أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ
يا لسرعة الزمن... تمضي بنا الأعوام مثل الساعات، والشهور كالدقائق، فتكون الأيام ثواني... بيد أنني لا أصدق قولاً بمضي أكثر من ربع قرن على الغزو العراقي للكويت في مثل هذا الشهر (الثاني من أغسطس عام 1990م). ولم تُمْحَ من الذاكرة أحزان الجوع والخوف والكمد من فقْد الأحبة، والِد وأخ ووَلَد. يا لدنيانا نعيم زائل، عشنا بها عيشاً كان الفرح فيها سراباً، والألم لا يُنسى فيبقى عذابا.
كلما أتى أغسطس عادت الذكريات، ذكريات الخوف، خوف من نوع جديد لم نعهده، خوف على العرض والأرض.
ومع مضي الأيام، نصحو غير مصدقين بأننا صرنا أسرى في بلادنا، التي نراها تُنهب وتُسلب من ضمير غدْر عاث في الأرض فساداً يتكسب.
كان الصبر لنا سلاحاً، والأمل مركباً، ألا لا عادت تلك الليالي التي سهرناها في متابعة الأخبار نترقب، فَرَجاً من الله ولنا أخوة في السجون تتعذب. شعب آمن يُرْهَب، وأرض خيرٍ تذهب، تُحرق الآبار فيها وتُدمَر المرافق والمدارس تُغلق، حتى المساجد لا يُرفع فيها أذانٌ ولا هي آنذاك للخشوع تنفع.
الشرّ عرَض والخير فِطْرَة
لقد عشنا وعرفنا معنى الخوف والجوع، وتعلمنا كيف نحيا حياة ندفع فيها هذين الشرّين عن كل إنسان، وندافع عن الإنسانية بالتكافل والتعاون والتواصي بالحق والصبر والتضحية.
ألم تتساءل يوما عن السبب الأساسي للتنزيل الكريم، وقول البارئ عز وجلّ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(سورة قريش/الآية 4)? لتعلم أنّ الجوع والخوف سببان أساسيان في تحجيم العقل البشري وتوقف الإبداع الإنساني، فالجائع كالخائف، لا يمكنه أن يُفكر إلا عندما يدفع الضرر ويحقق الحاجة.
ولا تنهض الأمم أو تقوم الحضارات تحت وطأة الخوف من الحروب أو الكوارث، ولا تتقدم الشعوب الجائعة فكرياً أو ثقافياً، ففي فترة الجوع تختفي كل الفنون، فكل الفنون إبداع، وكل إبداع فنّ. وكلما استفحل الشّر كان تحدي الإنسان أكبر، وعلى الرغم من أنّ للشر وجوهاً وأقنعة تهدم كلّ إبداع إنساني بتخريب شيطاني، فإنّ الخير غالب للشر في النهاية لا محالة.
وعلى مرّ العصور يظل صراع الخير والشرّ قائماً، ليرويه لنا التاريخ في سجلاته، وليؤكد على أنّ الشر فترة في دور الخير وكوْرِه، فالشرّ عرَض والخير فِطْرَة.
صناعة الخوف واحتراف التجويع
إذا أردنا أن نتحدث عن الشرّ، فإنّ أكبر أبوابه الفتنة وأعرض أبوابه الفساد. وليس الفاسد كالمُفْسِدِ، فالفاسد فساده لا يحيق إلا بنفسه، أما المُفْسِد فيستشري فساده ليعم دوائر الأسرة والمجتمع والدولة، كالمرض المعدي غِيلة أو أعظم وأكثر قيلاً.
وأكبر فساد في الأرض هو اصناعة الخوف واحتراف التجويعب، فالخوف يوهن النفس ويشتت العقل ويُضعف الجسد. ويحكي لنا التاريخ الوسيط كيف استطاع اأتيلا الهونيب، وهو قائد البرابرة في شرقي أوربا، أن يُخضِع الناس ويهزم الجيوش بالخوف، حين كان يشيع عن نفسه وجنده كيف كانوا يشربون الخمر في جماجم قتلاهم، تلك الجماجم التي كانت تُجمع لتصير أكواماً.
ومثل ذلك كانت تشيع جيوش المغول الرهبة والخوف من القتل والتمثيل بالأجساد وهتك الأعراض قبل أن يصل جنودهم إلى القرى والمدن.
وعلى أيادي جيوش جانكيز خان إلى جيوش هولاكو من بعده، قُتل مئات الآلاف من الأبرياء والمسالمين في خط سير المغول، فسالت أنهار من الدماء وانتثرت الجثث في الطرقات، وانتشر الوباء والطاعون، وما إن وصلت جيوشهم إلى بغداد حتى أكملوا جرائمهم بحرق المدينة وتدمير معالمها وأسواقها، فدمروا بذلك صرحاً حضارياً شامخاً، وكانوا عن ذلك من الجاهلين.
