الفلسفة والعودة إلى مفاهيم الحوار والتعايش

الفلسفة والعودة  إلى مفاهيم الحوار والتعايش

وصف‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬هيجل‭ ‬
‭(‬1770‭ - ‬1832‭) ‬ الفلسفة‭ ‬بأنها‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬تظهر‭ ‬فيه،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬محق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬فالأفكار‭ ‬التي‭ ‬يتناولها‭ ‬الفلاسفة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬تأتي‭ ‬استجابة‭ ‬لقضايا‭ ‬ومشكلات‭ ‬العصر‭ ‬نفسه،‭ ‬حيث‭ ‬اعتاد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬التصدي‭ ‬لتلك‭ ‬المشكلات‭ ‬ومحاولة‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬التساؤلات‭ ‬التي‭ ‬تثيرها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تبيان‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬منها‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يصلح،‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬مذهبه‭ ‬أو‭ ‬اتجاهه‭ ‬الفكري‭. ‬

وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬لتناول‭ ‬تلك‭ ‬الموضوعات‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬أوربا‭ ‬بدأت‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬الكنيسة‭ ‬المسيحية‭ ‬التي‭ ‬أجهضت‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التعددية‭ ‬والحرية،‭ ‬وظهرت‭ ‬طوائف‭ ‬مسيحية‭ ‬جديدة‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬انفتاح‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬والقارات‭ ‬الأخرى،‭ ‬واحتكاك‭ ‬الأوربيين‭ ‬بشعوب‭ ‬جديدة‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬حركة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وانهيار‭ ‬سلطة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬مما‭ ‬مهّد‭ ‬الطريق‭ ‬لبناء‭ ‬مجتمع‭ ‬أوربي‭ ‬جديد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التعددية‭ ‬والتنوع‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬مجتمعاً‭ ‬يتمّيز‭ ‬بنمط‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬ونظام‭ ‬سياسي‭ ‬وديني‭ ‬أحادي‭. ‬

واقتضت‭ ‬متطلبات‭ ‬الحرية‭ ‬والتعددية‭ ‬والتنوع‭ ‬الفكري‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الحوار‭ ‬الحر‭ ‬ومفاهيم‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتعايش‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الفرقاء،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬اختلافاتهم‭ ‬مذهبية،‭ ‬عرقية،‭ ‬ثقافية،‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬فكرية،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬القمع‭ ‬والاحتراب‭ ‬وأساليب‭ ‬العنف‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تؤدِ‭ ‬تاريخياً‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬الدمار‭ ‬والخراب‭. ‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬المسيحية‭ ‬قد‭ ‬وحدت‭ ‬الأوربيين‭ ‬عنوة‭ ‬وهيمنت‭ ‬عليهم‭ ‬بقوة‭ ‬الدين‭ ‬وقمعت‭ ‬اختلافاتهم‭ ‬العرقية‭ ‬والإثنية‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬رياح‭ ‬التغيير‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬مسلسل‭ ‬انهيارها،‭ ‬فعادت‭ ‬تلك‭ ‬الشعوب‭ ‬إلى‭ ‬أعراقها‭ ‬المختلفة‭ ‬تتلمس‭ ‬طريقها‭ ‬كقوميات‭ ‬متعددة،‭ ‬وكأن‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬الكنسي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬مكوناتها‭ ‬العرقية،‭ ‬وتجعلها‭ ‬تتناسى‭ ‬تلك‭ ‬الثقافات‭ ‬والذوبان‭ ‬في‭ ‬المعتقد‭ ‬الذي‭ ‬تبنته‭. ‬

وأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬المجال‭ ‬للصراعات‭ ‬بين‭ ‬القوميات‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬فقد‭ ‬شهد‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬ظهور‭ ‬الفكر‭ ‬القومي‭ ‬والدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬القومية،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬مفاهيم‭ ‬الحوار‭ ‬والتعايش‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ ‬الداخلي،‭ ‬وكذلك‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الدول‭ ‬والقوميات‭ ‬الأخرى‭. ‬ومع‭ ‬استقرار‭ ‬الأنظمة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وبدء‭ ‬التطبيق‭ ‬التدريجي‭ ‬لقيم‭ ‬الحرية‭ ‬والتعددية،‭ ‬تحولت‭ ‬قيم‭ ‬الحوار‭ ‬والتعايش‭ ‬والاختلاف‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬تمارس‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬أمور‭ ‬بديهية‭ ‬وتم‭ ‬تجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬موضوعات‭ ‬فكرية‭ ‬أخرى‭. ‬

لكن‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬شهد‭ ‬مواجهات‭ ‬إقصائية‭ ‬عدة،‭ ‬ففي‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬وقعت‭ ‬حربان‭ ‬عالميتان‭ ‬لا‭ ‬تعكسان‭ ‬قيم‭ ‬التطور‭ ‬الحضاري‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬أوربا‭ ‬بعد‭ ‬بروز‭ ‬الأحزاب‭ ‬الفاشية‭ ‬والنازية‭.‬

 

مرحلة‭ ‬العولمة

‭ ‬أما‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فقد‭ ‬شهد‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬بين‭ ‬المعسكرين‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والرأسمالي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كلاهما‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إقصاء‭ ‬الآخر‭. ‬

لكن‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬شهد‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬بعد‭ ‬انتصار‭ ‬المعسكر‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وانهيار‭ ‬الاشتراكي‭ ‬ودخول‭ ‬العالم‭ ‬مرحلة‭ ‬العولمة‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬واقعاً‭ ‬جديداً‭ ‬فرض‭ ‬مظاهر‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وسياسية‭ ‬عدة‭ ‬أعادت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬موضوعات‭ ‬الحوار‭ ‬والتسامح‭ ‬والتعايش‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

مع‭ ‬تلاشي‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬أصبح‭ ‬وضع‭ ‬العالم‭ ‬مختلفاً،‭ ‬وتزامن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصالات،‭ ‬الذي‭ ‬لعب‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬عولمة‭ ‬العالم،‭ ‬وأحدث‭ ‬تأثيرات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭. ‬

ففي‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العولمة‭ ‬برزت‭ ‬ثلاث‭ ‬ظواهر‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬فكري‭ ‬وسياسي،‭ ‬دفعت‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬قضايا‭ ‬الحوار‭ ‬والتسامح‭ ‬وقيم‭ ‬التعايش‭ ‬وغيرها،‭ ‬وأسست‭ ‬للاهتمام‭ ‬الفكري‭ ‬والفلسفي‭ ‬بها‭.‬

وأولى‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬ما‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬تهاوي‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬فانهيار‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬مثّل‭ ‬نهاية‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬امتدت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬تقريباً،‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬المذاهب‭ ‬الفلسفية‭ ‬الشمولية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬التي‭ ‬قسمت‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬قسمين؛‭ ‬رأسمالي‭ ‬واشتراكي‭. ‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬إطاراً‭ ‬فكرياً‭ ‬تجمع‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬أفراداً‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمع‭ ‬وأطيافه‭ ‬المختلفة،‭ ‬تتجاوز‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬قيمها‭ ‬وثقافاتها‭ ‬العرقية‭ ‬والدينية‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وسعى‭ ‬المؤمنون‭ ‬بالأيديولوجيا‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬

قامت‭ ‬الدول‭ ‬الاشتراكية‭ ‬على‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الماركسية،‭ ‬واستمرت‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬مثل‭ ‬روسيا‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬عقود،‭ ‬ومثلت‭ ‬طرحاً‭ ‬فكرياً‭ ‬وقيمياً‭ ‬شمولياً‭ ‬لمجتمع‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التقليدية‭. ‬

ومع‭ ‬انهيار‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬العقود‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬أدلجة‭ ‬الدولة‭ ‬ونظم‭ ‬التعليم‭ ‬التابعة‭ ‬لها‭ ‬وتكريس‭ ‬فكرها‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬قيم‭ ‬الأفراد‭ ‬ومكوناتهم‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭. ‬فقد‭ ‬برزت‭ ‬القوميات‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬قمعها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الديكتاتوري،‭ ‬وعادت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬إلى‭ ‬دياناتها‭ ‬ومعتقداتها‭ ‬التقليدية،‭ ‬بل‭ ‬وعاد‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬طرق‭ ‬حياته‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التحديث،‭ ‬وشهدت‭ ‬الدول‭ ‬الاشتراكية‭ ‬السابقة‭ ‬صراعات‭ ‬عرقية‭ ‬ودينية‭ ‬وحروباً‭ ‬دموية‭ ‬نتيجة‭ ‬لانغلاقها‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة‭ ‬وغياب‭ ‬قيم‭ ‬وثقافة‭ ‬الحرية‭ ‬والحوار،‭ ‬فما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬يوغسلافيا‭ ‬السابقة‭ ‬وروسيا‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬صراعات‭ ‬دموية‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬الصراعات‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بين‭ ‬القوميات‭ ‬والأعراق‭ ‬المختلفة‭.‬

