قاسم حداد وديوانه الاستثنائي «طرفة بن الوردة»

قاسم حداد وديوانه الاستثنائي «طرفة بن الوردة»

هو ذروة الشعر في مملكة البحرين، يتسنّمها عن أصالة واقتدار، ونحتٍ دائمٍ في الضوء... الشاعر الكبير قاسم حداد.
وعلى مدار رحلة شعرية، طويلة وصعبة، كانت قامته الشعرية الباذخة، تسمو وتتصاعد، ناشرة ظلها على مساحات واسعة من الفضاء الشعري العربي المعاصر، وهو يسعى - بدأب وجهد خارق - إلى تحقيق نموذج فذ، متفرد، للرصانة والتجريب والمغايرة والاكتمال. 

هذا الديوان الجديد، السِّفْر الشعري الوثائقي الرؤيويّ، يجيء في ختام إصدارات شعرية بدأ أولها «البشارة» عام 1970، ثم أتى بعده: خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، الدم الثاني، قلب الحب، القيامة، شظايا، انتماءات، الجواشن (نص مشترك)، يمشي مخفورًا بالوعول، عزلة الملكات، نقد الأمل، أخبار مجنون ليلى (بالاشتراك)، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، علاج المسافة، له حصة في الولع، المستحيل الأزرق (بالاشتراك)، ورشة الأمل (سيرة شخصية لمدينة المحرق)، أيقظتني الساحرة، ما أجملك أيها الذئب، لست ضيفًا على أحد، فتنة السؤال، دع الملاك، الأزرق المستحيل ويليه أخبار مجنون ليلى، ومختارات بعنوان «إيقاظ الفراشة التي هناك»، وشذرات بعنوان «الغزالة يوم الأحد».
ولا أدري لماذا أسقط الشاعر ديوانه «النهروان» من سجل أعماله الشعرية.
السِّفْرُ الجديد، يضم شعر قاسم حداد وهو يستدعي طرفة بن العبد... السيرة والشعر والمأساة، والواقع الذي ارتقى إلى أسطورة، والمتعيّن الذي أصبح رمزًا، والتقييم الذي يراه قاسم لشعراء العصر الجاهلي، وإحياءه لمملكة البحرين... «المكان والتاريخ والإبداع والدور والقسمات».
أرجو أن أنقل إليكم بعض العطر وهو ينقل من كتاب السيرة: حتى إذا سألته: وما البحرين؟ قال: «إذا كنت تقصد البحرين عندنا، فهي التي إن بدأت في رأس عمان، فلن تنتهي عند نهر البصرة، وإنّ كلّ ما بينهما فضاء مزيج من الوقت والمكان، سوف يشمل أقاليم ساحل البحر وداخل الجبل، ويطول هجر والأحساء جميعها. غير أن هذا كله لم يكن ليعني شيئًا عندما نهمّ نزوحًا عن مكان، أو نسعى رحيلاً إلى مكان، فالبحرين - عندنا - هي الآفاق التي تستعصي على التخوم، وتفوق الوصف. فإذا انتهى بنا الزمان إلى هذا اليوم وسمعنا أن قومًا في جزيرة صغيرة إلى هذا الحدّ، قد طفقوا يزعمون نسبة شاعر إلى بلد محدود، من أجل اختزال حقبة شاسعة من التاريخ في فرسخ من الجغرافيا، ويقيمون السرادقات والمهرجانات بوصفه شاعرهم فحسب، لعمري إنني لن أصادف خبرًا أكذب من هذا. فكيف تسنّى لهم حبس حلم شاسع مشحون بالروح والتجربة في وهم ضئيل الدلالة، بائس المعرفة، شاحب المعنى؟
فإذا سألوك عن البحرين، فقل لهم، إذا هم رأوا ذلك المكان رحبًا شاسعًا مفتوحًا متصلاً متواصلاً بالشكل الذي رأيناه، فسوف يصحّ لهم الظن بأن بلادًا تتجاوز البحرين لتصير بحارًا كثيرة، فيها من الشعر ما يكفيها، وتزداد بحرًا كلما استيقظ في زرقتها شاعر جديد. وإذا كنت تعني أرضًا مجزأة ممزقة أمضيت عمري القصير أرفوها بالشعر شلْوًا شلوا، وأخيط فتوقًا سحيقة فيها، أُنشدُ في جبال عُمان فيسمعني أهل البصرة. إن كنت تعني أقاليم مقسّمة سهرتُ أزكّيها بكلماتي، وأمشي في عطر لياليها بالنخل والورد واللؤلؤ. إن كنت تعني حدود الأفق ذاك، فذلك بيتي».
