حَديثُ الأَزْمِنة

حَديثُ الأَزْمِنة

لا نكاد نُحصي ما كُتِب في التاريخ عددا، فمنذ القِدَم وعند بداية استعمال الإنسان للرسوم والنقوش ثم الكتابة بهدف توثيق أحداث عظيمة جرت في عصره، أصبح التوثيق تاريخا لما جرى، فارتبط التاريخ بالماضي، والماضي أزمنة وعصور. كانت المعضلة الكبرى في كتابة التاريخ هي تحديد المفهوم وتعريف مصطلح الزمن، مع التأكيد أنّ «أكثر المصطلحات شيوعا أكثرها مغالطة»، لذا كان لزاما على ممتهن كتابة التاريخ أن يُفَرِّق بين «الزمان» و«الزمن»، من ناحية، وبين «الزمن» و«الوقت» و«الدهر» من ناحية أخرى. فالقاعدة هنا أنّ كل ما يُجْمَعُ لغة هو منقطع ومتكرر، وكل ما لا يُجمع هو أزلي دائم. 

نستطيع أن نجمع «الزمن» و«الوقت» و«الدهر» في حين أننا لا نستطيع جمع «الزمان». 
حرص العرب على التفصيل، فالزمن عندهم: معدود (محدود) ومُقَدّر. ويأتي المعدود كالوقت جزءاً من الزمن، وهو: ثانية ودقيقة وساعة ويوم وشهر وسنة، ثم «الحين»: فجر وصبح وضحى وظهر وعصر ومغرب وعشاء، أما «الآن» فجمعه «آناء»: ليل ونهار، وفصل: شتاء وربيع وصيف وخريف، و«عام» و«عقد» (عشرة أعوام)، و«جيل» (ثلاثون عاما ونيف)، و«قرن» (مائة عام). هذا هو المعدود من الزمن، أمّا المقدّر من الزمن فهو: لحظة وبرهة وعهد ومدة وعصر وعمر ومرحلة وفترة وحقبة ودور ودهر. بدأت الشعوب بتسجيل التاريخ، كل يطالعه من نافذته، وقد أتقن القدماء صناعته، وأول من تفوق فيه هم السومريون، الذين اختلفت فيهم النظريات من أين جاءوا وإلى أين انتهوا، لكن استقرارهم في بعض المواطن، مثل العراق، عكس حضارة عظيمة ذات إنجازات رائعة. وتتابعت سلسلة الحضارات، وتداخلت حلقاتها، من الصين والهند وإيران وسورية إلى الحبشة ومصر وبلاد اليونان وروما. كان لابد لتلك الحضارات من أن تسجّل التاريخ، وكان لابدّ للتاريخ من تقويم. سجّل الصينيون تاريخهم حسب الأبراج السماوية، في حين أنّ الهنود سجلوه ابتداء حسب توالي أساطيرهم الدينية، أما الآراميون في سورية فقد سجلوه وفق الطقس في فصول العام، وانتهى الرومان بتعديل التقويم اليوناني فالمقدوني (البطلمي) بتقدير دوران الأرض حول الشمس. كانت الشهور الرومانية عشرة شهور في السنة، كلها باللاتينية: January وهو إله الفتح، February من Feburus أي الصفاء، Mars إله الحرب، Abril وهو اسم إلهة الخصب، May كانت الإلهة Maya اليونانية تحتكر عبادة الزرع والحرث عند اليونانيين فعبدها الرومان، June المشتق من Junu التي اختار لها زوجها الإله Jupiter مكانا في السماء قرب الشمس فكان شهر يونيو أول شهور الصيف الحارة، أما باقي الأشهر فأخذت العدد السابع Sept والثامن Octo  والتاسع Neuf والعاشر Dece. هكذا كانت الشهور، عشرة شهور، فأتى التقويم الجريجوري ليزيدها شهرين، وضعا تراتبيا كالشهرين السابع والثامن: July تكريما ليوليوس قيصر، وAugust تكريما لأغسطس قيصر روما بعد يوليوس. وبكثير من الدراسات الفلكية، عُدّل هذا التقويم حتى أصبح معتمدا إلى يومنا هذا. والجدير بالذكر أنّ السريانيين، وهو اسم يُطلَق على الناطقين بالسريانية (اللغة المتحدرة من اللغة الآرامية، وهي لغة شقيقة للغة العربية)، قد عرفوا التقويم الشمسي وحبكوا شهوره حين أسموها بمسميات توائم حالة البشر في كل شهر: «كانون» التي تعني «الموقد»، يعكس ذلك حاجة الإنسان إلى ديمومة إشعال الموقد في البرد الشديد الذي يأتي في الشهر كانون الأول (الثاني عشر) وكانون الثاني (الشهر الأول). وترجع كلمة «شباط» إلى اللغة البابلية، وتؤدي المعنى نفسه بالسريانية والعبرية، هبوب الريح بشدة. أما «آذار» فقد سُمي كذلك رجوعاً إلى «آدر» أو «هدر»، كلمة يشترك في معناها كل من الفرس والبابليين والسريان، وهو صوت العواصف والزوابع والرعود. وبانتهاء العواصف تهدأ الأيام بمجيء «نيسان»، (كلمتان ني أسان)، أي اليوم الجديد، عندما تهدأ الدنيا وتزهر بالربيع. وفي الربيع أيضا تتفتح الأزهار وتحنو الريح، وهذا معنى «أيار» بالبابلية والسريانية. بعدها يأتي الشهر السادس «حزيران»، ويعني عيد السنابل عند السريان، وجذر الكلمة «حزر» بمعنى القمح. و«تموز» إله قديم عبده السومريون والأكديون في العراق. وفي السريانية: تشري قديم وتشري حراي، وتشري تعني بيع، بيع المحصول والتجهز للشتاء القادم بادخار المؤونة، لذلك سمي تشرين الأول وتشرين الثاني، وهما الشهران العاشر والحادي عشر من السنة الشمسية.
