نجيب محفوظ وعلاقة الرواية العربية بالسينما المصرية

نجيب محفوظ وعلاقة الرواية العربية بالسينما المصرية

ارتبط الأدب بتطور السينما، وعندما لم تستطع السينما الصامتة أن تستمر، وتم اختراع الصوت، كان أول شيء حدث هو تقديم الأعمال الأدبية إلى السينما، خاصة الأعمال المسرحية حيث الحوار هو الذي كان سائدا، وعندما ملّ الجمهور سماع الحوار بشكل أقرب للثرثرة، لجأوا للأعمال الأدبية القصصية، وقام بعض الأدباء الكبار في أمريكا بكتابة السِينَارِيُوهات لهذه الأعمال، وعن طريق هذه الأعمال استطاعوا أن يثروا الفن السينمائي ويرتفعوا بقيمته، وفي الوقت نفسه، ساهمت السينما في نشر هذه الأعمال بين جمهورها، خاصة الذين لا يقرأون.

 

عندما تشبعت السينما بالأعمال الأدبية وظهرت الموجة الجديدة في فرنسا، نادى البعض بألا تعتمد السينما على الأدب، وأن يكون للسينما كتابها، وبالفعل استطاع فنانو السينما أن يقدموا أعمالا كتبت خصوصا للسينما، حتى إن جوائز الأُوسْكـَار تمنح أولا لأحسن سِينَارِيُو كُتبَ خصوصا للسينما، وجائزة أخرى لأحسن سيناريو مأخوذ عن نص أدبي. السينما طريق لكي تتحول الرواية من بضعة آلاف من القراء كمتلقين، إلى ملايين المشاهدين الذين يتلقون رسالتها عبر السينما.

الرواية والسينما
ارتبطت بداية السينما العربية بحركة التحرير العربي وقيادة الثورة ضد الاحتلال، ومن هنا كانت السينما تتبنى طرح القضايا الكبرى وتدافع عنها، مثل الحرية والعدل الاجتماعي. ولما كان الأدب الروائي معنيا بالقضايا القومية التي تبحث عن الهوية، اتجهت السينما للاستفادة من الروايات التي تطرح هذه القضايا، وتحويلها إلى أفلام سينمائية حققت رواجا كبيرا بين رواد السينما. ثم وسعت دائرة القراءة، وذلك بإعادة طباعة هذه الروايات طبعات عدة، وبهذا كسبت السينما والرواية مكاسب مشتركة ونجاحات متعددة. لقد تبادل الفنان، السينما والرواية، التأثير والتأثر، ومنحت الرواية السينما قدرا عظيما من الهيبة والجدية والاحترام، وجمعت لجمهورها العام والخاص من النخبة المتعلمة، أما السينما فقد دفعت الروائيين إلى الآفاق الجديدة الاجتماعية والسياسية وإلى الإبداع في قضايا الوطن والتحرر والتقدم، ومنحت السينما فن الرواية مددا هائلا من الحيوية في السرد والحوار والوصف، ورفعت الحرج عن تناول قضايا يتحرج المجتمع من مناقشها، في مقدمتها قضية المرأة وقضايا الاعتقال والسجن...إلخ.
لا شك في أن اختراع السينما وظهورها قاما أساسا على الفن الروائي، بحيث يمكن القول إن السينما هي الصورة المرئية البصرية المتحركة للرواية المكتوبة أو المقروءة، وقد خدمت السينما الفنَّ الروائي بأكثر مما خدمته الصحافة. إن إسهام فن السينما ومثله التلفزيون عظيم في تقديم الحدث الروائي بشخصياته وأحداثه، ورؤية الكاتب القصصي وفكره، سواء أكان منفردا بالكتابة أم شاركه المُعدّ أو السينَارِيسْتْ. فالملاحظ أنه بظهور الفيلم يبدأ إقبال القراء على قراءة الرواية، لكن هناك مسافة بين العمل الأدبي والعمل السينمائي. هكذا صارت رؤية الروائيين بين أيدي الملايين عن طريق السينما، بينما كانت تلك الرؤية بعيدة المنال بالنسبة لمن لا يستطيع قراءة الرواية، ومن ناحية ثانية زادت شهرة مؤلفي الرواية كثيراً.
