أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

يا‭ ‬لسرعة‭ ‬الزمن‭... ‬تمضي‭ ‬بنا‭ ‬الأعوام‭ ‬مثل‭ ‬الساعات،‭ ‬والشهور‭ ‬كالدقائق،‭ ‬فتكون‭ ‬الأيام‭ ‬ثواني‭... ‬بيد‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬قولاً‭ ‬بمضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬الغزو‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ (‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1990م‭). ‬ولم‭ ‬تُمْحَ‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬أحزان‭ ‬الجوع‭ ‬والخوف‭ ‬والكمد‭ ‬من‭ ‬فقْد‭ ‬الأحبة،‭ ‬والِد‭ ‬وأخ‭ ‬ووَلَد‭. ‬يا‭ ‬لدنيانا‭ ‬نعيم‭ ‬زائل،‭ ‬عشنا‭ ‬بها‭ ‬عيشاً‭ ‬كان‭ ‬الفرح‭ ‬فيها‭ ‬سراباً،‭ ‬والألم‭ ‬لا‭ ‬يُنسى‭ ‬فيبقى‭ ‬عذابا‭. ‬

كلما‭ ‬أتى‭ ‬أغسطس‭ ‬عادت‭ ‬الذكريات،‭ ‬ذكريات‭ ‬الخوف،‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬لم‭ ‬نعهده،‭ ‬خوف‭ ‬على‭ ‬العرض‭ ‬والأرض‭. ‬

ومع‭ ‬مضي‭ ‬الأيام،‭ ‬نصحو‭ ‬غير‭ ‬مصدقين‭ ‬بأننا‭ ‬صرنا‭ ‬أسرى‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬تُنهب‭ ‬وتُسلب‭ ‬من‭ ‬ضمير‭ ‬غدْر‭ ‬عاث‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬فساداً‭ ‬يتكسب‭. ‬

كان‭ ‬الصبر‭ ‬لنا‭ ‬سلاحاً،‭ ‬والأمل‭ ‬مركباً،‭ ‬ألا‭ ‬لا‭ ‬عادت‭ ‬تلك‭ ‬الليالي‭ ‬التي‭ ‬سهرناها‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الأخبار‭ ‬نترقب،‭ ‬فَرَجاً‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬ولنا‭ ‬أخوة‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬تتعذب‭. ‬شعب‭ ‬آمن‭ ‬يُرْهَب،‭ ‬وأرض‭ ‬خيرٍ‭ ‬تذهب،‭ ‬تُحرق‭ ‬الآبار‭ ‬فيها‭ ‬وتُدمَر‭ ‬المرافق‭ ‬والمدارس‭ ‬تُغلق،‭ ‬حتى‭ ‬المساجد‭ ‬لا‭ ‬يُرفع‭ ‬فيها‭ ‬أذانٌ‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬آنذاك‭ ‬للخشوع‭ ‬تنفع‭. ‬

 

الشرّ‭ ‬عرَض‭ ‬والخير‭ ‬فِطْرَة

لقد‭ ‬عشنا‭ ‬وعرفنا‭ ‬معنى‭ ‬الخوف‭ ‬والجوع،‭ ‬وتعلمنا‭ ‬كيف‭ ‬نحيا‭ ‬حياة‭ ‬ندفع‭ ‬فيها‭ ‬هذين‭ ‬الشرّين‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬وندافع‭ ‬عن‭ ‬الإنسانية‭ ‬بالتكافل‭ ‬والتعاون‭ ‬والتواصي‭ ‬بالحق‭ ‬والصبر‭ ‬والتضحية‭. ‬

ألم‭ ‬تتساءل‭ ‬يوما‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬الأساسي‭ ‬للتنزيل‭ ‬الكريم،‭ ‬وقول‭ ‬البارئ‭ ‬عز‭ ‬وجلّ‭: {‬الَّذِي‭ ‬أَطْعَمَهُمْ‭ ‬مِنْ‭ ‬جُوعٍ‭ ‬وَآمَنَهُمْ‭ ‬مِنْ‭ ‬خَوْفٍ‭}(‬سورة‭ ‬قريش‭/‬الآية‭ ‬4‭)‬‭? ‬لتعلم‭ ‬أنّ‭ ‬الجوع‭ ‬والخوف‭ ‬سببان‭ ‬أساسيان‭ ‬في‭ ‬تحجيم‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬وتوقف‭ ‬الإبداع‭ ‬الإنساني،‭ ‬فالجائع‭ ‬كالخائف،‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يُفكر‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬يدفع‭ ‬الضرر‭ ‬ويحقق‭ ‬الحاجة‭. ‬