قاسم حداد الشاعر الراوي والرائي، والحكّاء المترع حتى الثمالة، لا يكتفي بوضع سيرة للشاعر الذي تماهى معه، طرفة بن العبد، الذي أصبح في كتابه «طرفة بن الوردة» والوردة أمه، بل هو يضع سيرة لمملكة البحرين، حتى تمتزج السيرتان، الأسطورتان، وهما تمنحان سحرهما وغرابتهما لإبداع قاسم حداد... مُصوِّر اللوحتين، وناسج البردتين ومبدع الآيتين. 
يقول قاسم حداد تحت عنوان زهرة العنفوان في لوحته الشعرية البديعة عن طرفة: رُوي أن طرفة كان جريئًا على كبار قومه الذين يهادنون ملوك الحيرة ويسكتون عن ظلمهم وعسفهم، بل ويخضعون لدورات الجباية والعشور المهينة، التي يستخلصها جباة البلاط غصبًا يصل حدّ النهب. وقد تمكن طرفة من التوغل في نفوس شباب أهل مملكة البحرين، وحاز حبهم. وهم تولعوا بطريقته في القول والحياة. يتداولون أشعاره ويعيدون إنشادها. صاروا يقبلون على السهر في لياليه، ويسعون لحضور مجالسه، والتشبه بتحرره، معجبين بجرأة خياله وطرافة أفكاره. 
وهذا أمر استثار زعماء القبائل ورأوا فيه خطرًا يتهدد سلطتهم، وهم يرقبون تململ فتيانهم وتزايد تذمرهم، وتفشى ذلك في الأحياء والعشائر، مما يشي بتزايد نزعة الخروج على سلطة القبيلة وأعرافها. وجدوا في هجاء طرفة للملك ورهطه تطاولاً، من شأنه أن يعرّضهم لانتقادات البلاط واقتصاصه منهم، فاشتغلوا على شبكة المكائد التي تسعى لمنع طرفة عن بيت قومه بتشويه صورته، وتمكين سلطة الملك منه بإنفاذ الانتقام فيه».
إذن، فلنعبر الآن هذه السطور المنتزعة من السيرتين الأسطوريتين لمملكة البحرين وطرفة، وهما من صنع قاسم حداد، إلى شعر قاسم وهو ينثال ويتدفق على لسان طرفة، سحرًا رائقًا يتحقق فيه التماهي والتجسيم والتجسيد والتناغم بين الاثنين، تحت عنوان «يقظة المعنى»:
أيقظ حصانك واستعن بالنايِ
رحلتك انتهت
فابدأ بكأسك ريثما يرويك غيم غامض
أيقظ حصانك،
نخبك التالي رؤىً وشقائق النعمان
تسع ممالكٍ،
ومدائن تسعى برُمتها لصلْبكَ
قبل صوت الطيرِ
أيقظ سرْجكَ الملكيَّ
هذا الغيم بحر من مجاز المكر
في باب الغموض
أيقظ حصانك وانْهر المعنى
قصيدتك الطويلةُ أقصرُ الخطواتِ
نحو الموتِ، لا تغفل
لديهم ما يشفُّ عن القرائنِ
وامتحانك في كتاب الطيشِ
يكفي لاستثارتهم.