القتل والاغتيال
ما أكثر الطغاة في التاريخ حين تعدهم، وأكثرهم مجرمون... نقول أكثرهم وليس كلهم، فبعضهم طغى على الناس واستثنى أهله وبعض المقربين، وقليل منهم لم يطغَ على أبناء عشيرته أو مُواليه، والنادر منهم من استبد عدلاً بتطبيق أحكام القانون. الحاكم المستبد العادل Tyrannos، مصطلح يوناني أول من استخدمه أرخيلوخس في شرحه لمفهوم اأوتوقراطيةب أو الحكم الفردي، ثم استعاره أفلاطون ليشرح في كتابه االجمهوريةب معنى الاستبداد والمستبد (الذئب) في سرده لقصة ديونيسيوس طاغية سيراقوصة.
وعلى الرغم من أنّ أفلاطون لم يكن وثنياً، وإنما كان من الموحدين كأستاذه سقراط، فإنه عند بيانه لأنظمة الحكم جعل الطغاة ضمن تصنيف االثيوقراطيةب أو حكم أصحاب السلطة الدينية.
ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أن مصطلح الطغيان ومفهومه قد تقرر بمعناه السلبي ليصبح وصفاً للظالم في ممارسة ظلمه، سواء كان حاكماً سياسياً أو قائداً عسكرياً أو رجل دين يأتمر الناس برأيه وفتواه.
ومن فكرة استبداد رجال الدين، رأينا استبداد الكنيسة في العصور الوسطى، عندما رفعت شعار اسيف اللهب، لتحكم به الشعوب، وتسلط السيف على من يعارض آراء رجال الدين. ومثل ذلك نراه في كل الأديان، كموروث إنساني - تاريخي يجعل رجل الدين صاحب الكلمة الأخيرة في أي قرار يتخذه الإنسان في هذه الحياة.
وبعيدا عن الدين، يشرح أرسطو ضرورة تفرُّد الطاغية بعملية اتخاذ القرار، وهذا سر نجاح قرارات االسيّدب مع االعبيدب!
لا تعجب من هذا الرأي، فأرسطو كان يرى أن بعض الناس خُلقوا ليكونوا سادة، والبعض الآخر تفرض عليهم طبيعتهم التي خلقوا عليها أن يكونوا عبيداً!
وفي تاريخنا، نحن العرب والمسلمين، أمثلة كثيرة امتدت من العصر الأموي حتى عصرنا هذا، طغاة سجلهم التاريخ في قوائم الإجرام، بعضهم طويت صفحات طغيانه فما يذكره أحد، والبعض الآخر لايزال - حتى بعد مرور القرون على حتفه - مضرباً للمثل في الإرهاب، تخويفاً وتعذيباً.
إشكاليات صناعة السلام
بعد أن سقطت بغداد، صارت صناعة الخوف عقيدة عسكرية لكل جيوش الظلم والظلام، حتى رأينا بعد طول السنين، وفي عصرنا هذا، كيف يُذْبَحُ الإنسان نحراً بدم بارد وبأبشع صورة، ويكون ذلك باسم دين أو ولاء أو جنس أو هوية.
وبدلا من أن تتسابق الأمم المتحضرة لنشر السلام، صار القوي منها يحكم ويتحكم، مستخدماً كل ما يستطيع استخدامه من وسائل الخوف: نشر الأوبئة، تلويث البيئة، تجفيف المياه، تخريب المحاصيل وتسميم الغذاء، ويلوّح من بعيد باستخدام وسائل الدمار الشامل، كل ذلك وراء قناع الحرية والسلام.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، حتى رأينا الإبداع قد انحرف فساداً، يصاحبه الخوف، فها هي كل وسائل التكنولوجيا والتقدم الآلي في الحواسيب والأجهزة الرقمية والهواتف الذكية، بعد أن أصبحت جزءاً لا يتجزأ من استخداماتنا وحياتنا اليومية، صارت همّاً وكابوساً مخيفاً وسلاحاً خطيراً يهدد النفس والعقل والجسد، والصحة والتربية والتعليم، والفنّ والأدب والثقافة. وعندما نتابع التقدم الحضاري للأمم والشعوب، نلاحظ أنّ أغلب الإنجازات، من اكتشافات واختراعات، حققها الإنسان في سبيل حياة أفضل ملؤها الأمن والسلام والاستقرار، قد انقلبت إلى سلاح مدمّر فتاك، من استخدام النار إلى الكهرباء إلى الطاقة النووية، ومن السفن إلى السيارات والقطارات إلى الطائرات والصواريخ، فهذا يصنع الديناميت لأغراض سلمية، الأصل فيها شق الطرق وتسهيل المواصلات، فيستخدمها أهل الشر في الهدم والتخريب والتدمير. وذاك يصنع أسلحة للصيد، ليستخدمها غيره في القتل والإرهاب وسفك الدماء البريئة. ألا بُعدا لسوء المُنقلب في العلم إذا صاحبه سوء عمل.