إن السينما في حاجة إلى الأدب مرات عدة، تحتاج إليه لكي تتصور ليس بوصفها مجازاً بصرياً عميقاً، وعلامات متماسكة، ولغة مرئية مشهودة، وتحتاج إليه ثانياً لأن النصوص الأدبية تقدم للسينما موضوعات جمالية جديدة، وإلهامات خيالية مهمة، لا تكتفي بما يتخيله المنتجون من مغازلة شباك التذاكر، ولا تولي ظهرها للمشاهد والقارئ، وهي تحتاج إليه ثالثا لأن النص السينمائي الذي يسمى باسم السيناريو هو في حد ذاته نص أدبي. وفي مقابل احتياج السينما للأدب، فإن الأدب يحتاج إلى السينما مرات عدة أيضاً، لأن تقديم عمل أدبي سينمائياً يلفت نظر القراء إليه، ويساعد على زيادة توزيعه وقراءته، ويحتاج إلى السينما لأن شباك التذاكر للسينما له دلالته على المزاج الجماهيري العام الذي يتجاوب معه العمل الأدبي، ويحتاج إليها أخيراً لأن الجيل الجديد من الأدباء يرون في السينما مصدراً ثقافياً أساسياً للأديب لا يقل أهمية عن أدب أمريكا اللاتينية، والروايات السحرية الحديثة، وكثيرا ما يكون الفيلم السينمائي عند الكاتب الشاب مصدراً ثقافياً أهم من كتابات أجيال الروّاد في عالم الأدب، وبالوصل بين حاجة السينما إلى الأدب وحاجة الأدب إلى السينما، تكتشف أنهما فنّان متجاوبان متواصلان إلى حد بعيد. إن تحويل رواية إلى فيلم سينمائي هي عملية شاقة جدا لاختلاف أسلوب كل فن. والرواية عند تقديمها سينمائيا تضطر كاتب السيناريو للتالي:
الاختزال:  لأن الرواية غير ملتزمة بزمن عرض، عكس الفيلم الذي يلتزم بمدة عرض.
الإضافة: وذلك لاحتياج الفيلم إلى الاحتفاظ بالشكل المترابط، لأنه نتيجة عملية الاختزال قد يفكك العمل كله.
 إعادة البناء: وهي نتيجة للعمليتين السابقتين، وقد يحدث فيها تغيير شكل البناء الدرامي، ربما يبتعد بالشكل الدرامي عن النص الأصلي. 

تاريخ السينما المصرية مع الرواية العربية
السينما المصرية حقيقة فنية في تاريخ الفن العالمي الحديث. وفي ظروف نشوء السينما المصرية وتطورها، نشأت الرواية العربية، وارتبط الفنان منذ بواكير القرن العشرين إلى اليوم ارتباطاً حميماً جداً بروايات أعلام الرواية. فالرواية العربية أسهمت بشكل مؤثر في تشييد التجربة السينمائية لدى الفنانين العرب، لكنها كانت أكثر قوة وشمولية بالنسبة للفيلم العربي في مصر. وشهدت السينما المصرية عمليات تمصير كبيرة لروايات عالمية، ثم دخلت السينما المصرية بشكل واسع إلى الرواية المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. يصعب على عشاق السينما المصرية ومؤرخيها تخيل تاريخها مستقلا عن أعمال أدبية في مرحلة اعتبرها كثيرون العصر الذهبي للشاشة الفضية في مصر، كانت مصدر إلهام للمخرجين في أفلام تعد الآن من الكلاسيكيات. ففي استفتاء حول أفضل 100 فيلم مصري بمناسبة مئوية السينما عام 1996، جاء 12 عملا من بين أول 20 فيلما في القائمة من مصادر أدبية وهي «الأرض»، «الحرام»، و«شباب امرأة»، «بداية ونهاية»، «البوسطجي»، «رد قلبي»، و«دعاء الكروان»، «اللص والكلاب»، و«أم العروسة»، «القاهرة 30»، «شيء من الخوف»، و«الطوق والأسورة». ومن مؤلفي هذه الروايات التي تحولت إلى السينما: طه حسين، ويحيى حقي، وعبدالرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، ونجيب محفوظ. لكننا في هذا المقال سوف نتوقف خصوصاً عند تناول أعمال الأخير في السينما.