ولا‭ ‬تنهض‭ ‬الأمم‭ ‬أو‭ ‬تقوم‭ ‬الحضارات‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬أو‭ ‬الكوارث،‭ ‬ولا‭ ‬تتقدم‭ ‬الشعوب‭ ‬الجائعة‭ ‬فكرياً‭ ‬أو‭ ‬ثقافياً،‭ ‬ففي‭ ‬فترة‭ ‬الجوع‭ ‬تختفي‭ ‬كل‭ ‬الفنون،‭ ‬فكل‭ ‬الفنون‭ ‬إبداع،‭ ‬وكل‭ ‬إبداع‭ ‬فنّ‭.  ‬وكلما‭ ‬استفحل‭ ‬الشّر‭ ‬كان‭ ‬تحدي‭ ‬الإنسان‭ ‬أكبر،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬للشر‭ ‬وجوهاً‭ ‬وأقنعة‭ ‬تهدم‭ ‬كلّ‭ ‬إبداع‭ ‬إنساني‭ ‬بتخريب‭ ‬شيطاني،‭ ‬فإنّ‭ ‬الخير‭ ‬غالب‭ ‬للشر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لا‭ ‬محالة‭. ‬

وعلى‭ ‬مرّ‭ ‬العصور‭ ‬يظل‭ ‬صراع‭ ‬الخير‭ ‬والشرّ‭ ‬قائماً،‭ ‬ليرويه‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬سجلاته،‭ ‬وليؤكد‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الشر‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬الخير‭ ‬وكوْرِه،‭ ‬فالشرّ‭ ‬عرَض‭ ‬والخير‭ ‬فِطْرَة‭.‬

 

صناعة‭ ‬الخوف‭ ‬واحتراف‭ ‬التجويع

إذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشرّ،‭ ‬فإنّ‭ ‬أكبر‭ ‬أبوابه‭ ‬الفتنة‭ ‬وأعرض‭ ‬أبوابه‭ ‬الفساد‭. ‬وليس‭ ‬الفاسد‭ ‬كالمُفْسِدِ،‭ ‬فالفاسد‭ ‬فساده‭ ‬لا‭ ‬يحيق‭ ‬إلا‭ ‬بنفسه،‭ ‬أما‭ ‬المُفْسِد‭ ‬فيستشري‭ ‬فساده‭ ‬ليعم‭ ‬دوائر‭ ‬الأسرة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬كالمرض‭ ‬المعدي‭ ‬غِيلة‭ ‬أو‭ ‬أعظم‭ ‬وأكثر‭ ‬قيلاً‭. ‬

وأكبر‭ ‬فساد‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬هو‭ ‬اصناعة‭ ‬الخوف‭ ‬واحتراف‭ ‬التجويعب،‭ ‬فالخوف‭ ‬يوهن‭ ‬النفس‭ ‬ويشتت‭ ‬العقل‭ ‬ويُضعف‭ ‬الجسد‭. ‬ويحكي‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬الوسيط‭ ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬اأتيلا‭ ‬الهونيب،‭ ‬وهو‭ ‬قائد‭ ‬البرابرة‭ ‬في‭ ‬شرقي‭ ‬أوربا،‭ ‬أن‭ ‬يُخضِع‭ ‬الناس‭ ‬ويهزم‭ ‬الجيوش‭ ‬بالخوف،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يشيع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وجنده‭ ‬كيف‭ ‬كانوا‭ ‬يشربون‭ ‬الخمر‭ ‬في‭ ‬جماجم‭ ‬قتلاهم،‭ ‬تلك‭ ‬الجماجم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُجمع‭ ‬لتصير‭ ‬أكواماً‭. ‬

ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬تشيع‭ ‬جيوش‭ ‬المغول‭ ‬الرهبة‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬القتل‭ ‬والتمثيل‭ ‬بالأجساد‭ ‬وهتك‭ ‬الأعراض‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬جنودهم‭ ‬إلى‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭. ‬

وعلى‭ ‬أيادي‭ ‬جيوش‭ ‬جانكيز‭ ‬خان‭ ‬إلى‭ ‬جيوش‭ ‬هولاكو‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬قُتل‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأبرياء‭ ‬والمسالمين‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬سير‭ ‬المغول،‭ ‬فسالت‭ ‬أنهار‭ ‬من‭ ‬الدماء‭ ‬وانتثرت‭ ‬الجثث‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬وانتشر‭ ‬الوباء‭ ‬والطاعون،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وصلت‭ ‬جيوشهم‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬حتى‭ ‬أكملوا‭ ‬جرائمهم‭ ‬بحرق‭ ‬المدينة‭ ‬وتدمير‭ ‬معالمها‭ ‬وأسواقها،‭ ‬فدمروا‭ ‬بذلك‭ ‬صرحاً‭ ‬حضارياً‭ ‬شامخاً،‭ ‬وكانوا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الجاهلين‭. ‬

 

القتل‭ ‬والاغتيال

ما‭ ‬أكثر‭ ‬الطغاة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬حين‭ ‬تعدهم،‭ ‬وأكثرهم‭ ‬مجرمون‭... ‬نقول‭ ‬أكثرهم‭ ‬وليس‭ ‬كلهم،‭ ‬فبعضهم‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬واستثنى‭ ‬أهله‭ ‬وبعض‭ ‬المقربين،‭ ‬وقليل‭ ‬منهم‭ ‬لم‭ ‬يطغَ‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬عشيرته‭ ‬أو‭ ‬مُواليه،‭ ‬والنادر‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬استبد‭ ‬عدلاً‭ ‬بتطبيق‭ ‬أحكام‭ ‬القانون‭. ‬الحاكم‭ ‬المستبد‭ ‬العادل‭ ‬Tyrannos،‭ ‬مصطلح‭ ‬يوناني‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استخدمه‭ ‬أرخيلوخس‭ ‬في‭ ‬شرحه‭ ‬لمفهوم‭ ‬اأوتوقراطيةب‭ ‬أو‭ ‬الحكم‭ ‬الفردي،‭ ‬ثم‭ ‬استعاره‭ ‬أفلاطون‭ ‬ليشرح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االجمهوريةب‭ ‬معنى‭ ‬الاستبداد‭ ‬والمستبد‭ (‬الذئب‭) ‬في‭ ‬سرده‭ ‬لقصة‭ ‬ديونيسيوس‭ ‬طاغية‭ ‬سيراقوصة‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬أفلاطون‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وثنياً،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الموحدين‭ ‬كأستاذه‭ ‬سقراط،‭ ‬فإنه‭ ‬عند‭ ‬بيانه‭ ‬لأنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬جعل‭ ‬الطغاة‭ ‬ضمن‭ ‬تصنيف‭ ‬االثيوقراطيةب‭ ‬أو‭ ‬حكم‭ ‬أصحاب‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭. ‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬الطغيان‭ ‬ومفهومه‭ ‬قد‭ ‬تقرر‭ ‬بمعناه‭ ‬السلبي‭ ‬ليصبح‭ ‬وصفاً‭ ‬للظالم‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬ظلمه،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬حاكماً‭ ‬سياسياً‭ ‬أو‭ ‬قائداً‭ ‬عسكرياً‭ ‬أو‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬يأتمر‭ ‬الناس‭ ‬برأيه‭ ‬وفتواه‭. ‬

ومن‭ ‬فكرة‭ ‬استبداد‭ ‬رجال‭ ‬الدين،‭ ‬رأينا‭ ‬استبداد‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬عندما‭ ‬رفعت‭ ‬شعار‭ ‬اسيف‭ ‬اللهب،‭ ‬لتحكم‭ ‬به‭ ‬الشعوب،‭ ‬وتسلط‭ ‬السيف‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يعارض‭ ‬آراء‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭. ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأديان،‭ ‬كموروث‭ ‬إنساني‭ - ‬تاريخي‭ ‬يجعل‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬صاحب‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬قرار‭ ‬يتخذه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭. ‬

وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬يشرح‭ ‬أرسطو‭ ‬ضرورة‭ ‬تفرُّد‭ ‬الطاغية‭ ‬بعملية‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬وهذا‭ ‬سر‭ ‬نجاح‭ ‬قرارات‭ ‬االسيّدب‭ ‬مع‭ ‬االعبيدب‭! ‬

لا‭ ‬تعجب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرأي،‭ ‬فأرسطو‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬خُلقوا‭ ‬ليكونوا‭ ‬سادة،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬تفرض‭ ‬عليهم‭ ‬طبيعتهم‭ ‬التي‭ ‬خلقوا‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬عبيداً‭! ‬

وفي‭ ‬تاريخنا،‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين،‭ ‬أمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭ ‬حتى‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬طغاة‭ ‬سجلهم‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬قوائم‭ ‬الإجرام،‭ ‬بعضهم‭ ‬طويت‭ ‬صفحات‭ ‬طغيانه‭ ‬فما‭ ‬يذكره‭ ‬أحد،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬لايزال‭ - ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬القرون‭ ‬على‭ ‬حتفه‭ - ‬مضرباً‭ ‬للمثل‭ ‬في‭ ‬الإرهاب،‭ ‬تخويفاً‭ ‬وتعذيباً‭. ‬

 

إشكاليات‭ ‬صناعة‭ ‬السلام‭ ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬سقطت‭ ‬بغداد،‭ ‬صارت‭ ‬صناعة‭ ‬الخوف‭ ‬عقيدة‭ ‬عسكرية‭ ‬لكل‭ ‬جيوش‭ ‬الظلم‭ ‬والظلام،‭ ‬حتى‭ ‬رأينا‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬السنين،‭ ‬وفي‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬كيف‭ ‬يُذْبَحُ‭ ‬الإنسان‭ ‬نحراً‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭ ‬وبأبشع‭ ‬صورة،‭ ‬ويكون‭ ‬ذلك‭ ‬باسم‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬ولاء‭ ‬أو‭ ‬جنس‭ ‬أو‭ ‬هوية‭. ‬

وبدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تتسابق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحضرة‭ ‬لنشر‭ ‬السلام،‭ ‬صار‭ ‬القوي‭ ‬منها‭ ‬يحكم‭ ‬ويتحكم،‭ ‬مستخدماً‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬استخدامه‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الخوف‭: ‬نشر‭ ‬الأوبئة،‭ ‬تلويث‭ ‬البيئة،‭ ‬تجفيف‭ ‬المياه،‭ ‬تخريب‭ ‬المحاصيل‭ ‬وتسميم‭ ‬الغذاء،‭ ‬ويلوّح‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬باستخدام‭ ‬وسائل‭ ‬الدمار‭ ‬الشامل،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وراء‭ ‬قناع‭ ‬الحرية‭ ‬والسلام‭. ‬

ولم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬حتى‭ ‬رأينا‭ ‬الإبداع‭ ‬قد‭ ‬انحرف‭ ‬فساداً،‭ ‬يصاحبه‭ ‬الخوف،‭ ‬فها‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬وسائل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والتقدم‭ ‬الآلي‭ ‬في‭ ‬الحواسيب‭ ‬والأجهزة‭ ‬الرقمية‭ ‬والهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءاً‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬استخداماتنا‭ ‬وحياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬صارت‭ ‬همّاً‭ ‬وكابوساً‭ ‬مخيفاً‭ ‬وسلاحاً‭ ‬خطيراً‭ ‬يهدد‭ ‬النفس‭ ‬والعقل‭ ‬والجسد،‭ ‬والصحة‭ ‬والتربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬والفنّ‭ ‬والأدب‭ ‬والثقافة‭. ‬وعندما‭ ‬نتابع‭ ‬التقدم‭ ‬الحضاري‭ ‬للأمم‭ ‬والشعوب،‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنّ‭ ‬أغلب‭ ‬الإنجازات،‭ ‬من‭ ‬اكتشافات‭ ‬واختراعات،‭ ‬حققها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭ ‬ملؤها‭ ‬الأمن‭ ‬والسلام‭ ‬والاستقرار،‭ ‬قد‭ ‬انقلبت‭ ‬إلى‭ ‬سلاح‭ ‬مدمّر‭ ‬فتاك،‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬النار‭ ‬إلى‭ ‬الكهرباء‭ ‬إلى‭ ‬الطاقة‭ ‬النووية،‭ ‬ومن‭ ‬السفن‭ ‬إلى‭ ‬السيارات‭ ‬والقطارات‭ ‬إلى‭ ‬الطائرات‭ ‬والصواريخ،‭ ‬فهذا‭ ‬يصنع‭ ‬الديناميت‭ ‬لأغراض‭ ‬سلمية،‭ ‬الأصل‭ ‬فيها‭ ‬شق‭ ‬الطرق‭ ‬وتسهيل‭ ‬المواصلات،‭ ‬فيستخدمها‭ ‬أهل‭ ‬الشر‭ ‬في‭ ‬الهدم‭ ‬والتخريب‭ ‬والتدمير‭. ‬وذاك‭ ‬يصنع‭ ‬أسلحة‭ ‬للصيد،‭ ‬ليستخدمها‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬القتل‭ ‬والإرهاب‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء‭ ‬البريئة‭. ‬ألا‭ ‬بُعدا‭ ‬لسوء‭ ‬المُنقلب‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬إذا‭ ‬صاحبه‭ ‬سوء‭ ‬عمل‭. ‬

