وتكاد تكون هذه هي الرسالة الأساسية لهذا الكتاب المميز والرصين، تستند هذه الرسالة إلى شح الأدبيات الطبية والعلمية في موضوع العنف والإرهاب، ومعظم ما تم توثيقه اشتمل على الإسقاطات الشخصية للباحثين في العالم الغربي، في ما عجز الباحثون العرب والمسلمون عن إيفاء هذا الموضوع حقه.
تبدأ الفصول الثلاثة الأولى باستعراض الجذور التاريخية لمفهوم الإرهاب الذي يقصد به القتل وترهيب المدنيين العزل بدافع عقائدي، ولممارسة ضغط سياسي، ديني أو عنصري يصدر عن مجاميع أو تنظيمات متشددة بشكل علني متعمد، وتكون التضحية بأرواح الفاعلين والأهداف لأجل العقيدة أحد المفاهيم الأساسية، وقد اتخذ أشكالاً عدة كما حدث في العصر الروماني من قبل جماعات اغتيال يهودية سرية تقتل بالفأس، أو جماعة «الحشاشين» الإسماعيلية إحدى الفرق الشيعية في القرن الحادي عشر ومنها اشتقت لفظة «الاغتيال» (Assassins) في اللغة الإنجليزية، ومجموعة «الخناقين» الهندوسية التي تقتل عابري الطريق بالخنق إكراما لآلهة الفناء (كالي) في القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر ومنها أيضا اشتقت المفردة الإنجليزية (Thugs) بمعنى «المجرم». امتدت هذه الظاهرة إلى ما هو أبعد من الأديان لتشمل العقائد العنصرية والشوفينية إثر انتشار العقائد العلمانية والشيوعية ورواج السياسات الشمولية التورتاليتية، وتمكنها من تولي السلطة عبر قارات العالم كدافع جديد للإرهاب في بدايات القرن العشرين، لتشكل ما عرف لاحقا بإرهاب الدولة المتمثل في القتل خارج الأعراف العسكرية وعلى أسس عقائدية ترافقت مع قيام الحربين العالميتين في أوربا واستمرت بعد انتهائهما، مفضية إلى نشوء تنظيمات مسلحة عدة مدفوعة بالشعور بالظلم ومعاداة الحاكم (العدو) كما حدث في الثورة الفرنسية، البلقان وإيرلندا. 
يعتبر تفجير برجَي التجارة في نيويورك، 11-9-2001 منعطفا بالغ الأهمية في خلطة السياسة والعقيدة، ودليلاً على عولمة الإرهاب وتخطّيه للحدود الإقليمية ومفهوم المواطنة ولفت أنظار العالم إلى استخدام العقيدة لقتل المدنيين، واضعةّ الدين الإسلامي في خانة الاتهام، وهنا تؤكد الباحثة بحزم روح الإسلام المعتدلة التي حرمت قتل النفس أو إيذاءها، كما ورد في الذكر الحكيم والحديث الشريف، نافيةّ الصورة النمطية لارتباط العمليات الانتحارية بالإسلام، والتي كرّستها الماكينة الإعلامية الضخمة بما فيها وسائل الاتصال الإلكتروني مع التركيز على العوامل النفسية المسببة للإرهاب. واستبعاد وجود الشذوذ والاضطرابات النفسية وانحراف الشخصية كشرط لتكوين الشخصية الإرهابية، مستعرضة أهم نظريات علم النفس المتعلقة بالموضوع. 
يناقش الفصل الرابع العواقب النفسية لأعمال العنف المسلح بشكل عام وأهمها ما يعرف باضطراب الكرب ما بعد الرضح والذي طال المجتمعات العربية والإسلامية مسببًا إعاقة لسير الحياة الطبيعية، ويعد الأطفال والنساء من أكثر الفئات عرضة للإصابة بعوارضه عدا عن آثاره المدمرة على البنى التحتية والنسيج الاجتماعي والتفكك الأسري الحاصل نتيجة فقدان المعيل والبطالة.
في الفصل الخامس تنتقل نياز إلى تناول التأثير النفسي للحروب، حيث بلغ عددها 145 حربًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945، وقع معظمها في دول إسلامية ومثل المدنيون (من 80 إلى 90 في المائة) من الضحايا من القتلى والجرحى، كما رافقها نشوء تجمعات عشوائية غير آمنة من اللاجئين الفارين أو المهجّرين عنوة يعانون العوز وسوء الوضع الصحي البدني والنفسي، وهنا أيضًا يحتل النساء والأطفال والشيوخ الأغلبية العاجزة والصامتة، ويتكرر المشهد في أفغانستان وباكستان والبوسنة والشيشان والجزائر وفلسطين والعراق ولبنان، ولعلها ترجع بجذورها إلى الحملات الصليبية الظالمة التي رسخت مفهوم «الجهاد» (Jihad) ليقارع ما يشابهه من فكر لدى الغزاة المسيحيين المتعصبين «الجهاد لإنقاذ بيت المقدس» (Crusade). عانت الدول العربية تحديدا احتلال الدولة العثمانية الذي أعقبه التقسيم إلى مستعمرات بريطانية وفرنسية وما تبعه من حركات للتحرر والاستقلال، ثم نشوء الكيان الصهيوني وانعكاساته النفسية والقومية والدينية وعدوانه على الشعب الفلسطيني الذي أدى إلى قيام الميليشيات المقاتلة التي تبنت بعضها سياسة العمليات الانتحارية لإيصال صوتها إلى العالم.
