مذكرات مؤرخ فرنجي العلاقة بين الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان

مذكرات مؤرخ فرنجي العلاقة بين الخليفة الرشيد  والإمبراطور شارلمان

أربع قوى حَكمتْ عَالمَ البحر المتوسط في أواخر القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، وهي: الخلافة العباسية وعاصمتها بغداد، والإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، والمملكة الفرنجية وعاصمتها آخن (إكس لا شابيل)، والدولة الأموية الناشئة في الأندلس وعاصمتها قرطبة. 

كانت الخلافة العباسية أقوى هذه الدول الأربع، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فقد امتدت أملاكها آنذاك من إفريقية (تونس) غرباً إلى حدود الصين شرقا، وبالتالي فقد امتلكت ثروات زراعية وصناعية ضخمة، وأمسكت بالطرق التجارية التي ربطت الشرق بالغرب، وحَوَّلت البحر المتوسط إلى «بحيرة عربية» لاسيما بعد أن فتح الأغالبة صقلية عام 830م. أما من الناحية الثقافية، فقد ورث العباسيون مهد حضارات الشرق القديم وحضارات الشعوب التي فتحها العرب المسلمون، وكان هذا بدوره عاملاً مهماً في تطور الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت عصرها الذهبي أيام العباسيين، يضاف إلى ذلك أن الأماكن المقدسة للأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام, كانت في قلب بلدان الخلافة العباسية وفي ظل حمايتها. وبناء على هذه المميزات التي انفردت بها الدولة العباسية، فقد سعى الكثير من الحكام المعاصرين إلى كسب ودها وإقامة العلاقات الطيبة معها، وكان في مقدمتهم إمبراطور الغرب شارلمان.
إن مصادرنا عن العلاقة بين الخليفة الرشيد (786 – 809 م) والإمبراطور شارلمان (771 – 814م) هي المصادر الفرنجية وحدها، وأهمها كتاب «حياة شارلمان» للمؤرخ الفرنجي أينهارد (ت 840 م). أما المصادر العربية والبيزنطية، فهي لا تتحدث عن هذه العلاقة. ولكن إغفال بعض المصادر واقعة ما، لا يعني بالضرورة أن هذه الواقعة لم يكن لها وجود. والمنهج التاريخي يقول إنه لا يصح أن نرفض دليلاً إيجابياً معقولاً من أجل دليل سلبي. ولهذا فسكوت المصادر العربية ليس حجة كافية لنفي قيام العلاقة بين الخليفة والإمبراطور. وأينهارد هذا كان مستشاراً وصديقاً حميماً لشارلمان وأولاده من بعده، وعمل مدرساً في مدرسة القصر، ويُعَدُّ كتابُه هذا مصدراً أساسياً في تاريخ الفرنجة. وهو في حقيقته مذكرات تناول فيها حياة شارلمان، الخاصة منها والعامة. ورغم القيمة العلمية الكبيرة لهذا المصدر، فإن موضوعية مؤلفه لم تكن مطلقة، فقد بالغ أحياناً في مديح سيده، وتجاهل أحياناً أخرى الجرائم التي ارتكبها.

رواية أينهارد
يشتمل كتاب أينهارد على أهم النصوص التاريخية التي تناولت علاقة شارلمان مع الرشيد، وقد جاء فيه: «إن علاقة شارلمان مع الرشيد، الذي كان يحكم معظم بلاد الشرق، كانت علاقة ودية، فقد آثر هذا الخليفة مودة شارلمان على سائر ملوك الأرض وحكامها. وأقام هذه العلاقة على أساس من الاحترام والكرم. وعندما مَثُلَ السفراء، الذين بعث بهم شارلمان لزيارة ضريح السيد المسيح في القدس، بين يدي الرشيد (في بغداد)، ومعهم الهدايا، نقلوا إليه رغبات سيدهم شارلمان. غير أن الخليفة لم يمنح السفراء ما طلبوه فحسب، إنما منحهم أيضاً حق امتلاك الضريح المقدس. وعندما عاد هؤلاء السفراء الفرنجة إلى بلادهم بعث الرشيدُ معهم سفراء من طرفه يحملون معهم الهدايا النفيسة إلى شارلمان، إضافة إلى مواد وعطور ومنتجات فاخرة أخرى من بلاد الشرق. وقبل ذلك بسنوات عدة كان شارلمان قد طلب من الرشيد أن يبعث إليه بفيل، ولبى الخليفةُ طلبه وبعث إليه بالفيل الوحيد الذي كان في حوزته آنذاك».