نجيب محفوظ (1911-2006) والسينما المصرية
إن حصاد نجيب محفوظ في تراث السينما المصرية لا يدانيه حصاد كاتب روائي آخر. ويعتبر محفوظ أكثر روائي قدمت السينما أعماله، حيث قدمت السينما المصرية 27 فيلماً عن 19رواية له. وقد كانت السينما تقدم روايات محفوظ،  بشكل يناسب الحالة السائدة في المجتمع. وكان محفوظ أقرب الأدباء المصريين إلى السينما، حتى إن الناقد اللبناني إبراهيم العريس أطلق عليه «أديب السينمائيين وسينمائي الأدباء». ويذكر لنجيب محفوظ أنه أول روائي مصري تخرج روايته إلى السينما العالمية، فقد قدمت السينما المكسيكية فيلمين عن روايتيه «زقاق المدق»، و«بداية ونهاية».
ربطت نجيب محفوظ والسينما المصرية علاقة خاصة، لأنه كتب سيناريوهات لعدد من أبرز الأفلام التي تم إنتاجها خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، إضافة إلى أعمال مأخوذة عن رواياته الأدبية. بدأ محفوظ العمل في المجال السينمائي مع نهاية المرحلة التاريخية في أدبه، حيث التقى بالمخرج صلاح أبوسيف الذي لقب بـ«مخرج الواقعية» على غرار نجيب محفوظ في الأدب، وعرض عليه أن يكتب للسينما. أول تجربة له في الكتابة السينمائية كانت فيلم «مغامرات عنتر وعبلة» عام 1945، وتوالت أعماله بعد ذلك، فقد كتب سيناريوهات لستة وعشرين فيلما من عيون السينما المصرية في تلك الفترة، سواء بمفرده أو بمشاركة بعض المخرجين. وفي عام 1960، التفتت السينما إلى أعماله الروائية وتم تحويلها لأفلام. وكانت البداية مع فيلم «بداية ونهاية»، إخراج صلاح أبوسيف، الذي يناقش قضية الطبقات الاجتماعية في مصر. ويمكن تقسيم علاقة نجيب محفوظ بالسينما إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى هي مرحلة سيناريوهات للآخرين، امتدت 15 سنة بداية من فيلم «مغامرات عنتر وعبلة» إلى فيلم «جميلة الجزائرية» (1959). ومن أفلام تلك المرحلة: «لك يوم يا ظالم» و«ريا وسكينة»، و«الوحش»، و«شباب امرأة»، و«الفتوة بين السماء والأرض»، و«جعلوني مجرماً».
أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة الرواية، وفيها استفادت السينما من أعماله الروائية. كانت بدايتها مع «بداية ونهاية» (1960)، وصولا إلى «السكرية» (1973). من أفلام هذه المرحلة: «اللص والكلاب»، و«خان الخليلي»، و«ميرامار»، و«الحب تحت المطر»، و«الكرنك». والملاحظ أن نجيب محفوظ لم يكتب سيناريوهات للأفلام المقتبسة من رواياته.
المرحلة الثالثة كانت مزيجاً من المرحلتين الأولى والثانية، بدايتها مع قصة قصيرة بعنوان «صورة» إلى فيلم «الجحيم» عام 1978. تنوعت ما بين كتابته للسينما وتوظيف رواياته لذلك أو قصصه القصيرة، مثل: «أميرة حبي أنا»، و«التوت والنبوت»، و«الحرافيش»، و«أهل القمة» وغيرها.
أما المرحلة الرابعة فاعتمدت على قصص محفوظ القصيرة، وكانت البداية مع فيلم «الشريدة» عام 1980، وصولا إلى «أصدقاء الشيطان» عام 1988، وهناك بعض الأفلام بعد حصوله على جائزة نوبل، ولكنها قليلة.
ومع تحويل روايات نجيب محفوظ للسينما طفت مشكلة فنية جديدة، هي مدى نجاح السينما في الاحتفاظ بالرواية ومضمونها. وقد رأى كثيرون من نقاد الأدب والسينما أن السينما جارت على أعمال نجيب محفوظ، وبالذات ما أخرجه حسن الإمام وحسام الدين مصطفى. ونال حسن الإمام القسط الأكبر من النقد حين صور «الثلاثية» على سبيل المثال، أو حسام الدين مصطفى حين صور «الطريق»، و«الشحاذ» وغيرها. ولم ينج من النقد غير صلاح أبوسيف المخرج الواقعي الذي عرف نجيب محفوظ مبكراً.
