ملف الدراما في رمضان: من سقوط «الحصري» إلى سقوط الرقابة ومسلسل عن حياة عالم ذرة
ملف الدراما في رمضان: من سقوط «الحصري» إلى سقوط الرقابة ومسلسل عن حياة عالم ذرة
في السنوات السابقة شاعت نكتة في مصر تقول «إن وجبات الأغنياء صارت هي الأخرى متعة للفقراء.. والفضل للتلفزيون وأطباقه»، ولم يكن المقصود هنا أطباق الطعام وإنما أطباق الدش، التي صارت ضمن مستلزمات حياة الفقراء في كل مكان من الأحياء الفقيرة بالقرى والنجوع، فإذا لم توجد وجدت بدلاً منها وصلات سلكية تنقل عن جهاز دش يملكه أحد الشبان الأذكياء وبواسطته ينقل ما تجود به عليه قنوات البث الفضائي إلى بيوت غيره في الحي أو حتى الشارع، وبالتالي أصبحت «القنوات المدفوعة» متاحة مجانًا لملايين لا تستطيع الدفع، وأصبحت الأعمال الحصرية التي تعرض عليها، خاصة المسلسلات الجديدة ذات التكاليف العالية، ضمن وجبات هؤلاء الذين لا يقدرون على هذا البث الحصري لها، والذين يفترض بهم أن ينتظروا حتى تأخذ هذه الأعمال دورتها في العرض حتى تصل إليهم في القنوات العامة من دون مقابل. ما أضاف لهذا الموضوع بعدًا يفوق كل أبعاده هو علاقة المشاهد بشهر رمضان وعلاقة الأطراف الأخرى به أيضًا، بداية بالمسئولين عن القنوات العامة، وأيضًا القنوات الخاصة، ثم شركات الإنتاج الدرامي وأخيرًا شركات الإعلانات عن السلع والبضائع والتي اتخذت لها موقعًا إستراتيجيا بين هؤلاء جميعًا، فهي الشريك للطرفين معًا العارض والمنتج، وهي ذلك «الزبون» الذي يأتي قبل حفل الافتتاح (أي قبل بداية خريطة شهر رمضان) لينتقي ما يحلو له من أعمال يضع إعلاناته خلالها، أو ربما يأتي قبل هذا بوقت كافٍ ليختار مع مسئول الإنتاج النجم - أو النجمة - المفضل له، ونوع العمل (ربما رسالته ليكونا موضع دعمه) وليصبح - بالتالي - شريكًا في «الحسبة الدرامية الإعلامية» بعد أن كان مراقبًا لها، وقبلها لم يكن له وجود تقريبًا (في بدايات التلفزيون المصري).. ونعرف جميعًا كيف تحول شهر رمضان من خلال التلفزيون في مصر والبلاد العربية من شهر الصيام وأداء التسابيح والطقوس التي تنتهي إلى التراث الشعبي والديني إلى شهر الصيام ومشاهدة أنواع من الفنون والاستماع إلى نوعيات من التسابيح والإنشاد الديني والدراما التاريخية (عبر الإذاعة المصرية)، إلى أن استحوذ جهاز الصورة على الاهتمام الأكبر للناس في الشهر الكريم، بفعل جيل استطاع أن يقدم أنواعًا من البرامج والمنوعات والفوازير أسعدت ملايين الصغار والكبار، وبالتدريج تراجعت كل نوعيات الأعمال لصالح الدراما، وأصبح الشهر الكريم أكبر مهرجان للدراما التلفزيونية العربية، بكل نوعياتها، وتصاعد الأمر في هذا الاتجاه حين زاد عدد القنوات الفضائية منذ بداية النصف الثاني من التسعينيات في القرن الماضي، ثم بدأ الاتجاه إلى التخصيص، أي تخصيص القنوات لنوع واحد من المواد، أخبار أو رياضة أو منوعات، بدأت قنوات الدراما تظهر متأخرة، لكنها الآن - ومنذ عام 2005 - الأكثر زيادة بين كل نوعيات القنوات المتخصصة، في عام 2010 الماضي وحده ولدت أربع فضائيات عربية مخصصة للدراما (بالطبع التخصص في عرض الأفلام السينمائية وحدها سبق فضائيات المسلسلات) وفي نهاية شهر مايو الماضي ولدت أحدث قناة مصرية خاصة للدراما تحت شعار «كل المسلسلات في بيتك» والعدد من الصعب إحصاؤه، لكن تكفينا العودة بسرعة إلى إحصاء في اليوم الأول من عام 2008 بجريدة مصرية يقول إن قنوات التلفزيون العربية تجاوز عددها 480 قناة، منها 410 على القمر المصري (النايل سات)، أما في الأسبوع