مناقشة الرواية
يثير هذا النص جملة من القضايا، منها:
1 – إن المؤرخَ يُفخّمُ من مكانة سيده شارلمان عندما يقول «إن الخليفة آثر مودة شارلمان...»، في حين أن شارلمان هو الذي كان يبادر دائماً بالاتصال بالرشيد الذي ذاع صيته آنذاك في الشرق والغرب على السواء.
2 – اللافت أن المؤرخ لم يسمّ أحداً من السفراء الفرنجة، ولا تاريخ وصولهم إلى بغداد، لكن بعض المصادر الفرنجية الأخرى ذكرت أنهم كانوا شخصيتين فرنجيتين بالإضافة إلى مترجم يهودي اسمه إسحق، وأن وصولهم إلى بغداد كان حوالي سنة 802 م.
3 – إن أهم ما وَرَدَ في هذا النص هو ما ذهب إليه أينهارد من أن الخليفة منح شارلمان حق امتلاك ضريح السيد المسيح في القدس. وقد أثارت هذه القضية جدلاً حاداً بين الباحثين، فتساءل بعضهم: هل من المعقول أن ينقل الرشيد حقه في السيادة على أي موقع من الأماكن المقدسة في فلسطين أو غيرها إلى عاهل أجنبي؟
وتميل معظم الدراسات اليوم إلى نفي هذه الرواية للأسباب التالية:
أ – إن هذه الرواية لم تصل إلينا إلا من خلال ثلاثة مصادر فرنجية، في حين لم تذكرها المصادر الفرنجية الأخرى، فضلاً عن المصادر العربية والبيزنطية.
ب – إن مدينة القدس تحظى بمكانة كبيرة في قلوب العرب والمسلمين، فهي قبلة الإسلام الأولى، وإليها كان إسراء النبي  ومنها كان عروجه، وبالتالي فمن المستحيل أن يمنح الخليفة امتيازات مهمة فيها للإمبراطور.
ج – إن رواية أينهارد هذه لا تنسجم مع روح ذلك العصر، ولا تتفق مع ما عرف عن الرشيد من حرص على المصالح العليا للمسلمين، وعلى احترام مشاعرهم الدينية، وهو الخليفة الذي كان يصلي في اليوم مائة ركعة، والذي كان أول من حج ماشياً من الخلفاء، ولهذا فإن ما ذهبت إليه هذه الرواية هو مغالطة افتعلها المؤرخ على حساب الحقيقة التاريخية.
4 – يتضح من النص أن موقف الخليفة كان إيجابياً من مبادرة شارلمان، حيث بعث بوفد وهدايا من طرفه إلى الإمبراطور.
ورغم أن النص ذكر هذه الهدايا بعبارات عامة، لكن بعض المؤرخين الفرنجة قال إنها اشتملت أيضاً على: ساعة مائية عجيبة وشطرنج وإبريق من الذهب وبوق من العاج وسيف. 
5 – تشير رواية أينهارد إلى أن سفارة فرنجية كانت قد قدمت بغداد سابقاً، وأنها اصطحبت معها الفيل الذي طلبه شارلمان من الرشيد. والواقع أن وصول هذا الفيل إلى أوربا آنذاك كان حدثاً كبيراً، فقد كان أبيض اللون، وجُهز، بأمر من الخليفة، بأفخر جهاز. ومن المعروف أن الأوربيين لم يشاهدوا الفيل في بلادهم منذ أن هاجم القائد القرطاجي هانيبال إيطاليا في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. وقد ظل هذا الفيل أجمل ما يتصف به الجيش الإمبراطوري من أبهة وعظمة، وقد استخدمه شارلمان في حروبه ضد الدنماركيين. 
ولا يستبعد بعض الباحثين أن يكون الرشيد، الذي اشتهر بالنبل والكرم والحرص على حماية المسيحيين في بلاده، قد وَعَدَ شارلمان بحماية الحجاج والزوار والتجار الأوربيين داخل بلاده، وأن يكون قد وافق على أن يُرسل شارلمان التبرعات والصدقات إلى الكنائس والأديرة وغيرها من المؤسسات الدينية المسيحية في فلسطين وبقية بلدان الخلافة. والدليل على ذلك ما يذكره أينهارد نفسه في معرض حديثه عن «كرم شارلمان»، حيث يقول: «لم يقتصر كرمُ شارلمان على الفقراء من أبناء بلده ومملكته فحسب، إنما اعتاد أن يبعث بالأموال إلى ما وراء البحار، إلى سورية ومصر وإفريقية (تونس) وبيت المقدس والإسكندرية وقرطاجة، لمساعدة المسيحيين الذين سمع بسوء أحوالهم في تلك البلاد». ثم يضيف قائلاً: «إن السبب الذي جعل شارلمان يحرص على إقامة العلاقات الودية مع ملوك ما وراء البحار، هو أنه كان يرجو منهم حسن معاملة المسيحيين الذين يعيشون في ظل حكمهم».
 ويتبين من الرواية الأخيرة هذه أن البلاد والمدن، التي اعتاد شارلمان أن يبعث بالأموال إليها، تقع كلها داخل الدولة العباسية، كما تكشف صراحة أن من دوافع شارلمان لإقامة العلاقة الودية مع الرشيد هي أن يُحسن الخليفة معاملة المسيحيين الذين يعيشون في بلاده. ولكن ما ذكره المؤرخ في هذه الرواية عن سوء أحوال المسيحيين لا يتفق مع 
