... وقد بلغت حلمي

... وقد بلغت حلمي

قبل ما لا أدرك من السنين المنهمرة عبر سماء العمر عرفت مجلة العربي، مصادفة تاريخية في حياتي أكاد أدّعي أن لها بصمة في سائر سنوات العمر اللاحقة، وهي كما أراها كشاهد عيان تتلاحق بأكثر من قدرتي على عدّها، حتى أشعر أحيانا ووفق الدارجة المصرية بأنني شاهد... عيّان.
في أواخر سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي (حيث تقع بدايات رحلة اكتشافي للحياة)، لم تكن قريتي المتوارية خلف جبال محافظة الداخلية تعرف أكثر من الراديو، يأتي إليها بأخبار الكون من حولها، وهي لا تعنيها أي أخبار، فالراديو معلق في وتد بالبيت (كما هو شأن والدي مع هذه الآلة العجيبة)، أو في نتوء قوي بشجرة أو نخلة، أما التلفاز فكان صناعة الأثرياء، إذ يعمل على مولّد للطاقة لا يحتمل العمل أكثر من بضع ساعات، ومحظوظ من ينال هذه الكرامة في قرية اعتادت على ثقافة موغلة في القدم، فجاءت الكهرباء لتعلمها أبجديات التحول إلى حياة أخرى.
كنت أرى مجلة العربي في الزيارات النادرة التي يسمح بها والدي لمدينة مطرح، قلب العاصمة مسقط النابض بالحركة والتجارة، وفي مكتبتها الواقعة أمام مدخل السوق تعرفت على المجلة المفاجأة، في محتواها، وسعرها المناسب لقدرتنا الشرائية، إذ سعرها، كان ولايزال، أقل بمراحل من مستوى محتوياتها.
في بيتنا الصيفي وجدت في صفحات «العربي» ملاذا لاكتشاف العالم، لم يكن بيتا إنما حائط سعفي نتقي به وهج الشمس حينما تخاتل تلك المتوهجة سعف النخيل فتأتينا من خلالها، فلا يبقى ملاذ سوى أشجار الليمون والمانجو والسفرجل في البقعة الزراعية التي نمتلك في قلب قريتنا سرور.
لا أبالغ إذ قلت إن مجلة العربي منحتني ضوءا في حياة قريتي المستكينة لعتمة تكاد تبدأ في فك كثافتها، هي المحرومة من الكهرباء، كأبلغ معبر عن المدنية والحضارة المعاصرة.
أعطاني استطلاع «العربي» اتساعا لأحلم بتلك المدن التي سافرت المجلة إليها، وفي قصصها تعلمت أكثر كيف أتعلق بالحكايات، وفي حواراتها ما معنى أن يجلس الصحفي أمام مفكر يباغته بمحفزات تتيح له البوح أكثر عن رحلته في الثقافة والفكر.
يومئذٍ مثّل لي الحصول على المجلة حلما يراودني كلما اقترب الشهر من نهايته، كيف لي بها وقد نأت الدار عن موطن الحلم، وبيني وبينها سفر لم يكن متاحا في تلك الطفولة التي تبدو غابرة ومغبرة.
خبأت أحلامي في «سحّارة» الزمن، وكنت أطمئن على أنها تتكاثر يوما بعد آخر، وتتناسل لتمد لي بساط العمر بجمالية أشد اتساعا من محدودية تلك الأحلام الصغيرة المخبأة... بدأ الزمن يسمح بالاقتراب أكثر من حلم الحصول على مجلة العربي شهريا، حيث سمحت لي ظروف الدراسة الثانوية بسكنى العاصمة.
لكن الحلم لا يريد التواضع، ففي تلك الطفولة، وبدايات مرحلة الشباب (أدّعي أنني لم أغادرها بعد)، كنت أطارد مجلة ماجد برسائلي الحاملة لمحاولاتي النشر في صفحات البريد، لكن الحصول على نسخة كل شهر من مجلة العربي هو الحلم الأهم. 
أما الكتابة في صفحاتها فلم تكن إلا «حلما في الكرى أو خلسة المختلس» بما في ذلك الكرى الهائم في أعيننا، حيث ليل القرية سابح طوال الليل في عتمة ممتدة من غروب الشمس حتى شروقها في اليوم التالي.
علمتني «العربي»... قارئا.
وتعلمني... كاتبا.
وتمنحني المزيد من القدرة على الحلم... أن أبلغ حقا شرف الكتابة فيها، وكأنني مازلت 
أحلم.