مجتزأ من أساطير الرومان «الإينيادة»... وتاريـخ بنـاء رومـا

مجتزأ من أساطير الرومان «الإينيادة»...  وتاريـخ بنـاء رومـا

«الإينيادة» (Aeneid) ملحمة التاريخ الروماني، قصيدة شعرية طويلة ألَّفها الشاعر الأديب بوبليوس فريجليوس ماريوس، الشهير باسم فرجيل (70-19 ق.م)، وكان ذلك بطلب من مؤسس الإمبراطورية الرومانية أكتافيانوس أغسطس (ت. 14م). عكف فرجيل في السنوات العشر الأخيرة من عمره على تأليف هذه الملحمة، ومات قبل أن ينهيها. وعلى الرغم من أنه أوصى بحرقها لعدم رضائه عنها، فإنّ أغسطس أمر بنسخها، فنشرت غير كاملة، وشاءت الأقدار أن تصبح «الإينيادة» أعظم ملحمة عند الرومان.

وصارت ملحمة الرومان القومية التي تعرض أمجاد البطولات في تاريخ روما منذ نشأتها إلى العهد الجديد، عهد أغسطس، الذي يُبشّر بالأمل والسلام والرخاء. ولعل المتتبع لبدايات الأدب الروماني يلمس ذلك التأثر الكبير بالأدب اليوناني، ويلاحظ أنّ «الإينيادة» عبارة عن صوغ نص جديد يتماهى مع «الإلياذة» و«الأوديسة» لهوميروس. لم يعتبر فرجيل اقتباساته من قصائد السابقين، سواء في التعبيرات اللغوية أو التشبيهات الشعرية، انتحالاً أو سرقة أدبية بقدر ما اعتبرها تحية لهم وإحياء لذكراهم. تتحدث «الإينيادة» عن قصة إينياس (Aeneis)، أحد أبطال طروادة، الذي أعانته الآلهة على النجاة والابتعاد عن الحرب والوصول إلى مدينة لاورنتوم، وهي مدينة من نسج خيال المؤلف. هنالك أسس مدينة لافينيوم، على بعد عشرين ميلاً من جنوب روما، وفيها بنى معبداً للإلهة «فينوس». لم يكن للرومان منظومة عبادية للآلهة، فكل ما لديهم عبارة عن استعارات من آلهة اليونان، وكانت على النحو المبين في الجدول:
وقد تغيرت اختصاصات كثير من الآلهة اليونانية عند ممارسة الرومان عبادتهم، الأمر الذي حدا بالرومان لبناء معابد خاصة لتلك الآلهة، يحجون إليها بغرض استجابة تلك الآلهة لمطالب عبادها. وربما أصبحت بعض أنصاف الآلهة عند اليونانيين، من أمثال هيراكليس وباكخوس وإيروس آلهة حقيقية كاملة عند الرومان.
حكاية روما
تتابع الأحداث في «الإينيادة»، شروحات كثيرة وأماكن وأسماء، عجز عن التحقق من أكثرها الأولون والآخرون، لتقف أخيرا عند الملك العادل نوميتور Numitor، ولم تكن له إلا ابنة واحدة، وأخ طمع في الملك فانقلب على أخيه وقتله، وسجن ابنته ريا سيلفيا Rea Silvia لتعيش كاهنة عذراء في معبد «الربة» فستا. وعلى الرغم من كل القيود، حملت ريا سيلفيا وولدت توأما، وأشيع بين الناس أن حملها كان من الإله مارس، وقد أعفاها ذلك من العقاب وزادها شرفاً. وعندما سمع عمها بالخبر، ألقى بها في غياهب السجن، ووضع الطفلين في طوف وألقى بهما في نهر التيبر. كان نهر التيبر وقت فيضانه، فحملت أمواجه الطوف إلى مستقره عند شجرة تين عظيمة عند أسفل وادي تل البلاتين. كان الطفلان يجهشان بالبكاء، وحدةً وجوعاً، فسمعت صياحهما ذئبة، فأتت نحوهما وتولت إرضاعهما من أطبائها. إنهما روميلوس Romulus وريموس Remus، اللذان شاء الإله مارس أن يعتني بهما حتى يبلغا أشدهما، وكان ذلك من خلال عثور راعي أغنام يدعى فاوستولوس عليهما، فحملهما إلى بيته وعهد بتربيتهما إلى زوجته أكا لارنتيا. وعندما شبّ الأخوان روميلوس وريموس، بانت عليهما صفات النبل والشجاعة والقيادة، فذاع صيتهما، والتف حولهما شباب المنطقة. وشاءت الأقدار أن يُتهم فاوستولوس بسرقة بعض الأغنام، فهب ربيباه لنجدته، فلما وصلا إلى المدينة عرفا بقصتهما، ووضع أمهما ريا سيلفيا في السجن، فحرراها وقتلا عم أمهما المغتصب للملك. قرر الشابان بناء مدينة على نهر التيبر، عند شجرة التين العظيمة، حيث ألقى الموج بهما هناك. وما إن بنيت المدينة حتى طلب الناس تعيين ملك لها. وهذا الأمر لا يتعدى روميلوس وريموس، فأمرت أمهما الكاهنة أن يعتلي كل واحد منهما تلّاً، فاختار روميلوس تل البلاتين، بينما اعتلى ريموس تل الأفنتين. كانت «العرافة»، أو الرجم بالغيب، من الأمور الشائعة في مجتمعات ذاك الزمان، حيث كان الإيمان بتوجيهات الآلهة يأتي بهذا الأسلوب. كانت إشارات «الطَيَرة» كلها في صف روميلوس، فاعتبر الظافر وأُعلن ملكاً على المدينة الجديدة «روما»، حيث توسعت المدينة، إلى أن وصلت إلى أعالي تل البلاتين، وأحيطت بسور حماها دهراً من الأعداء. هذه هي حكاية روما، التي لايزال شعارها «الذئبة التي ترضع التوأم من أطبائها» محفوراً كجداريات ونقوش مبعثرة على جدران المعابد والنقود. تلك روما، أسطورة بناء مدينة، ألحقت بـ «الإينيادة» وهي كسائر الأساطير، تتغير وتتطور وتُزاد ويُضاف عليها وتُحوَّر، وربما تغيب عنها الحقيقة وتزوّر، ولا يبقى منها إلا نسيج قصصي غلب فيه الخيالُ أصل الحقيقة .