الواقع التاريخي، بل ربما كانت أحوالهم - آنذاك - أفضل من أحوال المسلمين، لاسيما أنهم كانوا لا يؤدون الخدمة العسكرية (مقابل دفع الجزية)، وهذا ما كان يسمح لهم بالتفرغ للعمل في الزراعة والصناعة والتجارة، فضلاً عن بعض المهن التي كانت، في تلك الأيام، حكراً عليهم ويورثونها لأبنائهم وأحفادهم، مثل: ممارسة الطب وتعليمه وصناعة الأدوية والترجمة من السريانية والإغريقية إلى العربية وغيرها. وكشفت الدراسات، التي تناولت أحوال المسيحيين في العصر العباسي، عن الثروات الضخمة التي كانت قد تجمعت لديهم، والتي كانت تثير، أحياناً، أطماع الدهماء فيهم.
هل تحالف الرشيد مع شارلمان؟
يرى بعض الباحثين أن العلاقة بين الخليفة والإمبراطور لم تقتصر على تبادل الوفود والهدايا ورعاية شؤون الحجاج والتجار والمؤسسات الدينية المسيحية في المشرق العربي فحسب، إنما عَقدَ الطرفان حلفاً سياسياً ضد أعداء مشتركين، فالعلاقة بين العباسيين من ناحية، وكل من البيزنطيين والأمويين في الأندلس، كانت عدائية، كما كانت العلاقة بين الفرنجة من ناحية، وكل من البيزنطيين والأمويين، عدائية أيضاً، ولهذا تحالف البيزنطيون مع الأمويين، كما تحالف العباسيون مع الفرنجة. والواقع أن بعض المصادر التاريخية توحي بهذا الأمر، فالمصادر التاريخية العربية الأندلسية تشير إلى العلاقة الودية التي قامت بين الأمويين في الأندلس والبيزنطيين، كما أن المصادر الفرنجية، وفي مقدمتها كتاب مؤرخنا أينهارد هذا، تؤكد قيام العلاقة الطيبة بين العباسيين والفرنجة.
ولكن ينبغي ألا نُحمّل النصوصَ التاريخية أكثر مما تحتمل، فإن ما ذكره أينهارد عن العلاقة بين الرشيد وشارلمان لا يسمح لنا بالاستنتاج أن تحالفاً سياسياً قد تمَّ بين الطرفين. حتى إننا لو صدقنا هذه الفرضية، وأن الرشيد تحالف مع شارلمان ضد الأمويين في الأندلس، فإنه من غير المعقول أن يفكر الرشيد في استرجاع الأندلس بالتحالف مع شارلمان في وقت اضطر فيه الخليفة نفسه إلى التخلي عن سلطته الفعلية في بلدان المغرب العربي الإسلامي. كما أنه من الخطأ أن نربط بين حملة شارلمان «الفاشلة»، التي قام بها ضد عرب الأندلس، وبين العلاقة بين شارلمان والرشيد،لأن الحملة كانت عام 778م، أي قبل أن يُولىَّ الرشيد الخلافة (عام 786م) بثماني سنوات، هذا فضلاً عن أن أول اتصال تمَّ بين شارلمان والرشيد كان عام 797م، أي بعد حملة شارلمان على الأندلس بنحو عشرين عاماً، ولهذا كله فإننا ينبغي أن نستبعد فرضية التحالف بينهما ضد عرب الأندلس.
إن أهمية العلاقة بين شارلمان والرشيد لا تكمن في وقائعها فحسب إنما في دلالتها أيضاً، فهي تبين أن مصالح الغرب الأوربي في المشرق العربي، منذ أيام الرومان إلى عصرنا هذا، مروراً بعصر شارلمان والحروب الصليبية، تفوق في أهميتها مصالح هذا المشرق في الغرب، فها هو شارلمان يبعث بالسفارة تلو الأخرى، من أقصى الشمال الغربي الأوربي إلى بغداد، وتقطع آلاف الأميال، وتستغرق كل واحدة منها أكثر من ثلاث سنوات، وذلك بحثاً عن مصالح مملكته. كما تظهر هذه العلاقة تسامح الخليفة الرشيد مع المسيحيين القادمين من الغرب، وتوفير الحماية والرعاية لهم وللمؤسسات الدينية المسيحية داخل بلاده، في حين لم يسمح شارلمان - بحدود علمنا - للتجار العرب المسلمين ببناء مسجد لهم في بلاده. وفضلاً عن ذلك كله، فإن العلاقة بين الخليفة والإمبراطور لم تُنْسَ في الغرب مطلقاً، حيث تمت المبالغة في وقائعها وغُلفت بالكثير من الأساطير والأوهام، التي استُغلت أيام الحروب الصليبية، منها ما شاع في الغرب - آنذاك - من أن شارلمان نفسه قد قام بالحج إلى القدس، وأنه أصبحت له حماية شرعية عليها، بل زعم الأمير الصليبي جودفري، الذي أصبح أول حاكم على مملكة بيت المقدس الصليبية سنة 1099م، أنه سار على الطريق نفسه الذي سلكه شارلمان، قبل ثلاثة قرون، من أوربا إلى القدس. ولكن شارلمان، للحقيقة والتاريخ، لم يَرَ القدس، لا بوصفه حاجاً ولا زائراً ولا محارباً... إنها أسطورة من أساطير العصور الوسطى .