طريقك تنتهي
فلتبتكر سفرًا،
لتستثني الممالك حيث يحتربون
فلتوقظ حصانك، ولتدع للنايِ
أجنحةَ الغناءِ
غموضَ موسيقاكَ،
إيقاع التهجد واحتمال الفقدِ
دع للناي أن يرقى بأحلام البراقِ
ودع لهم... يتوهمون الصَّلْبَ والفتوى
لتصعدَ في قصيدتك الأخيرة بارئًا
أيقظ حصانكَ
واستعنْ بالناي
وفي انعطاف لافت إلى محبوبته وملهمته «خولة»، يقول طرفة على لسان قاسم حداد تحت عنوان «تاج مضاع»: 
الليلة انتصفت
ونصف زجاج أشعاري يلاعب خولة
كي تكفّ عن الذرائع
وهي تمحو كاسرات الضوء
في ريف القصائد
نصْفُ أشعاري يؤانسها
ونصف في مديح الوشم يغزل شعرها
لتهبّ عاصفة، وخولة في هيامي
كتبتُ أشعاري لها
منذ الظهيرة في نشيد ضارع
حتى انتصاف الليل
وهي تخالني شبحاً
فتقرؤني وتمحو كاسرات الماءِ
بحر طائرٌ في لوعة الشطآنِ
يسمع صوتها
 ويغُضُّ طرْفاً عن ضياعي تائها
تاجٌ مُضاع في هياج الموجِ
بحرٌ مستحيل سوف يسمعها
وينساني
و«خوْلة» في خيامي

وتحت عنوان «على وطنٍ يخشى الفتى»، يقول قاسم حداد على لسان طرفة؛ في لغة شعرية شديدة النقاء والشفافية، لا يعوقها حشو زائد أو فضول:
هذي بلاد لا أُميّزها
دخان أم يدٌ مغلولة،
أم فكرةٌ تهوى؟
بلادٌ،
كانت الصحراء تمضي 
فاستحالت حاضرًا، 
مستقبلاً
من أين لي. ماذا أُسمّي خيمةً في الرملِ
لا ماءٌ ولا فَجرٌ
ولا يصغي إليك الغيم حين تقولُ
نمضي للأفول
فكيف لي،
كنا على وشك الحديقة، مثل حلم عابرِ
فاستيقظ الكابوسُ
واختلط اليتامى بالثكالى
دارت الفتوى
وحلّ النعش في عرشٍ
لا بلادُ لا أُميّزها
حياةٌ أم تموتُ
هي انتحارٌ صارمٌ
يا ليت لي - هل كنتُ مقتولاً ومتُّ
أم كنتُ في سفرٍ وعُدتُ -
لم يعدْ لي، 
هذه الصحراء تفقدني
وكلُّ تراثي المنهوب يمحوني،
وصوتي وحده في هذه الأرجاء يسمعني!
***
فإذا انتقلنا إلى كتاب «السيرة» التي أبدعها قاسم حداد وهو يُنشئها عل عينيه، مترعة بإيحاءاته ووخزاته، في إعادة إنتاج لما تضمنته أوراق التراث، ليصبح الـمُنتج جديدًا وفريدًا ودالّاً، وجدناه يقول تحت عنوان «مهندس الدسائس»:
ثمة رواية تقول إن قبيلة «بكر» اجتمعت على أن تطلب من طرفة أن يكون رسولها إلى بلاط «الحيرة» يسعى لدى «عمرو بن هند» الملك، بالدفع إلى استرضائه، للنظر بعين العدل إلى حال حيِّهم، زاعمين لطرفة أن ذلك من صُلب مهمات الشاعر في قبيلته. وليس من اللائق أن يتخلّف عن ذلك، وعليه أن يرافق «المتلمس» الذي ظل يقصد بلاط الحيرة منفردًا. غير أن طرفة استنكر طلب بني بكر واستراب في مقاصدهم. وهم الذين صنعوا به ما صنعوا. فلما أبلغ أمَّه بما يريده القوم، صرخت برأس محسورة: «يا ويلهم ويا ويلك معهم. إنهم يبعثون بك إلى مكيدة دبروها مع الملك، فخذ حذرك من الجميع».
قيل: فلم يذهب طرفة إلى الحيرة إلا لاهيًا في حاناتها، أو ساعيًا لتعلم الكتابة. وقيل: إنه لم يزر بلاط الملك. فقد أدرك أن بني بكر لم تكن لتريد إنصافًا من عمرو بن هند، وهي من بين أكثر القبائل صلة بالملك. ولديها من الامتيازات ما جعلها شريكًا كاملاً مع ملوك الحيرة، في اللطائم التي تجوب جزيرة العرب والشام بالتجارة، الذين كانوا يحكمون الحيرة ويملكون في آن. ولأن طرفة لم يقصد بلاط الحيرة، اعتبره عمرو بن هند شاعرًا متكبرًا ينزع إلى تمرد يصل حدَّ الاستهتار. وهذا سلوك لم يعهده ملوك «الحيرة» ولا يقبلونه ولا يصبرون عليه. فما كان من الملك إلا أن حرّض بني بكر على شاعرهم، وزيّن لهم المزيد من الامتيازات والعطايا عندما يستكملون تلفيق ما يؤدي إلى النيْل من الشاعر، بما يشي بأن طلب بني بكر من طرفة الذهاب إلى بلاط الحيرة لم يكن سوى مشاركة واضحة في مؤامرة القصر لإخضاع الشاعر».