السؤالان المهمان عن علاقة نجيب محفوظ بالسينما:  أيهما استفاد من الآخر: نجيب محفوظ أم السينما؟  وهل للسينما دور في وصول نجيب محفوظ لجائزة نوبل؟
إن السينما ساهمت من خلال هذه الأفلام في شهرة نجيب محفوظ المحلية، بمعنى أن كثيراً من المصريين لم يقرأوا رواياته، إنما تعرفوا عليه من مشاهدة أفلامه السينمائية، فللسينما مساحة عريضة من الجمهور قلما يتوافر لنص أدبي. وهذا ما يؤكده نجيب محفوظ نفسه: «كنت دائماً أنظر للسينما باعتبارها وسيلة فعالة في الوصول إلى قطاعات من الجماهير لم أكن سأصل إليها بالأدب». استفاد نجيب محفوظ من السينما ووفرت له إيجابيات عدة مكّنته من التفرغ للإبداع الأدبي. استفاد محفوظ من السينما لأنها صنعت له شعبية كبيرة لدرجة أنها ساهمت في اهتمام القراء باقتناء كتبه. ولكن بداية توظيف روايات محفوظ سينمائيا جاءت بعد ظهور «الثلاثية» وأثرها في الوطن العربي، إضافة إلى «أولاد حارتنا»، وما أثارته من ضجة كبيرة. ويرى بعض النقاد أن السينما هي التي استفادت من تقديم أعمال مميزة تناقش قضايا اجتماعية وسياسية مرتبطة بواقع الحياة في مصر والوطن العربي، بدل اعتمادها السابق على الروايات والقصص الغربية، وذلك بتعريبها أو اعتماد نسخ كـَرْبُونيّة عن الأفلام الغربية. السينما حتما كان لها دور في شعبية محفوظ، لكن ذلك على مستوى فئات لا تهتم بالروايات والمطالعة. أما على مستوى المثقفين والنقاد والدارسين، فحتما الفضل الأول والأخير يعود لرواياته. 
السؤال الآخر: هل ساعدت السينما نجيب محفوظ بشكل من الأشكال في الوصول إلى نوبل؟ السينما العربية عموما والمصرية خصوصا في ذلك الوقت وحتى في الوقت الراهن لا تمتلك ذلك المستوى الذي يخرجها عن الفضاء المحلي إلا نادرا، فالأعمال السينمائية بقيت محلية. وأسباب ذلك متعددة، أبرزها فقر الإنتاج مقارنة بمستوى السينما العالمية، لذلك سينما محفوظ لم تتمكن ولا بفيلم واحد من مجموع الأفلام التي أنتجت عن أعماله الروائية أن تسافر نحو العالم، وتلفت الأنظار إليه كأديب، وبالتالي فالشهرة ساعدته محلياً ووسعت أفق تأثيره كأديب في مصر والوطن العربي. 