الثالث من أبريل للعام الحالي فقد انطلقت 18 فضائية ما بين دراما ومنوعات ورياضة (وأيضا قنوات عن ثورة 25 يناير). ما يخصنا في هذا كله هو المشاهد الذي يمكننا تشبيهه بربان سفينة يقود الدفة وسط موجات هائلة من كل جهة، فإذا كان هدفه هو قنوات الدراما وهوايته هي رؤية المسلسلات فقط فأظن أن مهمته هذا العام أسهل من الأعوام الماضية، خاصة بسبب أحداث الثورة المصرية التي قامت في 25 يناير 2011، وما صاحبها من أحداث أثرت على كل الأوضاع في مصر، ومنها ما يخص الإنتاج الفني في كل مجالاته، وبالتحديد إنتاج وصناعة المسلسلات التلفزيونية، التي من المفترض عرضها على الشاشات في رمضان الذي يأتي هذا العام في شهر أغسطس، وكان أول ما أسقطته ثورة 25 يناير هو ذلك الشعار الذي رفعه التلفزيون المصري عامي 2009 و2010 عن العرض الحصري، حين أعلن وزير الإعلام المصري السابق أنس الفقي، ورئيس اتحاد الإذاعة المصري السابق أسامة الشيخ أنه «مفيش حاجة حصري على التلفزيون المصري» أي أن أي مسلسل لن يستعصي على مشاهد التلفزيون المصري العام (بقنواته الفضائية والأرضية والمتخصصة) وبالتالي لن يضطر المشاهد إلى تغيير القنوات العامة إلى القنوات الخاصة سواء كانت مصرية أو عربية، بالفعل أفلح الأمر وعادت الملايين التي هجرت تلفزيونها إليه ولكن عبر ثمن باهظ دفعه الجهاز لشراء هذه الأعمال وعرضها على قناتين متخصصتين للدراما غير 8 قنوات أخرى عرضت أعمال رمضان ضمن خرائطها، ومع ذلك، فقد كان عدد المسلسلات وحجم الإنتاج الضخم يفوق قدرة ساعات العرض الطويلة. إذ إن التلفزيون كان لديه 40 مسلسلا، أنتج جزءا منها بمفرده وشارك في إنتاج غيرها مع عدد من الشركات الخاصة عن طريق نظم الشراكة المتعددة (أو اشترى بعضها كاملا) ومن هنا اضطر المسئول الأول فيه إلى عدم عرض كل الأعمال التي تم التعاقد عليها بالفعل. واضطر الشركاء الآخرون إلى إيقاف بيع الأعمال نفسها إلى قنوات أخرى حتى لا تهبط أسعارها، وتباع باعتبارها بضاعة من الدرجة الثانية. اليوم.. اختفى وزير الإعلام، وكذلك رئيس الاتحاد اللذان رفعا شعار «لا شيء حصريًا»، ويحاكمان بتهم من بينها إهدار الأموال العامة في شراء المسلسلات بأسعار عالية، لكن الموقف مازال كما هو.. التعامل مع رمضان يتم كشهر خاص جدًا، له قواعده وضروراته وأهمها خريطة جيدة تضم أفضل الأعمال الجديدة ولا تسمح للمشاهد بالهروب إلى القنوات الأخرى، وهو ما يمكن تصور حدوثه من خلال النقاط التالية: أولاً: استمرار القواعد الكلاسيكية في التعامل مع خريطة استثنائية بكل المقاييس، ترى في ساعات البث بساطا دراميا كبيرا ممتدا، مع مساحات متفرقة للبرامج وهو ما يسري على قناتي الدراما وقناة المنوعات بالدرجة الأولى ومن باب توجيه هذه القنوات للملايين التي تفاعلت أكثر من غيرها مع الدراما فأصبحت الأمور بالنسبة إليها شيئًا أشبه بالإدمان الدرامي. رجل لهذا الزمان ثانيًا: ما يخص نوعيات الأعمال، وهل هي مناسبة للمشاهدين المصريين بعد ثورة 25 يناير أم أن المزاج العام قد تغير؟ وربما يرفض هؤلاء ما كانوا يقبلون عليه سابقا وهي معضلة حقيقية تجعل ما يراه الناس خلال هذا الشهر نوعا من الاختبار حول مدى التغيير الحادث بالنسبة إليهم، وأي دراما تلائمهم، وماذا يرفضونه، وربما تكون الأسئلة من نوع مختلف مثل هل يواظب المشاهدون على الجلوس لساعات طويلة أمام المسلسلات مثلما كان الحال في السنوات الماضية؟ وما الأعمال الأكثر ملاءمة لهذا الظرف؟ وربما تصبح هذه التجربة (أي مسلسلات شهر رمضان للعام الحالي) شديدة الأهمية في إطار جهاز قومي مفترض للإعلام يعيد الآن النظر في الكثير من أموره وأولها إعادة هيكله الوظيفي، فقد تم تحديد مهامه كجهاز وتحديد هويته في اتجاه مستقل عن التبعية لنظام الحكم والحكومات وهو ما يعني انطلاقة أخرى فيما يخص الإنتاج كله، سواء البرامجي أو الدرامي. ثالثًا: ما يخص الأعمال التي تطرح نفسها بشدة لعرضها والتي يبرز منها عملان مهمان لما يمثلانه من فكر ولون، الأول هو مسلسل «رجل لهذا الزمان» الذي يقدم سيرة حياة د.مصطفى مشرفة أول علماء الذرة المصريين وقد كتبه محمد السيد عيد وأخرجته إنعام محمد علي ولكل من الكاتب والمخرجة أعمال سابقة في قائمة أفضل الأعمال الدرامية مثل مسلسلهما السابق معا عن حياة (قاسم أمين) أول من دعا لتحرير المرأة المصرية. وليست أهمية «رجل لهذا الزمان» في إجادة واجتهاد المؤلف والمخرجة فقط ولكن في طرحه لسيرة عالم من نوابغ العلم وليس ملكا أو مغنية كما اعتادت مسلسلات السيرة اختيار أبطالها سابقا، أي أنه عمل يخاطب في الناس قيمة تم تجاهلها طويلاً في مصر إبان عصر مبارك وهي قيمة العلم وحبه. كنت صديقًا لديان العمل الثاني هو مسلسل ينتمي لأعمال الجاسوسية في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي، كتبه بشير الديك عن رواية لماهر عبدالحميد بعنوان «كنت صديقًا لديان» وقد منع عرضه في رمضان الماضي بفعل تعليمات جهاز أمن الدولة، الذي رأى أن المسلسل يتعرض لشخصية (موشي ديان) وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق بشكل سلبي (مما قد يؤدي إلى توتر العلاقات بين مصر وإسرائيل) وطلب الجهاز من مخرج المسلسل نادر جلال حذف كل ما يخص شخصية «ديان» من العمل وتغيير اسم العمل، وحذروا كل الفضائيات من عرضه وهو ما حدث بالفعل إذ توقف التعاقد على شرائه وتم تغيير الاسم إلى «عابد كرمان» وهو اسم الشاب المصري الذي كان جاسوسًا في إسرائيل، ومن المثير للترقب الآن أن العمل مازال قيد طلب السماح بعرضه على الرغم من حذف اللقطات المطلوبة وإن كان الغالب عليه أن حذفها لم يؤثر كثيرًا وإنما يفتح ملفًا كان من الصعب فتحه قبل ثورة يناير وهو الرقابة على المسلسلات والأفلام من قبل جهاز الشرطة بكل نوعياته والتي من المفترض إلغاؤها مثل كل القوانين المقيدة للإبداع وهو ما يطالب به عدد كبير من الفنانين والمبدعين في مصر الآن، وبخلاف هذين العملين فإن الخرائط المصرية لما سوف يراه المشاهد من أعمال تتضمن عملين من إنتاج العام 2010، أولهما الجزء الثالث من مسلسل «الدالي» لنور الشريف الذي يطرح مسيرة رجل أعمال وصل إلى القمة ودخل في علاقات معقدة مع رجال الحكم والسلطة، ومسلسل «فرح العمدة» الذي يطرح صورة للنفوذ الاجتماعي لدى أثرياء الريف والذي يكون عادة الجسر الذي يقودهم للنفوذ السياسي فيما بعد، وهناك في جعبة التلفزيون أيضا أعمال تنتهي بالدرجة الأولى إلى نوعية أعمال القضايا المهمة مثل «دوران شبرا» للمخرج خالد الحجر الذي يطرح قضية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر وتدور أحداثه في الحي الشهير الذي عرف بأغلبيته المسيحية، ومسلسل «الشوارع الخلفية» الذي كتبه مدحت العدل عن رواية الكاتب عبدالرحمن الشرقاوي ويخرجه جمال عبدالحميد ويطرح صورة من النضال ضد الاستعمار الإنجليزي في الثلاثينيات من القرن الماضي، ومسلسل «الريان» تأليف محمود البزاوي وإخراج شيرين عادل عن قصة الرجل الذي أصبح أكثر أصحاب المال نفوذًا في مصر في الثمانينيات من خلال إعطائه أكبر عائد للمدخرين في شركاته في فترة حراك وفساد اقتصادي ليس لها