وتحت عنوان : «هل متّ حقًّا»، يقول قاسم حداد على لسان طرفة: 
 هل متُّ حقاً
هل حياة المرء أقصرُ من قصيدته
وهل عبثٌ ولادة شاعرٍ
كحياة عصفور يرى في الكأس بحراً
غير مأمونٍ
وهل غيري يموتون ارتجالا مثلما يبدو؟
إذا قالوا: «تعشْ عمرًا»
فأين العمر؟
وفي مقطوعات شديدة التركيز والتكثيف، شبيهة بالعناقيد التي أتخمت ولم تعتصر بعد، تدور من حول الوشم: وشم وردة (أم الشاعر) ووشم خولة (الحبيبة والرفيقة) ووشم طرفة (هو نفسه)، يقول بهذا الترتيب: 
أيتها الكيمياء التي ابتكرت
إثمدا من ذهب
ما الذي جُنَّ بي كي أرى جنة في اللهب؟
يبدأ الخلقُ بي
بدأت خولةٌ
وشْمُها يكشفُ المُحتجَب
شجرٌ ناعسُ
غصنُ ريحانةٍ
خضرةٌ، شهوةٌ
يقظة الكيمياء الجريئةُ،
في مستحيل العجب
جولةٌ حرةُ وتغرّر بالمشتهى
بالعناصر في حُلمها المرتقب!
***
إبرٌ ناعمة
إبرٌ نائمة
إبرٌ حالمة
تقرأ في الجرح ما يستعيدُ الحروف الصغيرةَ
في الكتب الغائمة
هكذا تبدأ الذكريات
كأن الحياة طريقٌ إلى القتلِ
أول أحلامه خاتمة
إبرٌ سوف تغزل أخبارنا
بالحميم من الدمِ
بالسرِّ في العيْنِ
بالمنتهى وهو يبدأُ،
بالمستثار من الخضرة العارمة
***
كلامٌ يؤلف ألوانهُ
بالخفيّ من الموت
من فكرةٍ
من بلادٍ تُقايضُ أحلامنا بدمٍ ناعمٍ
من دخان القناديل،
من نَيْلج، من ظلام
كلُّ هذا الكلام
بكاء النساء الوحيدات في الليلِ
يغزلن أخبارَنا
يكتبن أسماءنا
ويتركن في البيت آثارنا الباقية
أيهذا الكلام الذي قَبْلنَا
كيف ألفتْنا
في العِصيِّ من الموتِ
في فكرة نائية
يورد قاسم حداد في سِفْره البديع عن طرفة بن الوردة بعض شهادات لبعض من كتبوا عنه في القديم، تبدأ بشهادة لابن سلام في كتابه «طبقات فحول الشعراء»: «أشعرُ الناس بعد امرئ القيس. معظم شعره ضاع حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره إلا بقدر عشر قصائد. مع أنه كان من أقدم الفحول، وقد حُمل عليه كثير من الشعر».
ويقول ابن قتيبة: «أجودهم طويلة، وكان في حسب من قومه، جريئًا على هجائم وهجاء غيرهم. وكان أحدث الشعراء سِنّاً وأقلهم عمرًا».
ويقول في موضع آخر من كتابه «الشعر والشعراء»: «أضربُهم مثلاً طرفة».
ويقول عنه طه حسين: «شخصيته قوية ومذهبه في الحياة واضح جليّ، مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيءٍ بعد الموت، ولا يطمع من الحياة إلا في ما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار. على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء الناس.
شخصية بارزة لا يستطيع من يملحها أن يزعم أنها مُتكلفة أو منتحلة مستعارة. وهذه الشخصية ظاهرة البداوة بيّنة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصدٍ واعتدال». 
ويقول المفضل الضبي في كتابه «المفضليات»: «كان شاعرًا جريئًا على الشعر». 
ويقول المعري عنه في «رسالة الغفران»: «يا ابن أخي، يا طرفة، خفّف الله عنك».
ونختتم بكلمات محمود درويش في كتاب «الجدارية»: 
أيها الموت
انتظرني
ريثما أنهي قراءة
طرفة بن العبد
قاسم حداد ذروة شاعرية البحرين، يفسح لنا من خلال صفحات هذا الكتاب النادر المثال، مساحة للتعرف على وجوهه المختلفة... «الشاعر والراوي والمؤرخ والناقد والمحقق»، وهي وجوه لم تكتمل، ولم تكشف عن حقيقتها الكلية إلا في هذا «السِّفر» الذي أنجزه في منحة تفرغ أدبي، من قبل الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي، للإقامة الأدبية طوال عام 2008 في برلين. فهل يقارن شعراؤنا المتفرغون - على مدار السنوات المتعاقبة - بين ما أنجزوه إبّان تفرغهم، وما أنجزه قاسم حداد؟
لا أظنهم قادرين .