رواية «زقاق المدق»
«زقاق المدق» رواية من الأعمال الأولى لنجيب محفوظ، وقد حملت في طياتها أبعاد فكر وقدرات الكاتب الفنية بعد ثلاثيته المشهورة. وإذا كانت الحارة هي المكان المفضل عند محفوظ، فزقاق المدق حارة لها خصوصيتها الجغرافية والسكانية. فالرواية تدور أحداثها في زقاق شبه محاصر في فترة الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على المصريين. زقاق المدق هو أحد الأزقة المتفرعة من منطقة الحسين في حي الأزهر بالقاهرة، وتتميز هذه المنطقة بأنها جزء من القاهرة الفاطمية. صدرت الرواية بعد نهاية الحرب بعامين (عام1947م)، والاحتلال الإنجليزي مازال جاثما فوق صدر الجميع في مصر. «زقاق المدق» عمل إبداعي شديد المحلية والواقعية لحياة شريحة كبيرة من جمهور القاهرة، والعمل بصفة عامة تحفة أدبية رائعة رغم مرارة أحداثها ذات المصداقية العالية، وتأثرها الواضح بالواقعية في أجناسها الأدبية. وقد تركز اهتمام الكاتب على رصد أثر الحرب في نفوس الناس والتغير الذي يطرأ على سلوكهم، نتيجة ما تجلبه الحرب من مصاعب ومؤثرات مستجدة. فتبدو في الرواية آثار الحرب أكثر وضوحاً وتأثيراً، ربما لأنها تعالج فترة زمنية متأخرة عن الفترة التي تناولتها رواية «خان الخليلي» لمحفوظ. إن كل شيء في الرواية مرتبط بالمكان، فلا تظهر الشخصيات إلا من خلال الزقاق. يصور نجيب محفوظ في الرواية الواقع المصري من خلال «حميدة» الفتاة الفقيرة التي تعيش في زقاق المدق. إن الصراع في الرواية يستمد جذوته من العلاقات داخل هذا الزقاق وصلة أفراده بالخارج. والبطل الحقيقي في الرواية هو الزقاق نفسه، وباقي الشخصيات في الرواية لا تقوم إلا بدور الأبعاد المجسمة للتكوين الاجتماعي والنفسي للزقاق. وقد رأى الناقد المصري رجاء النقاش في «حميدة» رمزاً لمصر كلها التي حينما خضعت لمدنية الاستعمار حكمت بهلاكها.

أحداث الرواية 
تدور جميع  أحداث الرواية في بيتين من بيوت زقاق المدق. البيت الأول يمتلكه السيد رضوان الحسيني. يعيش المعلم كرشة في الطابق الثالث من هذا البيت، ويمتلك كرشة القهوة المشهورة في زقاق المدق. للمعلم كرشة ابن وحيد يدعى حسين كرشة. أما في الطابق الأرضي فيسكن عم كامل بائع البسبوسة، وعباس الحلو صاحب صالون الحلاقة. البيت الثاني تملكه الست سنية العفيفي، وهي امرأة في الخمسين، قد عاودها الحنين إلى الزواج بدافع أم حميدة التي تسكن في الشقة الوسطى مع ابنتها حميدة. يسكن الدكتور بوشى في الطابق الأرضي من بيت الست سنية. 
حميدة هي بطلة الرواية، وهي فتاة في العشرين من عمرها. كانت مغرورة متكبرة وترى أن جميع رجال الزقاق لا يستحقون ذلك الحسن الذي تملكه. وغرورها هذا جعل عباس الحلو يحبها من أعماق قلبه. تقدم عباس الحلو لخطبة حميدة لكنها في البداية رفضته بحجة أنها لن تتزوج أحدا في هذا الزقاق. ولكن عباس حقق لها أمنيتها بأنه سيذهب إلى التل الكبير للعمل مع الإنجليز المحتلين، ويزيد أجره كما أخبره حسين كرشة الذي يعمل عند الإنجليز. وبالفعل وافقت حميدة على الارتباط بعباس، ولكن قلبها لم يحن إليه أبدا، حتى وافقت حميدة على الزواج بالسيد سليم علوان بعدما سافر عباس الحلو إلى التل الكبير. إن حميدة تمنت رجلا يكفل لها حياة رغدة، وهذا ما وجدته عند فرج إبراهيم الذي أوهمها بالحب والزواج. فصدقته حميدة واعتبرته حبيباً جاء من السماء. كل ما اكتشفته حميدة بعد ذلك أنه لم يردها إلا لكي تبيع جسدها للإنجليز ليقبض هو الثمن. عاد عباس الحلو من التل الكبير حاملا أحلامه معه، أن يصبح زوجا للمرأة التي أحبها. ولكن قصة هروب حميدة مع رجل غريب حطمت أحلامه. ولم يعرف عنها أحد في زقاق المدق شيئاً. ذهب عباس وصديقه حسين كرشة يفتشان عن حميدة. فعلم عباس أن حميدة تعيش مع فرج إبراهيم في إحدى الحانات الليلية. جاء عباس إلى الحانة لينتقم من فرج إبراهيم الذي غرر بها، لكن عباس عندما شاهدها في أحضان الجنود الإنجليز السكارى، نسي فرج إبراهيم وصب حقده عليها، فقذفها بزجاجة فارغة. فهجم عليه الجنود الإنجليز وقتلوه. كذلك قادت حميدة معها عباس الحلو إلى الموت. 