عرف العرب الشهور الشمسية، بذلك يخبرنا البيروني في «الآثار الباقية عن القرون الخالية» أنّ قوم ثمود كانوا يعتمدون شهورا نظمها كما يلي:
شهور ثمود «موجب» ثم «موجز»
و«مورد» يتلو «مُلزما» ثم «مصدرُ»
و«هَوْبَر» يأتي ثم يدخل «هوبل»
و«موهاء» قد يقفوها ثم «دَيْمَرُ»
و«دابر» يمضي ثم يأتي «حيفل»
و«مسبل» حتى تمّ فيهن أشهرُ
وبعد ثمود غيّر العرب أسماء الشهور، يوردها القلقشندي في «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» كالآتي: «المؤتمر»، وهو شهر يجتمع فيه سادة العرب ليقرروا أقضية العام، «ناجر» ويعني الحر الشديد، «خَوان»، «بصان»، «حنين»، «زباء»، «أصم»، «عاذل»، «ناتق»، «واغل»، «ورنة»، «بُرَك». ثم تغيرت، ولم يتفق العرب يوما على أسماء الشهور، فعرب الحجاز قبل الإسلام كانت لهم لشهور السنة أسماء شاءت الأقدار أن تظل متداولة حتى الآن، وكانت اثني عشر شهرا، منها أربعة أشهر «حُرُم»، حرمت قبائل الجزيرة العربية فيها القتال، وهي «المحرم» و«رجب» و«ذو القعدة» و«ذو الحجّة». وعلى قول البيروني بأنّ تلك الشهور «تدور مع سنة الشمس على منهاج واحد» وهي على التوالي: «المحرَّم» و«صَفَر» الذي سمي كذلك لخلو المدن من رجالها الذين يسعون إلى القتال، وقيل صِفْرُ اليدين أي خالي اليدين، وهذا رأي الزبيدي في «تاج العروس» والمسعودي في «مروج الذهب»، أما البيروني فينسب التسمية لمرض الصفراء الذي عادة ما يصيب القوم في تلك الفترة الانتقالية بين فصلين. وبقدوم فصل الربيع، سمّى العربُ الشهر الثالث «ربيع الأول» والرابع «ربيع الآخر». وللعربِ في لغتهم أسرار، فقد كانت كل أسماء شهورهم مذكّرة إلا «جمادى»، فإنه قد أتاهم بما لا يُحبون عدد سنين، فبعد انقضاء الربيع تجمد الماء في الآبار والعيون، ولم يستطيعوا إليه سبيلا. ويؤيد ابن منظور في «لسان العرب» أن جمادى سُمي كذلك لتجمد الماء في هذا الوقت، فتشاءم العرب منه فأنثوه. و«جمادى» شهران، الأولى والآخرة. أما الشهر السابع فهو «رَجَب» وتعني المهاب والمعظم، لأن العرب تهابه وتعظمه بتركهم القتال فيه كثاني الأشهر الحرم. أما «شعبان» فقد اتخذ له هذا الاسم لتشعب القبائل في طلب الكلأ والماء. و«رمضان» من الرمضاء وهو الشهر الثامن الذي يأتي وقت الحر الشديد. والتاسع «شوال» وهو وقت تلقيح النوق، فيرتفع لبنها، ويقول عرب الجزيرة «شال» و«يشيل» أي حمَلَ ورَفَعَ، ومنها «شوال» الوقت الذي ترفع فيه أذناب النوق للتكاثر. وشهر «ذو القعدة» يقعد فيه العرب عن القتال. وأخيرا «ذو الحجة» وهو شهر الحجّ.
وكانت السنة عند العرب تنقص أياما وتزيد أخرى، فيقومون بكبسها في الزيادة ونسيئها في النقصان، حتى حارت ألبابهم، فجاءهم الإسلام مهذبا ومنظما ومرتبا لحياتهم ومعيشتهم. واستطاع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في عام 17 هجريا/638 ميلاديا، وضع تقويم سنوي يعتمد فيه على السنة القمرية بدلا من السنة الشمسية. كان السبب الرئيس في وضع هذا التقويم هو الالتزام بمواقيت المناسك والمشاعر والنوافل، من صلاة وصيام وحج وغيرها. لقد بدأ التقويم الهجري من الأول من المحرم من العام الهجري الأول/16 يوليو 622 ميلاديا. وهنا لابدّ أن نذكر بأنّ شهر رمضان (الذي استمد اسمه من الرمضاء- أي شدة الحرّ) لم يأت على المسلمين منذ أن كتب الله فيه الصيام عليهم بِحَرًّ أو رمضاء حتى السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية.