العلم بين الفلسفة والدين

العلم بين الفلسفة والدين

  ما من مرة – على وجه التقريب- درّس لنا المفكر الراحل د. زكي نجيب محمود، مقرر المنطق في آداب القاهرة، أواسط الخمسينيات من القرن الماضي إلا وجرى بيننا وبينه نقاش حاد، كنت أحسده خلاله على رباطة جأشه وهدوئه، حيث كان بعض الزملاء يهاجمونه بشدة، هجوماً ينبئ برائحة التكفير.

   لقد كانت قضية الرجل الأساسية هي أن العبارة التي يقبلها داخل العلم هي فقط تلك التي تمكنني من أن أرجع إلى الواقع المشهود لأختبر مدى صدقها أو كذبها، بالتجربة والمعاينة والملاحظة، ومن هنا فقد اعتبر كل حديث عن الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)أدخل في باب الخرافة، منه في باب العلم، حتى إنه ألّف كتاباً يحمل هذا العنوان «خرافة الميتافيزيقا»، عدّله بعد ذلك إلى «موقف من الميتافيزيقا»، وكان من الطبيعي أن تنصرف أذهاننا على الفور إلى الكلام الديني، ونوجه إليه التساؤل: هل يعني هذا أن الكلام الديني غير مقبول علمياً، حيث لا نستطيع أن نختبر صدقه أو كذبه عن طريق التجربة الحسية؟
   كان رده المتكرر أن الفلسفة، حتى تكون مقبولة، لابد أن تكون فلسفة علمية، وبالتالي تقتصر على تحليل كلام العلماء تحليلاً لغوياً منطقياً، أما الدين، فشأنه شأن الحديث في الفن – مثلاً- فإذا قال أحد إنه يرى أن الموسيقى الكلاسيكية أرقى موسيقى، وقال آخر، بل الموسيقى الشرقية، فلا ترجيح بين هذا وذاك، لأن المعيار يكمن داخل الذات، بينما لو قال واحد إن هذا الكم من العنب- مثلاً- يساوي ثلاثة كيلوجرامات، وقال آخر بل ثلاثة كيلوجرامات ونصف الكيلو جرام، فإن الفيصل بينهما هو الاحتكام إلى الميزان، باعتبار أنه بعيد عن الذات، وهو الذي يحسم أيهما صادق، وأيهما كاذب.
    ولما كانت الفلسفة الحقيقية في رأي مفكرنا هي الفلسفة العلمية، فقد شجب من يخلطون بين الدين والفلسفة، وهو ما دفعه إلى أن يصف في جريدة «الأهرام» في 24/8/1982، ما أدى إليه هذا من اضطراب في المفاهيم والخلط بين المعاني المتباينة، حتى صارت حياتنا الثقافية أشبه بـ«البحر اللجي المائج بالمعاني المضطربة التي يحياها الناس في شبه غيبوبة عقلية»، مضيفا: «فإذا كنت قد رأيت، حتى بين صفوة المثقفين، من يحسب الدين فلسفة، ويحسب الفلسفة ديناً، لما أخذني العجب، لأنني أعلم أن حياتنا الراهنة المليئة بأزماتها، قد أرغمتنا على أن نتعجل أمورنا، ولا بأس في أن نفهم المعاني مغلوطة ومخلوطة ببعضها».
    ثم يمضي بعد أن يوضح موقفه في رسم الحدود بين المفاهيم والمعاني: «فقل بالله كيف يمكن بعد هذا أن يخلط الخالطون بين قول قيل في عالم الفلسفة، وقول قيل في عالم الدين؟ ماذا كنت أصنع تحديداً وتوضيحاً لأمنع حدوث هذا الخلط الذهني الذي علق في أذهان من أخذوا على أنفسهم عهداً أن يعيشوا في الغموض الفكري شهيقاً وزفيرا؟».
   واستلت الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) سلاحها الفكري لتدخل معركة حوارية في القضية، من خلال مقال نشرته في «الأهرام» في 15/6/1983، حيث رأت، في حدود علمها، أن ليس فينا من يخلط بين الفلسفة والدين، فيحسب الفلسفة ديناً والدين فلسفة، مؤكدة أن الناس قديماً وحديثاً لا يخلطون بين الفلاسفة والفقهاء والأصوليين وعلماء القرآن والحديث والقراء، وبعض الجامعات الإسلامية في المشرق، كانت تحظر – وقت كتابة المقال- على طلابها الدرس الفلسفي، وكليات الآداب في جامعاتنا الحديثة، لا تخلط أقسام الفلسفة بأقسام التفسير والحديث وتاريخ الإسلام.
    وبالنسبة لمعيار «العلمية» الذي استند إليه الدكتور زكي، مما رأى معه أنه لا ينطبق على الدين، فقد رأت الدكتورة عائشة أن في هذا خلطاً بين الدين والتدين.
   فلفظ «العلوم» الذي يستند إليه الدكتور زكي ربما يكون غامض الدلالة، فإذا أريد به العلوم التي تدرس في الكليات والمعاهد العلمية، فالفلسفة أيضاً لا تكون علمية، وإن أريد به «العلوم» بالمفهوم العام الشامل لكل العلوم الإنسانية النظرية والعقلية والتجريبية، فإن الدين بعلومه وعلمائه، يدخل فيها مثلما تدخل علوم القانون واللغة والتاريخ والفلسفة، ولولا هذا الغموض لما التبس على القراء الدين، وله علومه وعلماؤه، بالتدين الذي يجمع المتدينين كافة... العلماء والجهلاء، المثقفين، والعوام، المتمدينين والبدو.
   ثم تنقل الدكتورة عائشة قول الدكتور زكي: «قارن بين متكلم يقرر في جملة واحدة يقولها، أنه يحب ليلى، وبين مفكر يتناول حالة هذا الحب لتعقبها إلى نشأتها كيف تكون، تجد أن الفرق بين الرجلين هو كالفرق بين عابد مؤمن يحيا حياته الدينية، وفيلسوف يتأمل مقومات تلك الحياة ليخرج مضامينها المضمرة، فإذا وجدت الآن أن الفرق بات واضحاً بين ما ينخرط فيه المتدين من أسلوب للعيش وطرائق للعبادة وغير ذلك، وبين رجل يتناول هذه الظاهرة الدينية كلها بالنظر الناقد الذي يبين مكنوناتها من مبادئ وأهداف، فقل لي ناشدتك الله كيف يمكن لصاحب فكر فلسفي إذا ما استعرض أقوالاً لفلاسفة بالتحليل ليكشف فيها عن جوانب الصواب وجوانب الخطأ من وجهة نظره... كيف يمكن لرجل كان هذا عمله، يتعرض لما يتهم وجهة نظره بأنها منافية للدين ويصف هذا بالخلط الفكري الذي رزئنا به في حياتنا الفكرية، حتى أصبحنا وكأننا في تلك الحياة نخوض في عماء فوقه سحاب أدكن، ويكتنفه ضباب قاتم؟!».   
   ولا ترى مفكرتنا (بنت الشاطئ) هذا العجب الذي رآه الدكتور زكي، فأصحاب الفكر الفلسفي يتكلمون عن الظاهرة الدينية من وجهة نظرهم، فهل من حرج على أصحاب العلم بالدين أن يذكروا أنها منافية للدين، مثلما يكشف الدكتور عن جوانب الصواب والخطأ في أقوال الفلاسفة؟
    ولا تخاف الدكتورة عائشة على العامة من الجهل بأن للدين علومه وعلماءه، فالأميون الذين سلمت فطرتهم لا يجهلون أن فقهاء الدين وشيوخ الإسلام، (أهل الفتوى)، يعلمون من أحكام الشريعة ما لا يعلمه المتدينون كافة من القدر المعروف من دينهم بالضرورة، كقواعد الإسلام، والحلال البيّن والحرام البيّن، كما يعلمون أن معلمي اللغة العربية ليسوا بالضرورة أدباء وروائيين وشعراء، وأن فقهاء القانون المدني والجنائي، قضاة ومحققين ومحامين ومشرعين وخبراء، لهم من الدراية بالقانون ما لا يعلمه الكافة في القدر المعروف عن جرائم الرشوة والسرقة والتزوير. 
 
  فيمَ الخوف إذن؟
   هنا تفاجئنا الدكتورة برأيها بأن الخوف على طلاب الزاد الفكري والثقافي مما يلقيه وينشره كتَّاب كبار من الجامعيين، يتحدثون عن العلوم، ولا يكون الدين منها، ويتحدثون عن مناهج البحث العلمي مؤكدين استحالة تطبيقها على الدين، وإنما تقتصر على سلوك التدين وطرائق العبادة، ولن يحتاج القارئ إلى ذكاء عالٍ لكي يعرف أن في مقدمة المقصودين هنا هو الدكتور زكي، حيث كان هو الوحيد الذي تم الاستشهاد بمقال له في هذا الشأن.
    وهنا تفيض علينا الدكتورة عائشة بفيض جيد لتوضيح امتلاء الساحة بعلوم كثيرة هي علوم الدين، لها مناهج البحث فيها، وبعض هذه العلوم يمكن أن تنضبط ببعض مناهج البحث العلمي السائدة في العلوم غير الدينية، مثل المنهج التاريخي الذي هو ضروري عند دراسة السيرة النبوية، مثلاً، وطبقات العلماء في المجالات المختلفة.
    ومن هنا أكدت الدكتورة أن علوم الإسلام تلتقي في أسس المنهج العام بأصوله ومبادئه الكلية المقررة في الكتاب والسنة، ثم تتشعب وتكثر آخذة بمناهجها الخاصة، لكل علم منها حدوده وضوابطه ومصطلحاته، وعلماؤه ومصادره.  
    وإذا نظرنا إلى مجموعة من علوم الإسلام تتصدر قائمة العلوم الدينية، نجد علوم القرآن تبلغ أكثر من خمسين علماً، منها علومه التاريخية؛ كالمكي والمدني، وأسباب النزول، وقواعد الترجيح بينها، وتدوين القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب آياته في السور وترتيب النزول، والجمع الأول للمصحف في صحفه المتفرقة في عهد أبي بكر، ثم في المصحف العثماني الإمام ورسمه، ومنها علوم لغته وبيانه.  
    ومن علوم القرآن أيضاً: علم الخط في رسم المصحف الإمام، والتوحيد، وعلم، القراءات، السبع والعشر والشاذة، والمحكم والمتشابه، والأحكام، والعام والخاص وإطلاق العام وإرادة الخاص والعكس، وناسخ الأحكام، وطبقات علماء القرآن وقرائه ومفسريه، وما لهم من مصنفات في علومه.
    وهناك كذلك علوم الحديث التي بلغت سبعين علماً، لا غنى لطالب العلم عن تحصيلها والاتصال بالقدر الضروري من مصادرها الأصول في مجال التخصص، لمعرفة الصحيح والحسن والضعيف، والمسند والمتصل، والمرفوع والموقوف، وعلم التاريخ، والرجال، وطبقات الحفاظ والمسندين، والرواة والنقاد النظار والمشتبه والمؤتلف والمختلف من الأسماء والألقاب والكنى والأنساب، والأفراد والمبهمات، والمصادر والأصول للصحاح والسنن والمسانيد والمستدرك والموضوعات وعلوم المصطلح!   
   وهكذا نلمس كم ونوع الغلو والتطرف من البعض عندما ينطلق في حكم كاسح باستبعاد الدين من الدائرة العلمية، فالعلم منهج قبل كل شيء، والذي يحدد نوع المنهج هو الموضوع المراد دراسته، المهم «الأدلة»، والدقة، والانضباط، والالتزام بقواعد المنطق والصدق، والتخفف بقدر الطاقة من شوائب الذاتية، والإعلاء بقدر الإمكان من قواعد ومتطلبات الموضوعية، وعدم التناقض، وإتاحة الفرصة للغير أن يتحققوا من توافر مثل هذه الشروط العلمية، التي ليس حتمًا أن تكون منها التجربة وتوافر المعامل أو المختبرات.  
  ومن الملاحظ أن هناك من تلاميذ الدكتور زكي نجيب محمود من أكدوا ألا استغناء عن فلسفة الدين، مثل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام (مدخل إلى الفلسفة، دار الثقافة، القاهرة، 1977، 122)، مؤكدًا أنها لا يمكن أن تزول في يوم من الأيام مهما تطور العلم وتقدم، ذلك لأن هناك مواقف في حياة الإنسان يمكن أن نسميها بالمواقف الحدية، وهي التي تعبر عن حدود لقدرة الإنسان، ويستطيع العلم تفسير مثل هذه المواقف، وذلك مثل عدم قدرة الإنسان على الإفلات من الموت! فإذا كان العلم يستطيع أن يعمل على إطالة حياة الإنسان، فهو لا يستطيع مطلقاً أن يجعله يهرب من الموت، وهذا الموقف يجعل الإنسان يتطلع إلى تفسير الموت، وما بعد الموت، وهي أمور ترتبط بفلسفة الدين. ومن هذه المواقف أيضاً عدم استطاعتنا الإفلات من الوقوع في الأخطاء الأخلاقية التي تسبب كثيراًَ من العذاب والمعاناة، فالفعل البشري يؤدي بسهولة جدَّا إلى نتائج عكس ما يستهدف العقل، أي عكس النوايا أو المقاصد.
   وسوف يظل الحوار متصلاً بين أنصار العلم والدين، ويبرز لنا ذلك الكتاب الذي ألفه برتراند رسل بعنوان «الدين والعلم»، الذي ترجمه إلى العربية رمسيس عوض، وظهر في فبراير 1997 في سلسلة كتاب الهلال عن «دار الهلال»، وغيره كثير من العسير حصره، وما من أحد يمكن أن يحسم القضية، حيث إن الإنسان نفسه ليس كتلة من الأجهزة والأعضاء المادية، فهو ينطوي على عالم آخر غير مادي، يشعر من خلاله بحاجته إلى الدين، مثلما هو دائماً وأبداً بحاجة إلى العلم...إنها الثنائية الحتمية في تكوين الإنسان، ولن يفيد هذا الحوار أن يسعى أنصار طرف إلى نفي الآخر، بل يثري ويكشف الجديد كلما استمر بعقلانية علمية، وبإيمان مستنير .