«زقاق المدق» في السينما المصرية
لقد حولت هذه الرواية إلى فيلم «زقاق المدق» في مصر عام 1963. كانت الرواية هي ثالث أعمال نجيب محفوظ التي تتحول إلى السينما بعد «بداية ونهاية» عام 1960، و«اللص والكلاب» عام 1962. والفيلم «زقاق المدق» أخرجه حسن الإمام (1919-1988)، بسيناريو وحوار للكاتب المسرحي الكبير سعد الدين وهبة. وكان علي حسن مديرا لتصويره ومصمما لإضاءته، ورشيدة عبدالسلام مبدعة لمونتاجه، والموسيقار وعليّ إسماعيل واضعا لموسيقاه التصويرية، وحلمي عزب مصمما لديكوراته... وكلها أسماء كبيرة في مجال صناعة السينما. أما الفنانون فقد جاءت الممثلة المصرية الكبيرة شادية في مقدمتهم في دور «حميدة»، ويوسف شعبان في دور «فرج إبراهيم»، وصلاح قابيل في دور «عباس الحلو»، وحسن يوسف في دور «حسين كرشة». كان حسن الإمام مخرجا يعشق الأحداث المتشابكة، والصراعات الإنسانية في القلب البشري. كان يملك جرأة غير عادية جعلته يتجه إلى نجيب محفوظ ويقع اختياره على قصتين ربما كانتا من أجود وأهم ما كتبه محفوظ، وهما «الثلاثية»، و«زقاق المدق». وقد دار حول المخرج حسن الإمام كثير من الجدل عن هذه الأفلام.
في فيلم «زقاق المدق»، لجأ حسن الإمام إلى اختيار شخصية واحدة من مجموعة الشخصيات المتضاربة الأهواء والسلوك التي جمعها نجيب محفوظ كلها في زقاق واحد مثل عباس الحلو، وفرج إبراهيم وغيرهما. اختار حسن الإمام شخصية واحدة واعتمدها أساسا بطلة لفيلمه، وجعل مسار حياتها الشائكة المحور الذي تدور عليه الأحداث، بينما كان هدف نجيب محفوظ أن يرسم صورة لزقاق شعبي تجمعت فيه أكثر من شخصية متناقضة يشكل مجموعها بـَانُورَامَا اجتماعية وسياسية وعاطفية ونفسية لقاهرة الأربعينيات أثناء الحرب العالمية الثانية. ظهرت الشخصيات التي قدمها المخرج في الفيلم على المكان الذي كان محور اهتمام صاحب الرواية نجيب محفوظ. فقد ركز المخرج على قصة «حميدة» وصراع «عباس الحلو» للفوز بها زوجة له، كما تجاهل المخرج تحليل شخصيات الفيلم الأخرى إلا فيما ندر في لقطات شابتها السطحية وضحالة التناول وأداء كوميدي ضعيف. وقد غلب على فيلم حسن الإمام أيضا الطابع التجاري الذي يميز غالبية أفلامه، والتركيز على مغريات الجذب الجماهيري، والابتعاد عن فكر الرواية وقيمتها الإنسانية.  
ومع كل ذلك يبقى فيلم «زقاق المدق» من الأفلام الجديرة بالمشاهدة لما يحتويه من فكر وإنسانية ونقد اجتماعي وأسلوب مميز لمخرجه. إن التصدي للعملين السينمائيين اللذين أخرجهما حسن الإمام سلاح ذو حدين، لأنه من جهة سيرفع من قيمة العمل السينمائي مهما كانت طبيعته، نظرا لخطورة وخصوبة المادة الدرامية المنتقاة، التي حازت إعجاب جماهير كثيرة قبل أن تجد طريقها للشاشة، ولأنه من جهة أخرى سيضطر كل من رأى الفيلم أن يقارنه بالنص الأدبي المأخوذ عنه، وهي مقارنة قطعا ستكون لمصلحة الأصل وتراجع الفيلم السينمائي. أما نجيب محفوظ، فكان ينظر إلى كل الأفلام السينمائية التي بنيت على رواياته على أنها أعمال فنية مستقلة، وربما ترك للمخرجين حرية الرؤية وطريقة التناول، إيمانا منه بأن الفيلم فيلم والرواية رواية، ولكل منهما مقوماته وقواعده ولغته وأدوات تنفيذه. وقد قال محفوظ عن هذه القضية: «نحن أمام حوار بين محترفين، أنا لا أنتظر من السينمائي أن ينقل رواياتي كما هي على الشاشة، فالسينما وسيلة فنية لها خصوصيتها، لها لغتها، لها وسائلها، لها أسلوبها السردي، ولها مساحتها الزمنية، كل هذه أمور يجب أن يراعيها السينمائي، إنه مؤلف جديد لوسيلة فنية مرئية،  لذلك قد يحذف أو يضيف أو يغير تسلسل الأحداث، وقد يجد من الضروري أن يعطي بعض الشخصيات ملامح شكلية أو سلوكية لم تكن واضحة أو موضحة في النص الأدبي الأصلي».