ثم عرجت الباحثة على الحرب العراقية - الإيرانية من العام1980 إلى العام 1988, بصفتها أطول حرب إقليمية في المنطقة قضى فيها ما يقارب المليونين من الشبيبة العاملة والمتعلمة، وعشرات الآلاف من الأسرى والمفقودين من الجيشين المسلمين وما تبعها من حرب الخليج في العام 1991 إثر الغزو العسكري العراقي لدولة الكويت والذي صدم الشعور القومي والديني لدى الشعبين، وراح ضحيته عشرات الآلاف من الجنود العراقيين والمدنيين نتيجة القصف الجوي المكثف على المدن العراقية، وما تلاه من حرب برية طاحنة شاركت بها 33 دولة وانتهت بأعمال عنف وفوضى أمنية عارمة لتستمر حركات التمرد والتنظيمات المسلحة المعادية للحاكم تغذيها العقيدة المذهبية والسياسية مشفوعة بجو اليأس وتؤمن لها التبرير كشأن حركات التمرد الأخرى في العالم، وللمرة الثالثة تتدخل العوامل النفسية والشعور بالإهانة الوطنية بعد الغزو الإنجلو - أمريكي للعراق عام 2003 لتتكاثر التنظيمات المسلحة الثائرة ضد المحتل والحاكم المحلي، وأيضًا بغطاء عقائدي متشدد يستهدف المدنيين بالدرجة الأولى.
أبدت نياز اهتمامًا خاصًا بأطفال غزة، حيث أشارت إلى أن نصف السكان البالغ عددهم مليوناً ونصف المليون هم من الأطفال والناشئة وممن يعانون عقابيل الصدمة النفسية المصاحبة للحرب، كما أوضحت في سياق متصل أن تاريخ الشعب الأفغاني لم يسجل ظاهرة الإرهاب قبل الاحتلال السوفييتي في الثمانينيات. 
خصصت الباحثة الفصل السادس لحركات العنف المسلح في باكستان وتشابكاتها مع تدني المستوى الاقتصادي وسيطرة القادة المتشددين على تسيير أفكار الشبيبة، وقد سبق لها أن عاصرت كارثة الهزة الأرضية وأنشأت مركزًا لنجدة اللاجئين وإسنادهم طبيًا وإنسانيًا، كما يشرح كتابها السابق (اليوم الذي تحركت به الجبال) عام 2005.
يتناول الفصلان السابع والثامن النساء والأطفال في العالم الإسلامي كضحايا مباشرة  للعنف، أو مشاركات فاعلات في القتال والعمليات الانتحارية بدافع اليأس والشعور بالظلم وفقدان الأحبة، أو ضحايا  للعواقب المتأتية عنها. وتدعو الباحثة الهيئات الدولية كمنظمة الصحة العالمية والاتحاد العالمي للطب النفسي إلى إيلاء النساء الأولوية في إنشاء مراكز علاجية وتقديم السندين المادي والمعنوي.
تختتم نياز كتابها بالدعوة إلى المشاركة الوجدانية في القرية العالمية التي نادى بها الغرب ويسرتها سبل الاتصالات الحديثة، وأن العنف لا يولد مع الإنسان، ونحتاج إلى فهم علمي ودراسة لظواهر العنف والإرهاب ولا يكتفى بإعلان الحرب على الإرهاب والتضييق على الجاليات المسلمة في أوربا وأمريكا وهو ما عرف بـ «إسلاموفوبيا» ما ولد لديهم الشعور بالعزلة الثقافية ومن ثم إبداء التعاطف ولو ضمنيًا مع المتشددين الإسلاميين.
يزدان الكتاب باستضافة ثلة عربية كريمة من كبار الأكاديميين والاستشاريين في حقل الصحة النفسية كمشاركين في مراجعة وتوثيق الأحداث في بلدانهم وصدارة الكتاب بتقديمهم للباحثة وتعضيدهم لجهودها، وتأكيد الرسالة الإيجابية بتقديم خطط للعلاج مستغلة الإيمان بالقدر ومشيئة الله لدى المسلمين في التخفيف من روعات الفقدان وخطط طويلة الأمد للتوقي من سيطرة الفكر المتطرف والشعور بالغل.
نجحت الأستاذة نياز بما عرف عنها من حماس وامتلاكها ناصية البحث العلمي الرصين في إثارة الوعي لموضوع حساس تجنب الكثيرون الخوض فيه.