لقد تغلغل الخوف في كلّ شيء، الطعام والماء والزرع والهواء، ووسائل النقل في الأرض والسماء، وانتشر الفزع من قراصنة الإنترنت والحوسبة بانتهاك الخصوصيات والتعرض للاستغلال، ولم تسلم البنوك والمصارف والمؤسسات المالية من تلك القرصنة، التي نالت من المنظمات الدولية فانتهكت أسرارها.
خوف ورعب وفزع وهلع، يعيش بها الإنسان يوميا، وربما في كل لحظة. لكن من الغريب أن يصبح الرعب رفاهية وترفيهاً، الأفلام والمسلسلات والألعاب البرمجية للأطفال والكبار، حتى الألعاب في المدن الترفيهية أصبح المخيف منها يحظى بالإقبال وكثرة المستخدمين أكثر من غيره.
التحدي والاستجابة
قاتل اللهُ الجوعَ فإنه يزري بالإنسان ذلة وهواناً. وقد كنا نسمع عن الجوع، لدرجة ألا يصل بنا الخيال إلى رسم صورته الحقيقية فنكشف عن وجهه المخيف، إلى أن ضاق العالم وصغر، وصارت المسافات أقصر، وبثت وسائل الإعلام صوراً وأفلاماً حية، تبيّن حالات من شعوب حاصرها الجوع فمات أطفالها ووهنت أجساد نسائها ورجالها.
لا شكّ في أنّ تاريخ المجاعات عبر الزمان تاريخ حزين، يسطر قصصاً لا يكاد يصدقها إلا من عاصرها، أو عاش قريبا منها. ومن المؤكد أنّ الإنسان عندما يجوع ثم لا يجد ما يأكل أو ما يسدّ به رمق جوعه، تتوقف عنده كل الحواس، فتراه يبحث عن الطعام، وترى النفس تخرّ من آمالها إلى مطالبها ثم إلى حاجتها وبعد ذلك إلى ما هو أدنى، فماذا إن لم يجد هذا الإنسان ما هو أدنى؟ هنالك، تغيب النفس في فضاء الألم، فتفقد رغبتها ومتعتها ولذتها، فتزوغ لسد رمقها بالخسيس وبالحقير.
هذا هو العذاب، تصديقا بما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل جهنم بأنّ طعامهم الزقوم وشرابهم الغسلين، فمن يعش في مجاعة فكأنه قد خَبِرَ جزءاً من عذاب جهنم. ومهما يكن من أمر استيعاب صوت العذاب وصورته، فإنّ من يعيش المجاعة أو يشاهدها عين اليقين ليس كالسامع عنها خبرا.
رحم الله الطبيب الإنسان د. عبدالرحمن السميط، الذي أفنى حياته في محاربة الجوع والفقر والجهل. ومن حديث لي معه في العاصمة الأردنية عَمّان، أيقنت أن المشاهد للجوع غير سامعه، وعندما روى بعض مشاهداته بدقة وتفصيل، تأكدت من كل ما يحمله الإحساس بالجوع من آلام وإذلال وكمد.
نال السميط التكريم والتقدير على مساهماته في محاربة الجوع والفقر والمرض، وحاز عديداً من الجوائز، كانت أهمها جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، التي تبرع بمبالغ مكافأتها إلى الفقراء والمحتاجين من الجياع والمنكوبين، فعاش ذكره من خلال الجمعيات والمراكز التي أنشأها وأسسها لأغراض الإغاثة، وأهمها اجمعية العون المباشرب، التي استمدت اسمها من نشاطها، فهي ليست كالجمعيات الخيرية الأخرى، الأهلية أو الحكومية أو العالمية، فقد كان نشاطها يقوم على توصيل المساعدات الإنسانية من المَصدر إلى المحتاجين مباشرة، وكان - رحمه الله - يقوم بنفسه على هذا العمل.
وبعد وفاته في مثل هذا الشهر 15 أغسطس 2013م، كرمه قائد الإنسانية سمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، بتسمية إحدى الجوائز الكبرى لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي باسم اجائزة عبدالرحمن السميط للتنمية الإفريقيةب في مجالات الصحة والأمن الغذائي والتعليم >