وثانية‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر،‭ ‬وهي‭ ‬ناتجة‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬تهاوي‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬وتراجعها‭ ‬الكبير،‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الأديان،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أوساط‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭. ‬فتلاشي‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬كرابط‭ ‬بين‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭ ‬دفع‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الأديان‭ ‬كوسيلة‭ ‬لترابط‭ ‬الأفراد‭ ‬وتكتلهم‭ ‬ضمن‭ ‬أطر‭ ‬اجتماعية‭ ‬معينة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تحولهم‭ ‬إلى‭ ‬كتلة‭ ‬سياسية‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬السياسي‭ ‬وممارساته‭ ‬المختلفة‭. ‬وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بروز‭ ‬الطوائف‭ ‬المختلفة‭ ‬وظهور‭ ‬الطرح‭ ‬الطائفي‭ ‬والتحول‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬والتسامح‭ ‬إلى‭ ‬التطرف‭ ‬والإقصاء‭.‬

والظاهرة‭ ‬الثالثة‭ ‬والأخيرة‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العولمة،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تحول‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬في‭ ‬عقود‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬إلى‭ ‬أنظمة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التعددية‭ ‬السياسية‭ ‬والتداول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬للسلطة‭ ‬واحترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الأنموذج‭ ‬الغربي‭ ‬لإدارة‭ ‬الدولة‭ ‬ونظام‭ ‬الحكم‭ ‬أصبح‭ ‬السائد‭ ‬عالمياً،‭ ‬فتحولت‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬والدول‭ ‬المنضوية‭ ‬تحت‭ ‬لواء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬سابقاً،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬روسيا،‭ ‬ودول‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬ومعظم‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬ودول‭ ‬آسيا‭ ‬إلى‭ ‬أنظمة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬حسب‭ ‬الأنموذج‭ ‬الغربي،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬استدعى‭ ‬ممارسات‭ ‬وقيماً،‭ ‬بل‭ ‬وثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المعروفة‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬الثلاث،‭ ‬فسنجد‭ ‬أنها‭ ‬فرضت‭ ‬نقاشات‭ ‬فكرية‭ ‬وفلسفية‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمعات،‭ ‬التي‭ ‬خضعت‭ ‬لهيمنة‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬الأديان‭ ‬والطوائف‭ ‬نمطاً‭ ‬من‭ ‬الروابط،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬موضوعات‭ ‬مثل‭ ‬الحوار‭ ‬والتسامح‭ ‬والتعايش‭ ‬والاختلاف‭ ‬ونبذ‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬وغيرها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الفكرية‭ ‬العالمية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭  ‬الاهتمام‭ ‬بها‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬الفلسفية‭ ‬التقليدية‭.‬

 

العولمة‭ ‬وإلغاء‭ ‬الحدود

شهد‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬العولمة،‭ ‬وحتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬تسارعاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬التطورات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والتسهيلات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬فاق‭ ‬بدايات‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬قلّصت‭ ‬العولمة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬للدولة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬المبرمة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاقتصادي‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عالمي‭ ‬أو‭ ‬قاري،‭ ‬وكذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬التسهيلات‭ ‬المالية‭ ‬وحركة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭.‬

وساهم‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تزايد‭ ‬حركة‭ ‬الهجرة‭ ‬أو‭ ‬السفر‭ ‬والتنقل‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬وظائف‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬مختلفة‭ ‬بجميع‭ ‬أنحاء‭ ‬المعمورة،‭ ‬مما‭ ‬استدعى‭ ‬ضرورة‭ ‬فهم‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬لذلك،‭ ‬واستيعابهم‭ ‬للواقع‭ ‬الجديد‭ ‬والتعايش‭ ‬مع‭ ‬القادمين‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬جميع‭  ‬أنحاء‭ ‬العالم‭.‬

وتزامن‭ ‬مع‭ ‬العولمة‭ ‬طرح‭ ‬مسألة‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لحل‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬خلقتها‭ ‬وتخلقها‭ ‬الهجرة‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬الحقوق‭ ‬إلى‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭. ‬فهناك‭ ‬أنموذجان‭ ‬قادا‭ ‬بقوة‭ ‬مسألة‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬وهما‭ ‬كندا‭ ‬وأستراليا،‭ ‬وتبعهما‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إعطاء‭ ‬بعض‭ ‬الحقوق‭ ‬أو‭ ‬الممارسات‭ ‬الثقافية‭. ‬

برزت على الساحة الفكرية العالمية في الآونة الأخيرة  موضوعات مثل التسامح والاعتراف بالآخر والتعايش والحوار وغيرها، وأخذت حيزاً كبيراً من النقاشات الفلسفية، وتفاوتت آراء الفلاسفة فيها، محاولة منهم لمعاجلة الإشكاليات التي دفعت إلى نقاش تلك الموضوعات. 
وكما هو معروف أن عدداً من الفلاسفة في العصر الحديث ناقشوا تلك الموضوعات، من أبرزهم جون لوك وجون ستيورات مل وجان جاك روسو وغيرهم، بمعنى أن تلك الموضوعات ليست جديدة على الساحة الفلسفية، فلماذا العودة إذاً إلى مناقشتها مرة أخرى؟ 

إن‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬فتحت‭ ‬المجال‭ ‬لإحياء‭ ‬موضوعات‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عرقي‭ ‬وديني‭ ‬وثقافي‭ ‬للأقليات‭ ‬أو‭ ‬للسكان‭ ‬الأصليين،‭ ‬فأصبحت‭ ‬روابط‭ ‬خلقت‭ ‬كتلاً‭ ‬اجتماعية‭ ‬وثقافية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬بشكل‭ ‬متنوع،‭ ‬ومنحت‭ ‬حقوقاً‭ ‬وأحياناً‭ ‬مناطق‭ ‬تسن‭ ‬فيها‭ ‬قوانين‭ ‬وتقام‭ ‬فيها‭ ‬ممارسات‭ ‬لقيم‭ ‬تتعلق‭ ‬بفئة‭ ‬ما‭ (‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬كندا‭ ‬وأستراليا‭). ‬

هذا‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬بوجود‭ ‬كتل‭ ‬تؤطر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬تفعيل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬طرق‭ ‬وقيم‭ ‬للتعايش‭ ‬والتسامح‭ ‬والحوار‭ ‬وقبول‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭.  ‬أما‭ ‬التقدم‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصالات‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬أخيراً‭ ‬مثل‭ ‬اتويترب‭ ‬وافيسبوكب‭ ‬وأجهزة‭ ‬التلفونات‭ ‬المحمولة‭ ‬وغيرها،‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬آفاقاً‭ ‬للتعارف‭ ‬وتبادل‭ ‬الأفكار‭ ‬والمعلومات‭ ‬والقيم‭ ‬والثقافات‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬المعمورة‭ ‬قاطبة‭. ‬

ووفرت‭ ‬تلك‭ ‬الوسائل‭ ‬سبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعلومات‭ ‬ومناقشة‭ ‬الأفكار‭ ‬والحوار‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وفهمهم‭ ‬وكيفية‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الاختلافات‭ ‬في‭ ‬الآراء‭ ‬والأفكار‭ ‬والقيم‭ ‬والثقافات‭. ‬

لقد‭ ‬استطاعت‭ ‬الوسائل‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الحديثة‭ ‬إحداث‭ ‬تأثيرات‭ ‬ثقافية‭ ‬عدة،‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬قيم‭ ‬جديدة‭ ‬وغيرت‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬التقليدية‭ ‬للشعوب‭. ‬فقد‭ ‬عززت‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬المجتمع‭ ‬وبين‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وساعدت‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الشعوب،‭ ‬لبعضها‭ ‬بعضاً،‭ ‬وعززت‭ ‬من‭ ‬فرص‭ ‬التعايش‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬برغم‭ ‬الاختلافات‭ ‬وغيرها‭. ‬

لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يُنسينا‭ ‬الاستخدام‭ ‬السلبي‭ ‬لهذه‭ ‬الوسائل‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬لنشر‭ ‬مفاهيم‭ ‬الكراهية‭ ‬والتعصب‭ ‬والإقصاء‭ ‬ورفض‭ ‬الآخر،‭ ‬وهؤلاء‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬يمثلون‭ ‬الأقلية‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬العولمة‭ ‬والتطورات‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬فيها،‭ ‬يحاول‭ ‬البعض‭ ‬الترويج‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬لنهاية‭ ‬العولمة‭ ‬بعد‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬ووصول‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬والإجراءات‭ ‬الحمائية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬يتخذها‭ ‬تجاه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬أرست‭ ‬أسس‭ ‬العولمة،‭ ‬وظهور‭ ‬الحركات‭ ‬اليمينية‭ ‬والعنصرية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وبقوة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬حركة‭ ‬عولمة‭ ‬العالم‭. ‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬العولمة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬المواجهات‭ ‬والتشظي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والعرقي‭ ‬والعنصرية‭ ‬وغيرها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬يعزز‭ ‬أكثر‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬الحوار‭ ‬والتعايش‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتسامح‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬أي‭ ‬شعب،‭ ‬وكذلك‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬بعضها‭ ‬بعضاً،‭ ‬ويعزز‭ ‬الحاجة‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬محاربة‭ ‬التعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬والانغلاق‭ ‬الفكري‭ ‬والإقصاء‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬ممارسات‭ ‬وقيم‭ ‬ستكون‭ ‬لها‭ ‬نتائج‭ ‬وخيمة‭ ‬لو‭ ‬تجذرت،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المفكرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والمثقفين‭ ‬وغيرهم‭ ‬سيشتغلون‭ ‬بتحليل‭ ‬القيم‭ ‬السابقة‭ ‬ونقدها‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬التعددية‭ ‬والتعايش‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والشعوب‭ ‬لفترة‭ ‬زمنية‭ ‬مقبلة‭ .