لقد‭ ‬تغلغل‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬الطعام‭ ‬والماء‭ ‬والزرع‭ ‬والهواء،‭ ‬ووسائل‭ ‬النقل‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء،‭ ‬وانتشر‭ ‬الفزع‭ ‬من‭ ‬قراصنة‭ ‬الإنترنت‭ ‬والحوسبة‭ ‬بانتهاك‭ ‬الخصوصيات‭ ‬والتعرض‭ ‬للاستغلال،‭ ‬ولم‭ ‬تسلم‭ ‬البنوك‭ ‬والمصارف‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القرصنة،‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬من‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬فانتهكت‭ ‬أسرارها‭. ‬

خوف‭ ‬ورعب‭ ‬وفزع‭ ‬وهلع،‭ ‬يعيش‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬يوميا،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الرعب‭ ‬رفاهية‭ ‬وترفيهاً،‭ ‬الأفلام‭ ‬والمسلسلات‭ ‬والألعاب‭ ‬البرمجية‭ ‬للأطفال‭ ‬والكبار،‭ ‬حتى‭ ‬الألعاب‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الترفيهية‭ ‬أصبح‭ ‬المخيف‭ ‬منها‭ ‬يحظى‭ ‬بالإقبال‭ ‬وكثرة‭ ‬المستخدمين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭.‬

 

التحدي‭ ‬والاستجابة‭ ‬

قاتل‭ ‬اللهُ‭ ‬الجوعَ‭ ‬فإنه‭ ‬يزري‭ ‬بالإنسان‭ ‬ذلة‭ ‬وهواناً‭. ‬وقد‭ ‬كنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬الجوع،‭ ‬لدرجة‭ ‬ألا‭ ‬يصل‭ ‬بنا‭ ‬الخيال‭ ‬إلى‭ ‬رسم‭ ‬صورته‭ ‬الحقيقية‭ ‬فنكشف‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬المخيف،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ضاق‭ ‬العالم‭ ‬وصغر،‭ ‬وصارت‭ ‬المسافات‭ ‬أقصر،‭ ‬وبثت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬صوراً‭ ‬وأفلاماً‭ ‬حية،‭ ‬تبيّن‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬حاصرها‭ ‬الجوع‭ ‬فمات‭ ‬أطفالها‭ ‬ووهنت‭ ‬أجساد‭ ‬نسائها‭ ‬ورجالها‭. ‬