«زقاق المدق» في السينما المكسيكية
تمت إعادة إنتاج «زقاق المدق» سينمائيا بعد ثلاثين سنة، ولكن هذه المرة ليس للسينما العربية، إنما للسينما المكسيكية، حيث قام المخرج المكسيكي خورخي فونس Jorge Fons بإخراجه عام 1995 باللغة الإسبانية تحت عنوان  El callejón de los milagros  (زقاق المعجزات)، وفق سيناريو كتبه فيسيتي لينيرو  Vicente Leñero عن رواية «زقاق المدق» التي ترجمتها للإسبانية هيلينا فالينتي بعد أن حولها إلى البيئة المكسيكية، وتحولت شخصية «حميدة» إلى «ألما» Alma، وقامت بأداء دورها الممثلة المكسيكية سلمى حايك Salma Hayek ذات الأصل اللبناني. وتم عرض الفيلم في أكثر من 40 مهرجانا سينمائيا دوليا ومحليا محققا سبقا متميزا في تاريخ السينما المكسيكية، وحائزا 49 جائزة خلال عامي 1994 و1995.
إن الفيلم المكسيكي «زقاق المعجزات» يقدم الأحداث عن طريق ثلاث وجهات نظر، وذلك على العكس من رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ. في فيلم «زقاق المعجزات»، قدم مخرجه المكسيكي حكاية في أربعة أجزاء تدور وسط العاصمة مكسيكو سيتي، يعكس خلالها الواقع المكسيكي المعاصر والصراعات داخله. الأولى حكاية رب أسرة يدعى «دون روتيليو» Rutilio  Don صاحب حانة، يدافع بقوة عن علاقته الشاذة مع أحد الرجال، ما يدفع ابنه للهجرة إلى أمريكا. والحكاية الثانية حول «ألما» الفتاة المراهقة الفقيرة التي تعيش صراعا بين طموحها المادي وفضولها الجنسي، وقد أظهرت سلمى حايك التي لعبت دور «ألما» الأعماق النفسية للشخصية بحركات إيحائية بعيدا عن المبالغة وشكلية الغواية. أما الحكاية الثالثة فتدور حول العجوز «سوسانتا» Susanita  صاحبة البيت التي تتعرض لاستغلال أحد الشباب للحصول على المال. أما الجزء الرابع والمعنون باسم «العودة» المتمثلة في عودة المهاجرين، فيقدم حال الزقاق بعد عامين من حدوث الحكايات الثلاث المتزامنة الفعل، ويغلق الحكايات الثلاث التي بدأت وتطورت دون نهاية في الفصول الثلاثة الأولى، وبشكل خاص حكاية «أبل» Abel و«ألما». وفي الأجزاء الأربعة قدم مخرجه تحليلا على المستويين: الثقافي والاجتماعي لـــقَاع المجتمع المكسيكي خلال عقد السبعينيات والتحولات التي طرأت عليه نتيجة ما أصابه من انحراف أخلاقي وجهل ثقافي وفقر اجتماعي. يختلف الفيلم المكسيكي بسبب اختلاف السياق الاجتماعي والفكري الذي تدور داخله وقائع «زقاق المدق» بعد مكسكته سينمائياً. يرى بعض النقاد أن السينما المكسيكية التي قدمت فيلمين عن روايتين لنجيب محفوظ، كانت أكثر صدقا وقربا إلى أدب محفوظ من السينما المصرية. وقال الناقد المصري كمال رمزي: «إن الفيلم المكسيكي «زقاق المعجزات» أقرب لعالم نجيب محفوظ ورواياته من الفيلم المصري... وسلمى حايك تعبّر عن بَطلة الرواية «حميدة» على نحو أعمق وأصدق من تجسيد شادية لها... سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة بتكوينها الداخلي».