مثيل، وأيضا فإن «دراما النجوم» لا يمكنها أن تنتهي مادام هناك المنتجون الذين يكرسون أعمالهم لأجل صناعة النجم، ومادام هناك المشاهدون الذين يعشقون النجوم مهما قدموا، ومن هنا تأتي أربعة أعمال، ثلاثة منها لنجوم الكوميديا «فرقة ناجي عطالله» لعادل إمام، العمل الذي كان مقدرا له أن يعرض على شاشة التلفزيون المصري حصريًا قبل الثورة، لكن الجهاز فرط في هذا الشرط بعد قيام الثورة ووافق على أن تشاركه في عرضه قنوات أخرى تساهم في تكلفته العالية، ثم «عريس دليفري» بطولة هاني رمزي، والثالث هو «الزناتي مجاهد» لسامح حسين، أما العمل الرابع المضمون عرضه للنجوم فهو «سمارة» بطولة غادة عبدالرازق الممثلة التي تحقق نجاحًا كبيرًا منذ أن قدمت «الحاج متولي» إلى «زهرة وأزواجها الخمسة» بالإضافة إلى نوعية ما يقدمه هذا المسلسل، المأخوذة قصته عن مسلسل إذاعي قديم بالاسم نفسه، إلا أن «تجارة الفن» لا تعرف اليأس! وهناك أعمال أخرى لم ينته العمل فيها بعد، إما لأن الميزانيات الخاصة بإنهائها غير موجودة حتى منتصف يونيو أو لأن المنتجين يخشون الخسارة. أما عن المفاجآت فهي واردة، خاصة إذا علمنا أن بعض الأعمال الدرامية لم تعرض بعد إنتاجها بسبب ما وجهته من انتقادات للعهد السابق مثل مسلسل اجتماعي أنتج عام 2007 بعنوان «القاهرة ترحب بكم» قدم من خلال حلقات متصلة ومنفصلة لوحات شديدة الصدق والقوة عن الحياة في المدينة الكبيرة. وقد منع من العرض بالرغم من حصوله على فضية مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون في مسابقة الدراما الاجتماعية. أما المسلسل الآخر الذي تعرض لظلم كبير العام الماضي فهو عمل اجتماعي كوميدي يجنح إلى الإيحاء السياسي في قالب فانتازي يعيد زمن شهريار وشهرزاد وهو مسلسل «مش ألف ليلة وليلة» للكاتب وليد يوسف والمخرج محمود السعيد الذي يدور حول ملك تثور عليه حاشيته، خاصة جواريه، وتسقط «شهرزاد» سلطته وتقتنص الملك منه محاولة إقامة منظومة مختلفة للحكم والحكام وهذا العمل تم قتله عمدًا بوضعه في القناة الثالثة المحلية في الساعة الرابعة ظهرا في رمضان العام الماضي، أي في المكان والزمان غير المرئيين، ولهذا كان العمل الأول الذي أنصفته الثورة الجديدة حين عرضته قناة «التحرير» فور بداية بثها في مايو الماضي ليصبح إحدى الوثائق الدرامية، سواء حين منع أو حين عرض، فالعمل الدرامي يكتب شهادة ميلاده فور عرضه والتي قد تكون صالحة للبقاء طويلاً مادام عملاً مجيدًا، أو قد تكون شهادتي ميلاد ووفاة معا، لأنه ولد فاقدًا لمقومات بقائه، والعبرة دائمًا بما يبقى لدينا كمشاهدين مما شاهدناه وما سوف نشاهده. وهذا الكلام تحديدًا ينطبق على عمل أخير لنجم كوميدي كبير هو محمد هنيدي بعنوان «مسيو رمضان مبروك أبو العلمين حمودة» مأخوذ عن فيلم له بالقصة نفسها وربما اسم البطل نفسه وهو فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين حمودة» الذي قدمه عام 2008، أي لم تمض عليه سنوات كافية لينساه المشاهد مثل «سمارة» أو على الأقل ليتعامل معه باعتباره عملاً جديدًا بحق، صحيح أنه مسلسل وليس فيلمًا، ولكنه هو نفسه مع إضافة تفاصيل كثيرة، ولا أظن التفاصيل كافية وحدها لتقديم عمل جديد في ثلاثين حلقة، إلا إذا اكتشف صنّاع العمل - مثلاً - أن قضية التعليم شديدة الأهمية وأن الفيلم لم يعطها حقها، فقرروا تقديم العمل الذي يرتقي لهذه القضية! وليبقى الفيصل في هذه الشكوك كلها مشاهدة هذه الأعمال طوال شهر كامل أصبح بالفعل شهرًا للدراما التلفزيونية وحدها.. حتى لو كره البعض.
|