لا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬تاريخ‭ ‬المجاعات‭ ‬عبر‭ ‬الزمان‭ ‬تاريخ‭ ‬حزين،‭ ‬يسطر‭ ‬قصصاً‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يصدقها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عاصرها،‭ ‬أو‭ ‬عاش‭ ‬قريبا‭ ‬منها‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬الإنسان‭ ‬عندما‭ ‬يجوع‭  ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يأكل‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسدّ‭ ‬به‭ ‬رمق‭ ‬جوعه،‭ ‬تتوقف‭ ‬عنده‭ ‬كل‭ ‬الحواس،‭ ‬فتراه‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الطعام،‭ ‬وترى‭ ‬النفس‭ ‬تخرّ‭ ‬من‭ ‬آمالها‭ ‬إلى‭ ‬مطالبها‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬حاجتها‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أدنى،‭ ‬فماذا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أدنى؟‭ ‬هنالك،‭ ‬تغيب‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الألم،‭ ‬فتفقد‭ ‬رغبتها‭ ‬ومتعتها‭ ‬ولذتها،‭ ‬فتزوغ‭ ‬لسد‭ ‬رمقها‭ ‬بالخسيس‭ ‬وبالحقير‭. ‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬العذاب،‭ ‬تصديقا‭ ‬بما‭ ‬ذكره‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الكريم‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬جهنم‭ ‬بأنّ‭ ‬طعامهم‭ ‬الزقوم‭ ‬وشرابهم‭ ‬الغسلين،‭ ‬فمن‭ ‬يعش‭ ‬في‭ ‬مجاعة‭ ‬فكأنه‭ ‬قد‭ ‬خَبِرَ‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬عذاب‭ ‬جهنم‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬استيعاب‭ ‬صوت‭ ‬العذاب‭ ‬وصورته،‭ ‬فإنّ‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬المجاعة‭ ‬أو‭ ‬يشاهدها‭ ‬عين‭ ‬اليقين‭ ‬ليس‭ ‬كالسامع‭ ‬عنها‭ ‬خبرا‭. ‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬الطبيب‭ ‬الإنسان‭ ‬د‭. ‬عبدالرحمن‭ ‬السميط،‭ ‬الذي‭ ‬أفنى‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬والجهل‭. ‬ومن‭ ‬حديث‭ ‬لي‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الأردنية‭ ‬عَمّان،‭ ‬أيقنت‭ ‬أن‭ ‬المشاهد‭ ‬للجوع‭ ‬غير‭ ‬سامعه،‭ ‬وعندما‭ ‬روى‭ ‬بعض‭ ‬مشاهداته‭ ‬بدقة‭ ‬وتفصيل،‭ ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬الإحساس‭ ‬بالجوع‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬وإذلال‭ ‬وكمد‭. ‬

نال‭ ‬السميط‭ ‬التكريم‭ ‬والتقدير‭ ‬على‭ ‬مساهماته‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬والمرض،‭ ‬وحاز‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الجوائز،‭ ‬كانت‭ ‬أهمها‭ ‬جائزة‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬لخدمة‭ ‬الإسلام،‭ ‬التي‭ ‬تبرع‭ ‬بمبالغ‭ ‬مكافأتها‭ ‬إلى‭ ‬الفقراء‭ ‬والمحتاجين‭ ‬من‭ ‬الجياع‭ ‬والمنكوبين،‭ ‬فعاش‭ ‬ذكره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجمعيات‭ ‬والمراكز‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬وأسسها‭ ‬لأغراض‭ ‬الإغاثة،‭ ‬وأهمها‭ ‬اجمعية‭ ‬العون‭ ‬المباشرب،‭ ‬التي‭ ‬استمدت‭ ‬اسمها‭ ‬من‭ ‬نشاطها،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬كالجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬الأخرى،‭ ‬الأهلية‭ ‬أو‭ ‬الحكومية‭ ‬أو‭ ‬العالمية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬نشاطها‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬توصيل‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬المَصدر‭ ‬إلى‭ ‬المحتاجين‭ ‬مباشرة،‭ ‬وكان‭ - ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬يقوم‭ ‬بنفسه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭. ‬

وبعد‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬15‭ ‬أغسطس‭ ‬2013م،‭ ‬كرمه‭ ‬قائد‭ ‬الإنسانية‭ ‬سمو‭ ‬أمير‭ ‬دولة‭ ‬الكويت‭ ‬الشيخ‭ ‬صباح‭ ‬الأحمد‭ ‬الجابر‭ ‬الصباح،‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه،‭ ‬بتسمية‭ ‬إحدى‭ ‬الجوائز‭ ‬الكبرى‭ ‬لمؤسسة‭ ‬الكويت‭ ‬للتقدم‭ ‬العلمي‭ ‬باسم‭ ‬اجائزة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬السميط‭ ‬للتنمية‭ ‬الإفريقيةب‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الصحة‭ ‬والأمن‭ ‬الغذائي‭ ‬والتعليم‭ >‬