الخاتمة
إن الكلاسيكيات السينمائية منذ عرفت الصور المتحركة في مصر والعالم مأخوذة غالبا من الروائع الأدبية. لقد تبادل الفنان، السينما والرواية، التأثير والتأثر، ومنحت الرواية السينما قدرا عظيما من الهيبة والجدية، وجمعت لجمهورها العام والخاص من النخبة المتعلمة، أما السينما فقد دفعت الروائيين إلى الآفاق الجديدة وإلى الإبداع في قضايا الوطن والتحرر والتقدم. وهكذا صارت رؤية الروائيين بين أيدي الملايين عن طريق السينما، بينما كانت تلك الرؤية بعيدة المنال بالنسبة لمن لا يستطيع قراءة الرواية. وفي مصر لم يكن الأمر مختلفاً، ارتبطت بداية السينما المصرية بحركة التحرير وقيادة الثورة ضد الاحتلال، ولما كان الأدب الروائي معنيّا بالقضايا القومية التي تبحث عن الهوية، اتجهت السينما للاستفادة من الروايات التي تطرح هذه القضايا، مثل: روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، ويوسف إدريس، ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، ولطيفة الزيات، وعبدالرحمن الشرقاوي، ونجيب الكيلاني، ومصطفى محمود، وفتحي غانم، وصلاح حافظ، وصالح مرسي، ومجيد طوبيا، ويوسف القعيد، وعلاء الأسواني. وفي ظروف نشوء السينما المصرية وتطورها نشأت الرواية العربية أيضا، وارتبط الفنان منذ بواكير القرن العشرين إلى اليوم ارتباطا حميماً جداً بروايات عربية مشهورة. كسبت السينما المصرية والرواية العربية مكاسب مشتركة ونجاحات متعددة عبر الأفلام المأخوذة عن الروايات في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
والسينما لم تتعامل على مدى تاريخها الطويل بودّ وترحاب مع أحد الأدباء، كما تعاملت مع أدب نجيب محفوظ الذي كتب سيناريوهات لـ26 فيلما, ويرى البعض أن نجيب محفوظ استفاد من السينما في نشر أعماله، في حين يرى آخرون أن السينما هي التي استفادت منه في تقديم أعمال شديدة التميز. و«زقاق المدق» رائعة من روائع نجيب محفوظ ترصد الواقع المصري خلال الحرب العالمية الثانية. ظهر الفيلم العربي المصري «زقاق المدق» مقتبسا من هذه الرواية في عام 1963 من إخراج حسن الإمام. ثم ظهر في فيلم مكسيكي, نقلا عن هذه الرواية في اللغة الإسبانية باسم «زقاق المعجزات» من إخراج خورخي فونس. ويرى بعض النقاد أن السينما المكسيكية كانت أكثر صدقا وقربا إلى رواية نجيب محفوظ من السينما المصرية. 
وستظل السينما مدينة لنجيب محفوظ ولفن الرواية بالكثير رغم أنها بسطت الروايات بين أيدي الشعب. ما من فيلم مصري جيد وممتع يتضمن فكرة وفلسفة إلا وكان ابناً شرعياً لرواية عربية كتبها أديب أو مفكر مصري. في الستينيات والسبعينيات، زاد الإنتاج السينمائي للأفلام المأخوذة عن  روايات محفوظ أو غيره على مائة، ولكن منذ الثمانينيات وحتى الآن لم يصل عدد الأفلام المأخوذة عن روايات إلى عشرين فيلما. وشيئا فشيئا تباعدت السينما عن الرواية ولا أحد حتى الآن يريد أن يفهم أن أحد أهم أسباب تدهور السينما هو الابتعاد عن الروايات الأدبية. ولا شك في أن الرواية أضافت إلى السينما إيجابيات كثيرة، أهمّها رقي لغة الحوار وتطرقها إلى موضوعات مختلفة بعدما كانت مقتصرة على الاستعراض والميلودراما المسرحية ■